المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مبحث مراعاة الشريعة لحال المجرم - الفقه على المذاهب الأربعة - جـ ٥

[عبد الرحمن الجزيري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزءُ الخَامِس

- ‌تقديم

- ‌كتاب الحدود المقدمة في تعريف الحدود الشرعية

- ‌المعنى

- ‌ما يؤخذ من الحديث

- ‌بيان الحدود الشرعية وما في معناها

- ‌العقوبات الشرعية

- ‌القسم الأول

- ‌القسم الثاني

- ‌مبحث حد المحصن

- ‌مبحث حد غير المحصن

- ‌مبحث من قتل الرجل الذي زنى بامرأته

- ‌مبحث رأي المعتزلة والخوارج

- ‌مبحث الشهادة في الزنا

- ‌مبحث الإقرار بالزنى

- ‌مبحث الشبهات في الزنى

- ‌تشديد الشريعة في إثبات جريمة الزنا

- ‌مبحث اللعان

- ‌وقوع الفرقة باللعان

- ‌مبحث حرص الشريعة على محو الرذائل الخلقية

- ‌مبحث حد اللواط

- ‌كتاب حد السرقة

- ‌قوانين المعاملات في الإسلام

- ‌عناية الشريعة بالسرقة دون غيرها

- ‌مبحث أحكام غير السارق

- ‌مبحث المخالفات المالية

- ‌مبحث اعتراض الملاحدة

- ‌أمثلة على ردع المجرمين

- ‌رحمة الشريعة بالمفسدين

- ‌مبحث فائدة تحديد النصاب في القطع

- ‌باب حد القذف

- ‌إجماع الشرائع على أن القذف اعتداء على الأعراض

- ‌مبحث اعتراض الجهلة على حد القذف

- ‌مبحث العفو عن القاذف

- ‌مبحث مراعاة الشريعة لحال المجرم

- ‌القسم الثاني كتاب القصاص

- ‌مبحث عناية الشريعة بدماء الناس

- ‌مبحث عقاب قاتل النفس ظلماً

- ‌مبحث جواز العفو في القصاص

- ‌محاسن التشريع الإسلامي

- ‌مبحث سلطان أولياء الدم على القاتل

- ‌مبحث حق السلطان على القاتل

- ‌مبحث الجناية على الأطراف

- ‌القسم الثالث

- ‌باب التعزير

- ‌جواب وسؤال

- ‌مبحث دقة التشريع الإسلامي

- ‌سؤال وجوابه

- ‌مبحث دليل ثبوته

- ‌نظام الأسرة في الإسلام

- ‌مبحث أساس القوانين الشرعية

- ‌مبحث الكبائر من الذنوب

- ‌معنى الحديث

- ‌الجواب عن السؤال الثاني

- ‌الكبيرة الثامنة شهادة الزور

- ‌الكبيرة التاسعة اليمين الغموس

- ‌الكبيرة العاشرة الزنا

- ‌الكبيرة الحادية عشرة شرب الخمر

- ‌الكبيرة الثانية عشرة النميمة

- ‌الكبيرة التاسعة عشرة الغلول في الحرب

- ‌مبحث السحر

الفصل: ‌مبحث مراعاة الشريعة لحال المجرم

‌مبحث مراعاة الشريعة لحال المجرم

.

-ومما ينبغي ملا حظته أن إقامة الحد بالجلد يجب أن يراعى فيها حال المجرم، واحتماله للعقوبة، فإذا كان جسمه ضعيفاً لا يحتمل، أو كان مريضاً، فإنه يؤخر إلى أن يقوى على احتمال العقوبة، فإذا كان ضعفه طبيعياً بحيث لا يرجى له قوة، فإنه يجمع له أعواد بقدر العقوبة، ويضرب بها مرة واحدة. وهذا هو رأي جماهير العلماء. ومن هذا كله يتضح لك أن الشدة في العقوبة إنما هي بالنسبة للفجار الأقوياء، الذين يؤذون الناس، بما يوجب حقدهم عليهم، وعدم الصفح عنهم، وهؤلاء شرهم على أنفسهم، وعلى المجتمع شديد، فلا ينبغي لأحد أن يرحمهم في أي زمان ومكان (1)

مبحث إقامة الحد

ولا يستوفي حد القذف إلا بحضرة الإمام، أو نائبه، لاحتياجه إلى النظر، والاجتهاد في شأنه ومن تكرر منه السرقة منه السرقة، أو الزنا، أو الشرب، فحد فهو للكل، وتتداخل الحدود.

