المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: فن الفصل والوصل - الفصل والوصل في القرآن الكريم

[منير سلطان]

الفصل: ‌ثالثا: فن الفصل والوصل

‌ثالثا: فن الفصل والوصل

1-

مقدمة:

عاش فن الفصل والوصل في وجدان الناطق العربي، الذي احتاج أن يربط بين معنى ومعنى برابط، أو يقطع معنى عن معنى بقاطع، وهو في فصله ووصله يهدف إلى تحقيق غاية جمالية يسموا إليها، لأنه يحرص على أداء فكرته في وضوح لا لبس فيه لتصل إلى المخاطب في جمال وجلاء.

والنصوص تشهد أن الحس العربي المصفى كان يتوقع الوصل حين لا يجد وصلا، ويبحث عن الفصل حين يفتقده، وكان يفاضل بين رابط ورابط حتى يستقيم الشكل مع المضمون، وقصة أبي بكر الذي رفض من الأعرابي قوله "لا عافاك الله" وطالبه بأن يقول "لا وعافاك الله" تدل على ذلك.

وهذا الزبرقان بن بدر يهجوه المخبل، فيتحول الهجاء مدحا بوصل جاء مكان فصل، قال المخبل يهجو الزبرقان بن بدر:

وأبوك بدر كان ينتهس الحصى

وأبي ربيعة بن قبال1

فقال الزبرقان: لا بأس، شيخان اشتركا في ضيعة2.

فقد تنبه الزبرقان إلى أن المخبل وصل بين الأبوين بالعاطف وكان يجب أن يفصل، فانتهزها فرصة ووصم أبا المخبل بأنه كان يشترك في الصناعة التي هجى بها أبوه.

والحسن البصري يفرق بين "الواو" و"ثم" حين قال له رجل "قد تركت ذلك لله ولوجوهكم"، فقال:"لا تقل هكذا، بل قل: لله ثم لوجوهكم، وآجرك الله"3.

1 انتهاس الحصى: كانتهاس اللحم، وهو أخذه بمقدم الأسنان ونتفه.

2 العسكري، الصناعتين 463 تحقيق البجاوي وأبو الفضل ط الحلبي 1971م.

3 الجاحظ، البيان والتبيين 1/ 279.

ص: 191

و"الواو" تجعل الحكم شركة بين الله والناس، و"ثم" تخصصه لله أولا ثم تتركه للناس بعد ذلك. فهي للتراخي الزمني وللتفاوت بين المراتب.

وحين يتحول الأمر إلى قواعد وأحكام وفن له ضوابط، يمتحن العلماء بعضهم بعضا فيه -يروى أن الرشيد قال لأبي يوسف: "أيش تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق طالق طالق؟ قال: واحدة، قال: فإن قال لها: أنت طالق أو طالق أو طالق؟ قال: واحدة، قال: فإن قال لها: أنت طالق ثم طالق ثم طالق؟ قال: واحدة، قال: وإن قال لها: أنت طالق وطالق وطالق؟ قال: واحدة. وكان الكسائي حاضرا، فقال: يا أمير المؤمنين: أخطأ يعقوب في اثنين وأصاب في اثنين، أما قوله: أنت طالق طالق طالق فواحدة لأن الباقيين توكيد، وأما قوله: أنت طالق أو طالق أو طالق، فهذا شاك، فوقعت الأولى التي يتعين بها، أما قوله: أنت طالق ثم طالق ثم طالق فثلاث لأنه انسق، وكذلك: طالق وطالق وطالق1.

والقرآن الكريم الذي خاطب هذه الطبيعة العربية كان يفصل بين المعاني ويربط بينها، وكان يلون العبارة مزاوجا بين فصل ووصل ثقة بفهم المخاطب أو مراعاة منه لمقتضى الحال. ولم يتقيد في فصله بطرح الواو، بل استخدم معه أدوات أخرى، كما لم يقتصر في وصله على الواو أو على حروف العطف بل استخدم معها أدوات الربط الأخرى حسبما اقتضت الحاجة.

وهو في كل هذا يرمي إلى إبراز جمال المعنى لتحقيق "كمال الفائدة" فحين يصف مشاهد الجنة أو النار، أو يصور الثواب والعقاب، أو يتحدث عن الأخيار أو الفجار، أو غير ذلك من معان، لا يعرضها عرضا مسطحا، إنما يتخذ الوسائل التي تبرز كل طاقاتها من إثارة الخيال والوجدان والمنطق. ومن قدرة على الإحاطة والشمول، حتى إذا وصلت إلى المخاطب جعلته جزءا متمما لها بما أوحت إليه وبما أثرت فيه، وبما صورت له، وبما أمتعته وأفادته.

1 ابن الأنباري، نزهة الألباء 73 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط دار نهضة مصر.

ص: 192

وهنا يبرز جمال المعنى المقصود حين يوجد مكتملا ناضجا موحيا ليحقق كمال الفائدة، وكمال الفائدة في ألا يفتقد شيئا من أوجه الجمال السابقة، وفي أن يظل نابضا قادرا على الإفادة، مؤديا إلى معان ومعان تنبثق من معينه. وتنبعث من إيحائه، ثم تترابط -هذه المعاني الجزئية- لتصور المعنى الكلي، لتصور الحكمة المنشودة، أو الفكرة المقصودة أو الجوهر المطلوب.

