المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: أوجه القصور في قواعد البلاغيين للفصل والوصل: - الفصل والوصل في القرآن الكريم

[منير سلطان]

الفصل: ‌أولا: أوجه القصور في قواعد البلاغيين للفصل والوصل:

‌الفصل الرابع: تذوق الفصل والوصل في القرآن الكريم:

‌أولا: أوجه القصور في قواعد البلاغيين للفصل والوصل:

1-

قواعد الفصل:

حددوا للفصل قواعد خمسا:

الأولى: أن تتحد الجملتان اتحادًا تامًّا بحيث تنزل الثانية من الأولى منزلة نفسها، بأن تكون مؤكدة لها مثل قوله تعالى:{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} 1، أو موضحة ومبينة لها مثل قوله تعالى:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} 2، أو بدلا منها، بدل كل، مثل قوله تعالى:{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 3، أو بدل بعض، مثل قوله تعالى:{وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} 4، أو بدل اشتمال، مثل قوله تعالى:{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 5.

وسموا ذلك "كمال الاتصال".

والثانية: أن يكون بين الجملتين تباين تام، وذلك باختلاف الجملتين، خبرا وإنشاء لفظا ومعنى، كقوله تعالى:{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 6، أو معنًى فقط "نجح خالد وفقه الله"، وألا تكون بينهما مناسبة، بشرط ألا يوهم الفصل خلاف المقصود نحو قول الشاعر:

الفقر فيما جاوز الكفافا

من اتقى الله رجا وخافا

وسموا ذلك: "كمال الانقطاع".

والثالثة: أن تكون الجملة الثانية جوابا عن سؤال يفهم من الأولى، فتفصل الثانية عن الأولى كما يفصل الجواب عن السؤال، لما بينهما من الاتصال مثل قوله تعالى:{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} 7.

1 الطارق: 17.

2 طه: 120.

3 المؤمنون: 81-82.

4 الشعراء: 132، 133.

5 يس: 20، 21.

6 الحجرات: 9.

7 هود: 46.

ص: 164

وسموا ذلك "شبه كمال الاتصال".

والرابعة: أن تسبق جملة بجملتين يصح عطفها على إحداهما ولا يصح عطفها على الأخرى لفساد المعنى، فيترك العطف دفعا لتوهم أن تكون الجملة معطوفة على التي لا يصح العطف عليها، مثل قوله تعالى:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} 1 لأنه لو عطف، لعطف {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} إما على جملة {قَالُوا} وإما على جملة {إِنَّا مَعَكُمْ} وكلاهما لا يصح.

وسموا ذلك "شبه كمال الانقطاع".

والخامسة: أن تكون الجملتان متفقتين خبرا أو إنشاء، وبينهما رابطة قوية، ولكن يمنع من العطف مانع، وذلك بأن يكون للجملة الأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية، نحو قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} 2 فإنهم مفسدون في جميع الأحوال قيل لهم لا تفسدوا أو لا.

وسموا ذلك "التوسط بين الكمالين" مع قيام المانع من الوصل3.

2-

قواعد الوصل:

حددوا للوصل قواعد ثلاثا:

أولاها: أن تكون الجملة الأولى لها موقع من الإعراب وأريد إعطاء الثانية هذا الحكم الإعرابي، وكان هناك مناسبة ولا مانع من الوصل مثل قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 4.

1 البقرة: 13، 14.

2 البقرة: 11، 12.

3 القزويني، الإيضاح 246 وما بعدها، وشروح التلخيص 3/ 2-159.

4 البقرة: 245.

ص: 165

ثانيها: أن تتفق الجملتان خبرا أو إنشاء، لفظا ومعنى أو معنى فقط، مع وجود المناسبة بينهما، وليس هناك مانع من الوصل، ومثال الخبريتين قوله تعالى:{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 1، ومثال الإنشائيتين قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} 2، ومثال الإنشائية معنى قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 3.

وسموا ذلك "التوسط بين الكمالين".

ثالثها: أن يكون بين الجملتين كمال الانقطاع مع إيهام الفصل خلاف المقصود مثل: "لا وعافاك الله"4.

هذه هي القواعد التي رسخت بيننا، واكتسبت حصانة ضد المساس بها بالرغم من صعوبتها، حتى صارت عنوانا على جمود البلاغة وعقمها.

وقد قصر البلاغيون المتفلسفون حين داروا في فلك تقعيد السكاكي ولم يكلفوا أنفسهم عناء الإلمام بما قدم الجرجاني والزمخشري وسابقوهما من جهد ممتاز، لفاقة كانت في ذوقهم وثقافتهم وعصرهم وحضارتهم5.

وقصرنا نحن -بالرغم من تغير الظروف والإمكانات- حين عشنا عالة عليهم، لا نفكر في الخروج على ما ورثناه منهم، ورحنا نهاجم السكاكي ونمجد البلاغيين البلغاء من الجاحظ حتى الزمخشري، ونحن مكبلون في أصفاد "المفتاح"،

، إلى اليوم ونحن نمزق البلاغة إلى علوم ثلاثة كما فعل السكاكي وتلميذه،

، إلى اليوم ونحن ندرس موضوعات المعاني والبيان والبديع بالشكل الذي قرره السكاكي وتلاميذه

والغريب بل المحير، أن الدراسات الجامعية في

1 الانفطار: 13، 14.