أما لو زنى، وسرق، وقذف وشرب، فإنه يحد على كل واحد منها حداً على حدة. لأنه لو ضرب لأحدهما فربما اعتقد أنه لا حد في الباقي، فلا ينزجر عنها. ولا كذلك إذا احدث الجناية.

اجتماع الحدود

وإذا اجتمع حد الزنا، والسرقة والشرب، والقذف، وفقء العين مثلاً يبدأ الحاكم بالفقء أولاً فإذا برىء يحد بالقذف، لما فيه من حق العبد، ويحبس حتى يبرأ لأنه لو جمع عليه بين حدين، ربما تلف، والتلف ليس بواجب على الضارب، فإذا برىء، فللإمام الخيار، إن شاء بدأ بالقطع، وإن شاء بحد الزنا لتساويهما في الثبوت. وآخرها حد الشرب لأنه ثبت بالسنة، وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم واجماع الصحابة رضوان الله عليهم.

وإن كان الجاني محصناً بدأ الحاكم بالفقء، ثم حد القذف، ثم الرحم، ويسقط الباقي لأن القتل يأتي على النفس، فيؤدي إلى إسقاط بعض الحدود.

ومن حده الإمام، أو عزره فمات من أثر الجلد، فدمه هدر لأنه مأمور من جهة الشرع بإقامة الحد، فلا يقيد بالسلامة، ولأنه يسوف بحقه الله تعالى بأمره. فكأن الله تعالى أماته بغير سلطان، فلا يجب الضمان.

اتفق الفقهاء: على أن السكران إذا قذف انساناً بالزنا في حالة السكر، فإنه يحاسب على هذا القذف، ويعاقب عليه، ويقام عليه حد القذف بعد صحوه، إذا طلب المقذوف إقامة الحد) .

-

(1)

(الحنفية، والشافعية، والحنابلة قالوا: إن حد القذف اخف من جميع الحدوده، لأن سببه

ص: 210

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهو النسبة إلى الزنا غير مقطوع به، لجواز كونه صادقاً غير أنه عاجز عن البيان، بخلاف حد الزنا، لأن سببه معاين للشهود، أو للفرية، والمعلوم لهما هنا نفس القذفن وإيجابه الحد ليس بذاته بل باعتبار كونه كاذباً حقيقة أو حكماً بعد إقامة البينة قال تعالى:{فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} فالله تعالى منع من النسبة إلى الزنا إلا عند القدرة على الإثبات بالشهداء، لأن قائدة النسبة هناك تحصل، أما عند العجز فانما هو تشنيع، ولقلقة تقابل بمثلها بلا فائدة، ولذلك قالوا: إن القاذف لا يجر من ثيابه عند الجلد، ولا ينزع عنه إلا الفرو، والثياب المحشوة، لأنه يمنع من وصول الألم إليه، فلو كان عليه ثوب ذو بطانة غير محشو فلا ينزع، والظاهر أنه إن كان فوق قميص ينزع لأنه يصير مع القميص إما محشواً، أو قريباً منه، ويمنع إيصال الألم الذي يصلح زاجراً.

المالكية قالوا: إن حد القذف مثل سائر الحدود، فيجب أن يجرد القاذف من ثيابه عند الجلد، ولا يبقى على حسده إلا ما يستر عورته فقط، ويجلد ثمانين جلدة، والعبد يضرب أربعين فقط.

