المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الزمخشري والوصل: - الفصل والوصل في القرآن الكريم

[منير سلطان]

الفصل: ‌ الزمخشري والوصل:

ثانيا:‌

‌ الزمخشري والوصل:

1-

الوصل اللفظي والوصل المعنوي:

وذلك في قوله تعالى في سورة الرحمن: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} 1 فكيف اتصلت الجملتان بـ "الرحمن؟ "- يقول الزمخشري: استغني فيها عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أن الحسبان حسبانه والسجود له لا غيره2، كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له3.

2-

أحوال الواو:

"أ""الواو" للوصل وللفصل أيضا.

"ب""الواو" تجمع بين المتشابهات.

"ج""الواوات" المتداخلة.

"د""الواو" الحال.

"هـ""الواو" لتوكيد معنى النفي.

"و" الوصل "بالواو" لإثبات بشرية المسح وعبوديته.

"ز" حكم الشرع يقتضي الوصل "بالواو" دون "أو".

"أ" الواو للوصل وللفصل أيضا:

في قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} 4. يقول الزمخشري: "ويستخلف" كلام مستأنف: يريد ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين. يخلفونكم في دياركم وأموالكم"5.

1 الرحمن: 5، 6.

2 هكذا في النص. هل هي "لا لغيره"؟

3 الكشاف 4/ 44.

4 هود: 57.

5 الكشاف 2/ 277.

ص: 107

"ب" الواو تجمع بين المتشابهات:

في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 1. وهذا العطف، عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكأن معناه أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما2.

"ج" الواوات المتداخلة:

في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3. أي: أنه تعالى الأول: القديم الذي كان قبل كل شيء، والآخر: الذي يبقى بعد هلاك كل شيء، والظاهر: بالأدلة الدالة عليه، والباطن: لكونه مدرك بالحواس. أما هذه الواوات، فالواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء، وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الآخريين فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية، وهو في جميعها ظاهر وباطن جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك. ويكمل الزمخشري المعتزلي حديثه قائلا:"وفي هذا حجة على من جوَّز إدراكه في الآخرة بالحاسة"4.

"د" واو الحال:

هي واو العطف استعيرت للوصل5، وفي قوله تعالى:{قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} 6 الواو الأولى للحال، والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالا. قد انتظمتهما معًا ما في

1 الأحزاب: 35.

2 الكشاف 3/ 261.

4 الكشاف 4/ 61.

5 الكشاف 2/ 67.

6 البقرة: 247.

ص: 108

حكم واو الحال"1، وكذلك "واو" {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} 2.

"هـ" الواو لتوكيد معنى النفي:

في قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} 3. يقول الزمخشري: "إذا وقعت الواو في النفي قرنت بها لتأكيد معنى النفي"4.

"ز" الوصل بالواو لإثبات بشرية المسيح وعبوديته:

وذلك في قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} 5. فعطف {مَنْ فِي الْأَرْضِ} على المسيح، لأنهما من جنسهم، لا تفاوت بينهما وبينهم في البشرية6.

"ح" حكم الشرع يقتضي الوصل بـ "الواو" دون "أو":

في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} 7، فالعطف بالواو، كما جاء بالواو في قولك للجماعة:"اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم: درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة" ولو ذهبت تقول: اقتسموا هذا المال درهمين درهمين، أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة -علمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموا إلا على أحد أنواع هذه القسمة، وليس أن يجمعوا بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو،

1 الكشاف 1/ 379.

2 البقرة: 266 الكشاف 1/ 396.

3 فاطر 19.

4 الكشاف 3/ 306.

5 المائدة: 72.

6 الكشاف 1/ 601.

7 النساء: 3.

ص: 109

وتحريره أن الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع، إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاءوا متفقين فيها محظورا عليهم ما وراء ذلك1.

3-

الوصل ليس بالواو فقط:

ولكن: بها وبالفاء وبثم، وبعلى، بلام الجر، وبإلى وببقية أدوات الربط.

"أ" الوصل بـ "الفاء":

1-

يفيد التسبيب والتعقيب:

في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 2. فما معنى هذه الفاءات؟ يجيب الزمخشري: الأولى للتسبيب لا غير: لأن الظلم سبب التوبة، والثانية للتعقيب: لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم من قبل الله تعالى، جعل توبتهم قتل أنفسهم والثالثة: متعلقة بمحذوف3

وكذلك في قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} 4.

2-

ويفيد الشرطية:

وذلك في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 5، ودخول الفاء ضمنتها معنى الشرط، لأن المعنى والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما6.

1 الكشاف 1/ 497.

2 البقرة: 54.

3 الكشاف 1/ 281.

4 الأنفال 68، الكشاف 2/ 169.

5 المائدة 38.

6 الكشاف 1/ 611.

ص: 110

3-

ويفيد المفاجأة:

ففي قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا} 1. يقول الزمخشري: هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول، ونحوها قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} 2، وقول القائل:

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم الفقول فقد جئنا خراسانا3

ويكرر هذا التحليل في قوله تعالى: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} 4.

