الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الأول
حد شرب الخمر
أما حد شرب الخمر، فجمهور الأئمة والعلماء على أنه حد. وبعضهم قال: إنه من باب التعزير.
ومع ذلك فقد اختلفوا في مقداره:
المالكية، والحنفية، والحنابلة - يقولون: إنه ثمانون جلدة، لأن عمر رضي الله تعالى عنه قدره بثمانين جلدة، ووافقه عليه الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين.
كتاب الأشربة
الأشربة جمع شراب بمعنى مشروب - والشروب هو المولع بالشراب المدمن عليه. وشربها من كبائر المحرمات. بل هي أم الكبائر كما قَالَ سيدنا عمر للخطاب. وسيدنا عثمان بن عفان رضي اللَّه تعالى عنهما وكان تحريمها في السنة الثانية من الهجرة بعد غزوة أحد.
والأصل في تحريمها كما ذكره المفسرون: نزل في الخمر أربع آيات، نزل بمكة قوله تعالى. {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً} فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال، ثم إن سيدنا عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل، ونفراً من الصحابة قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل ومسلبة للمال. فنزل قوله تعالى: {ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} الآية. فشربها قوم وتركها آخرون. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف جماعة فشربوا وسكروا، فقام بعضهم يصلي فقرأ:{قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون} فنزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} ، فقل من يشربها. ثم دعا عثمان بن عفان مالك جماعة من الأنصار، فلما سكروا منها تخاصموا وتضاربوا فقال عمر: اللَّهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزل قوله تعالى:{إنما الخمر والميسر} إلى قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} فقال عنمر: انتهينا يا رب.
والحكمة في تحريم الخمر على هذا الترتيب أن اللَّه تعالى علو أن القوم ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيراً، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم، فكان من الحكمة أن يحرمها بالتدريج والرفق.
وذكر بعض العلماء أن آية البقرة تدل على تحريم الخمر من ثلاثة وجوه.
الشافعية - يقولون: إنه أربعون جلدة، لنه هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد روى مسلم عن أنس رضي الله عنه "كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد، والنعال أربعين".
ويكفي هذا الحد ولو تكرر منه الشرب.
أما ما فعله سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فقد كان من باب التعزير، حيث رأى أن الخمرة قد فشت في بعض الجهات، فشدد العقوبة لزجر الشاربين.
-
الأول: أن الآية دالة على أن الخمر مشتملة على الإثم، والإثم حرام لقوله تعالى:{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق} فكان مجموع هاتين الآيتين دليلاً على تحريم الخمر.
الثاني: أن الإثم قد يراد به العقاب، وقد يراد ما يستحق به العقاب من الذنوب، وأيهما كان فلا يصح أن يوصف به إلا المحرم.
الثالث: أنه تعالى قَالَ: {وإثمهما أكبرمن نفعهما} صرح برجحان الإثم والعقاب، وذلك يوجب التحريم.
والخمر من أفحش الذنوب. وأعظمها خطراً على المجتمع الإنساني كله، بذبك حرمها الشارع، وشدد في تحريمها وأنزل فيها عدة أحكام عالج فيها حالة العرب التي كانت تدمن الخمر، وتعدها من علامات الشهامة والمروءة ثم أنزل فيها آية التحريم {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} فوصف اللَّه تعالى الخمر بأنه رجس: أي قذر تنفر منه العقول السليمة، وهو لفظ يدل على منها القبح والخبث، والميسر، هو قمارهم في الجذور، والأنصاب هي ألهتهم التي يعبدونها، والأزلام سهام مكتوب عليها شر وخير، وقد قرن اللَّه تعالى الخمر بالميسر والأنصاب والأزلام وهي من أعمال الوثنية والشرك فكأنه قريب من هذه المنكرات، وقد وصف اللَّه هذه الأقسام الأربعة بوصفين: الأول قوله {رجس} ، وهو كل ما استقذر من عمل، والثاني قوله {من عمل الشيطان} وه مكمل لكونه رجساً لأن الشيطان نجس خبيث لأنه كافر {إنما المشركون نجس} والخبيث لا يدعوا إلا إلى خبيث.
وقد روى ابن ماجة عن ابي هُرَيْرَة رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مدمن الخمر كعابد وثن) . وقال صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر خرج نور الإيمان من جوفه) . وجعلها اللَّه تعالى وأخواتها من عمل الشيطان لما ينشأ عنها من الشرور والأضرار، وما يترتب عليها من الكبائر والمصائب، وكل ما أضيف إلى الشيطان فالمراد به المبالغة في كمال قبحه قَالَ تعالى:{فوكزه موسى فقضى عليه قَالَ هذا من عمل الشيطان} بل وصف الرَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الخمر بأنها أم الخبائث، فقال صلى الله عليه وسلم:(الخمر أم الخبائث) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وروى الطبراني في الكبير من حديث بن عمر رضي الله عنهما (الخمر أم الخبائث، وأكبر الكبائر، ومن شرب الخمر ترك الصلاة، ووقع على أمه، وعمته) .
وقد جعل اللَّه تعالى النهي عنها بلفظ الإجتناب فقال {فاجتنبوه} أي كونوا جانباً منه وهو أبلغ من لفظ التحريم والترك لأنه يفيد الأمر بأن يكون التارك في جانب بعيد عن الشيء، لخطورته وفظاعته، أي ابتعدوا عنه، وخذوا حذركم منه فليعتبر أولئك الفسقة الذين يقولون: إنما الخمر لم ينزل فيها نهي في القرآن، أي لم يصرح القرآن بأنها حرام، والحق أنه نهى عنها بأبلغ عبارة التحريم، ثم جعل اللَّه تعالى اجتنابها والبعد عنها يوصل للفلاح، ويقرب إلى الفوز والسعادة الدنيوية والآخروية، فقال تعالى {لعلكم تفلحون} وفيه إشارة أن شربها يقرب من الخسران والخيبة، وفساد الدين والدنيا معاً، وضياع الصحة والعقل والمال.
ولما أمر اللَّه تعالى باجتناب هذه الموبقات الأربع ذكر نوعين من أكبر المفاسد الخطرة في الخمر والميسر، الأول: ما يتعلق بالدنيا وهو قوله تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} أما في الخمر فلأن الغالب أن من يقبل على شرب الخمر، إنما يشربها مع أصحابه ويكون قصده من ذلك الشرب أن يستأنس برفقائه، ويسر بمحادثتهم ومكالمتهم، فأن غرضه من ذلك الإجتماع تأكيد الإلفة والمحبة، إلا أنه ينقلب في كثير من الأحيان إلى ضد مقصوده لأن الخمر يزيل العقل، وإذا ذهب العقل استولت الشهوة والغضب من غير مدافعة العقل، وعند استيلائهما تحصل المنازعة والمشاحنة بين المجتمعين، وربما أدت إلى الضرب والقتل والمشافهة بالفحش، وذلك يورث أشد العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع الواحد، والميسر، يجر صاحبه إلى الفقر والمسكنة حتى يصل به الحال أن يقامر على جسده وأهله، وولده بعد فقدان ماله فيصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا يلاعبونه.
فظهر أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إثارة العداوة، والبغضاء بين الناس، وتقطيع أوصال المجتمع، ولاشك أن العداوة والبغضاء تفضي إلى أحوال مذمومة، من الهرج والمرج والفتن، وفساد المجتمع الإنساني كله.
النوع الثاني - المفاسد المتعلقة بالدين، وإليه الإشارة بقوله عز وجل {ويصدكم عن ذكر اللَّه وعن الصلاة} وهما روح الدين وعماده.
أما أن الخمر تمنع عن ذكر اللَّه فظاهر لأن شرب الخمر يورث الطرب، واللذة الجسمانية، والنفس إذا استغرقت في الملذات، غفلت عن ذكر اللَّه تعالى وأعرضت عن طاعته عز وجل.
وأما الميسر، فلأن إستغراق الشخص في العب مانع من أن يخطر بباله شيء سواه، وهي تصد اللاعب عن ذكر اللَّه، وتصرفه عن الصلاة، وتنسيه طاعة مولاه.
ولما بين اللَّه تعالى اشتمال شرب الخمر ولعب الميسر على هذه المفاسد الخطيرة في الدنيا
والدين. قَالَ تعالى: {فهل أنتم منتهون} هذا اللفظ وإن كن استفهاماً في الظاهر، إلا أن المراد منه هو النهي في الحقيق، وإنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى ذم هذه الأفعال وبين قبحها لعباده، فلما استفهم بعد ذلك عن تركها، لم يسع المخاطب إلا الإقرار باترك. فكأنه قيل له: أتفعله بعد ما قد ظهر من قبحه؟ فصار قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} جارياً مجرى تنصيص اللَّه تعالى على وجوب الإنتهاء، مقروناً بإقرار المكلف بوجوب الإنتهاء بدافع من تفسه.
واعلم أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر من وجوه:
أحدها: تصدير الجملة بلفظ {إنما} وذلك لأنه للحصر، فكأنه تعالى قَالَ: لا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا هذه الأربعة.
وثانيها: أنه تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأوثان، حتى أصبح مثله، كما قَالَ صلى الله عليه وسلم:(شارب الخمر كعابد الوثن) .
وثالثها: أنه تعالى أمر بالإجتناب، وظاهر الأمر الوجوب.
ورابعها: أنه تعالى قَالَ: {لعلكم تفلحون} جعل الإجتناب من الفلاح، وإذا كان الإجتناب فلاحاً كان الإرتكاب خيبة.
وخامسها: أنه شرح أنواع المفاسد المتولدة عنها في الدنيا والدين، وهي وقوع التعالدي، والتباغض بين الخلق وحصول الإعراض عن ذكر اللَّه تعالى وعن الصلاة.
وسادسها: قوله تعالى {فهل أنتم منتهون} وهو من أبلغ ما ينتها به، كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيها من أنواع المفاسد والقبائح، فهل أنتم منتهون من هذه الصوارف، أم أتنم على ما كنتم عليه حين لم توعظوا بهذه المواعظ.