والفصل والوصل وسيلة من وسائل إبراز الجمال مع غيره من الأساليب، وله أدوات، إن فصلا وإن وصلا، وطرق لأداء وظيفته، فقد يفصل القرآن الكريم بين معنيين أو يربط بينهما، متخذا الإيضاح وسيلة لإبراز جمال المعنى فيعرضه جليا لا شركة فيه ولا لبس، ليكون خالصا بذاته أمام المخاطب ليتدبره حق التدبر، أو يتخذ الإيجاز وسيلة في عرضه كيلا يتشتت الذهن في استيعاب المعنى، أو يحاول تثبيته وتقريره لأهميته وخطره، أو يعرضه في نسق ملفت مثير، أو يقطع الموضوع إلى أجزاء موصولة أو يعرضه بأشكال متعددة أو يقف أمام الهيئة المنفصلة أو الهيئة المتصلة ليرصد حركتها ويصور أبعادها أو يناسب بين الإيقاع الصوتي والإيقاع الدلالي أو غير ذلك.

والفصل والوصل في كل هذا يراعي دائما إثارة عقول المخاطبين بمختلف درجات استيعابهم وإثارة أنفسهم بمختلف نزعاتها وميولها، وكذا وجدانهم وأذواقهم.

وليس الفصل والوصل بمستقل بأدواته وطرقه عن "القصر" أو "الحذف والذكر" أو "التقديم والتأخير" أو غيرها من فنون، وهي جميعا تتآزر لإبراز جمال المعنى في أبهى صوره الفنية لتحقيق كمال الفائدة.

ص: 193

1-

الإيضاح:

والإيضاح يتخذ صورا عديدة في الفصل والوصل منها التفسير والاستطراد، والتفصيل بعد الإجمال، واللفت إلى معنى يحدده سياق الكلام

وحشد لنا الزمخشري نماذج للفصل غرضها إيضاح المعنى وبيانه وتفسيره، مثل قوله تعالى:{مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} 1، فقوله تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} جار مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين بأما {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} و {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة، وأن العلم بكونه حقا من باب الهدى الذي ازداد به المؤمنون نورا إلى نورهم، وأن الجهل بحسن مورده من باب الضلالة التي زادت الجهلة خبطا في ظلماتهم2.

وفي الوصل، مثل قوله تعالى:{كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} 3، يقول الزمخشري: أما قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فجار مجرى البيان والتفسير بقوله تعالى: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} ، كقولك:"رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء"4.

"أ" ويكون الإيضاح بالاستطراد:

وذلك في قوله تعالى: {وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ، لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ

1 البقرة: 26.

2 الكشاف 1/ 267 وانظر ص99 من البحث.

3 غافر: 82، 83.

4 الكشاف 3/ 440 وانظر ص122 من البحث.

ص: 196

الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} 1. فـ "ثم" للتراخي في المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار -أما جملتا {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} و {لَنْ يَضُرُّوكُمْ} فهما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: "وعلى ذكر فلان، فإن من شأنه كيت وكيت". ولذلك جاءا من غير عاطف2.

"ب" ويأتي التفصيل بعد الإجمال للإيضاح:

وذلك في آية الحث على الحج: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 3، وآية:{وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} 4، وآية:{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} 5.

"ج" ويكون الإيضاح باللفت إلى معنى يحدده سياق الكلام:

وذلك في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} 6. يقول الزمخشري: قرأ جماعة "وأرجلكم" بالنصب، فدل على أن الأرجل مغسولة، فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة -تغسل بصب الماء عليها. فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها"7.

1 آل عمران: 110، 111.

2 الكشاف 1/ 455.

3 آل عمران: 97 والكشاف 1/ 448.

4 الشعراء: 132، 133، والكشاف 3/ 122.

5 الشعراء: 146-148، والكشاف 3/ 123.

6 المائدة: 6.

7 الكشاف1/ 597.

ص: 197

2-

الإيجاز:

ويكون بين الجمل مثل ما ذكره سيبويه

"فقولك مررت برجل عبد الله فكأنه قيل: بمن مررت؟ أو يظن أنه يقال له ذلك فأبدل مكانه من هو أعرف منه، ومثل ذلك قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ} 1، وكذلك ما ذكره الفراء في قوله تعالى:{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} 2، وذلك بعد قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ

} 3. يقول: فاعرف بما جرى تفسير ما بقي، فإنه لا يأتي إلا على الذي أنبأتك به من الفصول -أو الكلام المكتفي يؤتى له بجواب"4.

3-

تثبيت المعنى:

ويكون بتوكيد المعنى في نفس المخاطب وتثبيته، ويكون في الفصل مثل قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا} 5.

يقول الزمخشري: تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لإن تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليتقرر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيل على أي وجه نزل إلا حكمة وصوابا6.