4-

ويفيد الترتيب في الوجود أو في الفضل أو في الوصف:

في سورة الصافات يقول تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا، إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} 5 فهذه الفاءات العاطفة للصافات إما أن تدل على ترتيب معانيها في الوجود كقوله:

يالهف زيابة للحرث الصا

بح فالغانم فالآيب6

1 الفرقان: 19.

2 المائدة: 19.

3 الكشاف 3/ 86.

4 الروم: 56، الكشاف 3/ 227.

5 الصافات: 1-3.

6 هو من أبيات الحماسة والشعر لابن زيابة في جواب الحارث بن همام حين قال:

أيا ابن زيابة إن تلقني

لا تلقني في النعم العازب

والمعنى: يا حسرة أمي من أجل الحارث، الحارث اسم من غزاهم وصبحهم وغنم منهم وآب إلى قومه سالما، وقيل تهكم به بمعنى: أنه لم يحصل له تلك الأوصاف، فإن الحارث توعد ابن زيابة بالقتل ثم نكص عن جزائه وقيل هو على ظاهره. شرح شواهد الكشاف بزيل الكشاف 4/ 325، وانظر الحماسة لأبي تمام بشرح التبريزي 1/ 39 ط بيروت، واللام في الحارث للتعليل.

ص: 111

كأنه قيل: الذي صبح فغنم فآب، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه، كقولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل، وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقولك: رحم الله المحلقين والمقصرين، فإن قلت: فعلى أي هذه القوانين هي فيما أنت بصدده؟ قلت: إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل، وإن ثلثته فهي للدلالة على ترتب الموصوفات فيه، بيان ذلك أنك إذا أجريت هذه الأوصاف على الملائكة وجعلتهم جامعين لها فعطفها بالفاء يفيد ترتبا لها في الفضل، إما أن يكون الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة. وإما على العكس1.

"ب" الوصل بـ "ثم" يفيد:

1-

التراخي في الحال:

في قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} "ثم" ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال، كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل3، وكذلك في قوله تعالى:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 4، وقوله تعالى:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 5، وقوله تعالى:{الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى، ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} 6.

1 الكشاف 3/ 334.

2 هود: 1.

3 الكشاف 2/ 258.

4 الحج 33، الكشاف 3/ 14.

5 الزمر: 6، الكشاف 3/ 188.

6 الأعلى: 4، الكشاف 4/ 244.

ص: 112

2-

والاستبعاد:

والاستبعاد يكون إذا كان ما بعد "ثم" أمرًا مستبعد الوقوع بالنسبة لما قبلها، أو بعبارة أخرى، إذا كان ما قبلها من الأحداث والأفعال مهيئا لعدم حصول ما بعدها، وذلك مثل قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} 1. يقول الزمخشري: "في قوله: {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} للاستبعاد: والمعنى أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل والعدل، كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها، استبعادا لتركه الانتهاز، ومنه "ثم" في بيت الحماسة:

لا يكشف الغماء إلا ابن حرة

يرى غمرات الموت ثم يزورها2

استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها3، وقد تكرر هذا في قوله تعالى:{يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} 4، وكذلك في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} 5.

3-

إذا تكررت فالكرة الثانية أبلغ من الأولى:

فقد تكررت "ثم" في قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} 6. فما معنى "ثم" الداخلة في

1 السجدة: 22.

2 أي لا يكشف الخصلة الشديدة إلا رجل كريم يرى قحم الموت ثم يتوسطها لا يعدل عنها، وإنما قال ابن حرة ليصير مهيجا لأنفته -وفي إيثار لفظ "الزيارة" وإشعاره بأنه يلاقيها لقاء معظم لمحبوبه من المبالغة ما لا يخفى "شرح شواهد الكشاف" 4/ 417.

3 الكشاف 3/ 246.

4 النحل: 83، والكشاف 2/ 423.

5 البقرة: 84، والكشاف 1/ 293.

6 المدثر: 17/ 20.

ص: 113

تكرار الدعاء -يقول الزمخشري: هي للدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى ونحوه قوله:

ألا يا سلمى ثم اسلمي ثمت اسلمي

فإن قلت: ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ قلت: للدلالة على أنه قد تأنى في التأمل وتمهل، وكان بين الأفعال المتناسقة تراخ وتباعد1. كما في قوله تعالى:{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ، ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} 2.

4-

وتفيد بيان التفاضل:

وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} 3 "ثم" في هذين الموضعين لبيان تفاضل الأمور الثلاثة: كان الثاني أعظم من الأول، والثالث أعظم منهما تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت4.

"ج" الوصل بـ "أو":

"أو" في أصلها لتساوي شيئين فصاعدا في الشك ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوي في غير الشك، وذلك قولك:"جالس الحسن أو ابن سيرين" تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} 5، أي الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما، وكذلك قوله تعالى:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} 6. معناه: "أن

1 الكشاف 4/ 183.

2 التكاثر: 6-8، والكشاف 4/ 281.

3 الفرقان: 45 و46.

4 الكشاف 3/ 94.

5 الإنسان: 24، والكشاف 4/ 200.

6 البقرة: 19.

ص: 114

كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتي هاتين القصتين، وأن القصتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعا فكذلك"1، وفي "أو" التي بمعنى "الواو" قوله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا} 2.

