الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مبحث الإقرار بالزنى
-ومن يتبع أحاديث الرجم الذي وقع في زمن النَبِي صلى الله عليه وسلم، وزمن الخلفاء الراشدين، فإنه يجد أن مرتكب الجريمة هو الذي كان يذهب بنفسه ويعترف بأنه زنى، وكان مع هذا يناقش مناقشة تذل على عدم الرغبة في توقيع العقوبة، فكأن هذه العقوبة لا تنفذ إلا على من أراد أن يطهر نفسه من هذه الفاحشة، ومن إثم الإعتداء على عرض غيره (1)
في ماله لأنه عمد، والعاقلة لا تعقل العمد، وتجب في ثلاث سنين، لأنه وجب بنفس القتل، وما يجب بنفس القتل يجب مؤجلاً كالدية، بخلاف ما وجب بالصلح عن القود حيث يجب حالاً، لأنه مال وجب بالعقد لا بنفس القتل، أم إذا رجمه ذلك الرجل حتى قتله رجماً، ثم وجدوا أن الشهود عبيد تجب الدية في بيت المال لأنه نفذ حكم القضاء.
حكم نظر الشهود إلى فرجي الزانين
اتفق الأئمة الأربعة على أنه إذا شهد أربعة بالزنا، وقالوا: تعمدنا النظر إلى فرجيهما قبلت شهادتهم لأنه لضرورة ثبوت القدرة على إقامة الحسبة، والنظر إلى العورة عند الحاجة لا توجب فسقاً، كنظر القابلة والحاضنة والختلن والطبيب والإحتقان والبكارة في العنة والرد بالعيب، والمرأة في حق المرأة أولى، وإن لم توجب ستر ما وراء موضع الضرورة.
أما إذا قَالَ الشهود: تعمدنا النظر إلى فرجيهما للتلذذ بالنظر، فإنه لا تقبل شهادتهم بالإجماع.
إذا كان الشهود أقل من أربعة
وإذا شهد على الزنا أقل من أربعة لا يثبت الزنا، ولا يجب إقامة الحد، واختلفوا في حد الشهود، قَالَ بعضهم: لا يجب على الشهود حد القذف، لأنه جاؤوا مجيء الشهود، قَالَ ولآنا لو حددنا لانسد باب الشهادة على الزنا، لأن كل واحد لا يأمن أن لا يوافقه صاحبه فيلزمه الحد.
الحنفية - قالوا: يجب حد القذف على الشهود، إذا كانوا أقل من أربعة، لأن الشاهد الواحد لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة من الشهداء فوجب عليه الحد لقوله تعالى {والذين يومون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} ، ولما روي أن المغيرة بن شعبة شهد عليه بالزنا عند عمر بن الخطاب أربعة: أبو بكرة، ونافع ونفبع، وقال زياد وهو رابعهم رأيت استاً تنبو ونفساً يعلو ورجلاها على عاتقه كأذني حمار، ولا أدري ما وراء ذلك، فجلد عمر الثلاثة ولم يسأل هل معهم شاهد آخر؟ لأنه تبين أنه كان نأئماً مع زوجته.
-
(1)
(اتفق الأئمة الأربعة: على أن الزنا يثبت بالإقرار، سواء أكان المقر ذكراً أم أنثى، وسواء أكان محصناً، أم غير محصن، وسواء أكان حراً أم عبداً، بشرط أن يكون بالغاً عاقلاً مميزاً، غير مستكره على إقراره.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اشتراط العدد في الإقرار
الحنفية والحنابلة، وابن أبي ليلى - قالوا: يشترط العدد في الإقرار بالزنا، ولا يثبت إلا بإقراره أربع مرات على نفسه، مرة بعد مرة، مع وجود العقل والبلوغ، لأن الشرط طلب التثبيت في إقامة الحدود، فإن اللَّه تعالى يحب بقاء العالم أكثر من ذهابه، كما أشار إليه بقوله تعالى {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على اللَّه} أي اترك القتل، إذا ركن أعدائك إلى السألة وعدم الحروب، وقال اللَّه تبارك وتعالى {من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً} ولأن إزهاق الأرواح من الكبائر لا يصح الإقدام عليه إلا بعد التثبت والتأكد من الأسباب الدافعة عليه.
