الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد:
هذه الطبعة
شغلت بهذا البحث منذ أربعة عشر عامًا، وهو أحب البحوث إلى قلبي، فبعد اثني عشر عاما من حصولي على الدكتوراة1، وثماني سنوات من عملي في كلية البنات مدرسا للبلاغة العربية2، لم يكن لي منهج واضح، ولا طريق مدروس، ولا سمة علمية محددة. كنت موزعا بين البلاغة التقليدية التي تربيت في أحضانها، ودرستها في الجامعة، وبين البلاغة الحديثة التي أطوق إلى تطبيقها، وتحقيق ما تعلمته منها على يد البلاغي المجدد، شيخ الأمناء الجليل: الشيخ أمين الخولي، والفاضل الأستاذ العلامة الدكتور مصطفى الجويني، والفاضل الأديب الشاعر العالم الدكتور يوسف خليف، والحجة، سيوطي العصر الحديث، الأستاذ الدكتور شوقي ضيف.
ولكني كنت عاجزا عن تكوين شخصية علمية، قادرة على الاختيار والإضافة، واعية بمسالك الطريق ومزالقه.
ومرت بي أزمة فكرية نفسية طاحنة، أريد أن أحقق شيئا ولكني لا أدري كيف أمسك به، كيف أتحكم فيه؟ كيف أعلنه بشكل علمي جدير بالالفتات إليه؟ فما كنت بمستطيع أن أكون بلاغيا تقليديا أردد كلاما يغيظني، وأملي أن أجدد، لكن قلمي عاجز.
فهداني الله سبحانه أن أبدأ بداية صغيرة محدودة تضعني على الطريق، وتحول الحلم إلى حقيقة، فكان هذا البحث3.
1 حصلت على الدكتوراة ببحث "إعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة" في كلية الآداب جامعة القاهرة. سنة 1971م.
2 عينت مدرسا للبلاغة والنقد بكلية البنات، جامعة عين شمس سنة 1975م.
3 طبعته بدار المعارف بالإسكندرية، وكان بعنوان "الفصل والوصل في القرآن الكريم".
الجديد فيه أكثر من التقليدي، والحلم فيه أكبر من الواقع، والخطأ فيه وارد، ولكنه يقول شيئا واضحا: إن هذا البلاغي يريد أن يجدد، ويعد نفسه ليضيف شيئا في الدرس البلاغي، إن أخفق فلا ترجموه، فسيقوم من عثرته، ويحاول تصحيح خطته.
وأعتقد أن هذا ما حدث، فقدت خطوت خطوات لا بأس بها في الدرس البلاغي، وتمثل لي منهج واضح المعالم "التأصيل والتجديد" الذي صار سمة معروفة لي، وهدفا أسعى إلى تحقيقه بإصرار، وما زلت أواصل الدرس، والمحاولة، والخطأ، والتجريب، والتصحيح.
واليوم أعود إلى هذا البحث الحبيب إلى قلبي، الذي شهد بداية الطريق وترقب النتائج، والخوف من التحطيم، أعود إليه بعدما نفد من المكتبات، واحتاج الباحثون أن يطلعوا عليه، ويناقشوا ما ورد فيه، فرأيت أن أغير في ترتيب الفصول، وكنت أتمنى أن أعيد الانشغال به ثانية، وأن أتوسع فيه، وأنقيه من الشوائب، وأن أضيف إضافات حقيقية، ولكني مشغول ببحث عن "بديع التراكيب في شعر أبي تمام" بعد أن انتهيت من إعادة طبع "البديع في شعر المتنبي" باسم "تشبيهات المتنبي ومجازاته"، وأواصل البحث والدرس والإشراف على الرسائل العلمية من خلال منهج "التأصيل والتجديد في البلاغة العربية"، فهذا دَيْنٌ في رقبتي للبلاغة العربية، أن أمسك التراث البلاغي بيميني، والتجديد الحقيقي بشمالي، ومعي كوكبة من خيرة شباب مصر والعالم العربي، إلى أن يقضي الله أمره، فيكمل تلاميذي المسيرة:
تأصيل بلا تعقيد، وتجديد بلا تخريب.
والله من وراء القصد
منير سلطان
68 ش السيد محمد كريّم، الجمرك، الإسكندرية، 1997م.
2-
حياة المصطلح
1-
مرحلة عدم استقرار المصطلح.
2-
مرحلة الاستقرار.
3-
مرحلة تشعب المصطلح.
مقدمة:
المصطلح هو المسمى المتفق عليه بين جمهور الدارسين رمزا لموضوع بعينه، وهو ضرب من الإيجاز يغني عن الشرح والتفصيل بما يدل عليه من مقاصد وغايات.
ومن المتوقع ألا ينشأ المصطلح جامعًا مانعا متفقا عليه بين الجمهور، إنما يمر بمرحلة الاختلاف في صلاحيته، ثم تأتي مرحلة الاتفاق المجمع عليه، وقد يستمر بحاله هذه وقد يتشعب إلى مصطلحات منبثقة منه.
وبعض المصطلحات تنبت في علم من العلوم ملبية غرضا من أغراضه، وتكون وقفا عليه، كما نرى في مصطلحات علم الكلام وأصول الفقه والنحو والصرف وعلم القراءات والنقد والأدب والبلاغة، وبعضها يستعار من علم آخر لتشابه المضمون وتقارب المدلول في العلمين.