5-

أدوات أخرى للوصل:

"أ" على:

وتفيد الاستعلاء، ففي قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 3. فشهادة الرسول لهم لا عليهم، لكن لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء. ومثله {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} 4، وأيضا: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ

} 5.

"ب" لام الجر:

ويستشف منها الزمخشري معنى أدبيًّا خلابا في قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} 6، يقول: فما معنى اللام في قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} ، وما الفرق بينه وبين قولك:"كان عند الناس عجبا" معناه: أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها ونصبوه علما لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم، وليس في "عند الناس" هذا المعنى7.

1 الكشاف 1/ 131.

2 الأنعام 146، والكشاف 2/ 58، أو الحوايا: أو ما اشتمل على الأمعاء.

3 المائدة: 117.

4 القلم: 21/ 22، وانظر الكشاف 4/ 144 وصارمين: حاصدين.

5 البقرة: 5، والكشاف 1/ 143.

6 يونس: 2.

7 الكشاف 2/ 224.

ص: 115

"ج" إلى:

فإذا كان الفعل يتعدى مرة باللام ومرة بـ "إلى" فيبين الزمخشري دلالة كل في موضعه، يقول في قوله تعالى:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} 1، وقد عدي الفعل بـ "إلى" وفي قوله تعالى:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} 2 قد عدي بـ "اللام" ومع اللام جعل وجهه وهو ذاته سالما لله أي خالصا له ومع "إلى" أنه أسلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه، والمراد المتوكلي عليه والتفويض إليه3.

"د" قد:

وتدل على التوقع، وإذا دخلت على المضارع كانت بمعنى "ربما" فوافقتها في الخروج إلى معنى التكثير، يقول في قوله تعالى:{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} 4. أدخل "قد" ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق، ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد، وذلك أن "قد" إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى "ربما" فوافقت "ربما" في خروجها إلى معنى الكثير في نحو قوله:

فإن تمس مهجور الفناء وربما

أقام به بعد الوفود وفود5

ونحو قول زهير:

أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله

ولكنه قد يهلك المال نائله6

1 لقمان: 22.

2 البقرة: 112.

3 الكشاف 3/ 235.

4 النور: 64.

5 البيت لأبي العطاء السندي في ابن هبيرة، وكان قد قتله المنصور بواسط غدرا. الحماسة لأبي تمام 1/ 331.

6 الكشاف 3/ 79.

ص: 116

ويكرر هذه الفكرة في قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} 1.

"هـ" ربما:

وتكون بمعنى التقليل، كما في قوله تعالى:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} 2، والقليل وارد على مذهب العرب في قولهم:"لعلك ستندم على فعلك، وربما ندم الإنسان على ما فعل"، ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله، ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل، لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغم المظنون، كما يتحرزون من المتيقن، ومن القليل منه كما من الكثير، وكذلك معنى الآية الكريمة:"لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة فبالحريِّ أن يسارعوا إليه، فكيف وهم يودونه في كل ساعة"3.

"و" أداتا الشرط "إن" و"إذا":

يقرر الزمخشري فيهما هذا المعنى المشهور، وهو أن "إن" للشرط المشكوك فيه، و"إذا" للشرط المتيقن، ويجتهد ليبين هذه الدلالة ومدى إصابتها للغرض، والمقام، ويفسر في ضوئها خصوصيات الكلمات في التركيب، يقول في قوله تعالى:{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} 4، يتسائل: كيف قيل: "وإذا جاءتهم الحسنة" بـ "إذا" وتعريف "الحسنة" و {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بـ "إن" وتنكير السيئة؟ ويجيب "لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه، أما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها، ومنه قول بعضهم: قد عددت أيام البلاء فهل عددت أيام الرخاء؟ "5.

1 الأنعام: 33، والكشاف 2/ 14.

2 الحجر: 2.

3 الكشاف 2/ 386.

4 الأعراف: 131.

5 الكشاف 2/ 106.

ص: 117

وقد يرمز الذكر الحكيم باستعمال "إن" إلى شيء مما كانت تحتويه الحياة العربية من أخلاق وعادات في شيء من اللوم والتعنيف، ثم نجد الزمخشري يلتفت إلى هذا ويلفتنا إليه، يقول في قوله تعالى:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1، فإذا قلت: لم أقحم قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} ؟ قلت: لأن الإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن، وآمر الطيعة المواتية للبغاء لا يسمى مكرها ولا أمره إكراها، وكلمة "إن" وإيثارها على كلمة "إذا" إيذان بأن المساعيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن"2.

4-

الوصل بين الصفات المتعددة:

"أ" لبيان تعدد الصفات للموصوف.

"ب" لكمال الصفات في الموصوف.

"ج" لبلوغ أحد الموصولين شهرة الآخر في الصفة.

"أ" الوصل لبيان تعدد الصفات للموصوف:

ففي قوله تعالى: {وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} 3 يعني ذلك أنه الجامع بين كونه كتابا منزلا وفرقانا يفرق بين الحق والباطل، يعني: التوراة، كقولك: رأيت الغيث والليث، تريد الرجل الجامع بين الجود والجرأة، ونحوه قوله تعالى:{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} 4. يعني الكتاب الجامع بين كونه فرقانا وضياء وذكرا"5.