ولأنهم اعتبروا الإقرار مثل الشهادة، فكأنما أوجب الشارع في الشهادة على الزنا أربعاً على خلاف المعتاد في جميع الحقوق، فكذلك يعتبر إقراره أربعاً، إنزالاً بكل لإقرار بمنزلة شهادة واحدة، وقد ورد الإقرار أربعاً في حديث ماعز وغيره.
المالكية والشافعية - قالوا: يكفي في وجوب الحد عليه إقراره بالزنا مرة واحدة، ولا يشترط العدد، كغيره من سائر الأحكام كالقتل والسرقة وشرب الخمر وغيرهم، وبه قَالَ داود والحسن البصري والطبري وجماعة من العلماء المحققين في الفقه، وحجتهم ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وزيد بن خالد من قول النَبِي صلى الله عليه وسلم في حديث العسيف (واغد يأنس على امرأة هذا، فإذا اعترفت فارجمها) فغدا عليها أنيس فاعترفت فأمر النَبِي صلى الله عليه وسلم بها فرجمت، ولم يذكر العدد ولأن الإنسان إذا أقر على نفسه بما يوجب الجلد أو الرجم دل هذا على صدقه في قوله، فلا يحتاج إلى التكرار عدة مرات، بل يكفي مرة واحدة فإن هذا الإعتراف، لا يقع إلا من أهل الإخلاص في اليقين، وأصحاب الإيمان الصادق، وقليل ماهم.
فلما رأيناه شهد على نفسه، حملناه على كمال الإيمان وصدق اليقين بالعذاب وأنه ما طلب التطهير بلإقامة الحد عليه إلا لتحققه في نفسه أنه وقع في الزنا، وخاف من عذاب اللَّه يوم القيامة، فيقبل اعترافه، ولو مرة واحدة، ولا حاجة للتكرار والعدد وإنما رد النَبِي صلى الله عليه وسلم ماعزاً عدة مرات، لأنه شك في أمره، لذلك قَالَ له:(أبك جنون) ، وسأل أهله عنه.
الإقرار في مجالس مختلفة
والذين قالوا باشتراط العدد في الإقرار اختلفوا في كونه في أربعة مجالس.
الحنابلة وابن ليلى - قالوا: يكتفي بالإقرار أربع مرات ولو في مجلس واحد.
الحنفية - قالوا: يشترط كون الإقرار أربع مرات في أربعة مجالس من مجالس المقر واستدلوا على مذهبهم بما روي في صحيح مسلم عن أبي بريدة رضي الله عنه أن ماعز بن مالك أتى النَبِي صلى الله عليه وسلم فرده، ثم أتاه الثانية من الغد فرده، ثم أرسل إلى قومه فسألهم هل تعلمون بعقله بأساً؟ فقالوا: ما نعلمه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إلا وفي العقل من صالحنا، فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضاً فأخبروه بأنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابة حفر له حفرة فرجمه.
وما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: جاء الأسلمي النَبِي صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراماً أربع مرات كل ذلك يعرض عنه، فأقبل في الخامسة، فقال:(أنكتها؟ قَالَ: نعم، قَالَ: حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قَالَ: نعم، قَالَ: كما يغيب المرود في المكحلة وكما يغيب الرشاء في البئر؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فهل تدري ما الزنا؟ قَالَ: نعم، أتيت منها حراماً مثل ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً قَالَ: فما تريد بهذا القول؟ قَالَ: أريد أن تطهرني. فأمر به فرجم فسمع النَبِي صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر اللَّه عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما ثم سار ساعة، حتى مر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا نحن ذان يَا رَسُولَ اللَّه فقال: انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار، فقالا: ومن يأكل من هذا يَا رَسُولَ اللَّه؟ فقال: فما نلتما آنفاً أشد من الأكل منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها) .