وفي الوصل، كما في قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} 7، وقوله تعالى:{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} 8. ويكون بعطف البيان، كقوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ

1 الشورى: 52، 53 وانظر البحث ص41.

2 التوبة: 112.

3 التوبة: 111.

4 معاني القرآن 1/ 43، 44.

5 الإنسان: 23.

6 الكشاف 4/ 200.

7 الكهف: 22.

8 الحجر: 4، الكشاف 2/ 478.

ص: 198

ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ} 1، وبالبدل مثل قوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 2، وبالاختصاص، ومن ذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 3. يقول الزمخشري: ويجوز أن يجري مجرى قولك: "سرني زيد وحسن حاله، وأعجبت بعمرو وكرمه، وفائدة هذا الأسلوب، الدلالة على قوة الاختصاص، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى، سلك به ذلك المسلك"4.

4-

حسن النسق:

وكما يبرز جمال الصياغة في الإيضاح والإيجاز وتثبيت المعنى في نفس المخاطب، يقوم حسن الترتيب بدوره في إضفاء البهاء والفخامة على العبارة، وقد رأينا كيف نسقت المفردات في الجملة نسقا محكما، فقدم الأدل على القدرة الإلهية في قوله تعالى:{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} 5، وقدم الأصل على الفرع في قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} 6، وقدم الأشد على الأخف على الممكن في قوله تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} 7، وكذلك في الجمل، قدم الأعرق في القدرة على ما دون ذلك8، وقدم الأكثر في العدد على

1 الشعراء: 10، والكشاف 3/ 106.

2 الفاتحة: 6، 7.

3 الفاتحة: 1.

4 الكشاف 3/ 553.

5 الأنبياء: 79، والكشاف 2/ 580.

6 النور: 2، والكشاف 3/ 50.

7 يونس: 12، والكشاف: 2/ 227.

8 كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] ، والكشاف 3/ 71.

ص: 199

الأقل1، وقدم الأقوى أثرا في حياة الناس2، وقدم الأسرع ورودا في النفس على غيره3. بل، عمد إلى الترتيب لتهذيب النفس4، والأروع والأعجب أن يغفل الترتيب بقصد تصوير اضطراب النفس أو تصوير سوء طويتها5.

5-

تقطيع الموضوع إلى أجزاء موصولة:

حينما يكون الموضوع المقصود التعبير عنه متعدد المراحل، أو متغير الأشكال أو متشعب الأجزاء، فإنه يحتاج إلى عدة جمل أو مفردات لبسطه والإحاطة به، وبطبيعة الحال ستترابط هذه الجمل برباط معنوي واحد، وهو وحدة الموضوع الذي تدور حوله -ومن الممكن أن تترابط كل جملتين برباط لفظي ليكونا وحدة لها خصائصها الذاتية ومرتبطة بالمعنى العام في الوقت نفسه، مثلها مثل الجداول، كل جدول له طبيعته وخصائصه ولكنه عضو في المجرى الكبير.

وترى هذه الظاهرة في القرآن الكريم، يعمد أحيانا إلى الفكرة الرئيسية لموضوع ما، ويضعها في شكل جملة قصيرة أو طويلة، ثم ينثرها في أجزاء موصولة مختلفة القرب أو البعد من الفكرة العامة -والقرآن في هذا لا يلتزم وتيرة واحدة في هذا العرض، فقد يجيء بالفكرة الرئيسية أولا ينثرها إلى أجزائها، وقد يقدم الأجزاء ثم يأتي بالفكرة من بعد،

وهكذا.

1 كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32] ، والكشاف 3/ 309.

2 كما في قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 49] ، والكشاف 3/ 951.

3 كما في قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ} [النساء: 147] ، والكشاف 1/ 575.

4 كما في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} إلى قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 30-33] ، والكشاف 3/ 65.

5 كما في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 56-69] ، والكشاف 3/ 405، أما سوء الطوية فكما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً

} [البقرة: 67-71] ، والكشاف 1/ 190.

ص: 200

فلننظر مثلا إلى سورة "المطففين" وتبدأ بآية:

{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} "1".

وهذا هو الموضوع الرئيسي الذي ستتلاحق أجزاؤه لتصب فيه، تقول الآيات:

{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} "2".

{وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} "3".

{أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} "4".

ولنأخذ مثلا آخر، قوله تعالى في سورة "الانشقاق" التي بدأت آياتها هكذا:

{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} "1".

{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} "2".

{وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} "3".

{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} "4".

{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} "5".

{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} "6".

فالآية الأولى والثانية في نسق، والثالثة والرابعة والخامسة في نسق، أما السادسة فهي الموضوع الرئيسي "إن هذا المخلوق المغرور مهما أوتى من قوة وجبروت، فإنه يسعى حثيثا لنهاية محتومة، يلقى فيها ذا العرش المجيد، الفعال لما يريد، واللقاء المحقق سيكون يوم القيامة، وفيه تتجلى عظمة الخالق وهوان المخلوق". إذا، انشقاق السماء مشهد من مشاهد يوم القيامة، وزوال الجبال والآكام واستواء ظهرها مشهد، وخلو الأرض من كل ما في باطنها مشهد، أما انقياد السماء لربها وانصياعها لأمره سبحانه فجزء من بيان عظمة ذي القوة المتين، وكذا ما فعلت الأرض -وإذا كان هذا شأن السماء والأرض، فما بال

ص: 201

الإنسان الذي ينتظره الموت ليلقيه أمام خالقه الواحد القهار، أحداث تلو أحداث، تتصاعد إلى أن تصل إلى الذروة، إلى قمة الحدث الأعظم {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} .