ومدلول الفصل والوصل وجد في علم الخط العربي والنحو وعلم القراءات بالإضافة إلى وجوده في البلاغة. وقد تختلف المسميات ولكنها في النهاية تعني بالفصل: القطع سواء في رسم اللفظ أو في المعنى، وتعني بالوصل: الربط سواء بين حروف اللفظ أو بين الألفاظ أو بين معنى ومعنى آخر.
ففي علم الخط العربي نرى الفصل والوصل، متمثلا في رسم الكلمة حين تكتب موصولة الحروف أو مفصولا بعضها عن بعض1، في "همزة الوصل
1 الزركشي، البرهان في علوم القرآن، 1/ 417 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2 بيروت.
وهمزة القطع"، وفي علامات الترقيم: "الفاصلة: لفصل بعض أجزاء الكلام عن بعض، والفصلة المنقوطة: ليقف القارئ عندها وقفة أطول من وقفة الفاصلة، والنقطتان: للتوضيح والتبيين، أما النقطة: وتسمى "الوقفة" فتوضع بعد نهاية الجملة التي تم معناها واستوفت كل مقوماتها"1.
وفي البرهان للزركشي "ت 794هـ" فصل بعنوان "في الفصل والوصل" يتكلم فيه عن وصل الكلمات في الخط وعن فصلها يقول: "اعلم أن الموصول في الوجود توصل كلماته في الخط. كما توصل حروف الكلمة الواحدة، والمفصول معنى في الوجود يفصل في الخط كما تفصل كلمة عن كلمة، فمنه "إنما" بالكسر، كله موصول إلا واحدا {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ} 2 لأن حرف "ما" هنا وقع على مفصل، فمنه خير موعود به لأهل الخير ومنه شر موعود به لأهل الشر، فمعنى "ما" مفصول في الوجود والعلم
…
"3.
وقبل الزركشي كتب الصولي "ت 336هـ" في كتابه "أدب الكُتَّاب" فصلا بعنوان "ما يقطع وما يوصل" من الكلمات، يقول فيه:"يكتبون: أُحِب "أن لا" تفعل كذا، بألف ونون، وتكون "لا" مقطوعة منها وهو أجود؛ لأن القارئ ربما احتاج أن يقف على النون، والكتَّاب على الوقف، فمنهم من يكتب بألف ولام موصولة؛ لأن النون ترغم في اللام إذا نطق بها وكتبت على اللفظ4.
ولابن قتيبة "ت 276هـ" حديث في كتابه "أدب الكاتب" عن ألف الوصل في الأسماء "يقول "
…
فتكتب "بسم الله" إذا افتتحت بها كتابا أو
1 الكردي، محمد طاهر، تاريخ الخط العربي وآدابه، 416 الطبعة الأولى.
2 الأنعام: 134.
3 الزركشي، البرهان، 1/ 417 وانظر ابن الجزري، النشر في القراءات العشر 1/ 259 باب "اختلافهم في البسملة" تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط دار المعرفة، بيروت.
4 الصولي، أدب الكتاب، 258 تحقيق محمد بهجة الأثري ط المطبعة السلفية.
ابتدأت بها كلاما بغير ألف
…
" وله حديث آخر عن "ألف الفصل" ويقصد بها الألف التي تزاد بعد واو الجمع مخافة التباسها بواو النسق في مثل "ردوا، وكفروا" يقول "
…
ألا ترى أنهم لو لم يدخلوا الألف بعد الواو ثم اتصلت بكلام بعدها ظن القارئ أنها "كفر وفعل" و"رد وفعل" فحيزت الواو لما قبلها بألف الفصل، ولما فعلوا ذلك في الأفعال التي تنقطع واوها من الحروف قبلها نحو "ساروا وجاءوا" فعلوا ذلك في الأفعال التي تتصل واوها بالحروف قبلها نحو "كانوا وباتوا" ليكون حكم هذه الواو في كل موضع حكما واحدا"1.
وفي النحو يبرز "الفصل والوصل" في درس العطف والتوكيد وعطف البيان والحال وضمائر الفصل وضمائر الوصل وأنواع الجمل وأدوات الربط ومعاني الحروف وغير ذلك من ضوابط.
أما علم القراءات فهو عماد "الفصل والوصل". وهو العلم الذي أعار المصطلح للبلاغة لأن المجال متصل، ما كتب يحتاج إلى الفصل أو الوصل ليقرأ بعيدا عن اللبس، وليفهم ويتذوق بعيدا عن الغموض والجفاف.
وسنعرض الآن كيف كان علم القراءات مصدرا لمصطلح "الفصل والوصل" وماذا حدث له حين انتقل إلى الدرس البلاغي.
1 ابن قتيبة، أدب الكاتب، 189 تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ط4، 1963م.
3-
مصطلح "الفصل والوصل" مصدره علم القراءات:
ودليلي على ذلك سبق وجوده في علم القراءات، وتعريف علماء القراءات به، وتشابه المدلول والغرض، فالقراءة أيًّا كان نوعها تحويل للألفاظ المكتوبة إلى أصوات منطوقة تؤدي نفس الدلالات، وفي أداء "نفس الدلالات" تكمن المشكلة، القارئ الذي لا يفهم معنى ما يقرأ ولا يتذوقه، سيقرؤه بطريقة تؤدي إلى إفساد معناه مهما كان عميقا رائعا، والخطيب إذا لم يكن متمكنا من لغته ومن معانيه التي يريد أن يوصلها إلى المستمع سيكون إلقاؤه مساعدا على تفتيت معانيه وتشتيت ذهن من يستمع له.
وإذا كان الأمر كذلك في القراءة والخطابة فهو في القرآن أشد أهمية وأعظم ضرورة.