قالوا: ويتعين الضرب بالسوط المصنوع من الجلد، وذلك للسليم القوي، أما نحيف الجسم والمريض فلا يصح ضربه بالسوط، لأنه يؤدي إلى إتلافه وهلاكه، ويفرق الشرب على جميع الأعضاء، لأن جمع الجلدات في عضو واحد ربما يؤدي إلى الإتلاف، وهو غير مستحق، ويتقى في الضرب المقاتل كثمرة التمر، والفرج، والوجه لأنه يجمع المحاسن ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه) وروي أن سيدنا عمر رضي الله عنه قال للجلاد: إياك أن تضرب الرأس والفرج، ويضرب الرجل قائماً، والمرأة جالسة مستورة، وكشف العورة حرام إلا أنه ينزع عنها الحشو، والفرو، ليخلص اللم إليها. فإن كان القاذف شديد الهزال، أو مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه كالمسلول والمجذوم جلد (بعثكل) وبه ثمانون غصناً يضرب به مرة واحدة، ولا يقام الحد في الأيام الشديد ة الحر ولا الشديدة البرد، ولا يقام الحد على النفساء والحامل حتى تضع وتبرأ من مرضها.

مبحث التوبة النصوح

لقد عبر الله تعالى في الأية الكريمة في جانب {الذين يرمون المحصنات} بصيغة المذكر (الذين) وعبر في جانب المرمي بصيغة المؤنث (المحصنات) ولا فرق بين الذكور والإناث عند جميع الفقهاء في الرامي، والمرمي فمن رمى غيره بالزنا، واستوفى شروط الحد وجب على الحاكم حده سواء أكان كل من الرامي والمرمي رجلاً أم امرأة، وإنما اختير هذا التعبير أما في الأول فمن باب تغليب الذكور على الإناث فإنهما متى اجامعا في حكم شرعي عبر بصيغة كالذكور تغليباً لهم عليهن قال تعالى:{وكانت من القانتين} وأيضاً في الغالب، أو المفروض إن الرمي في هذه الفاحشة بعيد لأن ألسنة النساء اللاتي ينبغي أن يحوطهن الحياء والأدب، فلا يكاد يقع منهن هذا البذاء. وأن الغالب في الرمي يكون من جانب الذكور.

ص: 211

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأما الثاني وهو اختيار صيغة المؤنث في جانب المرمي (المقذوف) فلأن أكثر ما توجه هذه التهمة الشنعية للنساء، فهي لهن آلم، وأوجع، ولا يرمي بها الرامي إلا للنيل من المرمي بآلم ما يستطيع وهذا لا ينافي مساواة الرجال لهن في لحوق العار، وإصابة الشرف، وتنكيس العزة، وضياع الكرامة، وعلى ذلك يكون قيد التأنيث في الآية المستفاد من صيغة الجمع بالألف والتاء لا مفهوم له، بل مثلهن في ذلك الذكور، وليس هذا من باب قياس الرجال على النساء، بل من باب إلغاء الفارق بين الفريقين. على أن الآية وردت في واقعة هي أن هلال بن أمية قد رمى زوجته بالزنا بشريك بن سحماء، فجاء التقييد على وفق سبب النزول، فإنها نزلت قي قصة هلال بن أمية، حثنما شكا للرسول صلى الله عليه وسلم زوجته فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:(البينة أو حد في ظهرك) .

وقد رتب الشارع على قذف المحصن أو المحصنة ثلاثة أشياء، الجلد ثمانين جلدة، ورد الشهادة، والحكم عليه بالفسق.

وقد أردف جل شأنه ذلك الجزاء باستثناء التائبين فقال تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فإن الله غفور رحيم} .

والتوبة هي الرجوع إلى الله بعد الاعراض عنه تعالى، والإقبال عليه بعد الإدبار، وكفى بالمعصية إعراضاً وإدباراً بل فراراً من حظيرة قدسه، وساحة رحمته.