وسابعها: أنه تعالى قَالَ بعد ذلك {وأطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول واحذروا} فظاهره أن المراد، وأطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول فيما تقدم ذكره من أمرهما بالإجتتناب عن الخمر والميسر، وقوله {واحذروا} أي احذروا عن مخالفتهما في هذه التكاليف.
وثامنها: قوله تعالى: {فإن تويلتم فاعلموا إنما على رسولنا البلاغ المبين} وهذا تهديد عظيم ووعيد شديد في حق من خالف هذا التكليف وأعرض فيه عن حكم اللَّه عز وجل وبيانه - يعني أنكم إذا توليتم فالحجة قائمة عليكم، والرسول قد خرج عن عهدة التبليغ، والإعزار والإنذار، فأما ما
وراء ذلك من عقاب من خالف هذا التكليف وأعرض عنه فذاك إلى اللَّه تعالى. ولا شك أنه تهديد شديد فصار كل واحد من هذه الوجوه الثمانية، دليلاً قاطعاً وبرهناً ساطعاً في تحريم الخمر.
حد الشرب
اتفق الأئمة على أن الذي يوجب هذا الحد، إنما هو شرب الخمر، دون إكراه، قليلها، وكثيرها.
واتفق الأئمة: على أنه يثبت الحد بشهادة عدلين، أو الإقرار بذلك.
واتفق الأئمة: على أنه لاتقبل شهادة النساء وحدهن، ولا مع الرجال في إثبات حد الشرب. لأن فيها شبهة البدلية، وتهمة الضلال والنسان. فالبينة تكون ناقصة، والأصل براءة الذمة.
واتفق الأئمة الأربعة: على أن الإقرار في شرب الخمر يثبت الحد، ولو مرة واحدة.
وقال أبو يوسف من الحنفية: يشترط أن يكون الإقرار مرتين، ويقول: شربت الخمر، أو شربت ما يسكر، ولا يحد باليمين المردودة في الأصح.
واختلفوا في تعريف السكران.
الحنفية قالوا: السكران هو الذي لا يعرف منطقاً لا قليلاً ولا كثيراً، ولا يعرف الأرض من السماء ولا يعرف المرأة من الرجل، فيزول تمييزه بالكلية، ويصبح بحالة يدرك الأشخاص ولكن يجهل الأوصاف.
المالكية، والشافعية، والحنبابلة، والصاحبان من الحنفية - قالوا: السكران هو الذي يهذي ويخلط كلامه ويستوي عنده الحسن والقبيح، لأنه هو السكران في العرف.
واتفق الأئمة الأربعة: على أن الخمر نجسة، وعلى تحريم بيعها على المسلمين، وإهدار ماليتها، فمن كسر دن خمر عند مسلم، لا يعاقب بالضمان لقول رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(إن الذي حرم شربها حرم بيعها، وأكل ثمنها) فهي ليست بمال، فلا يصح دفعها مهراً، ولا أجراً.
واتفق الأئمة الأربعة: على أن عصير العنب إذا اشتد، وغلى، وقذف بالزبد، فهو خمر من غير خلاف بينهم على حرمة شربه، وإقامة الحد على شاربه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حكم شرب الأنبذة
واختلف العلماء في حكم شرب الأنبذة.
الحنفية قالوا: الحد في غير الخمر من أنواع الأنبذة إنما يتعلق بالسكر فقط، فنقيع التمر والزبيب إذا غلي واشتد كان محرماً قليله وكثيره، ويسمى نبيذاً لا خمراً، فإن أسكر ففي شربه الحد، ويكون نجساً نجاسة مغلظة، لثبوتها باليل القطعي، قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(الخمر من هاتين الشجرتين، وأشار إلى الكرم، والنخلة) فإن طبختا، أو كانا في طبيخ حل منهما ما يغلب على ظن الشارب منه أنه لا يسكر، من غير طرب. فإن اشتد غليانهما حرم الشرب منهما.
أما نبيذ الحنطة، والتين، والأرز، والشعير، والذرة، والعسل. فإنه حلال عند الحنفية. نقيعها، ومطبوخها، وإنما يحرم المسكر منه، ويحد فيه إذا أسكر كثيره، وكذا المتخذ من الألبان إذا اشتد.
المالكية، والشافعية، والحنابلة - قالوا: كل شراب يسكر كثيره فشرب قليله حرام، ويسمى خمراً، وفي شربه الحد سواء أكان من عنب، أو زبيب، أو حنطة، أو شعير، أو تين، أو ذرة، أو أرز، أو عسل، أو لبن، ونحو ذلك. نيئاً كان أو مطبوخاً. لأن اسم الخمر لغة - ما خامر العقل - وروي أن الرَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(كل مسكر خمر) فاخمر حقيقة لغوية في عصير العنب المشتد، وحقيقة شرعية في غيره مما يسكر من الأشربة، أو قياس في اللغة - وروي في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه أنه قَالَ:(نزل تحريم الخمر وهي خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر ما خمر العقل) متفق عليه ووجه الاستدلال به من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن سيدنا عمر رضي الله عنه أخبر أن الخمر حرمت يوم حرمت، وهي تتخذ من الحنطة والشعير، كما أنها تتخذ من العنب، والتمر، وهذا يدل على أنهم يسمونها كلها خمراً.
وثانيها: أنه قَالَ: حرمت الخمر يوم حرمت، وهي تتخذ من هذه الأشياء الخمسة وهذا كالتصريح بأن الخمر يتناول تحريم هذه الأنواع الخمسة.
وثالثها: أن عمر رضي الله عنه ألحق بها كل ما خامر العقل من شراب، ولا شك أن عمر رضي الله عنه كان عالماً باللغة، وروايته أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل بتغيره.
واحتجبوا ثانياً - بما روى أبو داود عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إن من العنب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً، وإن من البر خمراً، وإن من الشعير خمراً) والاستدلال به من وجهين:
أحدهما: أن هذا الحديث صريح في أن هذه الأشياء داخلة تحت اسم الخمر، فتكون داخلة تحت الآية على تحريم الخمر.
وثانيهما: أنه ليس مقصود الشارع تعليم اللغات، فوجب أن يكون مراده من ذلك بيان أن الحكم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثابت في الخمر ثابت فيها. والحكم المشهور الذي اختص به الخمر هو حرمة الشرب فوجب أن يكون ثابتاً في هذه الأشربة المذكورة.
قال الخطابي رحمه الله: وتخصيص الخمر بهذه الأشياء الخمسة ليس لأجل أن الخمر لا يكون إلا في الأشياء الخمسة بأعيانها، وإنما جرى ذكرها خصوصاً لكونها معهودة في ذلك الزمان، فكل ما يكون في معناه من ذرة، أو سلف، أو عصارة شجرة. فحكمها حكم هذه الخمسة. كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها.
وحجتهم الثالثة:
روى أبو داود أيضاً عن نافع عن ابن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام) .
قَالَ الإمام الخطابي: قوله عليه الصلاة والسلام، (كل مسكر خمر) . دل على وجهين:
أحدهما: أن الخمر اسم لكل ما وجد منه السكر من الأشربة كلها، والمقصود منه أن الآية لما دلت على تحريم الخمر كان مسمى مجهولاً للقوم، أو يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة.
وحجتهم الرابعة:
روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام) .
والبتع شراب يتخذ من العسل، وفيه إبطال كل تأويل يذكره أصحاب تحليل الأنبذة. وإفساد قول من قَالَ: إن القليل من المسكر مباح لأنه عليه السلام سأل عن نوع واحد من الأنبذة. فأجاب عنه بتحريم الجنس، فيدخل فيه القليل والكثير منها، ولو كان هناك تفصيل في شيء من أنواعه ومقاديره لذكره صلى الله عليه وسلم ولم يهمله.
وحجتهم الخامسة: ما رواه أبو داود عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) ورواه أحمد وابن ماجة، والدارقطني وصححه عن ابن عمر، وكذا أحمد والنسائي من حديث عمرو.
وحجتهم السادسة: ما روي عن القاسم عن أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه تعالى عنهما قَالَت: سَمِعْت رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مسكر حرام. وما أسكر منه الفرق، فملء الكف منه حرام) رواه أحمد، والفرق مكيال يسع ستة عشر رطلاً، وفي رواية الإمام أحمد في الأشربة بلفظ (فالأوقية منه حرام) وذكر ملء الكف والأوقية في الحديث على سبيل التمثيل، وإلا فهو شامل للقطرة الواحدة. لما روي عن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:(حرمت الخمر قليلها وكثيرها. والسكر من كل شراب) أخرجه النسائي.
وحجتهم السابعة: ما رواه أبو داود عن شهر بن حوشب عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: (نهى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر) والمفتر كل شراب يورث الفتور في الجسم والخمول في الأعضاء، وهذا ل شك متناول لجميع أنواع الأشربة المسكرة والمفترة لأعضاء الجسم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وما رواه النسائي والدارقطني عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره) .
وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد سكر من نبيذ تمر فجلده أي أقام عليه حد الخمر، فهذا دليل صريح في أن نبيذ الخمر إذا أسكر أخذ حكم الخمر المصنوع من العنب.
وما روي عن ابن هُرَيْرَة رضي الله عنه عن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم (الخمر من هاتين الشجرتين النخل) رواه الجماعة إلا البخاري وما روي عن انس رضي اللَّه تعالى عنه قَالَ: (إن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر والتمر) متفق عليه.
وما روي عن جابر رضي الله عنه (أن رجلأمن جيشان، وجيشان من اليمن - سأل الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر، فقال: أمسكر هو؟ قال: نعم. فقال: كل مسكر حرام. إن على اللَّه عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال - قالوا: يارسول الله وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار، رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، فهذا يدل على تحريم كل مسكر ولو كان من غير عصير العنب فإن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كل مسكر حرام) ولم يذكر نوع الشراب ولم يحدده. فهذه الأحاديث التي ذكرناها وغيرها ممن لم نذكره دالة على أن كل مسكر فهو حرام.