يقول الزركشي "ت 794هـ" في كتابه البرهان "النوع الرابع والعشرون"، في معرفة "الوقف والابتداء"، "وهو فن جميل وبه يعرف كيف أداء القرآن، ويترتب على ذلك فوائد كثيرة واستنباطات غزيرة، وبه يتبين معاني الآيات، ويؤمن الاحتزاز في الوقوع في المشكلات، وقد صنف فيه "الزجاج" قديما كتاب "القطع والاستئناف" وابن الأنباري وابن عباد والداني وغيرهم، وقد جاء عن ابن عمر أنهم كانوا يعلمون ما ينبغي أن يوقف عنده كما يتعلمون القرآن، وروى ابن عباس {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} 1 قال: فانقطع الكلام"2.
ولم يكن الأمر مقصورا على مؤلفات القراءات، فقد وجدت مصطلحات "الوقف والوصل"، و"القطع والابتداء"، و"الوقف والابتداء"، و"القطع والوصل" في كتب النحو والتفسير، ولن نتعقب هذه الظاهرة ويكفينا بعض الأمثلة، فنجد سيبويه "ت 180هـ" يتكلم عن "الحروف
1 النساء: 83.
2 الزركشي، البرهان، 1/ 342 وما بعدها.
التي يسمع معها الصوت والنفخة في الوقف لا يكونان في الوصل إذا سكن لأنك لا تنظر أن ينبو لسانك ولا يفتر الصوت حتى تبتدئ صوتا"1.
والفراء "ت 207هـ" يستعمل مصطلح "القطع والابتداء"2 و"الوقف والاستئناف"3 و"الوقف والوصل"4. والطبري "ت 310هـ" في تفسيره لقوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} 5 يتكلم عن الهاء الزائدة في {يَتَسَنَّهْ} "
…
فإن العرب قد تصل الكلام بزائد فتنطق به على نحو منطقها به في حالة القطع، فيكون وصلها إياه وقطعها سواء، وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة من قرأ جميع ذلك بإثبات الهاء في الوصل والوقف
…
"6. وابن مجاهد "ت 324هـ" في كتابه "السبعة في القراءات" يورد مصطلح "الوصل والوقف"7، وكذا ابن جني "ت 392هـ" في الخصائص8. أما الزمخشري "ت 538هـ" فقد استعمل مصطلح "الوقف والابتداء"9 و"الوقف والوصل"10 و"القطع والوصل"11. ففي تفسيره لقوله تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} يقول وقرئ: (ثُمَّ هْوَ) بسكون الهاء كما قيل "عضْد" في "عضُد"، تشبيها
1 سيبويه، الكتاب، 4/ 175 تحقيق عبد السلام هارون ط دار القلم 1966م.
2 الفراء، معاني القرآن، 1/ 184 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط2 سنة 1980م.
3 الفراء، معاني القرآن 1/ 9.
4 الفراء، معاني القرآن 1/ 172.
5 البقرة: 259.
6 الطبري، جامع البيان، 5/ 463 تحقيق محمود محمد شاكر وأحمد محمد شاكر ط دار المعارف.
7 ابن مجاهد، السبعة في القراءات، 391 تحقيق د. شوقي ضيف ط دار المعارف 1400هـ.
8 ابن جني، الخصائص، 1/ 69، 240، 305 - 2/ 11، 12، 331 وغيرها، تحقيق محمد علي النجار، ط بيروت، دار الهدى للطباعة والنشر.
9 الزمخشري، الكشاف، 4/ 52 ط الحلبي القاهرة 1968م.
10 نفسه 1/ 301، 392 + 2/ 392 + 4/ 152، 180.
11 نفسه 2/ 284.
للمنفصل بالمتصل، وسكون الهاء في "فهو وهو ولهو" أحسن؛ لأن الحرف لا ينطق به وحده فهو كالمتصل"1.
ويعرف ابن الجزري "الوقف" بأنه: عبارة عن قطع الصوت على الكلمة زمنا، يتنفس فيه عادة بنية استئناف القراءة، إما بما يلي الحرف الموقوف عليه أو بما قبله ويأتي في رءوس الآي وأوساطها، ولا يأتي في وسط كلمة وفيما اتصل رسما ولا بد من التنفس معه"2. وفي الفرق بين الوقف والقطع والسكت يقول: هذه العبارات جرت عند كثير من المتقدمين مرادا بها الوقف غالبا، ولا يريدون بها غير الوقف إلا مقيدة3".
وينقسم الوقف عنده إلى اختياري واضطراري، لأن الكلام إما أن يتم أو لا، فإن تم كان اختياريا، وكونه تاما، لا يخلو إما أن لا يكون له تعلق بما بعده ألبتة، أي: لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى، فهو الوقف الذي اصطلح عليه الأئمة بـ "التمام" لتمامه المطلق، يوقف عليه ويبتدأ بما بعده4 وإن كان له تعلق فلا يخلو هذا التعلق إما أن يكون من جهة المعنى فقط، وهو الوقف المصطلح عليه بـ "الكافي" للاكتفاء عما بعده واستغناء ما بعده عنه. وهو كالتام في جواز الوقف عليه والابتداء بما بعده5، وإن كان التعلق من جهة اللفظ فهو الوقف المصطلح عليه بـ "الحسن" لأنه في نفسه حسن مفيد، يجوز الوقف عليه دون الابتداء بما بعده للتعلق اللفظي6، وإن لم يتم الكلام كان
1 نفسه 3/ 187 والآية من سورة القصص: 61.