والأمثلة عديدة، يلعب فيها فن الوصل دورا بارزا، يقدم لب الموضوع ثم تأتي أجزاؤه، أو تتعدد الأجزاء ثم تنتهي بلب الموضوع، بقمة الحدث.

ففي سورة "النبأ" تتحدث الآيات عن النبأ العظيم، عن البعث الذي يتساءل عنه الناس، وبعد تقديم السؤال تأتي الإجابة مصورة عظمة الله تعالى بما يؤكد قدرته على البعث في ميقاته المقدر، تقول الآيات:

{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} "6".

{وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} "7".

{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} "8".

{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} "9".

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} "10".

{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} "11".

{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} "12".

{وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} "13".

{وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} "14".

{لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} "15".

{وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} "16".

{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} "17".

فالقادر على كل هذه العظائم قادر على بعث الناس يوم القيامة، بل إن بعثهم لأمر هين في قدرة الواحد الأحد الذي جعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقنا أزواجا وبنى فوقنا سبعا شدادا.

ص: 202

ونلحظ أن هذه الأجزاء التي جاءت لتؤكد أن يوم البعث حق وأن من ينكره سيعلمه علم اليقين، قد اختتمت بآية {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} ، وهي تكرار عرض الموضوع الرئيسي {النَّبَإِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} ، وقد جاءت -فيما أرى- بعد أن فندت الأجزاء السابقة سبب الاختلاف في يوم البعث فصارت مؤكدة لمجيئه، لذا عادت وقد سمي يوم البعث بـ "يوم الفصل" وأكد مجيئه بـ "إن" ووصف بأنه "ميقات" لا تحول عنه.

كل جزء مشهد مستقل، وكل الأجزاء تصل بنا إلى النتيجة النهائية.

وفي سورة "الإنسان" تصنف الآية الثانية عشرة ما سينال الصابرين من نعيم، فتقول:

{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} "12".ثم تأتي الأجزاء الموصولة التي ستقوم بتصوير الجنة، وتوضح أشكال النعيم الذي سيجزى به الصابرون، فتقول في وصف الجنة:

{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} "13".

{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} "14".

{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا} "15".

{قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} "16".

{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} "17".

{عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} "18".

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} "19".

{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} "20".

ثم تأتي الآية الحادية والعشرون لتفصل أمر الحرير، فتقول عنه:

{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} "21".

ص: 203

كل هذا، وكان الموضوع الرئيسي {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} .

وتتجلى هذه الظاهرة الجمالية في القصص القرآني أيضا، ففي سورة "نوح" تلخص القصة كلها في أول آية من السورة، في قوله تعالى:

{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} "1".

هذه هي القصة، وتفصيلها:

{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} "2".

{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} "3".

{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} "4".

{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} "5".

{فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} "6".

{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} "7".

{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} "8".

{ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} "9".

ثم تميل سلسلة الآيات إلى بيان تفصيلي للدعوة الجهرية وتلك السرية التي كان يدعو بها نوح عليه السلام، قومه، هكذا:

{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} "10".

{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} "11".

وبعد أن ينتهي نوح عليه السلام -يتوجه إلى خالقه الأعظم.

{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} "21".

ص: 204

ثم يفصل عصيانهم في ثلاث آيات متصلات، وأخيرا يأتي تفصيل العذاب الذي يستحقه قوم نوح فـ:

{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} "25".

وهكذا يعمد القرآن الكريم إلى فن الوصل، ليعرض ما يعرض من صور فنية، فهو لا يفجؤ المخاطب بلب الموضوع ويتركه، بل يعرض عليه الأجزاء، أو الصور الجزئية ليعيها ذهنه ويعيش فيها وجدانه ويستثار بها خياله، ويظل يتنقل من جزء إلى جزء، ومن جانب إلى جانب إلى أن يصل إلى قمة الحدث، وحين يصل المخاطب إليه يكون قد زود به على مراحل.

وتارة يعرض القرآن للحدث العام مرة واحدة بإيجاز وتركيز ثم ينتقل منه المخاطب إلى أجزائه -وهو مزود بجوهر الموضوع- ويظل يضيف إليه جزءا جزءا وكأنه يعيده في قطع صغيرة إلى أن تنتهي الأجزاء وينتهي معها عرض الموضوع الرئيسي الذي قدم في مطلع العرض، وقد تبلور واتضح وتكامل في نضوج وجمال.

ويأتي دور الفصل، الذي يقوم بعرض الموضوع كاملا مرة ثم يعود يعرضه بشكل ثان وثالث، وكلها هي هي، ولكنها لها غرض فني لا يقوم به إلا فن الفصل.