والتوبة الصادقة النصوح تنتظم في معان ثلاثة تؤدي إلى تطهير القلب، بل والجوارح أيضاً، من أدران الذنوب، وأوساخ الخطايا، وهذه المعاني الثلاثة هي معرفة ما في الذنب من الإضرار بالنفس، والابتعاد عن ساحة الرحمة، ومنزلة الرضوان، وإنه لا يقدم عليه إلا عدو نفسه، الذي غلبت عليه شهوته، فلا تحصل التوبة دون أن يتحقق هذا المعنى تحققاً يقيناً، وعلماً حضورياً يشبه علمك أن في هذا الطعام الذي اشتهيته سماً مهلكاً، قاتلاً يخبرك به الطبيب الثقة، فماذا يكون حالك وقد تورطت فأكلت الطعام اشتهاء أليس يدركك من الندم والحسرة ما ترتبك معه، وتخور له قواك، ألست تشعر حينئذ بحالة اكتئاب وحسرة على ما فرط منك، تغلب عليك لذتك ابتئاساً - وفرحتك حزناً، فهذا هو المعنى الثاني وهو الندم على ما وقع منك، وليس مجرد الندم والحسرة ويقف الشخص مبهوتاً غير مفكر إذا كان من أهل الصيرة كلا بل لا يسمى نادماً حقيقة، ويصدق في دعواه أنه ندم حتى يترتب على ندمه أثره الصحيح، وذلك فعل يتعلق بما مضى، وبما هو حاصل، وبما يستقبل من الزمان، فيقلغ عن الاستمرار في تناول ذلك الطعام الشهي حالاً، ويعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل، وعمل على تخليص معدته مما سبق منه إليها في الماضي، حتى يستريح باطنه من هذا السم القاتل، هكذا شأن التوبة من الذنوب والخطايا، ومقياس النندم أن يؤتي هذه الثمار الثلاث وهي:

اولاً الإقلاع فوراً عن الاستمرار في الذنب الحالي، ثانياًـ العزم على أن لا يعود في المستقبل أبداً، ثالثاً المبادرة إلى التخلص مما فرط منه في الماضي.

ص: 212

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومن ذلك أن ترد الحقوق إلى اصحابها، وهذه هي التوبة الصحيحة المطهرة، المقبولة حاماً كما وعد الله جل شأنه، ووعده لا يخلف، وهذا معنى قولهم: التوبة تنتظم من علم، وحال، وعمل. والعمل يتعلق بالحال، والاستقبال، والماضي.

والإصلاح هو إزالة الخلل، والفساد الطارىء على الشيء، والمراد هنا في الآية إصلاح دات البين التي أفسدها بينه، وبين من قذفه، وذلك بأن يستسمحه مما فرط منه في حقه حتى يسامحه، وذلك شأن التوبة والتخلص من حقوق العباد.

وقال بعض العلماء: غنه من مضى مدة عليه في حسن الحال تقبل شهادته، وتعود ولايته، ثم قدورا تلك المدة بسنة حتى تمر عليه الفصول الأربعة التي تتغير فيها الحوال والطباع، كما يضرب للعنين أجل سنة. وأما قوله تعالى:{من بعد يذلك} فالتوبة لا تكون إلا بعد الذنب، فإن سره التهويل في المر وتفظيع ما وقع فيه وتكبيره.

مبحث قبول توبة القاذف

الحنفية قالوا: لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب توبة صادقة وحسنت توبته لقوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} ولأن رد شهادته من تمام الحد، لكونه مانعاً فقى بعد التوبة كأصله، بخلاف المردود في غير القذف لأن الرد للفسق، وقد ارتفع بالتوبة.

وأصله: أن الاستثناء إذا تعقب جملاً متعاطفة، هل ينصرف إلى الكل، أو إلى الجملة الأخيرة؟.