2 ابن الجزري، النشر، 1/ 240.
3 نفسه 1/ 238.
4 ومثال الوقف التام: الوقف على {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} والابتداء {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} البقرة: 5، 6، ونحو {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} والابتداء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} البقرة: 20، 21.
5 ويكثر في الفواصل وغيرها نحو {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وعلى {مِنْ قَبْلِكَ} و {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} البقرة: 3، 4، 5.
6 نحو الوقف على {بِسْمِ اللَّهِ} وعلى {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وعلى {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وعلى {الرَّحْمَنِ} .
الوقف عليه اضطراريا وهو المصطلح عليه بـ "القبيح" ولا يجوز تعمد الوقف عليه إلا لضرورة مِن انقطاع نفس أو نحوه لعدم الفائدة أو لفساد معنى1.
فالوقف بأنواعه، أو القطع أو الفصل، إنما يعني شيئا واحدا هو "الوقف" وتراه هنا يدور حول تمام المعنى واكتفائه بنفسه عن أن يوصل بما بعده وإن لم يتوافر التمام المطلق، فالشبيه بالتمام، أي: أن يكون المعنى الثاني له فضل تعلق بالمعنى الأول، وهذا هو "الوقف الكافي" و"الوقف الحسن"، وكأننا نقرأ عن "كمال الانقطاع" و"شبه كمال الانقطاع".
ومن الطريف أن يشير ابن الجزري إلى أن القراءة الصحيحة البليغة هي القراءة التي تراعي مواضع الفصل والوصل، بقول:"من الأوقاف ما يتأكد استحبابه لبيان المعنى المقصود، وهو ما لو وصل طرفاه لأوهم معنى غير المراد، فمن التام: الوقف على قوله: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} والابتداء {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} 2؛ لئلا يوهم أن ذلك من قولهم. وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} عند الجمهور، وعلى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} 3 مع وصله عند الآخرين لما تقدم. وقوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} والابتداء {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} 4 لئلا يوهم العطف. ونحو قوله: {أَصْحَابُ النَّارِ} والابتداء {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} 5 لئلا يوهم النعت. وقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} والابتداء {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 6 لئلا يوهم وصل "ما" وعطفها
…
"7.
1 نحو الوقف على {بِسْمِ} وعلى {الْحَمدُ} وعلى {رَبِّ} و {مَالِكِ يَوْمِ} و {إِيَّاكَ}
…
فكل هذا لا يتم عليه كلام ولا يفهم منه معنى، الجزري، النشر، 1/ 225-228.
2 يونس: 65.
3 آل عمران: 7.
4 الزمر: 32.
5 غافر: 6، 7.
6 إبراهيم: 38.
7 النشر: 1/ 232.
1-
مرحلة عدم استقرار المصطلح:
مر بنا كيف استأثر علم القراءات وعلم الخط العربي بمصطلح "الوقف والابتداء" و"الوقف والوصل" و"الفصل والوصل" ويبدو -فيما أرى- أن هذا ما أخر استقلال مصطلح "الفصل والوصل" في البلاغة بمفهومه المتعارف عليه، فالاهتمام بقراءة القرآن وكيفية كتابته أسبق من تدوين المصطلحات البلاغية والمؤلفات البلاغية نفسها.
وإلى أن استقرت الحال على مصطلح "الفصل والوصل" عنوانا على ربط المعاني وقطعها لأغراض بلاغية مرت مرحلة أسميها مرحلة "عدم استقرار المصطلح"، والسبب في ذلك أن النحويين والمفسرين والبلاغيين كانوا متأرجحين بينالأخذ بالمصطلح النحوي "العطف وتركه" والأخذ بمصطلح القراءات "الوصل والقطع" وبين شرح الفكرة بغض البصر عن المصطلح، لأن علم القراءات قد استحوذ على "الفصل والوصلط ولأن المضمون كان في أذهان هؤلاء العلماء أهم من المصطلح، ولنر ما حدث:
فسيبويه "ت 180هـ" يتكلم عن الوصل فيقول: "
…
لم يجز أن تدخل الفاء،
…
ولو قلتها بالواو حسنت"1 ويستعمل مصطلح "قطع" للفصل، يقول "باب بدل المعرفة من النكرة، والمعرفة من المعرفة وقطع المعرفة من المعرفة المبتدأة"2 بينما يستعمل "الفصل" بمعناه اللغوي مع ضمائر الفصلن يقول "باب ما يكون فيه "هو وأنت وأنا ونحن وأخواتهن فصلا"3 وينقل أبو حيان عن سيبويه "جواز عطف المختلفتين بالاستفهام والخبر"4.
1 سيبويه، الكتاب 1/ 399.
2 الكتاب 2/ 176، 178.
3 الكتاب 1/ 394، 395.
4 السبكي، عروس الأفراح 3/ 26، 27 ط السعادة الثانية، 1343هـ.
والفراء "ت 207هـ" يتكلم عن "يُذَبِّحُون" و"ويُذَبِّحُون" يقول: فمعنى الواو أنه
…
، ومعنى طرح الواو كأنه طرح لصفات العذاب
…
وإذا كان الخبر من العذاب أو الثواب مجملا في كلمة ثم فسرته فاجعله بغير الواو.
وإذا كان أوله غير آخره فبالواو1.
ويستعمل للجملة الثانية المستأنفة عبارة "الكلام المكتفى يأتي له جواب".
ويشرحه: "لأنه جواب يستغنى أوله عن آخره بالوقفة عليه، فيقال: ماذا قال لك؟ فيقول: قال كذا وكذا، وكأن حسن السكوت يُجَوَّزُ به طرح الفاء
…
2.