1 النور: 33.

2 الكشاف 3/ 66.

3 البقرة: 53.

4 الأنبياء: 48.

5 الكشاف 1/ 281.

ص: 118

"ب" لكمال الصفات في الموصوف:

وقد تقع الواو بين الصفات للإشارة إلى أن الموصوف بلغ الكمال في كل صفة منها، يقول في قوله تعالى:{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} 1، والواو المتوسطة بين الصفات: للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها2.

"ج" الوصل لبلوغ أحد الموصولين شهرة الآخر في الصفة:

وأحد الموصولين هنا قد بلغ في الوصف المراد بيانه مبلغ الآخر الذي عرف وشهر ببلوغه الغاية في هذا الوصف، يقول الزمخشري في قوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} 3 وقد أذن عز وجل إذ قرن الأرحام باسمه أن صلتها منه بمكان، كما قال تعالى:{أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 4، وأيضا في قوله تعالى:{سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} 5 جعل قتلهم الأنبياء قرينة له وإيذانا بأنهما في العظم أخوان6.

5-

الوصل بين الصفات بعد الفصل بينها:

وذلك:

"أ" للجمع بين صفتين خاصتين منها.

"ب" للتباين بين صفتين منها.

"أ" للجمع بين صفتين خاصتين منها:

وذلك في قوله تعالى: {حم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غَافِرِ

1 آل عمران: 17.

2 الكشاف 1/ 417.

3 النساء: 1.

4 البقرة: 83، والكشاف 1/ 493.

5 آل عمران: 181.

6 الكشاف 1/ 184.

ص: 119

الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} 1. فما بال "الواو" في قوله {وَقَابِلِ التَّوْبِ} ؟ فيها نكتة، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين، بين أن تقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محاءة للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال: "جامع المغفرة والقبول"2.

"ب" للتباين بين صفتين منها:

والوصل هنا للإشارة إلى أن الموصوف يجمع بين صفتين، ولكن للإشارة إلى أنه لا يمكن الجمع بينهما لتنافي المعنى فيهما، ففي قوله تعالى:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} 3. الصفات قد أخليت عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار، لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات، فلم يكن بد من "الواو"4.

6-

من أغراض ترتيب المفردات الموصولة:

وخضعت المفردات الموصولة لقاعدة تقديم الأصل في المسألة على ما هو فرع، والأشد فيها على ما هو أخف، وكذا الأدل على القدرة الإلهية.

"أ" تقديم الأدل على القدرة الإلهية:

وذلك في قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} 5. فقد قدمت الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان إلا أنه غير ناطق"6.

1 الزمر: 1.

2 الكشاف 3/ 413.

3 التحريم: 5.

4 الكشاف 4/ 128.

5 الأنبياء: 79.

6 الكشاف 2/ 580.

ص: 120

"ب" تقديم الأصل على الفرع:

في سورة "النور" تأتي كلمة "الزانية" قبل "الزاني" ثم تأتي ثانية ومعكوسة في ترتيبها، لماذا؟ يقول الزمخشري، في قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} 1 لأن المرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية، لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له، ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن، فلما كانت أصلا وأولا في ذلك بدئ بذكرها - أما في قوله تعالى:{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} 2 فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب3.

"ج" تقديم الأشد على الأخف على الممكن:

قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} 4، وقدمت هذه الأحوال بهذا الترتيب لبيان أنواع المضرورين، فمنهم من هو أشد حالا: وهو صاحب الفراش، ومنهم من هو أخف: وهو القادر على القعود، ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء - وإذا جعلنا المضرور شخصا واحدا كان الترتيب لبيان أنه لا يزال داعيا الله تعالى في جميع حالاته: مضطجعا أو قاعدا أو قائما5.

7-

من أغراض الوصل بين الجمل:

"أ" الوصل للإشراك في الحكم الإعرابي:

من ذلك قوله تعالى: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، وَإِذْ قَالَتْ

1 النور: 2.

2 الأنبياء: 3.

3 الكشاف 3/ 50.ج

4 يونس: 12.

5 الكشاف 2/ 227.

ص: 121

أُمَّةٌ مِنْهُمْ} 1، و {إِذْ يَعْدُونَ} في محل جر بدل من القرية، و {إِذْ تَأْتِيهِمْ} منصوب بـ {يَعْدُونَ} أما {وَإِذْ قَالَتْ} فمعطوف على {إِذْ يَعْدُونَ} وحكمه حكمه في الإعراب2.

"ب" الوصل للتناسب:

في قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} 3، فبالرغم من أن الشمس والقمر سماويان، والنجم والشجر أرضيان، فيرى الزمخشري أن بين القبيلين تناسبا من حيث التقابل، وأن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين، وإن جرى الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله، فهو مناسب لسجود الشمس والقمر4.

"ج" الوصل للتفسير:

وذلك في قوله تعالى: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} 5.

أما قوله تعالى: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} فهو نتيجة قوله: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} ، وأما قوله:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فجار مجرى البيان والتفسير لقوله تعالى: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} كقولك: رزق زيد المال فمنع المعروف ولم يحسن إلى الفقراء6.