فالحنفية قالوا: إن الاستثناء ينصرف إلى الجملة الأخيرة فقط، وقد تقدم في الآية ثلاث جمل هي قوله تعالى:{فاجلدوهم} وقوله {ولاتقبلوا لهم شهادة أبداً} وقوله تعالى {وأولئك هم الفاسقون} والظاهر من عظف، {ولاتقبلوا} أنه داخل في حيز الحد، للعطف مع المناسبة، وقيد التأبيد، أما المناسبة: فإن رد شهادته مؤلم لقلبه، مسبب عن فعل لسانه، كما أن آلم قلب المقذوف بسبب فعل لسانه، وكذا قيد التأبيد لا فائدة له إلا بأبيد الرج، وإلا لقال: ولا تقبلوا لهم شهادة {وأولئك هم الفاسقون} جملة مستأنفة لبيان تعليل عدم القبول، ثم استثنى الذين تابوا، وهذا لأن الرد على ذلك التقدير ليس إلا للفسق، ويرتفع بالتوبة، فلا معنى للتأبيد، على تقدير القبول بالتوبة.

وهو استثناء منقطع، لأن التائبين ليسوا داخلين في الفاسقين، فكأنه قيل: وأولئك هم الفاسقون، لكن الذين تابوا فإن الله غفور رحيم، أي يغفر لهم، ويرحمهم، وإذا كان الرد من تمام الحد، لكونه مانعاص، أي زاجراً يبقى بعد التوبة كأصله، أي كأصل الحد، فإنه لا يسقط بالتوبة فإن من تاب بعد ثبوت الحد عليه، لا يسقط عنه، بل يجب أن يحد مهما حسنت توبته بالإجماع واحتج الحنفية على أن حكم الاستثناء مختص بالجملة الأخيرة بوجوه.

ص: 213

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(أحدها) أن الاستثناء من الاستثناء يختص بالجملة الآخيرة، فكذا في جميع الصور طرداً للباب.

(ثانيها) أن المقتضى لعموم الجمل المتقدمة قائم، والمعارض وهة الاستثناء يكفي في تصحيحه تعليقه بجملة واحدة، وهي الأخيرة، فقط.

(ثالثها) أن الاستثناء لو رجع إلى كل الجمل المتقدمة لوجب أنه إذا تاب أن لا يجلد، وهذا باطل بالإجماع، فوجب أن يختص الاستثناء بلجملة الأخيرة.

واحتج الأحناف على مذهبهم في المسألة بوجوه من الأخبار والأحاديث الشريفة.

(أحدها) ما روى أبن عباس رضي الله عنهما في قصة هلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجلد هلال، وتطل شهادته في المسلمين) فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وقوع الجلد به يبطل شهادته عن غير شرط التوبة في قبولها.

(وثانيها) أن قوله عليه السلام (المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدود في قذف) ولم يشترط فيه وجود التوبة منه.

(وثالثها) ما روى عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز شهادة محدود في الإسلام) .

المالكية، والحنابلة، والشافعية - قالوا: تقبل شهادة المحدود في قذف إذا تاب وحسنت توبته، والمراد بتوبته الموجبة لقبول شهادته، أن يكذب نفسه في قذف. وهل يعتبر فيه إصلاح العمل أم لا؟

وقول يتعتبر لقوله تعالى {إلا الذين تابوا} وقيل: لا. لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لابي بكرة: تب أقبل شهادتك.

وقد احتجوا على مذهبهم، بأن شهادة المحدود في قذف مقبولة بوجوه:

(أحدها) قوله عليه الصلاة والسلام: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) ومن لا ذنب له مقبول الشهادة، فالتائب يجب أن يكون أيضاً مقبول الشهادة.

(وثانيها) أن الكافر يقذف فيتوب عن الكفر، ويدخل الإيمان، فتقبل شهادته بالإجماع، فالقاذف المسلم إذا تاب عن القذف، وجب أن تقبل شهادته، لأن القذف مع الإسلام أهون حالاً من القذف مع الكفر فإن قيل: المسلمون لا يألمون بسبب الكفار، لأنهم شهروا بعداوتهم، والطعن فيهم بالباطل، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر، من الشين والشنأن، وأيضاً فالتائب من الكفر لا يجب عليه الحد والتائب من القذف لا يسقط عنه الحد.

قلنا: هذا الفرق ملغى بقوله عليه الصلاة والسلام (أنبئهم أن لهم ما للمسلمين، عليهم ما على المسلمين) .