والجاحظ "ت 255هـ" ينفرد بذكر مصطلح "الفصل والوصل" وأن معرفتهما هي البلاغة"3.
وابن وهب "ت 272هـ" في كتابه "البرهان" يفرد بابا بعنوان في "القطع والعطف" ويقصد به الفصل بالجمل المعترضة"4.
والمبرد "ت 285هـ" يتكلم عن الفصل بأنه "بغير الواو" والوصل "بالواو" ثم يستعمل مصطلح "القطع والاستئناف" في قوله: "فإذا قلت: مررت بزيدٍ عمرو في الدار، فهو محال، إلا على قطع خبر واسئناف آخر"5.
وعن الاستثناء المنقطع يقول الطبري "ت 310هـ" "إنما يكون ذلك
1 الفراء، معاني القرآن 2/ 67، 69.
2 نفسه 1/ 44.
3 الجاحظ، البيان والتبيين 1/ 88 تحقيق عبد السلام هارون، ط الخانجي، الرابعة، 1968م.
4 ابن وهب، البرهان ص124، 125 تحقيق د. حفني شرف مطبعة الرسالة.
5 المبرد، المقتضب 4/ 125 تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة 1388هـ.
كذلك في كل موضع حسن أن يوضع فيه مكان "إلا""لكن"، فيعلم حينئذ انقطاع معنى الثاني عن معنى الأول"1.
والصولي "ت 336هـ" يقف أمام بيت امرئ القيس:
الله أنجح ما طلبت به
…
والبر خير حقيبة الرحل
يقول: "ألا ترى أن قوله: "الله أنجح ما طلبت به" كلام مستغن بنفسه وكذلك باقي البيت على أن في البيت واوا عطفت جملة على جملة، وما ليس فيه واو عطف أبلغ2.
والجرجاني "ت 392هـ" أبو الحسن علي بن عبد العزيز في شرح ما أنكره العلماء على المتنبي في بيته:
جللا كما بي فليك التبريح
…
أغذاء ذا الرشأ الأغن الشيح3
يقول:
…
وأنكر أصحاب المعاني قطع المصراع الثاني عن الأول في اللفظ والمعنى، فقال المحتج عنه يسوغ الإنكار، لو قطع قبل الإتمام وابتدأ بالثاني وقد غادر من الأول بقية، فأما أن يستوفى مراده ثم ينتقل إلى غيره فليس بعيب
…
4.
ويتكلم ابن جني "ت 393هـ" عن "حذف حرف العطف" في نحو
1 الطبري، جامع البيان، 2/ 264.
2 المرزباني، الموشح 36 تحقيق علي محمد البجاوي، نهضة مصر 1965م.
3 ديوانه: "1/ 243" والتبريح: الشدة، والجلل: الأمر العظيم، والرشأ: ولد الظبية، والأغن: الذي في صوته غنة وهي صوت من الخيشوم "هـ ص441" من الوساطة.
4 الجرجاني، الوساطة، 441، 442، تحقيق وشرح محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، ط3 الحلبي.
قولهم: "أكلت لحما سمكا تمرا"1، ويقول:"وأنت لا تقول: جاء القوم وزيد، وقد جاء زيد معهم، لأن الشيء لا يعطف على نفسه"2.
والعسكري "ت 295هـ" في "الصناعتين" يخصص الباب العاشر لـ "ذكر المقاطع والقول في الفصل والوصل" ويقصد بالمقاطع الوقوف عند مقاطع الكلام، أما "الفصل والوصل" عنده فله جانبان؛ أحدهما: مرتبط بالوقوف والابتداء في الخطابة، والآخر مرتبط بكتابة الرسائل ووضع الفواصل بين الكلام3.
وفي هجوم الباقلاني "ت 403هـ" على البحتري في أبياته:
لمحمد بن علي الشرف الذي
…
لا يلحظ الجوزاء إلا من عل
وسحابة لولا تتابع مُزْنِها
…
فينا لراح غير منخل
والجود يعذله عليه حاتم
…
سرفا ولا جود لمن لم يعذل
يقول "
…
البيت الأول منقطع عما قبله على ما وصفنا به شعره من قطعه المعاني وفصله بينها وقلة تأتيه لتجويد الخروج والوصل وذلك نقصان في الصناعة وتخلف في البراعة"4.
وفي مقدمة كتابه يتكلم عن الوجه الثالث من وجوه إعجاز القرآن قائلا "والوجه الثالث: أنه بديع النظم عجيب التأليف
…
فالذي يشمل عليه بديع
1 ابن جني، الخصائص 2/ 280.
2 ابن جني، المحتسب، 2/ 53 ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
3 العسكري، الصناعتين 458 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي ط الحلبي.
4 الباقلاني، إعجاز القرآن، 232 ط تحقيق السيد أحمد صقر ط دار المعارف 1963 ويقول المحقق في "غير مبخل" كذا في الأصول، وفي ديوانه: "وسحابة لولا
…
غير منخل" وفي عبث الوليد 188 "وسماحة" قال المعري: الرواية بالباء وهو المعنى المتعارف الذي يتردد في الشعر -أي: أنه جاد جودا غزيرا بخل معه الغمام- إذ كان قد يمسك في بعض الأعوام وطالما هلكت السائمة والأنيس لفقد المطر وهذا الممدوح ليس كذلك إذ كان يجود في كل الأوقات والسنين
…
".