1 الأعراف: 163، 164، وشرعا: ظاهرة على وجه الماء.

2 الكشاف 2/ 126.

3 الرحمن: 5، 6.

4 الكشاف 4/ 44.

5 الأعراف: 82، 83.

6 الكشاف 1/ 253.

ص: 122

"د" الوصل لتقرير المعنى:

ففي قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1، والفرق بين {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 2. أن الخبرين قد اختلفا ها هنا، فلذلك دخل العاطف، بخلاف الخبرين ثمة، فإنهما متفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة، وتشبيههم بالبهائم شيء واحد، فكانت الجملة الثانية مقررة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل و"هم" فصل3.

"هـ" الوصل للاختصاص:

ومن ذلك أن المعطوف عليه لا يكون مقصودا بالحكم، وإنما يذكر للدلالة على قوة اختصاصه بالمعطوف، ومن ذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 4. يقول الزمخشري: "يجوز أن يجري مجرى قولك: سرني زيد وحسن حاله، وأعجبت بعمرو وكرمه، وفائدة هذا الأسلوب الدلالة على قوة الاختصاص، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى، سلك به ذلك المسلك5، وفي قوله تعالى: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} 6 أراد ليحطمنكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ ونحوه: "أعجبت من نفسي ومن إشفاقها"7.

"و" الوصل للتوكيد:

وقد توصل الجملة الواقعة صفة للنكرة وحينئذ تفيد تأكيد وصل الموصوف

1 البقرة: 5.

2 الأعراف: 179.

3 الكشاف 1/ 145.

4 الحجرات: 1.

5 الكشاف 3/ 553.

6 النمل: 18.

7 الكشاف 3/ 142.

ص: 123

بالصفة، يقول الزمخشري في قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} 1. فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة، ولم دخلت عليها دون الأولين؟ قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة، في نحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} 2. وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه الواو هي التي أذنت بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوا عن ثبات وعلم، وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن، كما قال غيرهم، والدليل عليه أن الله سبحانه أتبع القولين الأولين قوله:{رَجْمًا بِالْغَيْبِ} وأتبع القول الثالث قوله: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} ، وقال ابن عباس:"حين وقعت الواو انقطعت العدة: أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليه"3، ويكرر الزمخشري هذا التحليل في قوله تعالى:{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} 4.

"ز" الوصل للفت إلى معنى يحدده سياق الكلام:

ومن ذلك أن المعطوف قد لا يراد تشريكه في الحكم مع المعطوف عليه، وإنما يراد اللفت إلى معنى يحدده سياق الكلام، يقول الزمخشري في قوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} 5. قرأ جماعة "وأرجلكم" بالنصب، فدل على أن الأرجل مغسولة، فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجزم ودخولهما في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء المغسولة، تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنة الإسراف المذموم المنهي عنه، فعطف على الثالث الممسوح لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها"6.

1 الكهف: 22.

2 الحجر: 4.

3 الكشاف 2/ 478.

4 الكشاف 2/ 487.

5 المائدة: 6.

6 الكشاف 1/ 597.

ص: 124

الزمخشري يتابع الجمهور في عدم وصل الخبرية بالإنشائية:

وهنا يدور الزمخشري ويواكب النحويين والبلاغيين الذين يمنعون وصل الجملة الخبرية بالجملة الإنشائية. فيكره الحقيقة التي أقرها الأسلوب القرآني على أن تؤيد ما ذهبوا إليه. يقول في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} 1. فإن قلت: علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه؟ قلت: ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له كل من أمر أو نهي يعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين، فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: "زيد يعاقب بالقيد والإرهاق، وبشِّر عمرا بالعفو والإطلاق"2!!

8-

من أغراض ترتيب الجمل الموصولة:

"أ" تقديم الأعرق في القدوة:

ففي قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} 3. فقد جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب. كما يقول الزمخشري: لتقديم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو قوائم، ثم الماشي على الرجلين، ثم الماشي على أربع4.

"ب" تقديم الأكثر في العدد:

وقد تكون درجة الأهمية في كثرة العدد، ففي قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ

1 البقرة: 24.

2 الكشاف 1/ 253.

3 النور: 45.

4 الكشاف 3/ 71.

ص: 125

سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1. قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق، للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقل من القليل2.

"ج" تقديم الأقوى أثرا في حياة الناس:

كما في قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} 3، وقد قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم، ولأنه إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم، ومواشيهم لم يعدموا سقياهم4. وكما في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآَنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} 5. عدد الله عز وعلا آلاءه فأراد أن يقدم أول شيء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وأصناف نعمائه وهي نعمة الدين، فقدم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها، وأقصى مراقبها وهو إنعامه بالقرآن.. وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ثم أتبعه إياه ليعلم أنه إنما خلقه للدين

ثم ذكر ما تميز به عن سائر الحيوان من البيان وهو: المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير"6.

"د" تقديم الأسرع ورودا إلى النفس:

كما في قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ} 7، وقدم

1 فاطر: 32.

2 الكشاف 3/ 309.

3 الفرقان: 40.