النوع الثاني من الأدلة على أن كل مسكر حرام سواء أكان من عصير العنب أم من غيره من أنواع الأنبذة، التمسك بكلام أهل اللغة. فقد قالوا: إن الخمر ما خامر العقل - أي غطاه وخالطه فلم يتركه على حاله - والعقل هو الجوهرة التي كرم اللَّه بها بني لآدم على جميع خلقه، وسلطه بسببها على ما في الأرض والتمتع بها، والتمكن من الصناعات وغيرها. وقوة الإدراك بها العلوم والمعارف. ولشرفها ومكانتها حرم اللَّه تعالى الخمر التي تغطيها وتخامرها، قَالَ ابن الأنباري: سميت خمراً لأنها تخامر العقل، أي تخالطه. كما سميت مسكراً لأنها تسكر العقل، أي تحجزه، وتمنع وصول نوره إلى الأعضاء.
قَالَ الراغب في كتابه "مفردات القرآن". سمي الخمر لكونه خامراً للعقل، أي ساتراً له. وهو عند بعض الناس اسم لكل مسكر. وعند بعضهم للمتخذ من العنب خاصة. وعند بعضهم المتخذ من العنب والتمر، وعند بعضهم لغير المطبوخ، رجح أنه اسم لكل شيء ستر العقل. وكذا قَالَ غير واحد من أهل اللغة، منهم الدينوري، والجوهري.
قَالَ صاحب الهداية من الحنفية: الخمر ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد، وهو المعروف عند أهل اللغة، وأهل العلم. قَالَ: وقيل هو اسم لكل مسكر لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر) ولأنه من مخامرة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
العقل، وذلك موجود في كل مسكر، قَالَ: ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالها فيه، ولأن تحريم الخمر قطعي، وتحريم ماعدا المتخذ من العنب ظني، قَالَ: وإنما يسمى الخمر خمراً لتخمره، لا لمخامرة العقل، قال: ولا ينافي ذلك كون الاسم خاصاً فيه كما في النجم فإنه مشتق من الطهور ثم هو خاص بالثرايا، اه.
قَالَ في الفتح والجواب عن الحجة الأولى ثبوت النقل عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمراً، وقال الخطابي: زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمراً، عرب فصحاء فلو لم يكن هذا الاسم صحيحاً لما أطلقوه.
وقال ابن عبد البر: قَالَ الكوفيون: الخمر من العنب لقوله تعالى: {أعصر خمراً} فقالوا: فدل على أن الخمر هو ما يعصر لا ما ينبذ، قَالَ: ولا دليل فيه على الحصر. قَالَ أهل المدينة وسائر الحجازيين، وأهل الحديث كل مسكر خمر، وحكمه حكم ما اتخذ نم العنب، فيكفر مستلها، وتصير نجسة، ولا قيمة لها في حق المسلم، ولا يجوز بيعها ولا الانتفاع بها.
وقال القرطبي: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها وكثرتها يبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب، وما كانت من غيره فلا تسمى خمراً، ولا يتناولها اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب، والسنة الصحيحة، وللصحابة الفصحاء، لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كا مسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب، وبين ما يتخذ من غيره بل سووا بينهما، ولم يتوقفوا، ولم يشكل عليهم شيء من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من عصير العنب، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن الكريم، فلو كان عندهم فيه تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستكشفوا الأمر، فلما لم يفعلوا ذلك، بل بادروا إلى إتلاف الجميع علمنا أنهم فهموا التحريم، ثم انضاف إلى ذلك خطبة عمر بما يوافق ذلك، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.
وقد ذهب إلى التعميم الإمام علي كرم اللَّه وجهه، وسيدنا عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن عمر، وأبو موسى الأشعري، وأبو هُرَيْرَة، وابن عباس، والسشيدة عائشة رضوان اللَّه عليهم أجمعين. وذهب إلى التعميم من التابعين، الإمام ابم المسيب، وعروة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وأخرون، وهو قول مالك، والأوزاعي، والثوري، وابن مبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وعامة أهل الحديث رحمهم اللَّه تعالى.
قَالَ في الفتح: ويمكن الجمع بين القولين بأن من أطلق ذلك على غير المتخذ من العنب حقيقة يكون أراد الحقيقة الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقة اللغوية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد أجاب بهذا ابن عبد البر، وقال: إن الحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعي دون اللغوي.
وقد تقرر أن نزول القرآن بتحريم الخمر وهي من البسر ذاك، فيلزم من قَالَ: إن الخمر حقيقة في ماء العنب، مجاز في غيره، أن يكون إطلق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه، لأن الصحابة لما بلغهم بلغتهم تحريم الخمر أراقوا كل ما يطلق عليه لفظ الخمر حقيقة ومجازاً، وهو ذلك فصح أن الكل خمر حقيقة، وانفكاك عن ذلك.
وذكر الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره لآية تحريم الخمر ما نصه: (واعلم أن من أنصف، وترك الاعتساف علم أن هذه الآية نص صريح في أن كل مسكر حرام، وذلك لأنه تعالى لما ذكر قوله:{أنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر اللَّه وعن الصلاة} ، قَالَ بعده:{فهل أنتم منتهون} فرتب النهي عن شرب الخمر على كون الخمر مشتملة على تلك المفاسد، ومن المعلوم في بدائه العقول أن تلك المفاسد إنما تولدت من كونها مؤثرة في السكر، وهذا يفيد القطع بأن القطع علة قوله {فهل أنتم منتهون} هي كون الخمر مؤثرة في الإسكار، وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن كل مسكر حرام، ومن أحاط عقله بهذا التقدير، وبقي مصراً على قوله، فليس لعناده علاج.
الحنيفية - احتجوا على قولهم: بأن نبيذ الحنطة، والتين، والأرز، والشعير، والذرة، والعسل وغيره، حلال، نقيعاً ومطبوخاً إذا لم يسكر، ولا يحد شاربه حتى يسكر منه، ولا يكفر مستحله مثل الخمر، واحتجوا على رأيهم هذا بأدلة.
أحدها - قوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً} فقد من اللَّه تعالى على عباده باتخاذ السكر من النخيل والأعناب، وما نحن فيه سكر ورزق حسن، فوجب أن يكون مباحاً لأن المنة لا تكون إلا بالمباح.
ثانيها - ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أتى السقاية عام حجة الوداع، فاستند إليها وقال:(اسقوني، فقال العباس: ألا أسقيك مما نبذ في بيوتنا؟ فقثال: ما تقي الناس، فجاءه بقدح من النبيذ، فشمه فقطب وجهه ورده فقال العباس: يَا رَسُولَ اللَّهِ أفسدت على أهل مكة شرابهم، فقال الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ردوا علي القدح، فردوه عليه، فدعا بماء زمزم، وصب عليه وشرب، وقال: إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا غلمتها بالماء) .
ووجه الاستدلال بهذا الحديث، أن التقطيب لا يكون إلا من التغير الشديد، ولأن المزج بالماء كان لقطع هذه الشدة، وشربه لها دليل حلها بالنص.
ثالثها - التمسك بآثار الصحابة رضوان اللَّه علهيم، وأن اسم الخمر المحرم شربه إنما هو من عصير العنب والتمر إذا غلي واشتد وقذف بالربد وهو محرم بالدليل القطعي بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، والتواتر وبحكم بفسق من استحل ما عدا خمر الشجرتين وتحريم سائر المسكرات بالسنة والقياس فقط.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والراجح من هذه الأقوال:
أن كل شراب يسكر كثيره، فشرب قليله حرام، ويسمى خمراً، وفي شربه الحد سواء أكان الشراب من عصير العنب، أو التمر، أو الزبيب، أو الحنطة، أو الشعير، أو التين، أو الذرة، أو الأرز، أو العسل، أو اللبن، أو غيرها، نيئاً كان أو مطبوخاً، وسواء أتعاطاه شراباً او غيره. وسواء جامده، أو مائعه، وسواء تناوله معتقداً تحريمه، أم إباحته. لضغف أدلة الإباحة. وذلك القول هو المعول عليه عند أكثر العلماء، خصوصاً في هذا الزمان الذي فسدت فيه النفوس - وضعف الوازع الديني وكثرت فيه أنواع المشروبات الروحية المسكرة وسموها بأسماء براقة. مثل "البيرة" ومثل "البوظة""القات" ومثل "التنكة" ومثل "العرقي" وغير ذلك مما يستحله أهل هذا العصر وهو حرام لأن كثيره يسكر، وهو وخمرٍ، وصدق رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حينما أخبر بما سيحدث في هذا الزمان حيث قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كما روي عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يقول:(ليشربن أناس من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه) رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، وقال: تشرب مكان تستحل.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أنه قَالَ: (قال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لاتذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر، ويسمونها بغير اسمها) رواه ابن ماجة رحمه اللَّه تعالى.
وعن ابن محيريز عن رجل من أصحاب الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يشرب ناس من أمتي الخمر، ويسمونها بغير أسمائها) رواه النسائي رحمه اللَّه تعالى.
فهذه الأحاديث وغيرها من الأدلة القاطعة بصدق نبوة الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه لأنه أخبر بما يحدث في المستقبل، وهو لا ينطق عن الهوى. وظهر ما أخبر عنه الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من أنواع المشروبات في هذا الزمان.
حكم شرب العصير قبل أن يشتد
اختلف العلماء في حكم العصير. إذا مضى عليه ثلاثة أيام وهو نئ ولم يغلي ولم يشتد ويقذف بالزبد.
الحنفية، والمالكية، والشافعية - قالوا: إذا مضى على العصير لاثلاثة أيام أو أقل. ولم يغلي، ولم يشتد. ولم يقذف بالزبد، لا يصير خمراً، وحل شربه إنه في هذه الحالة يكون غير مسكر.
وحجتهم في ذلك ما روي عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: (كنا ننبذ لرَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في سقاء يوكى (يوكى: أي يشد بالوكاء، وهو الرباط) . وله عزلاء (وله عزلاء: بفتح العين المهملة وإسكان الراء: وهو الثقب الذي يكون في أسفل المزادة والقربى) . ننبذه غدوة فيشربه عشياً، وننبذه عشياً فيشربه غدوة) رواه الإمام
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أحمد ومسلم، وأبو داود، والإمام الترمذي رحمهم اللَّه تعالى.
