الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: الفصل والوصل بعد الجرجاني:
أولا: الزمخشري:
الزمخشري والفصل:
تمهيد:
1-
تعريف الفصل والوصل:
سأدع النصوص تكشف عن جهود الزمخشري في رسم معالم الفصل والوصل وجمالياته، وأقصد من وراء هذا إلى تفتيق جوانب الموضوع حين طرح على صعيد القرآن الكريم بيد صناع، وأقصد أيضا إلى تبيان أن البلاغة تذوق مبني على أحكام عامة متفق عليها، على ألا تطغى الأحكام أو تنفرد الأذواق -وسيكون لي تعليق على جهود الزمخشري في نهاية التجوال.
في تعريفه للفصل والوصل يقول في تفسيره لقوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} 1. "الفصل: التمييز بين الشيئين، وقيل للكلام البين، فصل بمعنى المفصول، لأنهم قالوا: كلام ملتبس وفي كلامه لبس، والملتبس المختلط، فقيل في نقيضه فصل، أي مفصول بعضه من بعض، فمعنى فصل الخطاب، البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه، ومن فصل الخطاب وملخصه، أن لا يخطئ صاحبه مظان الفصل والوصل، فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه، ولا يتلو قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} 2، إلا موصولا بما بعده، ولا {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ} حتى يصله بقوله: {لَا تَعْلَمُونَ} 3 ونحو ذلك، وكذلك مظان العطف وتركه، والإضمار والإظهار، والحذف والتكرار، وإن شئت كان الفصل بمعنى الفاصل
…
"4.
1 ص: 20.
2 الماعون: 4.
3 البقرة: 216.
4 الكشاف 3/ 365 ط البابي الحلبي، القاهرة 1968م.
2-
الفصل وصل تقديري:
يلفتنا الزمخشري إلى أن الفصل وصل تقديري خفي، ففي قوله تعالى:{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} 1 فإدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها وصل خفي تقديري بالاستئناف، الذي هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا:"فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ " فقال: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فوصل تارة بالفاء2 وتارة بالاستئناف للتفنن في البلاغة، كما هو عادة بلغاء العرب، وأقوى الوصلين وأبلغهما: الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه3.
أولا: من بلاغة الفصل:
1-
قد يكون الفصل أبلغ من الوصل:
فالجملة التي تتوارد عل سبيل البيان، لا حاجة فيها إلى ذكر لفظ يدل على الربط، لأنها ما دامت كذلك فهي شيء واحد، أو جسم واحد، فإذا دخلها حرف وصل كان غريبا وشاذا، فآية الكرسي4 قد ترتبت الجمل فيها من غير حرف عطف، فما من جملة إلا وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه، والبيان متحد بالمبين، فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب بين العصا ولحائها، فالأولى: بيان لقيامه بتدبير الخلق، وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه، والثانية: لكونه مالكا لما يدبره، والثالثة: لكبرياء شأنه، والرابعة:
1 هود: 93.
2 يقصد إلى قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} -135.
3 الكشاف 2/ 290.
لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى، والخامسة: لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلاله وعظم قدره1.
2-
التناسق الداخلي للجمل أقوى من وصلها برابط:
ففي قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} 2، يقول الزمخشري:"والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحا، وأن يقال: إن قوله {الم} جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و {ذَلِكَ الْكِتَابُ} جملة ثانية، و {لا رَيْبَ فِيهِ} جملة ثالثة"، و {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} رابعة، وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة. وموجب حسن النظم حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة3.
3-
الفصل يزيد الأسلوب جزالة وفخامة:
ويلحظ الزمخشري ذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} يقول: فإن قلت: كيف ابتدئ قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ، ولم يعطف على الكلام قبله؟ قلت: هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة، وفيه أن الله عز وجل هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء، ولا يؤبه له في مقابلته لما ينزل بهم من النكال ويحل بهم من الهوان والذل، وفيه أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله5.
1 الكشاف 1/ 386.
2 البقرة: 1، 2.
3 الكشاف 1/ 121.
4 البقرة: 15.
5 الكشاف 1/ 187.
4-
ويضفي عليه حسنا وقوة تأثير:
ويضرب الزمخشري لذلك مثلا قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} 1 اللام: جواب قسم محذوف، وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية، وفي أسلوبها قول القائل:
وجارة جساس أبأنا بنابها
…
كليبا غلت ناب كليب بواؤها2
وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب، ألا ترى أن المعنى:"ما أشد استكبارهم، وما أكبر عتوهم، وما أغلى نابا بواؤها كليب"3.