4 الكشاف 3/ 95.

5 الرحمن: 1-5.

6 الكشاف 4/ 43.

7 النساء: 147.

ص: 126

الشكر هنا على الإيمان، لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع، فيشكر شكرا مبهما، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به، ثم شكر شكرا مفصلا، فكان الشكر متقدمًا على الإيمان وكأنه أصل التكليف ومداره2.

"هـ" إحكام ترتيب الجمل بقصد تهذيب النفس:

ففي مواقف تهذيب النفس وإرشادها إلى طريق البر وأخذ الوسائل التي تبعد بها عن مواطن الرذيلة يلمح الزمخشري: ترتيبا بين الجمل يلائم طبيعة النفس ويتسق مع أحوالها حيث تتوالى الأوامر وتتصاعد حسب الأحوال والشئون، يقول في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ

} إلى قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 2. ما أحسن ما رتب هذه الأوامر حيث أمر أولا بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين، ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالحمل على النفس بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهرة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه"3.

"و" إغفال ترتيب الجمل بقصد تصوير اضطراب النفس:

والآيات هنا يختلف ترتيبها في الظاهر موافقة لأحوال النفس، وما يعرض لها في المواقف الصعبة من مشاعر وخواطر، يسأل الزمخشري في قوله تعالى:{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} 4. فهلا قرن الجواب بما هو جواب له وهو قوله: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ

1 الكشاف 1/ 575.

2 النور: 30-33.

3 الكشاف 3/ 65.

4 الزمر: 56-59.

ص: 127

هَدَانِي} ولم يفصل بينهما بآية؟ ويجيب: "لا يخلو إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث، فيفرق بينهن، وإما أن تؤخر القرينة الوسطى. فلم يحسن الأولى لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن، وأما الثاني فلما فيه من نقص الترتيب، وهو التحسر على التفريط في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية ثم تمني الرجعة، فكان الصواب ما جاء عليه وهو: أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب"1.

"ز" إغفال ترتيب الجمل بقصد تصوير سوء الطوية:

ففي تقريع اليهود في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً

} 2، وقوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ

} 3 فإن قلت: فما للقصة لم تقص على ترتيبها وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها وأن ما قص من قصص بني إسرائيل إنما قص تعديدا لما وجد منهم من الجنايات وتقريعا لهم عليها. ولما جدد فيهم من الآيات العظام، وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع، وإن كانتا متصلتين متحدتين، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك، والثانية للتقريع على قتال النفس المحرمة، وما يتبعه من الآية العظيمة، وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل، لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة، ولذهب الغرض من تثنية التقريع، ولقد روعيت نكتة بعدما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها، أن وصلت بالأولى دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله:{اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} حتى تبين أنها قصتان فيما يرجع إلى

1 الكشاف 3/ 405.

2 البقرة: 67-71.

3 البقرة: 72-73.

ص: 128

التقريع، وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها، وإنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة1.

9-

الوصل والنسق القرآني:

يلتفت الزمخشري إلى ظاهرة أسلوبية دقيقة في نظم القرآن، يلتفت إلى الجملة التي تأتي في نسق مفصولة عما قبلها من جمل، وتأتي في نسق آخر، وقد وصلت بما قبلها، وذلك لأن المعنى قد لا يتسق إلا بالوصل أو لا يتسق إلا بالفصل، فما الفصل والوصل إلا وسيلة فنية لتحقيق أهداف المعنى المقصود.

في سورة الحج ترد جملة {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} 2، ثم تمضي ثلاثون آية وتأتي نفس الجملة وهي مفصولة {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} 3، ويتساءل الزمخشري: لم جاءت نظيرة هذه الآية معطوفة بالواو وقد نزعت عن هذه؟ فيجيب: لأن تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآي الواردة في أمر الناسك فعطفت على أخواتها4، وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا5.

ومثال آخر موصول بالفاء مرة ومفصول عنها أخرى:

في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 6. وفي نفس السورة جاءت {لَهُمْ

1 الكشاف 1/ 290.

2 الحج: 34.

3 الحج: 67.

4 يقصد قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ

} من 30-33.

5 يقصد قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ، لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج: 65] ، والكشاف 3/ 21.

6 البقرة: 262.

ص: 129

أَجْرُهُمْ} "بالفاء"{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 1.

يقول الزمخشري: الموصولة لم تضمن معنى الشرط وضمنته المفصولة -والفرق بينهما من جهة المعنى أن الفاء فيهما دلالة على أن الإنفاق به استحق أجرهم عند ربهم"2.

وقد تجيء الجملة موصولة برابط واحد في مكانين مع:

تقديم وتأخير يقتضيه السياق:

وذلك في قوله تعالى في سورة يونس: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} 3، وفي سورة سبأ:{عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 4، وحق السماء أن تقدم على الأرض -ولكنه تعالى- لما ذكر شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ووصل بذلك قوله:{لا يَعْزُبُ عَنْهُ} لازم ذلك أن قدم الأرض على السماء، على أن العطف بالواو حكمه حكم التثنية"5.

وقد تجيء موصولة برابطين لاختلاف القصد في المرتين:

وذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا

1 البقرة: 274.