وما روي عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما أنه قَالَ: (كان رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ينبذ له أول الليل، فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد، والليلة الأخرى، والغد إلى العصر، فإذا بقي شيء سقاه الخدم، أو أمر فصب) رواه الإمام أحمد، ومسلم رحمهم اللَّه تعالى.
وفي رواية (كان ينقع له الزبيب فيشربه اليوم والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فسقى الخادم، أو يهراق) رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، ومعنى (فيسقى الخادم) محمول على أن النبيذ لم يكن في هذه الحالة قد بلغ إلى حد السكر، لأن الخادم لا يجوز أن يسقى الشراب الذي يسكره، كما لا يجوز له شربه، بل يجب إراقته، بعد عصر اليوم الثالث لأنه يتغير ويصير مسكراً، فيحرم شربه، ويكون نجساً فيراق. وأخرج ابن أبي شيبة، والنسائي من طريق سعيد بن المسيب والشعبين والنخعي، (اشربوا العصير ما لم يغلي) . وعن الحسن البصري رضي اللَّه تعالى عنه (اشربوا العصير ما لم يتغير) وهذا قول كثير من السلف: إن العصير يشرب مالم بيدو فيه التغير قبل مضي ثلاثة أيام، أما إذا ظهر فيه التغير فيحرم شربه، وعلامة ذلك أن يأخذ في الغليان، وهذا يختلف باختلاف نوع العصير، واختلاف الجو الذي يكون فيه، فإذا كان في منطقة حارة فإنه يتسرب إليه الفساد سريعاً، أما إذا كان في وقت الشتاء أو في منطقة باردة فإن الفساد لا يسرع إليه، فجواز شربه مقيد بعدم البدء بالغليان - أما إذا بدأ فيه الغليان فإنه يحرم.
الحنابلة - قالوا: إذا مضى على العصير ثلاثة أيام، يصير خمراً، ويحرم شربه ويجب إراقته، وإن لم يغل، ويشتد، ويقذف بالزبد. وذلك لنها إنما سميت خمراً لأنها تركت حتى اختمرت، أي تغير ريحها ولما روي عن ابي هُرَيْرَة رضي اللَّه تعالى عنه أنه قَالَ:(علمت أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء، ثم أتيته به، فإذا هو ينش، فقال: أضرب بهذا الحائط، فإن هذا الشراب من لا يؤمن باللَّه واليوم الأخر) رواه أبو داود، والنسائي رحمهما اللَّه تعالى.
وبما روي عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما أنه قَالَ في العصير: (اشربه ما لم يأخذه شيطانه، قيل: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قَالَ: في ثلاث. حكاه أحمد وغيره. وأورد الشوكاني في نيل الأوطار وقوله (فتحينت فطره) أي انتظرته وقت فطره. وقوله (صنعته في دباء) أي في إناء قرع. وقوله (ينش) بفتح الياء وكسر النون، أي (غلي) يقال: نشت الخمر تنش نشيئاً إذا غلت. والحاصل أنه يجوز شرب الأنبذة ما دامت حلوة، ولم تأخذ في التغير، أما إذا اشتد النبيذ وأسرع إليه التغير في زمان الحر، حرم شربه، بإجماع الآراء
حكم العصير المغلي
الحنفية - قالوا: العصير إذا طبخ فذهب ثلثه، يسمى الطلاء، وإذا ذهب نصفه يسمى المنصف. وإن طبخ أدنى طبخ فالباذق - والكل حرام إذا غلي واشتد وقذف بالزبد، لأنه رقيق لذيذ، مطرب يجتمع
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفساق عليه، فيحرم شربه دفعاً لما يتعلق به من الفساد، أما إذا طبخ حتى إذا ذهب ثلثاه فهو حلال وإن اشتد إذا قصد به التقوى. وإن قصد به التلهي فهو حرام وذلك لما أخرجه النسائي عن طريق عبد اللَّه بن يزيد الخطمي قَالَ: كتب عمر: اطبخوا شرابكم حتى يذهب نصيب الشيطان اثنين، ولكم واحد، وصحح هذا الحافظ في الفتح.
وأخرج الإمام مالك رحمه الله في الموطأ من طريق محمود بن لبيد الأنصاري، أن عمر بن الخطاب حين قدم الشام شكا إليه أهل الشام وباء الأرض، وثقلها، وقالوا: لا يصلحنا إلا هذا الشراب. فقال عمر: اشربوا العسل، قالوا ما يصلحنا العسل، فقال رجل من أهل الأرض: هل لك أن تجعل من هذا الشراب شيئاً لا يسكر؟ فقال: نعم، فطبخوا حتى ذهب منه الثلثان، وبقي الثلث، فأتوا به عمر، فأدخل فيه إصعه ثم رفع يده فتبعها يتمطط، فقال: هذا الطلاء مثل طلاء الإبل، فأمرهم عمر أن يشربوه، وقال: اللَّهم إني لا أحل لهم شيئاً حرمته عليهم، وورد من طريق سعيد بن المسيب، أن عمر أحل من الشراب ما يطبخ ثلثاه، ويبقى ثلثه.
قَالَ في الفتح: وقد وافق عمر ومن ذكر معه على الحكم المذكور، أبو موسى، وأبو الدرداء، أخرجه النسائي عنهما. والإمام علي كرم اللَّه وجهه، وأبو أمامة، وخالد بن الوليد، وغيرهم، أخرجه ابن أبي شيبة، وغيره.
ومن التابعين ابن المسيب، والحسن، وعكرمة، ومن الفقهاء، الثوري والليث.
المالكية والشافعية، والحنابلة - قالوا: العصير المطبوخ يمتنع شربه إذا صار مسكراً، قليلاً أو كثيراً سواء غلي أم لا، لأنه يجوز أن يبلغ حد الإسكار، بأن يغلي، ثم يسكن غليانه بعد ذلك. فشرط تناوله عندهم ما لم يسكر.
فقد أخرج الإمام مالك بإسناد صحيح (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَالَ: إني وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شرب الطلاء، وإني سائل عما شرب، فإن كان يسكر جلدته، فجلده عمر الحد تاماً) وفي السياق حذف، والتقدير، فسأل عنه فوجده يسكر فجلده وأخرج سعيد بن منصور عنه نحوه.
وفي هذا رد على من احتج بأن عمر بن الخطاب جوز شراب المطبوخ إذا ذهب منه ثلثاه ولو أسكر. وقال أبو الليث السمرقندي: شارب المطبوخ إذا كان يسكر أعظم ذنباً من شارب الخمر، لأن شارب الخمر يشربها وهو عالم أنه عاص بشربها، وشارب المطبوخ يشرب المسكر ويراه حلالاً. وقد قام الإجماع على أن قليل الخمر وكثيره حرام، وثبت قوله صلى الله عليه وسلم (كل مسكر حرام) ومن استحل ما هو حرام بالإجماع كفر.
الشافعية والمالكية والهادوية - قالوا: يحرم شرب كل مسكر سواء كان من عصير أو نبيذ، ولا يجوز تناوله مطلقاً وإن قل ولم يسكر إذا كان في ذلك الجنس صلاحية الإسكار.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النهي عن تخليل الخمر
الحنفية - قالوا: إن الخمر خل الخمر حلال سواء تخللت، أو خللت لقوله صلى الله عليه وسلم (نعم الادم الخل مطلقاً) وقوله صلى الله عليه وسلم:(خير خلكم خل خمركم) ولأن التخليل يزيل الوصف المفسد ويثبت وصف الصلاحية، لأن فيه مصلحة قمع الصفراء والتغذي، ومصالح كثيرة، وإذا زال المفسد الموجب للحرمة حلت، كما إذا تخللت بنفسها، وإذا تخللت طهر الإناء أيضاً، لأن جميع ما فيه من أجزاء الخمر يتخلل، إلا ما كان منه خالياً عن الخل، فقيل يطهر تبعاً.
الشافعية - قالوا: إذا كان التخليل بالنقل من الشمس إلى الظل أو نحو ذلك فأصح وجه عندهم أنها تحل وتطهر.
المالكية - تروى عنهم ثلاث روايات أصحها أن التخليل حرام فلو خللها عصى وطهرت. وذلك لما روي عن أنس (أن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر يتخذ خلاً فقال: لا) رواه أحمد ومسلم وأبو داود رحمهما اللَّه وفيه دليل للجمهور على لأنه لا يجوز تخليل الخمر، ولا تطهر بالتخليل، وذلك بوضع شيء فيها.
حكم دردي الخمر
واختلف العلماء في حكم شرب (دردي) الخمر، وهو ما أسفل وعاء الخمر من عكر.
الشافعية - قالوا: يحرم شرب دردي الخمر، وإذا شرب يقام الحد عليه، وكذلك دردي باقي المسكرات ولا يحد بشربها إذا استهلكت فيه، وذلك بأكل خبز عجن دقيقه بها، لأن عين الخمر أكلتها النار، وبقي الخبز نجساً، ولا يحد بأكل معجون هي فيه، لاستهلاكها. ولا يأكل لحم طبخ بها، بخلاف مرقه إذا شربه، أو غمس فيه، أو صنع بها ثريداً فإنه يحد، لبقاء عينها، ولا يحد بحنقه بها، بأن أدخلها مع سائل في دبره.
ويحد بالسعوط، بأن أدخلها في أنفه، لأنه قد يطرب به، ولأنه يحصل الإفطار بهما للصائم أثناء صومه،
وقيل: لا يحد، إذا احتقن بها، أو أدخلها في أنفه، لأن الحد للزجر، ولا حاجة إليه هنا، فإن النفس لا يدعو إليه، وذكر البلقيني بأنه يحد في السعوط، دون الحقنة، لأنه قد يطرب منه، بخلاف الحقنة.