ثانيا: من أدوات الفصل:
1-
الفصل بالواو:
والواو تقع بين الجملتين لتفصل بين معنييهما، فتكون كل واحدة ذات معنى مستقل عن الآخر ومتميز عنه، فإذا تكررت الجملتان في مقام آخر وسقطت هذه "الواو"، كان الكلام واحدا، يقرر بعضه بعضا، يقول في قوله تعالى:{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} 4. فإن قلت: هل اختلف المعنى بإدخال الواو ها هنا وتركها في قصة ثمود5، قلت: إذا أدخلت "الواو" فقد قصد معنيان كلاهما مناف للرسالة عندهم، التسحير والبشرية،
1 الفرقان: 21.
2 جساس: قاتل كليب، وجارته بسوس: امرأة يقال إنها خالته، وقتل للبسوس الناقة التي بها أهاجت الحرب بين بكر وتغلب، رماها كليب فقتلها. أبأنا: أي قابلنا، من البواء وهو التساوي في القصاص، تقول: اقتل هذا بقتيلك فإنه بواء به أي يعادله. الناب: الناقة. ومعناه: ما أغلى نابا بواؤها كليب. شرح شواهد الكشاف، ذيل الجزء الرابع ص561 ط البابي الحلبي، القاهرة 1968م.
3 الكشاف 3/ 88.
4 الشعراء: 185، 186.
5 الشعراء: 153، 154. {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} .
وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرا، ولا يجوز أن يكون بشرا، وإذا تركت "الواو" فلم يقصد إلا معنى واحدا وهو كونه مسحرا ثم قرر بكونه بشرا مثلهم"1.
2-
الفصل بضمير الفصل:
يعرف الزمخشري ضمير الفصل بأنه "مختص بالوقوع بين جزأي الجملة2 وبأنه عند البصريين "فصل"، وعند الكوفيين "عماد"3، وأن فائدته: الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة، ويفيد التوكيد، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره4، وأشار إلى هذا المعنى في تفسيره الآيات التي فصلت بضمير الفصل من مثل {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} 5، و {كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} 6، و {هُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 7، و {إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} 8، و {الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} 9، وغيرها.
3-
الفصل بالجملة الاعتراضية:
فقد تقع الجملة أو الجمل المعترضة في أثناء الكلام فتكون بين المبتدأ وخبره، كما في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ -لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا- أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 10. يقول: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب في اكتساب ما لا
1 الكشاف 3/ 127.
2 الكشاف 2/ 283. تفسير آية {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] .
3 الكشاف 3/ 496. تفسير آية {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] .
4 الكشاف 1/ 146. تفسير آية {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] .
5 الكشاف 1/ 434. آل عمران: 62.
6 الكشاف 2/ 191. التوبة: 40.
7 الكشاف 2/ 263. هود: 19.
8 الكشاف 2/ 103. الأعراف: 115.
9 الكشاف 3/ 280. سبأ: 6.
10 الأعراف: 42.
يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد1، وتكون بين الفعل ومعموله2 وبين البدل والمبدل منه3 وبين القسم والمقسم عليه4.
ولا بد لها من الاتصال بالكلام الذي وقعت معترضة فيه لأنها مسوقة لتوكيده وتقريره، يقول الزمخشري في قوله تعالى:{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} 5، وجملة:{نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وقعت فاصلا معترضا غير أجنبي من المعدود، وذلك أن الله عز وجل منَّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم، فاعترض بالاحتجاج على ما حرمها والاحتجاج على من حرمها تأكيد وتسديد للتحليل، والاعتراضات في الكلام لا تساق إلا للتوكيد6. لقد أورد الزمخشري العديد من أنماط هذه الجمل الاعتراضية7.
1 الكشاف 2/ 79.
2 في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ -كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ- يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} [النساء: 73] . والكشاف 1/ 541.
3 في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ -إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا-، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ} [مريم: 41] . والكشاف 2/ 510.
4 في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ -لَوْ تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ} [الواقعة: 75] . والكشاف 4/ 58.
5 الأنعام: 143، 144.
6 الكشاف 2/ 57.
7 منها: في قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ، -يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 19] . يقول: وهذه الواو تسمى "واو اعتراضية" ليست حالية ولا عاطفة. الكشاف 1/ 218. وكذا تعليق ابن المنير بهامش الصفحة -وفي قوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا -وَلَنْ تَفْعَلُوا- فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة: 24] والكشاف 1/ 248، وتعليق ابن المنير، وكذا قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى -تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ- قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111] ، والكشاف 1/ 304، وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ -آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ
…
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 11، 12] والكشاف 1/ 509، وقوله تعالى:{وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ -لَا رَيْبَ فِيهِ- مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 37] ، والكشاف 2/ 237، وقوله تعالى:{لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ -رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ- فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] ، والكشاف 2/ 250، وأيضا الكشاف 3/ 42، 3/ 384.