نظمه المتضمن للإعجاز وجوه: منها
…
و
…
وأن كلام الفصحاء يتفاوت تفواتا بينا في الفصل والوصل والعلو والنزول"1.
والقاضي عبد الجبار "ت 415هـ" يفسر آية {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} قائلا: "إن الأولى أن يكون "والراسخون" عطفا على ما تقدم"2، ويردد الشريف المرتضى "ت 456هـ" هذا الرأى في نفس الآية الكريمة3، وابن رشيق القيرواني "ت 456هـ" يتكلم عن المقاطع والمطالع قائلا: اختلف أهل المعرفة في المقاطع والمطالع، فقال بعضهم: هي الفصول والوصول بعينها، فالمقاطع: أواخر الفصول والمطالع أوائل الوصول -وهذا القول هو الظاهر من فحوى الكلام، والفصل آخر جزء من القسيم الثاني: وقال غيرهم: المقاطع منقطع الأبيات، وهي القوافي، والمطالع أوائل الأبيات4".
أقول: إن مرحلة عدم استقرار المصطلح قد استمرت طوال فترة ما قبل الجرجاني، والذي أبهم المسألة أن الفصل بما تغذى به من معان في علم القراءات كان شِبْهَ واضح في أذهان المتحدثين عنه في البلاغة، لكن لم يتصد واحد منهم ويفصله عن معانيه في علم القراءات وعلم الخط، تلك التي لا تحتاج إليها بلاغة الأسلوب، ثم يحاول رسم الحدود وإبراز المضمون، لم يفعل ذلك سوى عبد القاهر الجرجاني. حتى ابن سنان الخفاجي "ت 466هـ" معاصر الجرجاني، راح يدافع عن أن البلاغة قد لا تكون في معرفة الفصل
1 الباقلاني، إعجاز القرآن 38.
2 القاضي عبد الجبار، المغني 16/ 378 تحقيق أمين الخولي ط وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1960م.
3 الشريف المرتضي، أمالي المرتضي 2/ 94، 96 ط السعادة.
4 ابن رشيق القيرواني، العمدة 1/ 215 تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ط بيروت الرابعة 1972م.
والوصل1 ثم يشير من بعد إلى أن أحد الأصول في حسن التأليف وضع الألفاظ موضعها حقيقة
…
فمن وضع الألفاظ موضعها ألا يكون في الكلام تقديم وتأخير
…
أو سلوك الضرورات حتى يفصل فيه بين ما يقبح فصله في لغة العرب كالصلة والموصول وما أشبههما وبين الصلة والموصوف، والأمر وجوابه
…
2.
وتناول الجرجاني "ت 471هـ" مصطلح الفصل والوصل.
2-
مرحلة استقرار المصطلح:
جعل الجرجاني المصطلح النحوي قاعدة له، وانطلق منها إلى رحاب البلاغة مطبقا منهجه في "النظم"، فحافظ على قواعد "عطف النسق" واستمد منها ما يخدم "الفصل والوصل".
فالباب المخصص لهذا الحديث في كتابه "الدلائل" مصدر بـ "القول في الفصل والوصل"3 ومقدمته توضح أن الذي ينبغي "أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض، أو ترك العطف فيها والمجيء بها منثورة، تستأنف واحدة منها بعد الأخرى، من أسرار البلاغة4 تلك التي لا يفهمها إلا "الأعراب الخلص" و"الأقوام طبعوا على البلاغة" و"الأفراد في ذوق الكلام" أما الذين إذا "رأوا جملة قد ترك فيها العطف قالوا: إن الكلام قد استؤنف وقطع عما قبله لا تطلب أنفسهم منه زيادة على ذلك، قد غفلوا غفلة شديدة"5.
فـ "الفصل والوصل" هو "العطف وترك العطف" من الوجهة البلاغية -وهذه مرحلة دقيقة يمر بها المصطلح البلاغي، فالصل والوصل قد
1 ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة، ص50 تحقيق عبد المتعال الصعيدي ط صبيح 1969م.
2 نفسه 101.
3 الجرجاني، دلائل الإعجاز 222، تحقيق شاكر، ط المدني، الأولى، 1984م.
4 نفسه والصفحة.
5 نفسه 231.
انطلق -مستندا إلى العطف النحوي- يستشف الأسرار الجمالية للتراكيب والمفردات.
وقد التزم الجرجاني أن ينطلق من القاعدة النحوية، ولكنه لم يسمح لها أن تستولي على مساحة أكبر من المقدر لها.
أ- الأساس النحوي في المصطلح البلاغي عند الجرجاني:
يقول: "واعلم أن سبيلنا أن ننظر إلى فائدة العطف في المفرد ثم نعود إلى الجملة فننظر فيها ونتعرف حالها
…
"1 و"معلوم أن فائدة العطف في المفرد أن يشرك الثاني في إعراب الأول، وأنه إذا أشركه في إعرابه فقد أشركه في حكم ذلك الإعراب، نحو أن المعطوف على المرفوع بأنه فاعل مثله
…
"2 و"إذا كان هذا أصله في المفرد فإن الجمل المعطوف بعضها على بعض على ضربين
…
3 و"اعلم أنه إنما يعرض الإشكال في الواو دون غيرها من حروف العطف، وذاك لأن تلك تفيد مع الإشراك معاني مثل أن "الفاء" توجب الترتيب من غير تراخ و"ثم"
…
4 و"اعلم أنه كما كان في الأسماء
…
، وذلك كالصفة التي لا تحتاج في اتصالها بالموصوف إلى شيء يصلها به، وكالتأكيد الذي لا يفتقر كذلك إلى ما يصله بالمؤكد، كذلك يكون في الجمل
…
5.