فقد صرح الحديث بتعداد المجيء في مجالس متفرقة، وتعدد الافراد كل مرة بعد رده.
ويؤيده ما روي من أحاديث أخرى بأن النَبِي صلى الله عليه وسلم لم يقبل من المقر بالزنا إقراره مرة واحدة بل طلب تكرار الإقرار منه حتى يتأكد له أنه صادق في إقراره، مصر على إقامة الحد، روي البخاري رحمه اللَّه تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: أتى رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجل من الناس وهو في المسجد فناداه يَا رَسُولَ اللَّه إني زنيت، فأعرض عنه النَبِي صلى الله عليه وسلم فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال: يَا رَسُولَ اللَّه إني زنيت، فأعرض عنه فجاء لشق وجه النَبِي صلى الله عليه وسلم الذي أعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النَبِي صلى الله عليه وسلم فقال:(أبك جنون؟ قَالَ: لا يَا رَسُولَ اللَّه، فقال: أحصنت؟ قَالَ: نعم يَا رَسُولَ اللَّه، قَالَ: اذهبوا به فارجموه) .
فهذا نص صريح على تعداد الإقرار أربع مرات، عسى أن يرجع المقر عن إقراره ستراً له.
وروي في مسند الإمام أحمد رحمه اللَّه تعالى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قَالَ لماعز بن مالك بحضرته صلى الله عليه وسلم: إن اعترفت الرابعة رجمك.
وما روي عن أبي داود والنسائي أنه قَالَ: كان أصحاب رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتحدثون أن الغامدية، وماعز بن مالك، لو رجعا عن اعترافهما لم يطلبهما بعد الرابعة.
وأجابوا عن حجة الشافعية والمالكية بأن ما ورد في بعض الروايات أنه أقر مرة ومرتين وثلاثاً، فهو تقصير من الراوي، ومن قصر فليس بحجة على من حفظ.
وأما قولهم في حديث العسيف، فإن اعترفت فارجمها، فمعناه الاعتراف المعهود في حد الزنا، بناء على لأنه كان معلوماً بين الصحابة، خصوصاً لمن كان قريباً من خاصته صلى الله عليه وسلم، وعلم أن حكم الإقرار أربعاً مثل "أنيس" رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مناقشة المقر
وإذا أقر الزاني، أربع مرات، سأله القاضي عن الزنا ما هو؟ وكيف هو؟ وأين الزنا،؟ وبمن زنى؟ فإذا بين ذلك كله وصرح به لزمه الحد، لتمام الحجة عليه، ولم يشترط السؤال عن الزمان، كما اشترط في شهادة الشهود لأن تقادم العهد يمنع قبول الشهادة دون الإقرار.
وقيل: لو سأله عن الزمان لجاز، لاحتمال أن يكون قد وقع في الزنا في صباه، أو قبل إسلامه.
إقرار الرجل بأنه زنا بامرأة لا يعرفها
ومن أقر أربع مرات في أنه زنى بامرأة لا يعرفها يقام عليه الحد بإجماع العلماء.
وكذا إذا أقر أنه زنى بفلانة، وهي غائبة عن البلد الذي يقيم فيه، يجب عليه الحد لحديث العسيف، لأن النَبِي صلى الله عليه وسلم أقام عليه الحد حين اعترف أمامه بالزنا ثم أرسل إلى المرأة بعد ذلك، ولأنه أقر بالزنا ولم يذكر ما يسقط كون فعله زنا، ولم توجد شبهة ترد عنه الحد، بل إن إقراره قد تضمن أنه لا ملك له في المرأة المزنى بها، لأنه لو كان له ملك فيها لعرفها، ولو كان عنده شبهة لذكرها، لأن الإنسان لا يجهل زوجته، أو أمته.
الإقرار بالزنا لا يتعدى صاحبه
ومن أقر أنه زنى بفلانة، وكذبته، وقالت: لا أعرفه اختلف العلماء في حكمه.
الإمام أبو حنيفة - قال: لا يقام الحد على الرجل، ولا على المرأة، لوجود شبهة تدرأ الحد، وهو الإنكار، ويقام عليه حد الفرية فقط "ثمانين جلدة" وأجيب عن ذلك بأنه لا يبطل إقراره.