2 الأعراف: 31.

3 البقرة: 83.

4 القزويني، الإيضاح 260 وما بعدها وشروح التلخيص 3/ 2-159.

5 د. شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ 271 وما بعدها، دار المعارف 1965م.

ص: 166

البلاغة تتوصل إلى حقائق طيبة ثم لا تأخذ طريقها إلى التطبيق والذيوع، فمازلنا في معبد السكاكي ومفتاحه.

3-

أوجه القصور:

فن الفصل والوصل في القرآن الكريم يكشف عما في القواعد من قصور، فهي:

أولا: قد خصت الفصل والوصل بالجمل، والقرآن الكريم قد فصل ووصل بين الجمل وبين المفردات أيضا.

ثانيا: أنها قد حصرت الفصل في أداة واحدة وهي "طرح الواو" بينما فصل القرآن بـ "واو الاستئناف" و"الفاء" و"ثم" و"بل" و"أم المنقطعة" و"ضمائر الفصل" و"الجملة المعترضة" و"الاستثناء المنقطع"، كما حصرت الوصل في "الواو" فقط بينما وصل القرآن الكريم بجميع حروف العطف وجميع حروف الربط.

ثالثا: أنها سمت الفصل بين الخبرية والإنشائية كمال الانقطاع وجعلت الاتفاق بين ركني الجملة خبرًا أو إنشاء مبررًا للوصل، بينما جوز سيبويه وبعض أئمة النحو عطف الخبرية على الإنشائية1، وعدد الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة اثنى عشر موضعًا في القرآن الكريم عطفت فيها الخبرية على الإنشائية والعكس، من مثل قوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} 3، و {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} 3، و {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا

1 السبكي، عروس الأفراح، وانظر محمد عبد الخالق عضيمة، دراسات في أسلوب القرآن، القسم الأول، الجزء الثالث، ص537 وما بعدها، ط دار الحديث، القاهرة، 1972م.

2 الأنعام: 121.

3 الأعراف: 77، 78.

ص: 167

تَعْضُلُوهُنَّ} 1، و {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} 2، وغيرها3.

رابعا: أن ما أطلق عليه كمال الانقطاع مع إيهام الفصل خلاف المقصود، وضربوا له مثلا "لا وعافاك الله" يعتبر دليلا على عطف الإنشائية على الخبرية و"لا" بمعنى "أنفي ذلك" فهي جملة خبرية، و"عافاك الله" جملة خبرية لفظا إنشائية معنى "دعاء"، هذا، بالإضافة إلى أنها تصلح أن تؤدي المعنى بطرح الواو، فالمتكلم حين يقول للمخاطب "لا" ثم يتوقف لحظة ثم يستأنف كلامه داعيا له بقوله "عافاك الله" يكون قد أدى المعنى بلا لبس.

خامسا: أن هذه القواعد لم تراع المعنى العام ولا السياق الجامع المتجانس الذي اقتضى فصلا هنا ووصلا هناك. وانكمشت في أمثلة تعليمية، وشواهد محدودة، غاضة الطرف عن رحاب القرآن الفسيحة، الذي يخضع لوحدة موضوعية فنية، وصورة كلية أجزاؤها السور مجتمعة، ثم كل سورة على حدة لما حوت من آيات، وكل آية بما حوت من ألفاظ، بل وكل لفظة بما حوت من حروف.

وبعيدا عن تشعب هذه القوانين وتداخلها أقول -إن المقياس الحقيقي لقبول الفصل أو الوصل هو أن تؤدي العبارة- في إطار السياق العام- الغرض من صياغتها في إيصال المعنى إلى المخاطب في أوضح صورة وأحلاها، فإذا أدى الوصل بين مفردين أو جملتين إلى معنى غير المقصود، أو إلى المعنى المقصود بصورة رديئة أو بصورة لا يقبلها العقل وجب الفصل، وإذا كان الفصل سببا في الإيهام بغير المقصود أو في فقدان المنطقية الفنية أو العقلية أو فقدان الرشاقة في الأسلوب وجب الوصل.

1 النساء: 14.

2 مريم: 46.

3 النور: 57، النمل: 9، 10، الحجرات: 12، نوح: 24، الكوثر: 1، 2، البقرة: 4، 25، الصف: 13، مريم: 75، 76، دراسات لأسلوب القرآن: ق1 ج3 ص537 وما بعدها.

ص: 168

لذا لم يبعد من رأي أن البلاغة في معرفة الفصل من الوصل، فالبلاغة معرفة كيف نصوغ ما يدور في أنفسنا من معان بألفاظ لا تحتمل اللبس، موصوفة بالصفاء مزدانة بالجمال والخصوبة، لأنها وصلت فيما بينها وكان يجب أن توصل، وفصلت فيما بينها وكان يجب أن تفصل.

والناس في معرفة هذا وتذوقه

درجات.

ص: 169