2 الكشاف 1/ 394.

3 يونس: 61.

4 سبأ: 3.

5 الكشاف 2/ 243 ومثلها قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208]، وقوله تعالى:{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4] ، انظر الكشاف 3/ 130، وقوله تعالى:{يُذَبِّحُونَ} في سورة البقرة - 49، {ويُذَبِّحُونَ} في سورة إبراهيم - 14، وانظر الكشاف 2/ 368 وما بعدها.

ص: 130

كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 1، وقوله تعالى في سورة آل عمران:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 2. يقول الزمخشري: جعل النظر مسببا عن السير في قوله {فَانْظُروا} فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر ثم انظروا ولا تسيروا سير الغافلين، وأما قوله: {ثُمَّ انْظُرُوا} فمعناها: إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك بـ "ثم" لتباعد ما بين الواجب والمباح3.

الوصل والقصص القرآني:

ويقوم الوصل بدور مهم في الربط بين عناصر القصة، أو في الربط بينها ما يشبهها في المضمون أو الهدف، لتتحول إلى قصة طويلة متعددة الأجزاء - ففي سورة البقرة عطف قصة المنافقين من أول قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} 4 إلى قوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} 5 على قصة الذين كفروا، من قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} 6 إلى قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 7 لأن المنافقين جبناء يظهرون غير ما يبطنون فلا يناسبهم في المقام إلا أن يعطفوا بقصتهم على قصة الكفار وتصير القصتان قصة طويلة لها جزآن.

ومر بنا كيف أبرز الوصل عناصر قصة الخبث اليهودي وجناياتهم، فالجنايات كلها في درجة واحدة من الإثم، فلا مبرر للتسلسل المنطقي للأحداث فإغفال الترتيب أصدق تصوير للنفس غير السوية التي لا قرار لها ولا إيمان8.

1 الأنعام: 11.

2 آل عمران: 137.

3 الكشاف 2/ 7.

4 البقرة: 8.

5 البقرة: 20.

6 البقرة، 6/ 11 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .

7 البقرة: 7، والكشاف 1/ 165.

8 الكشاف 1/ 290.

ص: 131

وقد تعمد القصة إلى ترديد صيغة تصلح خاتمة وبداية لفصل آخر كما في سورة هود، وفيها قصص الأنبياء عليهم السلام، نجد صيغة {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} قد تكررت أربع مرات3، مرتان موصولة بالواو ومرتان بالفاء، ويسأل الزمخشري: فإن قلت ما بال ساقتي قصة عادة وقصة مدين جاءتا بالواو، والساقتان الوسطيان بالفاء، قلت: وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعيد، وذلك قوله:{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْح} {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} فجيء بالفاء الذي هو للتسبب، كما تقول: وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت، وأما الأخريان فلم تقعا بتلك المثابة، وإنما وقعتا مبتدأتين فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما، كما تعطف قصة على قصة2.

وتسجل الواو السؤال والجواب الدائر بين شخصيتين في القصة بما يتناسب وقيمة الحدث، كما في قصة سليمان عليه السلام وبلقيس ملكة سبأ، يقول تعالى:{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} 3، يقول الزمخشري: "وأوتينا العلم من كلام سليمان وملئه، فإن قلت: علام عطف هذا الكلام وبم اتصل؟ قلت: لما كان المقام الذي سئلت فيه عن عرشها وأجابت بما أجابت به، مقاما أجرى فيه سليمان وملؤه ما يناسب قولهم وأوتينا العلم نحو أن يقولوا عند قولهم كأنه هو: قد أصابت في قولها وطبقت المفصل، وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة النبوة بالآيات التي تقدمت عند وفدة المنذر، وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها عطفوا على ذلك قولهم -وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته وبصحة ما جاء من عنده قبل علمها

"4.

ص: 132

11-

الوصل في مسألة كلامية:

كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة بين المعتزلة والأشاعرة، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء، وذهب جماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة، ودار النقاش حول هذه الآية الكريمة:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 1، ويفسر الزمخشري "ولا من هو أعلى منه قدرا وأعظم منه خطرا وهم الملائكة المقربون الذين حول العرش كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم، فإن قلت: من أين دل قوله: {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} على أن المعنى ولا من فوقه؟ قلت: من حيث أن علم المعاني2 لا يقتضي غير ذلك، وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم لن يترفع عيسى عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة؟ كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف بالمسيح؟

، ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} 3 حتى يعترف بالفرق البيِّن4.

ويرد ابن المنير السكندري على قول الزمخشري قائلا: "وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء، وذهب القاضي أبو بكر والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة -واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشري، ونحن بعون الله نشبع القول في المسألة من حيث الآية فنقول:

أولا

وثانيا

وثالثا....: أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو وهي لا تقتضي ترتيبا

"5.

1 النساء: 172.

2 لاحظ أن السكاكي لم يأت بمصطلح "علم المعاني" ولا بمصطلح "علم البيان"، من عنده ومصدرهما الزمخشري. انظر الكشاف 1/ 16 و2/ 290 وانظر البحث ص90.

3 البقرة: 120.

4 الكشاف 1/ 585 وما بعدها.