النفية - قالوا: يكره شرب دردي لاخمر، والامتشاط به، لأنه من أجزاء الخمر، ولا يحد شاربه، ما لم يسكره، لأنه ناقص، إذ الطباع السليمة تكرهه وتنبو عنه، وقليله لا يدعو إلى كثيره، فصار كغير الخمر، فلا يأخذ حكمه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حكم بيع الخمر
اتفق العلماء على أن الخمر يكفر مستحلها لثبوت حرمتها بدليل قطعي، وإجماع الأمة على حرمتها، وتواتر الأدلة. وأنها نجسة نجاسة مغلظة لثبوتها بالدليل القطعي، ولا قيمة لها في حق لامسلم، فلا يجوز له بيعها ولا يضمن غاصبها، ولا متلفها، لأن ذلك دليل عزتها، وتحريمها دليل إهانتها. وقد روي عن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:(إن الذي حرم شربها، حرم بيعها، وأكل ثمنها) وكذلك يحرم الانتفاع بها لنجستها، ولأن في الانتفاع بها تقريبها واللَّه عز وجل يقول.. {فاجتنبوه} .
وأفتى علماء الإسلام بأنه لا يجوز تمكين غير المسلمين من بيع الخمور ظاهراً في أمصار المسلمين وبلادهم. لأن إظهار بيع الخمر إظهار للفسق، فيمنعون من ذلك، نعم لهم أن يبيعوا الخمر بعضهم لبعض سراً، كبيع لحم الخنزير، لأنها أموال معتبرة عندهم.
فائدة
يحد شارب الخمر، وإن لا يسكر منها حسماً لمادة الفساد، كما تقبيل الأجنبية والخلوة بها لإفصائه إلى الوطء المحرم. وللحديث الذي رواه الحاكم (من شرب الخمر فاجلدوه) ولم ينص على السكر وغيره. ولو فرض شخص لا يسكره الخمر، لأنه مدمن عليها، وقد تشرب دمه بها، حرم عليه شربها للنجاسة لا للإسكار، ويحد بشربها.
وإذا وجدت الخمر في دار إنسان، وعليها قوم جلسوا مجالس من يشربها. ولم يرهم أحد يشربونها، ولم تظهر رائحتها عليهم، ولم يقروا بشربها. عزرهم الإمام، لأنهم ارتكبوا أمراً محظوراً، وجلسوا مجلساً منكراً. أو وجدوا في يحملها، أو يحتفظ بها في داره عزر، لأنه ارتكب محظوراً.
من وجد ريح الخمر توجد منه
ومن شرب الخمر طواعية من غير إكراه. فأخذ وريحها موجودة، أو جاؤوا به إلى الحاكم وهو سكران من غير الخمر من النبيذ أو غيره من أنواع الأنبذة المعروفة، فشهد عليه شاهدان بالشراب، فإنه يقام عليه الحد. ولو أخذ وريحها توجد منه، فلما وصل إلى الحاكم انقطعت الرائحة لبعد المسافة يحد من غير خلاف أما إذا ذهب ريحها منه، وكانت المسافة قريبة فقد اختلف العلماء فيه.
الحنفية - قالوا: لا يقام عليه الحد، لأن الحد لا يقام إلا بشهادة الشهود مع وجود الرائحة.
أبو مُحَمَّد من الحنفية، والمالكية، والشافعية، وفي رواية عن الحنابلة - قالوا: يقام عليه الحد بالشهادة مع عدم وجود وجود الرائحة فلا يشترط وجود مع البينة، أو الإقرار، حيث أنه لا حاجة إليها. ومن وجد منه ريح الخمر، ولم يقر، ولم تقم عليه الشهادة اختلف فيه.
الحنفية، والشافعية، وجمهور أهل العراق، وعلماء لابصرة - قالوا: لا يثبت الحد عليه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بالرائحة، لأن جناية الشرب لم تثبت، حيث أن رائحة الخمر تلتبس بغيرها، فلا يناط شيء من الأحكام بوجودها، ولا بذهابها، وهي شبهة تدرأ الحد.
المالكية، والحنابلة، وجمهور أهل الحجاز - قالوا: يجب إقامة الحد بوجود الرائحة، إذا شهد بها عند الحاكم شاهدان عدلان. تشبيهاً لها بالشهادة على الخط، والصوت، لأن الرائحة من أقوى الدلائل على ثبوتها، وهي ل تلتبس على ذوي المعرفة، ويدل عليه ما في الصحيحين. عن ابن مسعود رضي الله عنه (أنه قرأ سورة يوسف فقال رجل: ما هكذا أنزلت، فقال عبد اللَّه: واللَّه لقد قرأتها على رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: أحسنت، فبينا هو يكلمه، إذ وجد منه رائحة الخمر فقال: أتشرب الخمر، وتكتب بالكتاب؟ فضربه الحد - وهذا يدل على أن ابن مسعود إنما أقام عليه الحد لوجود رائحة الخمر منه. ولم تقم الشهادة، ولم يقر بالشرب) .
وأخرج الدارقطني بسند صحيح عن السائب بن يزيد، عن عمر بن الخطاب (أنه ضرب رجلاً وجد منه رائحة شراب) .
الإقرار بالشرب
ومن أقر بشرب الخمر، ولم يوجد منه رائحة الخمر، فقد اختلفوا فيه.
المالكية، والشافعية، والحنابلة، والإمام مُحَمَّد من الحنفية - قالوا: يقام الحد عليه بلإقراره، لأن الإنسان لا يتهم على نفسه في التقادم، ولأن التقادم في الإقرار بحد الزنا لا يبطله بالإتفاق.
الحنفية - قالوا: لا يقام الحد على المقر بالشرب لإلا عند وجود الرائحة وقت لإقراره. لأن حد الشرب ثابت بإجماع الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود وقد شرط قيام الرائحة في لإقامة الحد، وهو ما روي عن أبي ماجد الحنفي قال: جاء رجل بابن أخ له سكران إلى عبد اللَّه بن مسعود فقال عبد اللَّه بن مسعود: ثرثروه، ومزمزوه، واستنكهوه. ففعلوا، فرده إلى السجن، ثم عاد به من الغد، ودعا بسوط، ثم أمر به فدقت ثمرته بين حجرين، حتى صارت درة، ثم قَالَ للجلاد: اجلد ورجع يدك، واعط كل عضو حقه، فالحديث يفيد أنه أقام عليه الحد بظهور رائحة الخمر منه، بالثرثرة، والمزمزة - والثرثرة هي التحريك، والمزمزة - هي التحريك بعنف وأن ما فعله لأجل ظهور الرائحة منه. لأن التحريك يظهرها من المعدة حيث كانت خفيفة ثم تظهر، وهو مذهبه، فلم يقبل قيام الحد عليه بالشهادة، إلا إذا كان معها الرائحة، لأجل زوال الشبهة.
متى يقام الحد على السكران
اتفق الأئمة على أنه لا يقام الحد على السكران حتى يزول عنه السكر، ويصحو منه حتى يتألم من الضرب - ويحصل الإنزجار، والردع له. لأن غيبوبة العقل، وغلبة الطرب تخفف الألم عن السكران.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إقرار السكران
-اتفق الأئمة: على أنه لا يقام الحد على السكران بإقراره على نفسه وهو في حالة الذهول والسكر، بالحدود الخالصة للَّه تعالى - كحد الزنا، والشرب، والسرقة، إذا اعترف بها وهو سكران، إلا أنه يضمن قيمة المسروق الذي أقر به. لأنه حق العبد فيثبت عليه.
وقيد بالإقرار، لأنه لو زنا وهو سكران، وقامت عليه البينة بالشهود، فإنه يقان عليه حد الزنا وذلك بعد أن يفيق من السكر.
وإذا سرق وهو سكران وقامت عليه البينة يقام عليه احد، وتقطع يده بعد الصحو من السكر، وإنما لا يصح إقراره في حقوق اللَّه تعالى لأنع يصح رجوعه عنه، ومن المعلوم أن السكران لا يثبت على شيء، ولا يستمر على حال.
قَالَ العلماء: إن السكران إذا أقر بحق من حقوق العباد فإنه يقتص منه عقوبة له، لأنه أدخل الآفة على نفسه، فإذا أقر بقذف رجل أو امرأة من المسلمين، وهو سكران يحبس حتى يصحو، فيحد حد القذف، ثم يحبس حتى يخف عنه ألم الضرب، فيحد مرة ثانية حد شرب الخمر.
وذكر العلماء: أنه يؤاخذ بلإقراره بسبب القصاص، والديات، وسائر لاحقوق من المال، والطلاق، والعتاق وغيرها.
ولكن لا يرتد السكران، ولا تبين منه زوجته، لأن الكفر باب الاعتقاد أو الاستخفاف وباعتبار الاستخفاف حكم بكفر الهازل، مع عدم اعتقاده لما يقوله، ولا اعتقاد للسكران، ولا استخفاف منه لعدم الإدراك. وهما فرع قيام الإدراك، ولذا لا يحكم العلماء بكفر السكران بتكلمه، حيث أنه رفع القلم عنه.
حكم من تكرر منه الشرب
روي عن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه) .
إلى أن قَالَ: (فإن عاد الرابعة فاقتلوه) أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي من حديث معاوية.
وأخرج النسائي في سننه الكبرى عن مُحَمَّد بن إسحاق عن مُحَمَّد بن المنكدر مرفوعاً من شرب الخمر فاجلدوه إلخ إلخ قَالَ: ثم أتي الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر في الرابعة فجلده، ولم يقتله، فإنهم قالوا إن القتل قد نسخ وزاد في لفظ فرأ المسلمون أن الحد قد وضع، وأن القتل قد ارتفع.
وعن معاوية عن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ في شارب الخمر (إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب الثالثة فاجلدوه، ثم إذا شرب الرابعة فاضربوا عنقه، أخرجه أحمد وهذا لفظه - والأربعة رحمهم الله.
واختلفت الروايات في قتل شارب الخمر، هل يقتل إن شرب المرة الرابعة، أو يقتل بعد شرب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الخامسة؟. أخرج أبو داود من رواية أبان القصار، وذكر الجلد ثلاث مرات بعد الأولى، ثم قَالَ:(فإن شربوا فاقتلوهم) وأخرج من حديث ابن عمر من رواية نافع عنه أنه قَالَ: وأحسبه قَالَ في الخامسة (فإن شربها فاقتلوه) وإلى قتله فيها ذهب الظاهرية، واستمر عليه ابن حزم، واحتج له بأحايث ورادة عن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وادعى عدم الإجماع على نسخه.