4-
الفصل بالاستثناء المنقطع:
في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 1. يقول: {إِلَّا أَمَانِيَّ} إلا ما هم عليه من أمانيهم وأن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم
…
"، {إِلَّا أَمَانِيَّ} من الاستثناء المنقطع2.
5-
الفصل بـ "بل":
وتكون للإضراب وللاستدراك.
أما الإضراب، فلا يتوقف على إلغاء الصفة وإثبات أخرى مثل ما في الآية الكريمة {فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} 3 فلما نكر عليهم الإمداد، وعلل إنكاره، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه"4 بل يكون الإضراب بإلغاء الصفة الجديدة التي أثبتت، بصفة أخرى أقوى منها وأشد، ففي قوله تعالى: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} 5 فالإضراب الأول معناه: رد أن يكون حكم الله أن يتبعوهم وإثبات الحسد، والثاني: إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أطم منه وهو الجهل وقلة الفقه"6.
أما الاستدراك: ففي قوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ،
1 البقرة: 78.
2 الكشاف 1/ 292.
3 النمل: 36.
4 الكشاف 3/ 148 وانظر إلى تفسيره قوله تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} [ق: 2 و5] ، والكشاف 4/ 4.
5 الفتح: 15.
6 الكشاف 3/ 545.
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} 1. يقول الزمخشري بل استدراك لقوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ} ، يعني بل هم أشباه البهائم لا فطنة بهم ولا شعور حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك أو استدراج أم مسارعة في الخير2.
6-
الفصل بـ "أم" المنقطعة:
وسميت المنقطعة، لوقوعها بين جملتين مستقلتين، ولا يفارقها حينئذ معنى الإضراب3، وفي الكشاف يتوقف الزمخشري عند قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} 2. يقول: أم حسبتم "أم" منقطعة، ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده، ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات تشجيعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا من المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعدوانهم له، قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ {أَمْ حَسِبْتُمْ} 3.
1 المؤمنون: 55، 65.
2 الكشاف 3/ 35.
3 انظر حاشية الصبان على شرح الأشموني 3/ 104، ط الحلبي، وشرح ابن عقيل 2/ 286، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط السعادة، وانظر النحو الوافي لعباس حسن - 3/ 597 ط4، دار المعارف.
4 البقرة: 213، 214.
5 الكشاف 1/ 355، ومثلها في هذا، قوله تعالى:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران: 142]، والكشاف 1/ 466. وقوله تعالى:{وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 15 و16]، والكشاف 2/ 178. وقوله تعالى:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [هود: 12 و13] ، والكشاف 2/ 261.
ثالثا: في تذوق الفصل:
1-
الفصل لتثبيت المعنى وتوكيده ويكون:
"أ" بعطف البيان1:
لأن البيان يعني: أن المبين هو عين الشيء المتقدم، لأنه تفسير له وتبيين، وبهذا يتكرر ذكره، وقد يكون في المعطوف عليه معنى من المعاني التي يتميز بها فيصير هذا المعنى وصفا للمعطوف وعلامة له، يقول الزمخشري في قوله تعالى:{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ} 2 سجل عليهم الظلم بأن قدَّم القوم الظالمين، ثم عطفهم عليهم عطف البيان، كأن معنى القوم الظالمين وترجمته:{قَوْمَ فِرْعَوْنَ} 3.
ويقول في قوله تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} 4 {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} مجرى المعطوف عطف البيان من المعطوف عليه في البيان والوضوح"5.
"ب" وبالبدل:
وفائدة البدلية هنا التوكيد، يقول الزمخشري في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ
1 عطف البيان: تابع. جامد -غالبا- يخالف متبوعه في لفظه ويوافقه في معناه المراد منه الذات، مع توضيح الذات إن كان المتبوع معرفة، وتخصيصها إن كان نكرة، وبينه وبين بدل الكل من الكل مشابهة كاملة. عباس حسن، النحو الوافي 3/ 541.
2 الشعراء: 10.
3 الكشاف 3/ 106.
4 الأعراف: 12.