5 الكشاف هامش 1/ 585 وما بعدها.

ص: 133

وبعد. فقد تحول فن الفصل والوصل على يد الزمخشري إلى ينابيع تفيض معاني ذت أشكال ومضامين وأبعاد لا يغيض لها معين، إن فصلا وإن وصلا.

لم يضف الزمخشري شيئا على حقيقة فن الفصل والوصل، لكنه اجتهد في أن يبرز مكنوناته من خلال وجوده في ثنايا الأسلوب القرآني. وحاول أن يفتق ما يفتق من أكمامه.

فهذا جهد الزمخشري وذاك جهد الجرجاني ثم يأتي ما صنعه السكاكي والقزويني والسبكي ويظل الباب مفتوحا لكل جهد ولكل إضافة.

وجد الزمخشري أن الفصل وصل تقديري، وأن لا بلاغة لوصل دون فصل، فقد يكون فصلا وأبلغ منه الوصل، وأن التناسق الداخلي للجمل أقوى من وصلها برابط، وهذه من اللفتات اللماحة التي لا يصل إليها إلا من كان على شاكلة الزمخشري.

وللفصل أدوات عديدة مثلما للوصل، وله أغراض مختلفة مثلما للوصل، ومن أدق ما وصل إليه الزمخشري كشف سر الصفات المتعددة الموصولة، فهي لبيان مواطن القوة لدى الموصوف، أو للتقرير على أنه قد بلغ الكمال في الصفات التي وصف بها أو أن صفة قد بلغت شهرة صفة أخرى فوصلت بها، ثم يأتي دور الزمخشري في بيان بلاغة ترتيب المفردات الموصولة {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79] . تقدم ذكر الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة، وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد والطير حيوان، إلا أنه غير ناطق1. كما يقدم الأصل على الفرع أيضا والأشد على الأخف وعلى الممكن كذلك.

وعند وصل الجمل لا يتقيد الزمخشري بقاعدة سوى ما بين يديه من نص نابض يستوجبه ويستخرج طاقاته، فيكون الوصل للتفسير ولتقرير المعنى وللتوكيد، وأيضا يأتي الفصل للتوكيد والإيضاح والتفصيل بعد الإجمال - النص

1 الكشاف 2/ 580.

ص: 134

هو الْحَكم وهو الْحُكم، والذوق السليم هو الأداة، والخبرة والمران هما الوسيلة الْمُعينة، والتقليد البليد لا محل له في مجال الإبداع.

ومع ترتيب الجمل يلتفت الزمخشري إلى الروائع، وكأنه يقول: أنتم لم تقرءوا القرآن كما يريد القرآن أن يقرأ، عودوا إليه لتكتشفوا غرائبه وعجائبه، فالجمل لا يقع ترتيبها عشوائيا، وهي ليست جملا مرصوصة، بل لها هندسة مرسومة يحار في شأنها المتأمل، فالجمل إذا تعددت تتقدم ما تفيد في معناها: الأعرق في القدرة على غيرها من جمل، وتتقدم ما تفيد الأقوى أثرا في حياة الناس، وكذا الأسرع ورودا في النفس، وحين تتماسك الجمل في ترابطها وتتعانق في معانيها فهي قاصدة إلى تهذيب النفس وإرشادها إلى الطريق السوي، ثم -وهذا هو العجيب- حين نرى الجمل بمعانيها وقد أخذت شكلا لا يوصف بالترتيب الدقيق يكتشف الزمخشري أنه مقصود لذاته لأنه يصور اضطراب النفس أو يصورها، وقد ساءت دخيلتها وبارت نواحيها، وينظر الزمخشري إلى النسق القرآني ويلحظ فيه أنه لا يفضل فصلا على وصل إنما يؤثر الوضوح والجلاء والجمال. والذي يؤدي الغرض يتبوأ مكانه لا خلط ولا لبس.

وفي القصص القرآني. وهو درس يحتاج إلى وقفة طويلة، قد لعب الوصل دورا مهما في تصوير أحداث القصة وفي ربط عناصرها بعد تحويلها إلى مشاهد قصيرة تتحول في النهاية إلى رواية طويلة، وفي تسجيل الحوار يبرز الفصل والوصل، فيكون الحوار موصولا مصورا دقائق الموقف أو يكون مفصولا موجزا مصورا جوانب منه.

والفصل والوصل في كل ميادينه يراعي الجانب المنطقي ويراعي مقتضى حال المخاطب نفسا وعلما وذوقا.

ومع الوصل، يقف المتكلمون يفسرون الآية لتؤيد مذهبهم، والفقهاء يستخرجون منها حكما يوافق ما ذهبوا إليه في الشرع، وهنا يبحثون لأداة الربط عن معان ومعان بل ويحولون الربط إلى قطع حتى يستقيم المضمون مع الغرض،

ص: 135

وإن كانت هذه المسائل قليلة في ميدان التشريع والكلام لكنها طريفة حين يتحكم النص في القضية المذهبية ويجتهد معه كل فريق يطوعه لأهدافه.

جوانب عديدة تلك التي للفصل والوصل، فنا وكلاما، شرعة وبيانا، وخيالا وقصصا وجمالا. ولنتابع جهد البلاغيين التالين.

ص: 136