ولكن حمهور العلماء على أن حكم قتل الشارب بعد الرابعة منسوخ بعد أن أمر به الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في بعض أحاديث عنه. ولكن لم يفعله رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مرة واحدة طول حياته. وكذلك لم يفعله أحد من الصحابة رضوان اللَّه عليهم وهذا يدل على نسخه بالإجماع. فقد أخرج الإمام الترمذي من رواية الزهري عن قبيصة بن ذؤيب قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر فاجلدوه - إلى أن قَالَ: ثم إذا شرب في الرابعة. قَالَ: فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به قد شرب فجلده، ثم أتي به شرب فجلده، ثم أتي به الرابعة فجلده، فرفع القتل عن الناس، فكانت رخصة) أي أن فعل الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من جلد الشارب بعد الرابعة رخصة من الشارع في رفع القتل عنه، ونسخ الحكم الذي سبق أن ذكره ولم ينفذه.
وقال الإمام الشافعي: هذا (يريد نسخ القتل) مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم، ومثله قَالَ الترمذي وقال جابر بن عبد اللَّه: فرأى المسلمون أن الحد قد وضع، وأن القتل قد ارتفع، واللَّه تعالى أعلم.
قَالَ ابن رسلان: أجمع المسلمون على وجوب الحد على شاربها سواء شرب قليلاً أو كثيراً ولو قطرة واحدة، قَالَ: وأجمعوا على أنه لا يقتل شاربها وإن تكرر.
كيفية إقامة الحد
قَالَ العلماء: حد الشرب أخف من حد الزنا، لأن حد الزنا ثابت بالقرآن الكريم، وحد الشرب ثايت بالسنة. ولأن حد الزنا فيه اعتداء على الغير، وحد الشرب الشرب فيه اعتداء على نفسه، وجناية الزنا أفحش وأكبر خطراً من الشرب وحد الشرب أشد من حد القذف. لأن جريمة الشرب متيقن منها، بلا خلاف جريمة القذف لفإنها تحتمل الصدق والكذب واختلفوا في تجريده من ثيابه عند إقامة الحد عليه.
الأئمة الأربعة - قالوا: يجرد من جميع ثيابه عند إقامة حد الشرب عليه، إلا إزار يستر عورته، كسائر الحدود، لتحقق جريمته، حتى يشعر بالألم، ويحصل اتلمقصود من إقامة الحد وهو الزجر عن إرتكاب مثلها.
الإمام مُحَمَّد بن الحسن - قَالَ: يقام عليه حد الشرب وعليه ثيابه مثل حد القذف، ولا ينزع منه إلا الفرو والحشو، والجلد، وذلك لأن حد الشرب، حد القذف، كما قَالَ الإمام علي كرم اللَّه وجهه. إذا شرب هذا وإذا هذا افترى، وحد المفترين في كتاب اللَّه تعالى ثمانون جلدة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ما جاء في ضرب شارب الخمر
الشافعية - قالوا: يتعين الضرب بالجريد، أو النعال، أو أطراف الثياب، ويجوز الجمع بين الجريد والنعال. ويجوز أن يضرب بالجريد والنعال، والثياب، والأيدي، ويجوز الضرب بالسوط أيضاً، وذلك لما روي أنس بن مالك رضي الله عنه أن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، متفق عليه. - وعن عقبة بن الحارث رضي الله عنه أن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أتى بنعيمان، أو بابن نعيمان وهو سكران، فشق عليه، وأمر من في البيت أن يضربوه، فضربوه بالجريد والنعال وكنت ممن ضربه رواه البخاري.
وروي عن السائب بن يزيد قَال: (كنا نؤتى بالشارب في عهد رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وفي أمرتي أبي بكر وصدراً من امرتي عمر، فنقوم إليه، نضربه بأيدينا، ونعالنا، وأرديتنا، حتى كان صدراً من امرة عمر فجلد فيها أربعين حتى عتو فيها وتشفوا، جلد ثمانين) رواه أحمد والبخاري واللفظ له.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب فقال أبو هريرة: منا الضارب بيده، والضارب بعله، الضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: اخزاك الله. قال: لا تقول كذلك، لا تعينوا عليه الشيطان، رواه الإمام أحمد والبخاري، وأبو داود.
والمراد بالجريد سعف النخل، والمراد من الضرب بأطراف الثياب، إنما هى بعد أن نفتل حتى تؤلم المضروب.
الحنفية والمالكية - قالوا: وان كانت السنة الضرب بالثياب، والنعال، والجريد، لكن الأفضل الضرب بالسوط. لفعل الصحابة رضوان الله عليهم من غير نكير، والسوط يأتى بالمقصود من الحد وهو الزجر.
وقال بعض التأخرين: انه يتعين الضرب بالسوط للمتمردين، وأطراف الثياب، والنعال للضعفاء، ومن عداهم بحسب مايليق بهم.
قَالَ ابن الصلاح: السوط هو المتخذ من المتخذ من جلود سيور تلوى وتلف، سمي بذلك لأنه يسوط اللحم بالدم، أي يخلطه.
واختلفوا في حد الشرب.
الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وأحد قولي الشافعية - قالوا: إنه يجب الحد على السكران ثمانين جلدة.
قالوا: لقيام الإجماع عليه من الصحابة رضوان اللَّه عليهم من غير نكير حين شاورهم سيدنا عمر بن الخطاب في حد الشرب.
فقد أخرج أبو داود، والنسائي (أن خالد بن الوليد كتب إلى عمر: ان الناس قد انهمكوا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في الخمر، وتحاقروا العقوبة. قَالَ: وعنده المهاجرون والأنصار، فسألهم فأجمعوا على أن يضرب ثمانين) .
الشافعية في المشهور عنهم - قالوا: إن حد الشرب أربعون، لأنه الذي روي عن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فعله، ولأنه الذي استقر عليه الأمر في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ومن تتبع ما في الأحاديث الواردة، واختلاف رواياتها علم أن الأحوط الأربعين سوطاً، ولا يزاد عليه. وأما ما فعله سيدنا عمر من الزيادة إلى الثمانين فهو من باب التعزير لا من الحد. فالحد أربعون، وله أن يعزره إلى ثمانين سوطاً.
ويتولى الضرب الرجال، لأن الجلد من شأن المرأة، والخنثى من المرأة. وإن كان المضروب من ذوي الهيئات يستحب ضربه في الخلوات حتى لا يفضحه، وإن كان من عامة الناس ضرب في الملأ، ولا يحد في المساجد لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لا تقام الحدود في المساجد) رواه الترمذي، والحاكم، وأخرجه ابن ماجة، لاحتمال أن يتلوث المسجد من دمه، أو من نجاسة تخرج منه، ويوالي الضرب عليه بحيث يحصل زجر، وخوف وتنكيل، ولا يجوز أن يفرق الضرب في موضع واحد، لما روي البيهقي عن علي كرم اللَّه وجهه أنه قَالَ للجلاد: أعط كل عضو حقه، واتق الوجه والمذاكير.
الشافعية - قالوا: إن تفريق الضرب على الأعضاء واجب، لأن الضرب على موضع واحد يؤلمه، وبالموالاة، قد يؤد إلى الهلاك.
ويتقي المواضع التي يسرع اليها بلضرب كالقلب وثغرة النحر، والفرج ولا يضرب الوجه لقول رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه) ولأنه مجمع المحاسن، فيعظم أثر شينه، ولا يضرب الرأس، لشوفه كالوجه، وقال بعضهم يجوز أن يضرب الرأس، لما روي ابن شيبة عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قَالَ للجلاد: اضرب الرأس، فإن الشيطان في الرأس، ولا يجوز شديد المضروب، بل تترك مطلقة يتقي بها الضرب. ولا يربط ولا يمد ويجلد الرجل قائماً، والمرأة تشد عليها ثيابها، ولا تجرد إلا من الفرو والحشو، وتضرب جالسة ستراً لها.
شرب الخمر عند الضرورة
الحنفية - قالوا: يجوز عند غصة الطعام، أو عند شدة العطش بقدر ما يقع به الي، إذا لم يجد غيرها. ولا يصح التداوي بها، لأن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن التداوي بها فقال:(أنها ليست بدواء، ولكنها داء) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن اللَّه لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أما شرب الخمر لشدة العطش لعدم وجود الماء، أو لزوال شرق الطعام، ففيه بقاء الروح وهو واجب على المسلم، فمن خاف على نفسه الهلاك من العطش، بأن كان في صحراء قاحلة، أو على ظهر سفينة في البحار والمحيطات المالحة، ولم يجد ما ينقذ به حياته إلا الخمر، فيجوز له أن يشرب منها ما يأمن به من الموت، لأن اللَّه تعالى أباح للمضطر أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والخمر مثهلا في التحريم، فتكون مثلها في الإباحة عند الاضطرار، فإذا أمن على نفسه، زالت الضرورة، وهو خوف الهلاك، عاد التحريم لما روي عن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(إن اللَّه أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام) رواه أحمد ومسلم.
المالكية، والشافعية في إحدى رواياتهم، والحنايلة - قالوا: يجب شرب الخمر لزوال هلاك النفس في حالة شرق الطعام، ويجوز التداوي به إذا لم يوجد غيره للمريض، بشرط إخبار طبيب مسلم عدل موثوق بقوله أو معرفته للتداوي به، كالتداوي بنجس كلحم ميتة، أو بول آدمي.
الشافعية في رواية أخرى - قالوا: الأصح تحريم تناول الخمر لمكلف - لدواء، أو عطش، أما تحريم الدواء بها، فلأنه صلى الله عليه وسلم لما شئل عن التداوي بها قَالَ:(إنه ليس بدواء ولكنه داء) والمعنى أن اللَّه تعالى قد سلب الخمر منافعها عندما خرمها، فقد روي أن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(إن اللَّه لما حرم الخمرة سلبها المنافع) ولأن تحريمها مقطوع به، وحصول الشفاء بها مظنون، فلا يقوى على إزالة المقطوع به، وذلك إذا لم ينته الأمر به إلى الهلاك. أما إذا وصل الأمر إلى الهلاك فيجوز. وأما تحريمها للعطش عند الضرورة، فلأنها لا تزيله، بل تزيده، لأن طبعها حار يابس، كما قَالَ أهل الطب ولهذا يحرص شارب الخمر على الماء البارد، وقيل: يجوز التداوي بها دون شربها، وشربها لدفع الجوع كشربها لدفع العطش، ومثله من تأثر من البرد وكاد يهلك، ولم يجد ما يدفع به الهلاك سوى جرعة أو كوب من خمر، وكذلك من أصابته نوبة ألم في قلبه كادت تقضي على عليه وقد علم أنه لا يدفع عنه الخطر سوى شرب مقدار من الخمر.