وهذا غير التكرار، فتكرار الصياغة في قوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} 1 له غرض بلاغي غير الغرض الذي من أجله يعرض الموضوع بأشكال متعددة، في مثل قوله تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ} 2 فرب الناس سبحانه، هو ملك الناس، هو إله الناس، هو المستعاذ به من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور

1 الانفطار: 17 و18.

2 الناس: 1-3.

ص: 205

الناس -الربوبية والإلهية والملكية صفات للعزيز الجبار، صفات مفصولة متعددة تمثل صفة الإله، ولكنها تختلف في قوة تصويرها، فرب الناس لفظ مشترك، فمن الناس من {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1. وملك الناس صورة أخرى، ولكنها أضيق في الشركة لقلة عدد ملوك الناس عن عدد أحبارهم ورهبانهم، أما إله الناس فخاص لا شركة فيه، لذا جاء متأخرا، وجعل غاية للبيان، كما يقول الزمخشري2.

فهذه الصفات صورة واحدة تعرض منفصلة شكلا متصلة مضمونا، وهنا تختلف عن الغرض البلاغي للتكرار في أنها تتصاعد مع المعنى، من الربوبية إلى الملكية إلى الإلهية، من الكثرة إلى القلة إلى التفرد.

وترى ذلك في مثال آخر، في قوله تعالى: في الوليد بن المغيرة3 -في سورة القلم:

{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} "10".

{هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} "11".

{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} "12".

{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} "13".

{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} "14".

فهذه كلها بدائل لابن المغيرة، صور متعددة له، أو هو وقد عرض في أشكال عديدة وفي حالات مختلفة، وفي هذا ما فيه من جمال، فمع كل صفة يذهب العقل في تصورها وتمثلها ثم ينتقل إلى الصورة التالية وقد تزود من الوليد بصفة من صفاته، وتظل النفس تنتقل من صفة إلى صفة حتى تصل إلى درجة

1 التوبة: 31.

2 الكشاف 4/ 302.

3 الكشاف 4/ 142.

4 معتد: مجاوز في الظلم حده، أثيم: كثير الإثم، عتل: غليظ جاف، زنيم: دعي.

a

ص: 206

التشبع مع اكتمال الصورة. والغرض هنا ليس التوكيد فقط، إنما هو الإحاطة الشاملة بكل خصائص الموضوع بالإضافة إلى إعطاء المخاطب فرصة التنقل من تصور إلى تصور ومن حال إلى حال، بما في هذا من تلوين وتغيير وتعميق وشمول.

وانظر معي إلى صفة الزوجة الخيرة، صفة كل زوجة من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم. فلأنهن زوجات للرسول فكل واحدة منهن مسلمة مؤمنة قانتة تائبة عابدة سائحة، كل واحدة جمعت كل هذه الصفات في حال كونها زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم، وإن وقع الطلاق تفرقت الصفات واحتاجت إلى عرضها بالتفصيل، وقد كان يكفي فيها صفة واحدة وهي "زوجة الرسول" يقول تعالى:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} 1، صور متعددة، أشكال مختلفة، وكلها بدائل لـ "زوجة الرسول" صلى الله عليه وسلم.

وقد تتأخر الصورة الكلية عن جوانبها المتعددة فيقول تعالى في "سورة الأنبياء":

{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} "101".

{لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} "102".

{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} "103".

وقد تتقدم وتكون في آية واحدة كقوله تعالى في سورة فاطر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2، أو تتأخر

1 التحريم: 5.

2 فاطر: 1.

ص: 207

كقوله تعالى في سورة الأنعام: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} 1.

إن عرض الموضوع بأشكال متعددة من أجمل فنون الفصل في القرآن الكريم، ولا يضارعه في هذا إلا فن الوصل حين يعرض للأجزاء الموصولة ثم يؤلف منها موضوعا متكاملا.

7-

تصوير الهيئة المنفصلة والهيئة المتصلة:

والهيئة هي الحال التي يكون عليها صاحبها حين وقوع الحدث الأصلي، نحو قوله تعالى:{قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} 2، و {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} 3. فالحدث الأصلي في الآية الأولى: كون الملك له والهيئة المصاحبة له كونهم أحق بالملك منه، وفي الثانية، امتلاكه لكل الثمرات، والهيئة المصاحبة إصابته بالكبر، وهذه الهيئة، التي هي "جملة الحال"، "بمنزلة الخبر من حيث -كما يقول الجرجاني- نثبت بها المعنى لذي الحال كما نثبته بالخبر للمبتدأ، وبالفعل للفاعل، والفرق بينهما أن خبر المبتدأ وفعل الفاعل جزء من الجملة، لا تتم الفائدة دونه، أما الحال، فهي ليست بجزء من الجملة، ولكهنا زيادة في خبر آخر سابق لهذا الجزء"4.

ورابط الجملة الحالية التي تصور هيئة صاحبها مرتبطا بحدوث الحدث الأصلي في الجملة، إما أن يكون الواو نحو قوله تعالى:{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} 5، وإما الضمير نحو قوله تعالى:{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} 6، أو هما معا مثل:{وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} 7.

1 الأنعام: 85.