5 الكشاف 3/ 384، ومثله قوله تعالى:{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102] ، والكشاف 11/ 301، وقوله تعالى:{وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} [إبراهيم: 28] ، والكشاف 2/ 377، وقوله تعالى:{أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60] ، والكشاف 2/ 278، وقوله تعالى:{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} [غافر: 30 و31] ، والكشاف 3/ 426، وقوله تعالى:{ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} [فصلت: 28] ، والكشاف 3/ 452، وغيرها.
الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 1:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدل من {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وهو في حكم تكرير العامل كأنه قيل: "اهدنا الصراط المستقيم اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم"، كما قال {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ} ، وفائدة البدل هنا، التوكيد، لما فيه من التثنية والتكرير والإشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين، ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده، كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم؟ فلان، فيكون ذلك في أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك ثنيت ذكره مجملا أولا ومفصلا ثانيا، وأوقعت "فلانا" تفسيرا وإيضاحا للأكرم الأفضل فجعلته علما في الكرم والفضل، فكأنك قلت: من أراد رجلا جامعا للخصلتين فعليه بفلان، فهو المشخص المعين لاجتماعهما غير مدافع ولا منازع3.
"ج" وبالتوكيد:
ومن دواعي التوكيد التي ذكرها الزمخشري، ذلك الذي يكون لتقرير المعنى في نفس المخاطب وتثبيته، كما في قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا} 4، يقول: تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لإن تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليتقرر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله على أي وجه نزل إلا حكمة وصوابا"5.
ومثله قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} 6، يقول الزمخشري:{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} توكيد لـ {إِنَّا مَعَكُمْ} لأن قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} معناه الثبات على اليهودية، وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ
1 الفاتحة: 6، 7.
3 الكشاف 1/ 68، 69.
4 الإنسان 23.
5 الكشاف 4/ 200.
6 البقرة: 14.
مُسْتَهْزِئُونَ} رد للإسلام. ودفع له منهم، لأن المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتدا به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو بدل منه لأنه من حقر الإسلام فقد عظم الكفر"1.
2-
الفصل لإيضاح المعنى وبيانه:
وذلك في قوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} 2. فقوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} جار مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين بأما {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} و {أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} ، وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة، وأن العلم بكونه حقا من باب الهدي الذي ازداد به المؤمنون نورا إلى نورهم، وأن الجهل بحسن مورده من الضلالة التي زادت الجهلة خبطا في ظلماتهم3، ومثله قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} 4 "أنزله بعلمه" معناه أنزله متلبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وموقعها مما قبلها، موقع الجملة المفسرة، لأنه بيان للشهادة وأن شهادته بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدرة5.
1 الكشاف 1/ 186 ومثله قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] وانظر الكشاف 1/ 155.
2 البقرة: 26.
3 الكشاف 1/ 267.
4 النساء: 166.
5 الكشاف 1/ 584 ومثله قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 9] والكشاف 1/ 173، وقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} [البقرة: 187] ، والكشاف 1/ 338، وقوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ
…
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 222] والكشاف 1/ 362، وقوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
…
} [آل عمران: 15] والكشاف 1/ 416، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9] والكشاف 2/ 226، وانظر أيضا الكشاف 1/ 473، 2/ 331، 4/ 82.
3-
الفصل للتفصيل بعد الإجمال:
في آية الحث على الحج {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 1 يقول: في هذا الكلام أنواع من التوكيد والتشديد منها قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته، ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه من استطاع إليه سبيلا، وفيه ضربان من التأكيد، أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد، وتكرير له، والثاني: أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال، إيراد له في صورتين مختلفتين2، ومثله قوله تعالى:{وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} 3 بالغ في تنبيهم على نعم الله حيث أجملها ثم فصلها مستشهدا بعلمهم، وذلك حين قال:{أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} ثم عددها عليهم، وعرفهم المنعم بتعديد ما يعلمون من نعمته، وأنه كما قدر أن يتفضل عليكم بهذه النعمة فهو قادر على الثواب والعقاب، فاتقوه"4، وأيضا في قوله تعالى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آَمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هضِيمٌ} 5 {فِي مَا هَا هُنَا} في الذي استقر في هذا المكان من النعيم ثم فسره بقوله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وهذا أيضا إجمال ثم تفصيل"6.
1 آل عمران: 97.
2 الكشاف 1/ 448.
3 الشعراء: 132-134.
4 الكشاف 3/ 122.
5 الشعراء: 146-148.
6 الكشاف 3/ 123.