يكره لعن شارب الخمر
روى البخاري رحمه اللَّه تعالى في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً على عهد رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد اللَّه، وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وكان الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً، فأقر به فجلد، فقال رجل من القوم، اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:(لا تلعنوه، فواللَّه ما علمت إلا أنه يحب اللَّه ورسوله) . وفي رواية (ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) . فقد نهى الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عن لعنة من أقر بالشرب، وأقيم عليه الحد حيث أن الحد قد طهره من عقوبة الذنب، فنهى عن ذلك خشية أن يوقع الشيطان في قلب العاصي، أن من لعن في حضرته صلى الله عليه وسلم ولم ينهه، فقد أقره على ذلك، فيحصل له تأثير نفسي.
وقد ذكر العلماء أنه لا ينبغي تعيير أهل المعاصي، ومواجهتهم باللعن، وإنما ينبغي أن يلعن في
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الجملة من فعل فعلهم، ويكون ذلك رادعاً، وزاجراً عن ارتكاب شيء منها، وحتى يفتح أمام المذنب باب التوبة، والقبول، فإن من قبل اللَّه توبته يكتبها له طاعة من الطاعات، ويجعلها محاءة للذنوب.
وقد روي أن سيدنا عمر رضي اللَّه تعالى عنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام فقيل له: تتابع في هذا الشراب - أي شرب الخمر - فقال سيدنا عمر عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان، سلام عليك، وأنا أحمد اليك اللَّه الذي لا إله إلا هو، بسم اللَّه الرحمن الرحيم:{حم تنزيل الكتاب من اللَّه العزيز العليم، غفر الذنب قابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير} ثم ختم الكتاب، وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة، فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني اللَّه أن يغفر لي، وحذرني عقابه، فلم يبرح يؤددها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزوع، وحسنت توبته، فلما بلغ سيدنا عمر أمره قَالَ: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه، ووقفوه، وادعوا اللَّه أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشياطين عليه.
ولا شك أن هذه سياسة حكيمة من سيدنا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين في معالجة المنحرفين والمرتكبين.
الخمر ملعونة
إن الخمر ملعونة على لسان رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بل لعن كل من له صلة بالخمر من قريب أو بعيد. ومعنى اللعن - هو الطرد من رحمة اللَّه تعالى، والحرمان من رضوانه عز وجل، وذلك نهاية الشقاوة والحرمان، فقد روى ابن ماجة، والترمذي، عن ـنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ:(لعن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وأكل ثمنها، والمشتري لها، والمشترى له) وقال صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال: يا مُحَمَّد إن اللَّه لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، ومسقاها) وهو عن ابن عباس رواه أحمد بإسناد صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم وروى أبو داود وابن ماجة عن عمر حديثاً بمعناه وليس فيه ذكر جبريل.
والعلماء يقولون: إن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وإن كان قد نهى عن لعنة المسلم الذي أقر بالشرب، وأقام عليه الحد. إلا أنه أجاز أن يلعن الناس المدمن للخمر الذي لا يتوب منها، بل يداوم عليها سواء لعن في الجملة مع غيره، أو لعن بالتعين، لأنه مستهتر ماجن، فأجازوا لعنه عسى أن يزجر، ويلوم نفسه، ويرجع عن غيه، ويتوب عن ذنبه. ويقلع عن تعاطي الخمر مخافة ملامة الناس. أما غير المدمن فلا يجوز لعنه، وتعييره. إذا أقيم عليه الحد لأنه كفارة له.
حكم شرب البيرة والحشيش والمخدرات
لقد زعم بعض الفساق أن البيرة حلال شربها، لأنها من ماء الشعير، وكذلك نقيع البلح
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"العرق" وخمير خبز الشعير "البوظة" ونبات "القات" و"الحشيش" و "الفتكة"
…
زعموا أن هذه المشروبات وغيرها من المخدرات حلال شربه، بحجة أن هذه المشروبات لم تكن في عصر رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ولم يرد نص في تحريمها.
وقد اجتمعت كلمة العلماء على تحريم هذه المشروبات وغيرها من المخدرات المحدثة مثل الحشيش والأفيون وغيرهما.
وقد صدرت فتوى من فضيلة الأستاذ الأكبر مفتي الديار المصرية، نشرت في مجة الأزهر في عدد شعبان سنة 1360 هـ، نلخصها هنما لعموم الفائدة حتى ينتفع بها الجميع ويقتنع بها من في قلبه شك أو ريب في حرمتها، فنقول: إنه لا يشك شاك، ولا يرتاب مرتاب في أن تعاطي هذه المواد حرام، لأنها تؤدي إلى مضار جسيمة ومفاسد كثيرة، فهي تفسد العقل، وتفتك بالبدن، إلى غير ذلك من المضار والمفاسد الخطيرة. فلا يمكن أن تأذن الشريعة بتعاطيها مع تحريمها لما هو أقل منها مفسدة، وأخف ضرراً، ولذك قَالَ بعض علماء الحنفية:(إن من قَالَ بحل الحشيش زنديق مبتدع) . وهذا منه دلالة على ظهور حرمتها، ووضوحها، وأنه لما كان الكثير من المواد يخامر العقل ويعطيه، ويحدث من الطرب واللذة وعند متناوليها ما يدعوهم إلى تعاطيها والمداومة عليها، كان داخلة فيما حرمه اللَّه تعالى في كتابه العزيز، وعلى لسان رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، من الخمر، والسكر.
قَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (السياسة الشرعية) ما خلاصته: إن الحشيشة حرام يحد متناولها، كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر، من جهة أنها تفسد العقل، والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث، ودياثة، وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر، المسكر لفظاً أو معنى _ قال ابو موسى الأشعري رضي الله عنه: يارسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع وهو العسل ينبذ حتى يشتد، والمزر، وهومن الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اعطي جوامع الكلم بخواتمه، فقال:(كل مسكر حرام) رواه البخاري، ومسلم.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إن من الحنطة خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن التمر خمراً، ومن العسل خمراً، وأنا أنهي عن كل مسكر) رواه أبو داود وغيره. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام) وفي رواية (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) رواهما مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام) قَالَ الترمذي: حديث حسن - والفرق مكيال يسع ستة عشر رطلاً، ومعناه ما أسكر كثيره فقليله حرام.
وروى أهل السنن عن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قَالَ: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وصححه الحفاظ، وعن جابر رضي اللَّه تعالى عنه (أن رجلاً سأل الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الذرة - يقال له: أمسكر هو؟ قَالَ: نعم، فقال كل مسكر حرام، إن على اللَّه عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال: قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ما طينة الخبال؟ قَالَ: عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار) رواه مسلم.
وعن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما عن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: (كل مخمر، وكل مسكر حرام) رواه أبو داود.
والمخمر ما يغطي العقل، والأحاديث في هذا الباب كثيرة مستفيضة. جمع رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بما أوتيه من جوامع الكلم كل ما غطى العقل، وأسكر، ولم يفرق بين نوع، ونوع، ولا عبرة لكونه قد تذاب بالماء وتشرب. فالخمر يشرب ويؤكل، والحشيشة تؤكل، وتشرب، وكل ذلك حرام، وحدوثها بعد عصر الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، والأئمة لم يمنع من دخولها في عموم كلام رَسُول اللَّهِ عن المسكر، فقد حدثت أشربة مسكرة، بعد الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وكلها داخلة في الكلم الجوامع من الكتاب، والسنة.
وقد تكلم الإمام ابن تيمية رحمه الله عن الحشيشة غير مرة في فتاوة فقال ما خلاصته: (هذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها ومستحلوها، الموجبة لسخط اللَّه تعالى وسخط رسوله، وسخط عباده المؤمنين، المعرضة صاحبها لعقوبة اللَّه، تشتمل على ضرر في دين المرء، وخلقه، وطبعه، وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلفاً كثيراً مجانين، وتورث من مهانة آكلها، ودناوة نفسه، وغير ذلك ما لا تورث الخمر، ففيها من المفاسد، ما ليس في الخمر، فهي بالتحريم أولى، وقد أجمع المسلمون على أن السكر منها حرام، ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال، فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل مرتداً، لا يصلي عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وإن القليل منها حرام أيضاً، بالنصوص الدالة على تحريم الخمر، وتحريم كل مسكر) وقد تبعه تلميذه الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله فقال في كتابه (زاد المعاد) ما خلاصته:
(إن الخمر يدخل فيها كل مسكر، مائعاً كان، أو جامداً، عصيراً، أو مطبوخاً، فيدخل فيها لقمة الفسق والفجور - ويعني بها الحشيشة - لأن هذا كله خمر بنص رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصريح، الذي لا مطعن في سنده، ولا إجمال في متنه. إذ صح عنه قوله: (كل مسكر خمر) وصح عن أصحابه رضي الله عنهم الذين هم أعلم الأمة بخطابه، ومراده، بأن الخمر ما خامر العقل، على أنه لو لم يتناول لفظه صلى الله عليه وسلم (كل مسكر) لكان القياس الصحيح الصريح، الذي استولى فيه الأصل والفرع من كل وجه، حاكماً بالستوية بين أنواع المسكر، فالتفرقة بين نوع ونوع تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه) .
وقال صاحب (سبل السلام شرح بلوغ المرام) : (إنه يحرم ما أسكر من أي شيء، وإن لم يكن مشروباً كالحشيشة) .
ونقل عن الحافظ ابن حجر (أن من قَالَ: إن الحشيشة لا تسكر، وإنما هي مخدر، سكاير، فإنها تحدث ما تحدثه الخمر من الطرب والنشوة) ....