وفي هذه النصوص ما يكفي لإثبات التزام الجرجاني بالأساس النحوي لدراسة الفصل والوصل، ومهما يكن من صرامة القواعد وجورها أحيانا فغالبا ما تضفي على الدرس سمة الوضوح ومعرفة الحدود فيسهل الفهم.
1 الدلائل 220.
2 الدلائل 220 و221.
3 الدلائل 223.
4 الدلائل 224.
5 الدلائل 220-227.
ب- الأساس الفني في المصطلح البلاغي عند الجرجاني:
لم يغفل الجرجاني مناسبة إلا ويوضح أن الأمر ليس "عطف جملة على جملة"، وإنما هو وصل معنى بمعنى لاعتبارات جمالية. ففصل معنى عن آخر، ووصل معنى بآخر يحتاج إلى أقوام ذوي ذوق، هم به أفراد، ويحتاج إل تأمل ونظر، لذا نراه في تحليله الجمالي يستند إلى معرفة "الجاري في العرف والعادة" وإلى "ما يحرك السامعين لأن يعملوا" و"يحرك السامع لأن يسأل" وإلى أن "المعاني كالأشخاص" بالإضافة إلى صبره المعروف في تحليل خيوط نسيج كل تركيب.
جـ- المصطلحات التي وردت في بحث الجرجاني:
لا يفوتني أن أوضح هنا أن الجرجاني كان متكلما أشعريا نحويا بلاغيا، وهذا -مع أسباب أخرى- أدى إلى وجود الجانب الجدلي والجانب التعليمي في تحليله للنكت البلاغية، وقد خففت براعته من جفاف الجانب التعليمي، واستمر هذا بدرجة مقبولة عند الزمخشري، حتى إذا جاءت المدرسة السكاكية انطلق الجفاف لا يلوي على شيء.
فترى الجرجاني يصدر معظم فقراته بـ "اعلم أن" ويكثر من سوق الشواهد على ما يقول، ثم ينهى شرحه بقوله "
…
فاعرفه" أو "
…
فاعرف ذلك" وفي نهاية الفصل يلخص ما عرضه في صفحات من فصل ووصل قائلا: "وإذا قد عرفت هذه الأصول والقوانين في شأن فصل الجمل ووصلها فاعلم أنَّا
…
" ثم يعيد تلخيص التلخيص قائلا "فترك العطف يكون إما للاتصال إلى الغاية، أو للاتصال إلى الغاية، والعطف لما هو واسطة بين الأمرين، وكان له حال بين حاليين فاعرفه".
أرأيت
وقد خص الجرجاني الفصل والوصل بـ "العطف وترك العطف" فصار
المصطلح علما على ذلك. وتحددت معالمه وأبقى على مصطلح "القطع" ومصطلح "الاستئناف" وعرف الاستئناف بأنه جعل الكلام جوابا في التقدير، ثم حدد سبب ترك العطف بأنه، يكون إما "للاتصال إلى الغاية" وهذا ما سمي بعد ذلك بـ "كمال الاتصال" و"الانفصال إلى الغاية" وهذا ما سمي بـ "كمال الانفصال" وحدد سبب العطف لما هو واسطة بين الأمرين وكان له حال بين حالتين وهذا ما سمي بعد ذلك بـ "التوسط بين الكمالين".
3-
مرحلة تشعب المصطلح:
ليست القضية تشعب المصطلح أو ندرته، إنما هي مدى حاجتنا إلى المصطلح وإلى تشعبه. أما الجرجاني "ت 471هـ" فلم يشغل نفسه في البحث عن مصطلحات بقدر ما انشغل بما وراء وصل الموصول وفصل المفصول من أغراض ومبررات منطقية ونفسية وجمالية، حتى القانون الذي وضعه في النهاية لم يضع له مصطلحا، مكتفيا بتخصيص المصطلح العام "الفصل والوصل" بالموضوع وما يندرج تحته من أفكار.
وجاء الزمخشري ولم يكن يفصل بين "الفصل والوصل" في القراءات و"الفصل والوصل" في البلاغة. ووضح ذلك في تفسيره لقوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} 1 إذ رأى أن "الفصل: التمييز بين الشيئين، ومعنى فصل الخطاب: البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه، ومن فصل الخطاب وملخصه أن لا يخطئ صاحبه مظان الفصل والوصل، فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه، ولا يتلو قوله:{وَيْلٌ لِلْمُصَلِّين} 2 إلا موصولا بما بعده. ولا {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ} 3 حتى يصله بقوله: {لَا تَعْلَمُونَ} ونحو ذلك، وكذلك مظان
1 ص: 20.
2 الماعون: 4.
3 النور: 19.
العطف وتركه، والإضمار والإظهار والحذف والتكرار، وإن شئت كان الفصل بمعنى الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد والحق والباطل والصواب والخطأ1.
وكأنه يرى أن ما يؤدي فصله إلى فساد وخلل وجب فيه الوصل، وما يؤدي وصله إلى فساد وخلل وجب فيه الفصل، في القراءات كان أو في البلاغة.