4-
الفصل للاستطراد:
وذلك في قوله: {وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ، لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} 1، و"ثم" للتراخي في المرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الأدبار، أما جملتا {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} ، و {لَنْ يَضُرُّوكُمْ} فهما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل "وعلى ذكر فلان، فإن من شأنه كيت وكيت" ولذلك جاءا من غير عاطف2.
5-
الفصل للإجابة عن سؤال مقدر "الاستئناف":
يعرف الزمخشري الاستئناف، بأنه: جواب لسؤال مقدر 3 ويكون الجواب لإفادة السامع معلومة تزيل الغموض الذي أدى إلى حاجته إلى السؤال، وقد يخرج عن هذا الإطار إلى أغراض أخرى بأن يجاب عن السؤال بما يفيد:
- التعليل أو
- التعجب أو
- التوكيد أو
- بيان السبب.
ولنبدأ بالاستئناف الذي يزيل الغموض ويوضح الإبهام:
ومن أمثلته قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 4، وموقع {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} استئناف، كأنه قيل: كيف
1 آل عمران: 110، 111
2 الكشاف 1/ 455.
3 الكشاف 2/ 290.
4 آل عمران: 107.
يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون1، ومثله قوله تعالى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} 2، و {رَضُوا} استئناف، كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل: رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف3.
وكذلك قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ، و {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} كلام مستأنف، كأنهم لما شبهت حالهم بحال المستوقد الذي طفئت ناره، اعترض سائل فقال: ما بالهم أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل له: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} 5.
"ب" الاستئناف للتعليل:
يقول الزمخشري يجوز أن يكون {لَا يَأْلُونَكُمْ} صفة للبطانة وكذلك {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ} كأنه قيل: بطانة غير آليكم خبالا بادية بغضاؤهم -وأما وقد بينا، فكلام مبتدأ، وأحسن منه أن تكون مستأنفات كلها على وجه التعليل، للنهي عن اتخاذهم بطانة"7. ومثله قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ
1 الكشاف 1/ 454.
2 التوبة: 93.
3 الكشاف 2/ 208.
4 البقرة: 17.
5 الكشاف 1/ 199، ومن أمثلة قوله تعالى:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] ، والكشاف 1/ 186، وقوله تعالى:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} [البقرة: 19] ، الكشاف 1/ 216.
6 آل عمران: 118.
7 الكشاف 1/ 458.
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} 1 {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} كلام مستأنف جار مجرى التعليل بعد استئناف إبليس من الساجدين، كأن قائلا قال: ما له لم يسجد؟ فقيل: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} 2.
"ج" الاستئناف للتعجب:
وقد تنطوي الإجابة على تعجب، كما في قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} 3 يفسر الزمخشري: اللام جواب قسم محذوف، وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية وفي أسلوبها قول القائل:
وجارة جساس أبأنا بنابها
…
كليبا غلت ناب كليب بواؤها4
وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب، ألا ترى: ما أشد استكبارهم، وما أكبر عتوهم، وما أغلى نابا بواؤها كليب"5.
"د" الاستئناف للتوكيد:
وذلك في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} 6. يقول الزمخشري المعتزلي: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى، فإن قلت: ما فائدة هذا التوكيد؟ قلت: فائدته أن قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} توحيد، وقوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} تعديل، فإذا أردفه قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده في شيء من الدين7.
1 الكهف: 50.
2 الكشاف 2/ 487.
3 الفرقان: 21.
4 انظر ص92 من الكتاب.
5 الكشاف 3/ 88.
6 آل عمران: 18 و19.
7 الكشاف 1/ 418.
"هـ" الاستئناف لبيان السبب:
يقول في قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} 1 {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} الجملة في محل الرفع إن كان {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} مبتدأ، وإلا فلا محل لها، ونظم الكلام على الوجهين: أنك إذا نويت الابتداء بالذين يؤمنون بالغيب، فقد ذهبت به مذهب الاستئناف، وذلك أنه لما قيل {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} واختص المتقون بأن الكتاب لهم هدى، اتجه لسائل أن يسأل فيقول: ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فوقع قوله {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى ساقته، كأنه جوب لهذا السؤال المقدر،
…
، وإن جعلته تابعا للمتقين وقع الاستئناف على {أُولَئِكَ} ، كأنه قيل: ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى، فأجيب: بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا -واعلم أن هذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث، كقوله:"قد أحسنت إلى زيد، وزيد حقيق بالإحسان"، وتارة بإعادة صفته كقوله "أحسنت إلى زيد صديقك القديم" فيكون الاستئناف بإعادة الصفة أحسن وأبلغ، لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه2.
1 البقرة: 2-5.
2 الكشاف 1/ 138-140.