المالكية، والشافعية، والحنابلة، والصاحبان - قالوا: يقام الحد على الرجل فقط وهو حد الزنا، ولا يؤخذ إقراره حجة على المرأة التي زنى بها، ولا يقام عليه حد القذف.
فقد روى الإمام أحمد في صحيحه، وأبو داود، عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رجلاً جاء إلى النَبِي صلى الله عليه وسلم فأقر بالزنا بامرأة سماها، فأرسل رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم في طلبها، فسألها عما قال: فأنكرت، فأقام الحد عليه، وتركها، ولم يقم عليها الحد.
وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رجلاً من بكر بن ليث أتى النَبِي صلى الله عليه وسلم فأقر أربع مرات أنه زنى بامرأة، فجلده مائة جلدة وكان بكراً، ثم سأله البينة على المرأة فقالت: كذب يا رسول اللَّه، فجلده حد القذف ثمانين) .
وهذا من يسر الدين الإسلامي، وسماحته ودقته في تحري الحقائق، ودرء الحدود.
وقال بعضهم: يحد الرجل حد القذف، وحد الزنا، وفاء بحق الخالق، والمخلوق.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إقرار المرأة بالزنا
إذا أقرت المرأة بالزنا أربع مرات عند الحاكم، وقالت: مع فلان وذكرت اسمه، وكذبها الرجل. وقال: ما زنيت بها، ولا أعرفها.
الإمام أبو حنيفة رحمه الله قال: لا يقام الحد على المرأة، ولا على الرجل، وذلك لأن الحد انتفى في حق المنكر بدليل موجب للنفي عنه، فأوردت شبهة الانتفاء في حق المقرة. حيث إن الزنا فعل واحد فيما بينهما، فإن تمكنت فيه الشبهة تعدت إلى طرفيه.
المالكية، والشافعية، والحنابلة، والصاحبان - قالوا: يقام الحد على المرأة المقرة بالزنا لأن الإقرار حجة فيما في حق المقر، وعدم ثبوت الزنا في حق الغير، لا يورث شبهة العذم في حق المقر، كما لو كان غائباً عن البلد وسمته، وادعت عليه، وهو الراجح.
الإقرار على الأخرس أو الخرساء
ومن أقر بأنه زنى بامرأة خرساء، لا تنطق، أو أقرت بأنها زنت برجل أخرس.
الإمام أبو حنيفة رحمه الله قال: لا يقام الحد على واحد منهما لوجود الشبهة التي تعدت إلى طرفه الآخر.
الأئمة الثلاثة والصاحبان - قالوا: يقام الحد على المقر، دون الأخرس، أو الخرساء وذلك لإتمام الإقرار على نفسه، فيثبت الحد عليه، دون الآخر، لعدم إقراره.
مبحث إقرار الأخرس
اتفق الأئمة على أن الأخرس إذا أقر بالزنا بكتابة، أو إشارة، ولو كانت مفهومة، لا يقام عليه الحد، للشبهة بعدم الصراحة في الإقرار، وهي تدرأ الحد عن الزاني.
واتفقوا كذلك: على أن الشهادة على الأخرس بالزنا لا تقبل، لاحتمال أن يدعي شبهة على الشهادة. بخلاف الأعمى.
فقد اتفق العلماء: على أنه يصحإقرار الأعمى بالزنا، ويقام عليه الحد، وتصح الشهادة عليه وتقبل.
الرجوع في الإقرار
ومن أقر بالزنا ثم رجع في إقراره اختلف الأئمة في حكمه.
الحنفية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: إذا رجع المقر بالزنا في قوله، يقبل رجوعه ولا يقام عليه الحد. ويترك سواء وقع عليع بعض الحد، أو لم يقع، لأنه ثبت أن النَبِي صلى الله عليه وسلم قرر ماعزاً، ورده مرة بعد مرة، لعلهيرجع في إقراره، ولا يعود إليه، وفي ذلك ستر عليه وهو خير، وورد أن النَبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