ولم يكن الزمخشري -شأنه شأن الجرجاني- في أثناء تطبيقه الفني لنظرية النظم منشغلا بالبحث عن "مصطلح" لأنه لا حاجة له فيه. وحين انتهت ممارسة التطبيق على يد الزمخشري، صارت مهمة السكاكي -الذي لم يجد في نفسه قدرة الجرجاني أو الزمخشري على الإبداع والإمتاع2- أن ينظم ويرتب هذا البناء الشامخ. ومن طبيعة التنظيم والترتيب أن تجمع الجزئيات بعضها إلى بعض، وكذا الأشباه والنظائر ويستغنى عن الفضول والاستطراد وهنا يحتاج الأمر إلى المصطلح الذي يوجز الإطناب ويوفر الجهد ويساعد على الاستذكار، وقد كان.
وأطلق السكاكي "ت 626هـ" مصطلح "كمال الاتصال" على ما سماه الجرجاني "الاتصال إلى الغاية" وذلك إذا كانت الجملة الثانية موضحة للأولى أو مبينة لها أو مؤكدة لها ومقررة، ويجب فيها الفصل3 وأبقى على مصطلح "القطع" وجعله نوعين؛ أحدهما: أن يكون للكلام السابق حكم وأنت لا تريد أن تشركه الثاني في ذلك فتقطع، وثانيهما: أن يكون الكلام السابق بفحواه كالمورد للسؤال، فتنزل ذلك منزلة الواقع ويطلب بهذا الثاني وقوعه جوابا له فيقطع عن الكلام السابق لذلك -ثم قسم النوع الأول من
1 الكشاف، 3/ 365.
2 د. أحمد مطلوب، البلاغة عند السكاكي، 217 وما بعدها ط العراق، بغداد.
3 السكاكي، المفتاح 141 ط الحلبي الثانية، 1990م.
القطع إلى قطع على وجه الاحتياط وقطع على وجه الوجوب، وأبقى على الثاني اسمه، وهو "الاستئناف"1.
وأطلق مصطلح "كمال الانقطاع" على ما سماه الجرجاني "الانفصال إلى الغاية" وهو أن تختلف الجملتان خبرًا وطلبًا أو أن تتفقا خبرًا2.
وأطلق مصطلح "التوسط بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع" على ما سماه الجرجاني "ما هو واسطة بين الأمرين، وكان له حال بين الحالين" وذلك إذا اختلفت الجملتان خبرًا وطلبًا"3.
وخرج ابن الأثير "ت 637هـ" عن دائرة "الفصل والوصل" وكمال الاتصال وكمال الانقطاع، لأنه قد اعتد بكتاب "سر الفصاحة" لابن سنان الخفاجي "ت 466هـ" الذي كان يبحث في شروط الفصاحة في اللفظة الواحدة وشروطها في الألفاظ، وهاجم من يرى البلاغة في معرفة الفصل من الوصل4 فقط وفي حديث ابن الاثير عن "الحروف العاطفة والجارة" يقول:"هذا موضع لطيف المأخذ دقيق المغزى وما رأيت أحدا من علماء هذه الصناعة تعرض له، وما أقول إنهم لم يعرفوه"5! ثم يحلل قوله تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} 6 مستعملا للفصل عبارة "حذف الواو" وللوصل "إثباتها"7.
وجاء القزويني "ت 739هـ" وهو رجل سيطرت عليه النزعة التعليمية، فأحال البلاغة إلى قواعد يحفظها الدارسون8 فأضاف مصطلحين
1 السكاكي، المفتاح 142.
2 نفسه والصفحة.
3 نفسه 112.
4 ابن سنان، سر الفصاحة، وانظر ص50.
5 ابن الأثير، المثل السائر 2/ 235 تحقيق الحوفي وطبانة ط 1959م.
6 الشعراء: 79-81، والمثل السائر 2/ 235، 236.
7 المثل السائر 2/ 329.
8 د. أحمد مطلوب، القزويني وشراح التلخيص 283 ط1 سنة 1967 بغداد.
جديدين هما "شبه كمال الاتصال" و"شبه كمال الانقطاع" وذلك في أثناء حديثه في تلخيصه عن مواطن الفصل يقول: "فإن كان للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية فالفصل نحو {وَإِذَا خَلَوْا} الآية، وإلا، فإن كان بينهما كمال الانقطاع بلا إيهام أو كمال الاتصال أو شبه أحدهما، فكذلك، وإلا، فالوصل1 ويقصد بـ "شبه كمال الانقطاع" أن تكون الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى لكون عطفها عليها موهمًا لعطفها على غيرها2 ويقصد بـ "شبه كمال الاتصال" أن تكون الثانية بمنزلة المتصلة بالأولى لكونها جوابا عن سؤال اقتضته الأولى3.
والطريف أن القزويني لم يلتزم بهذين المصطلحين في كتاب "الإيضاح" إنما الذي روج لهما هم شراح التلخيص4.
وبهذا صار لدينا مصطلح "الفصل والوصل" وخمسة مصطلحات تشعبت منه.
وأرى أننا لسنا بحاجة إلى هذه المصطلحات الخمسة فهي ليست جامعة مانعة، وقد تشكلت تلبية للحاجة التعليمية، وكانت ترجمة لمنهج البلاغة المتفلسفة العقيمة، وأرى أن نقتصر منها على المصطلح الأساسي "الفصل والوصل" ويكون:
الفصل: هو قطع معنى عن معنى بأداة لغرض بلاغي.
والوصل: هو ربط معنى بمعنى بأداة لغرض بلاغي.
1 شروح التلخيص، متن التلخيص 3/ 21 ط السعادة الثانية، 1343هـ.
2 القزويني، الإيضاح 254 تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، ط الخامسة دار الكتاب اللبناني، 1980م.
3 نفسه 255.
4 شروح التلخيص 3/ 21 وما بعدها.