ص: 214

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(وثالثها) أجمعنا على أن التائب عن الكفر، والقتل، والزنا، والشرب، والسرقة، مقبول الشهادة. فكذا التائب عن القذف لأن هذه الكبيرة ليست أكبر من نفس الزنا. (ورابعها) أن ابا حنيفة رحمه الله تعالى يقبل شهادته إذا تاب قبل إقامة الحد عليه، مع أن الحد حق المقذوف، فلا يزول بالتوبة، فلأن تقبل شهادته إذا تاب بعد إقامة الحد عليه. وقد حسنت حالته، وزال اسم الفسق عنه كان أولى.

(وخامسها) أن قوله تعالى {إلا الذين تابوا} استثناء مذكور عقيب جمل، فوجب عوده إليها كلها، ويدل عليه أمور.

(أحدها) أجمعنا على أنه لو قال: عبده حر وامرأته طالق إن شاء الله، فإنه يرجع الاستثناء إلى الجميع فكذا فيما نحن فيه.

(وثانيها) أن الواو للجمع المطلق فقوله تعالى {فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابداً، وأولئك هم الفاسقون} صار الجمع كأنه ذكر معاً لا تقدم للبعض على البعض، فلما دخل عليه الاستثناء لم يكن رجوع الاستثناء إلى بعضها اولى من رجوعه إلى الباقي، إذ لم يكن لبعضها على بعض تقدم في المعنى البتة، فوجب رجوعه إلى الكل، ونظيره على قول أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى:{إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} فإن فاء التعقيب ما دخلت على غسل الوجه، بل على مجموع هذه الأمور من حيث أن الواو لاتفيد الترتيب، فكذا ههنا كلمة إلا ما دخلت على واحد بعينه لأن حرف الواو لا يفيد الترتيبن بل دخلت على المجموع.

(وثالثها) أن قوله تعالى: {وأولئك هم الفاسقون} عقيب قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً يدل على أن العلة في عدم قبول تلك الشهادة كونه فاسقاً، لات ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، لا سيما إذا كان الوصف مناسباً، وكونه فاسقاً يناسب ألا يكون مقبول الشهادة، إذا ثبت أن العلة لرد الشهادة ليست إلا كونه فاسقاً، ودل الاستثناء على زوال الفسق، فقد زالت العلمة فوجب أن يزول الحكم لزوال العلة.

(ورابعها) أن مثل هذا الاستثناء موجود في القرآن الكريم، قال الله تعالى:{إنما جزاء الذين يحربون الله ورسوله} إلى قوله تعالى: {إلا الذين تابوا} ولا خلاف أن هذا الاستثناء إلى ما تقدم من أول الاية، وأن التوبة حاصلة لهؤلاء جميعاً.

وكذلك قوله تعالى: {لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى} إلى قوله تعالى: {فم تجدوا ماء فتيمموا} وصار التيمم لمن وجب عليه الاغتسال، كما أنه مشروع لمن وجب عليه الوضوء. والله تعالى أعلم.

كيفية التوبة عن القذف

الشافعية - قالوا: إن التوبة عن القذف تكون بإكذابه نفسه، واختلف أصحابه في معناه. فقال

ص: 215

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بعضهم: يقول كذبت قيما قلتت فلا أعود لمثله وقال أو إسحاق: لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقاً فيكون قوله كذبت كذباً، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية اخرى، وإنما يقول القاذف بالملأ ندمتم على ما قلت، ورجعت عنه ولا أعود إليه وأما قوله تعالى:{فإن الله غفور رحيم} فالمعنى أنه لكونه غفوراً رحيماً يقبل التوبة، وهذا يدل على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً، إذ لو كان واجباً لما كان في قبول غفوراً رحيماً، لأنه إذا كان واجباً فإنما يقبله خوفاً وقهراً، لعلمه بأنه لو لم يقبله لصار سفيهاً، ولخرج عن حد الإلهية) .

-

ص: 216