2 البقرة: 247.

3 البقرة: 266.

4 الدلائل: 212.

5 البقرة: 30.

6 ق: 21.

7 البقرة: 44.

ص: 208

وعن واو الحال يقول الجرجاني: "وتسميتنا لها "واو الحال" لا يخرجها عن أن تكون مجتلبة لضم جملة إلى جملة، ونظيرها في هذا "الفاء" في جواب الشرط نحو "إن تأتني فأنت مكرم" فإنها وإن لم تكن عاطفة فإن ذلك لا يخرجها من أن تكون بمنزلة العاطفة في أنها جاءت لتربط جملة ليس من شانها أن ترتبط بنفسها"1.

والذي يهمنا هنا أن ثمة مواضع تقتضي ربط جملة الحال بالواو، وأخرى تقتضي طرح الواو، يوجزها الجرجاني بأن "كل جملة وقعت حالا ثم امتنعت من "الواو" فذاك لأجل أنك عمدت إلى الفعل الواقع في صدرها "أي في صدر جملة الحال" فضممته إلى الفعل الأول في إثبات واحد، وكل جملة جاءت حالا ثم اقتضت "الواو" فذاك لأنك مستأنف بها خبرا وغير قاصد إلى أن تضمها إلى الفعل الأول في الإثبات2، ففصل الهيئة في نحو "جاءني زيد يسرع" قد أدخل "الإسراع" في صلة المجيء وجعلهما شيئا واحدا، موضحا للمجيء، أو مبنيا أو مؤكدا له.

وربط الحدث بالهيئة المصاحبة له بالواو أو طرحها، إنما يهدف إلى رصد الحركة التي نتجت عن حدوث الحدث أو صاحبته، فإن طرحنا الواو كان حدثا متحركا، حدثا مصورة هيئته حين وقع، وإن وصلنا كان حدثا صادرا عن فاعل متحرك. ويكون الحدث جزءا من حركته، فلننظر إلى هذه الآية الكريمة {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} 3. فاسوداد وجوههم هيئة تصحبهم في الآخرة لما اقترفوه من إثم ولما سيلقونه من عذاب ولما يحسونه من ندم، والاسوداد هنا توكيد لما صدر عنهم من كذب، والتوكيد والمؤكد شيء واحد، كعطف البيان والبدل، ومثلها كل هيئة جاءت مفصولة عن الحدث

1 الدلائل 214 وانظر الكشاف 2/ 67 في تفسيره لآية: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4] .

2 الدلائل 213.

3 الزمر: 60.

ص: 209

الأصلي في الجملة مثل قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} 1، و {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} 2، و {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} 3

إلخ4.

والأمر يختلف إذا وصلنا الهيئة بالحدث الأصلي بالواو، فانظر إلى قوله تعالى:{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} 5. فتسبيح الملائكة تصوير لهيئتهم قبل جعل الخليفة في الأرض وفي أثنائه وفيما بعده إلى يوم القيامة، وهيئة التسبيح مغايرة لحدث جعل الإنسان خليفة في الأرض لذا وصلت بالواو، وحينذاك أضفت عليه عمقا واتساعا وحركة وجمالا -والأمثلة عديدة، خذ مثلا قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} 6، و {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} 7

إلخ8.

كل هذه الأمثلة إثبات صريح للهيئة الحادثة، إثبات مباشر، وثم إثبات آخر غير مباشر، هو "الإثبات بالنفي".

الإثبات بالنفي:

وقد يقصد النفي لذاته، لأن المناسبة تقتضيه، كقوله تعالى:{فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} 9، و {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} 10، وهو النفي الصريح.

1 سبأ: 12.

2 الصف: 4.

3 البقرة: 36.

4 انظر: دراسات لأسلوب القرآن ق1 ج3 ص590.

5 البقرة: 30.

6 البقرة: 187.

7 البقرة: 5.

8 انظر دراسات لأسلوب القرآن ق1 ج3 ص596.

9 الأعراف: 11.

10 الأعراف: 80.

ص: 210

وقد يقصد التعبير به لأنه أقوى من الإثبات الصريح وأبلغ1 نحو قوله تعالى على لسان مريم: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} 2، و {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} أبلغ من "وأنا عزبة" لم أتزوج -وهي كناية رقيقة تتناسب مع أدب القرآن الكريم. كناية عن صفة بها ما بها من الدقة والوضوح والهيئة النابضة بالحياة3 ما لا تستطيع تصويره لفظة "عزبة" التي لم ترد في القرآن مذكرة ولا مؤنثة.

وهذا ما ينطبق على الهيئات المنفصلة أو المتصلة التي أثبتت بطريق النفي، وصورت بطريق المخالفة اسمية كانت أو فعلية - فلننظر إلى قوله تعالى:{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} 4 بدلا من "العروة المتينة"، أو قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ، وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 5 بدلا من "هو ذكر للعالمين" -أما الفعلية الماضوية المتصلة فمثل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 6، والمنفصلة نحو {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} 7، والمضارعية المتصلة نحو {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 8، والمنفصلة {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} 9.

1 انظر د/ أحمد ماهر البقري، أساليب النفي في القرآن، ص16 وما بعدها ط دار المعارف، 1980م.

2 مريم: 20.

3 الكشاف 2/ 505.

4 البقرة: 256.

5 القلم: 51، 52.

6 الأعراف: 43.

7 الزخرف: 52.

8 البقرة: 283.

9 آل عمران: 174.

ص: 211

فالجملة الحالية المنفية، أو الهيئة المثبتة بطريق المخالفة قد حوت ما حوته الجملة المثبتة من عمق واتساع وحركة مع انتقال من المباشرة الصريحة إلى غير المباشرة بما في ذلك من تلوين للتعبير وإضفاء جمال.

هذا، وإذا أخذنا في الاعتبار أن الجملة الاسمية بطبيعتها تفيد الثبات بينما تفيد الفعلية التجدد والاطراد، أحسسنا بأهمية دور الفصل والوصل في تصوير الهيئة حادثة أو غير حادثة، ثابتة أو متجددة، هادئة أو ثائرة، متحدة أو مغايرة.

8-

تناسب الإيقاع الصوتي مع الإيقاع الدلالي:

يرى ابن خلدون أن الأذن هي الوسيلة الطبيعية لكل ثقافة لغوية، بل هي خير وسيلة لإتقان اللغة وإجادتها، و"السمع أبو الملكات اللسانية"1.

ويحدثنا من كتبوا في علم النفس الموسيقي عن كيفية شعور المرء بنعم الكلام، فيقولون: إن هناك ميلا غرزيا في كل كتلة من عدة مقاطع كشبه الفقرات القصار أو العبارات الصغيرة، فقد نسمع في عشر ثوان ما يكاد يبلغ خمسين مقطعا صوتيا2 تسمعها الأذن فتلتقطها كتلا من المقاطع تطول أو تقصر، فإذا ترددت في أواخر هذه الكتل الصوتية مقاطع بعينها شعرنا بسهولة ترديدها وأحسنا بغبطة وسرور حين سماعها وبعث هذا فينا الرضى والاطمئنان3.

1 ابن خلدون، المقدمة 546 "علم النحو"، ط بيروت، دار إحياء التراث العربي.

2 المقاطع الصوتية عند علماء اللغة المحدثين غيرها عند علماء العروض، فهي عند المحدثين كما يلي مقطع قصير "صوت ساكن + حركة قصيرة، كَ كُ كِ"، مقطع متوسط "صوت ساكن + حركة قصيرة + صوت ساكن، كَمْ كُمْ كِمْ، أو صوت ساكن + حركة كا كو كي"، ومقطع طويل "صوت ساكن + حركة طويلة + صوت ساكن، نار نور نير"، أو "صوت ساكن + حركة + صوتان ساكنان، بحر درج فكر"، د. إبراهيم أنيس، موسيقى الشعر 143، الطبعة الأولى.

3 عن عباس العقاد، اللغة الشاعرة 31 ط دار غريب.

ص: 212

وقد نزل القرآن الكريم في أمة تسمع أكثر مما تكتب، فلم يكن غريبا أن يهتم نص كتابها بالصورة الصوتية المسموعة، فيأتي وفيه من الأسجاع ذلك القدر الكثير الذي يتلى عليهم، ويرتل ترتيلا يسمعون فيه نمطا من الموسيقى لا عهد لهم به، وهم أمة الشعر والموسيقى.

وهنا يبرز الوقف والابتداء ثانية، الوقف التام المختار، والكافي الجائز، والحسن المفهوم، والقبيح المتروك1.

والمسألة..

أينبغي في الوقف اعتبار المعنى، وإن لم يكن رأس آية، وهو مذهب أكثر القراء -أم نقف على رأس الآية اقتضى المعنى الوقف أم لم يقتضه؟ اختلف العلماء ورجحوا الوقف على رءوس الآي عملا بالسنة النبوية الشريفة، فإن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان يقف عند كل آية، فيقول "الحمد لله رب العالمين" ويقف، ثم يقول "الرحمن الرحيم" ويقف، وهكذا، روته أم سلمة،

، وأكثر أواخر الآي في القرآن تام أو كاف، وأكثر ذلك في السور القصار. ذهب هذا المذهب كل من الأخفش على بن سليمان، والحافظ أبي بكر البيهقي والإمام الزركشي وغيرهم2.

إذًا، فرأس الآية هو نهاية المقاطع الصوتية التي تسمى آية، وهي الفاصلة3، وهي أيضا الوحدة القياسية التي سنتخذها لبيان تناسب الإيقاع الموسيقي مع مضمون السورة، فيتكرر متصلا أو يتكرر منفصلا.

انظر إلى هذا الإيقاع السريع الذي يصور يوم القيامة ومسميا إياها بـ "الواقعة"، وفي كلمات مختصرة مدوية مع فاصلة على وزن فاعل منتهية بتاء

1 البرهان 1/ 350.

2 نفسه 1/ 350 وما بعدها.

3 محمد الحسناوي، الفاصلة في القرآن، فصل "الإيقاع" 201، وما بعدها، ط دار الأصيل، دمشق.

ص: 213

تأنيث مربوطة، مكررة حرف القاف والعين، تأتي الصور المتلاحقة كأنها طبول حرب قادمة

تقول:

{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} "1".

{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} "2".

{خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} "3".

{إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} "4".

{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} "5".

{فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} "6".

{وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} "7".

{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} "8".

{وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} "9".

{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} "10".

{أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} "11".

{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} "12".

ظلت درجة الإيقاع في سرعتها وهي تصف رج الأرض وبس الجبال ثم مالت إلى الهدوء النسبي حين تحدثت عن أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقين إلى أن تصل إلى تقرير جنة النعيم لهؤلاء المقربين.

مثال آخر يصور الحركة المتقلبة والتوفز وعدم الاستقرار والإصرار على العناد ثم لمآل الذي ينتظر صاحبه، وقد أدى حرف الراء هذا المعنى خير أداء.

ص: 214

وذلك في سورة "المدثر" يقول تعالى:

{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} "18".

{فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} "19".

{ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} "20".

{ثُمَّ نَظَرَ} "21".

{ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} "22".

{ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} "23".

{فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} "24".

{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} "25".

{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} "26".

فبعد أن فكر وقدر انتهى به الأمر إلى سقر.

وإيقاع آخر هادئ مفصول، يحكي لنا حالة الاسترخاء والنعيم الذي سيناله الأبرار، فتكثر الياء والواو ليمثلا المد الزمني والاسترخاء النفسي، يقول تعالى في سورة "المطففين":

{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} "22".

{عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} "23".

{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} "24".

{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} "25".

{خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} "26".

وهذه كاف الخطاب التي تعطى موسيقى جريان الماء في الجدول حين ترتطم بحاجز عند المصب ثم تجتازه وتنطلق في الشعاب والوديان، كاف الخطاب هنا فيها تسرية للنفس، نفس النبي الكريم وبعدها تأتي ألف الإطلاق تصور الأمل الذي لا حدود له، كل ذلك في نغمات موصولة هادئة، يقول تعالى في سورة "الشرح".

ص: 215

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} "1".

{وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} "2".

{الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} "3".

{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} "4".

{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} "5".

{إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} "6".

وتتنوع الإيقاعات بين الشدة والرخاوة في قوله تعالى في سورة "المرسلات"، وفيها يجتمع حرفا المد، الواو والياء، ليصورا غرضين متضادين، يصوران استمهالا للمكذبين وما سيلقونه من جحيم ويصوران ما وعد المحسنون وما سينالونه من نعيم، نعيم متطاول ممدود، ومع العذاب عنف ومع النعيم لين، يقول تعالى:

{فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} "39".

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} "40".

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} "41".

{وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} "42".

{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} "43".

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} "44".

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} "45".

{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} "46".

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} "47".

والذي يهمني أن أشير إليه هنا -بإيجاز- أن الفصل والوصل استخدم في ربط تلك النغمات بعضها ببعض، واستخدم أيضا في فصل بعضها عن بعض، وهو في ذلك لا يختلف عما يقوم به في فصل المفردات والجمل أو وصلها. فقد يأتي الإيقاع الثاني مفصولا عن الأول ليوضحه ويبينه، وقد يكون موصولا به لاختلافه عنه وارتباطه به في نفس الوقت، وهكذا

ثم تضاف عناصر أخرى خاصة بطبيعة الإيقاع الصوتي، كالقصر والطول، والثبات والتغير، والاطراد والتنوع، وهذه لها ما لها من أثر في الإيقاع وفي

ص: 216

وظيفته1، ويأتي عنصر آخر فريد، وهو عنصر "اللازمة"، وهي آية تتكرر مرات على مدى السورة بعد إيقاعات مختلفة لتعمل على ربط الإيقاعات السابقة بتلك اللاحقة إلى أن تأتي "اللازمة" التالية،

، وهكذا. وقد تكون "اللازمة" قريبة الموقع مثل آية {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} في سورة الرحمن، التي تكررت إحدى وثلاثين مرة من خلال ثمان وسبعين آية عدد سورة "الرحمن"2.

وقد تكون بعيدة الموقع مثل آية {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} التي تكررت ست مرات من خلال سبع وعشرين ومائتي آية عدد سورة "الشعراء"3، ومثلها آية {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} التي تكررت عشر مرات من خلال خمسين آية عدد سورة "المرسلات"4.

واللازمة أيضا تكون مفصولة أو موصولة ليتم التكامل بين الإيقاع الصوتي والإيقاع الدلالي في أسلوب القرآن الكريم.

1 انظر التصوير الفني في القرآن، لسيد قطب، ص88 وما بعدها، ط دار الشروق، والفاصلة في القرآن، لمحمد الحسناوي ص253 وما بعدها.

2 رقم 13، 16، 18، 21، 23، 25، 28، 30، 32، 34، 36، 38، 40، 45، 49، 51، 53، 55، 57، 59، 61، 63، 65، 67، 69، 71.

3 رقم 9، 67، 104، 159، 175، 191.

4 رقم 15، 19، 24، 28، 34، 37، 40، 45، 47، 49.

ص: 217