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ونقل عن ابن البيطار من الأطباء: (إن الحشيشة التي توجد في مصر مسكرة جداً، إذا تناول الإنسان منها قدر درهم، أو درهمين) .
وقبائح خصالها كثيرة، وقد عد منها بعض العلماء مائة وعشرين مضرة دينية، ودنيوية، وقبائح خصالها موجودة في الأفيون، وفيه زيادة مضار.
وما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وغيرهما من العلماء هو الحق الذي يسوق إليه الدليل وتطمئن به النفس، وإذ قد تبين أن النصوص من الكتاب والسنة تتناول الحشيش، فهي تتناول أيضاً الأفيون الذي بين العلماء أنه أكثر ضرراً، ويترتب عليه من المفاسد، ما يزيد على مفاسد الحشيش. وتتناول أيضاً ساءر المخدرات التي حدثت، ولم تكن معروفة من قيل، إذ هي كالخمر من العنب مثلاً في أنها تخامر العقل، وتغطيه، وفيها ما في هذه الخمر، من مفاسد، ومضار، وتزيد عليها بمفاسد أخرى، كما في الحشيش، بل أفظع، وأعظم، كما هو مشاهد ومعلوم ضرورته، ولا يمكن أن تبيح الشريعة الإسلامية شيئاً من المخدرات.
ومن قَالَ بحل شيء منها فهو من الذي يفترون على اللَّه الكذب، أو يقولون على اللَّه ما لا يعلمون. وقد سبق أن قلنا أن بعض علماء الحنفية قَالَ:(إن من قَالَ بحل الحشيشة زنديق مبتدع) وإذا كان من يقول بحل الحشيشة زنديقاً مبتدعاً. فالقائل بحل شيء نت هذه المخدرات الحادثة التي هي أكثر ضرراً، وأكبر فساداً، زنديق مبتدع أيضاً. بل أولى بأن يكون كذلك.
وكيف تبيح الشريعة الإسلامية شيئاً من هذه المخدرات التي يلحق ضررها البليغ بالأمة أفراداً وجماعات، مادياً، وصحياً، وأدبياً، حيث أن مبنى الشريعة الإسلامية على جلب المصالح الخاصة أو الراجحة، وعلى درء المفاسد، والمضار كذلك؟ وكيف يحرم اللَّه سبحانه وتعالى العليم الحكيم الخمر من العنب مثلاً كثيرها وقليلها. لما فيها من المفسدة، ولأن قليلها داع إلى كثيرها، وذريعة إليه ويبيح من المخدرات ما فيه هذه المفسدة، ويزيد عليها، بما هو أعظم منها، وأكثر ضرراً للبدن والعقل، والدين، والخلق، والمزاج؟. هذا الحكم لا يقوله إلا رجل جاهل بالدين الإسلامي، أو زنديق مبتدع كما سبق القول به. فتعاطي هذه المخدرات على أي وجه من وجوه تعاطي من أكل، أو شرب، أو شم، أو احتقان حرام، بإجماع الأمة. اه.
إن أعداء الإسلام يروجون الحشيش وغيره من المخدرات بقصد إضعاف شباب الأمة الإسلامية وضياع مالها، ورجولتها، وقتل شهامتها، وإفساد عقول رجالها، حتى تستمر في التأخر عن مصاف الأمم المتقدمة، ويتغلب عليها الأجانب، ويقهرها الأعداء، ويستعمرون بلادهم. كما تفعل إسرائيل من ترويج الحشيش والأفيون بين البلاد العربية بقصد هلاكها.
وقد أكثر من الكلام في هذا الموضوع لما سئلت كثيراً عن حكم الحشيش والبيرة،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والويسكي، والفنكي، وغيرها، ولما رأيت من انتشار هذه المخدرات بين كثير من الأوساط التي جرّت عليهم ضياع الصحة، وفساد الأسرة، وتبدد الثروة. ولما تبذله الحكومة من مجهود جبار في محاربة المهربين، والحشاشين، ولو أن هذه الأمور الطائلة التي تنفقها الحكومة في هذا الصدد، صرفت في مشاريع خيرية، ومصانع وشركات، لعادت على الأمة بالخير الكثير، والفائدة العظمى. ولو أن الناس فهموا هذا الحكم الشرعي ووعوده، وعملوا به، وأعرضوا عن تعاطي هذه المخدرات، وتلك المسكرات، لحفظنا على الأمة شبابها، وقوتها، وعزمها، وكرامتها، وحريتها، واستقلالها، ولوأنصفت الحكومات الإسلامية لأصدرت تشريعاً مشدداً، وحكماً رادعاً قاسياً حتى يردع كثيراً من الذي يتعاطون هذه المهلكات، ويفسدون عقولهم وأجسامهم، وأموالهم، ولو أدى ذلك إلى إصدار حكم الإعدام على المهربين، وكبار المشتغلين بتجارته.
حكم الاتجار بالمخدرات
لقد اشتغل بعض المسلمين بتجارة المخدرات من الخمور، والحشيش والأفيون، والكوكايين، لما تدر عليهم تجارة هذه الأشياء من الربح الطائل، من أسهل الطرق ويصلون إلى الغنى الفاحش في أقرب وقت. مع أن الشريعة الإسلامية تحرم هذه الأرباح، وتعتبر أن عيشة أصحابها من الحرام.
وقد ورد عن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في تحريم بيع الخمور. منها ماروى البخاري ومسلم وعن جابر رضي الله عنه أن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إن اللَّه حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام) .
ووردت عنه أحاديث كثيرة تفيد أن ما حرم اللَّه الإنتفاع به، يحرم بيعه وأكل ثمنه، فيتناول التحريم بيع هذه المخدرات، لما يترتب على ترويجها من المفاسد، والمضار بين أفراد الأمة. فهو كالمتسبب في هلاكها، ودمارها، بل إنه يقتل الأنفس، ويضيع الأموال، فهي وإن كانت تجارة في ظاهرها كما يظن بعض الناس، لكنها تجارة بأرواح الناس، وفساد الشباب، وضياع الأخلاق، وهلاك الأمة.
فلا شك في حرمة الإتجار بها، ولإنها تعين على معصية. واللَّه تعالى قد نهانا عن التعاون على الإثم والعدوان. فقال تعالى:{وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} فالتجارة في هذه الأشياء لا شبهة في حرمتها لدلالة القآن الكريم على تحريمها، وبهذا قَالَ جمهور العلماء: أن هذه المخدرات لا قيمة لها في حق المسلم فلا يجوز بيعها، ولا يضمن غاصبها، ولا متلفها، لأن ذلك دليل على عزتها، وتحريمها دليل إهانتها. وقد روي عن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:(إن الذي حرم شربها، حرم بيعها وأكل ثمنها) .
حرمة زراعة الحشيش
اتفق الأئمة على تحريم زراعة الحشيش، والخشخاش، لإستخراج المادة المخدرة منها لتعاطيها أو الإتجار فيها، وحرمة زراعتهما من وجوه:
أولاً: ماروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إن من حبس العنب أيام
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمراً فقد تقحم النار) فهذا دليل على حرمة زراعتهما بطريق دلالة النص.
ثانياً: إن زراعتها لهذا الغرض رضاً من الزارع تعاطي الناس لها، وإتجارهم فيها والرضا بالمعصية معصية، وذلك لأن إنكار امنكر بالقلب، الذي هو عبارة عن كراهية القلب وبغضه المنكر، فرض على كل مسلم في كل حال.
بل ورد في صحيح مسلم عن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أن من لم ينكر المنكر بقلبه - بالمعنى الذي بينا - ليس عنده من الإيمان حبة خردل) وفيه مخالفة لولي الأمر الذي نهى عنها بالقوانبن التي وضعت لذلك، وفيه مخالفة لولي الامر الذي نها عنها بالقوانين التي وضعت لذلك، لوجوب طاعة ولي الامر فيما ليس لمعصية لله ولرسوله بإجماع المسلمين.
حرمة الربح والناتج من هذه التجارة
لقد علم أن بيع هذه المخدرات حرام، فيكون الثمن الناتج من هذه التجارة حراماً، لقوله تعالى:{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} أي لا يؤخذ ولا يتبادل ببعضكم مال بعض بالباطل، وذلك من وجهين:
الأول: أخذه على وجه الظلم، والسلب، والسرقة، والنهب، والخيانة، والتدليس وما جرى مجرى ذلك.
الثاني: أخذه من وجهة محظورة، كأخذه بالعب القمار، أو بطريق غير مشروع، كالعقود المحرمة كما في المعاملة بالربا، وبيع ما حرم اللَّه الإنتفاع بهن كالخمر المتناول للمخدرات المذكورة. فإن هذا كله حرام مثل السرقة سواء بسواء، وإن كان بطيبة نفس من مالكه.
ولما ورد من الأحاديث النبوية التي تنص على تحريم ثمن ما حرم اللَّه الإنتفاع به، كقوله صلى الله عليه وسلم:(إن اللَّه إذا حرم شيئاً حرم ثمنه) رواه ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عن ابن عباس.
وقد جاء في كتاب (زاد المعاد) ما نصه: (قال جمهور الفقهاء: إنه إذا بيع العنب لمن يعصره خمراً حرم أكل ثمنه. لخلاف ما إذا بيع لمن يأكله، وكذلك السلاح إذا بيع لمن يقاتل به مسلماً حرم أكل ثمنه. وإذا بيع لمن يغزو به في سبيل اللَّه فثمنه من الطيبات. وكذلك ثياب الحرير إذا بيعت لمن يلبسها ممن يحرم عليه لبسها حرم أكل ثمنها، بخلاف بيعها ممن يحل له لبسها) ا. هـ.
وإذا كانت الأعيان التي يحل الإنتفاع بها إذا بيعت لمن يستعملها في معصية اللَّه على رأي جمهور الفقهاء - وهو الحق - يحرم ثمنها لدلالة ما ذكرنا من الأدلة وغيرها عليه، كان ثمن العين التي لا يحل الإنتفاع بها كالمخدرات حراماً من باب أولى.
وإذا كان ثمن هذه المخدرات حراماً، كان خبيثاً، وكان إنفاقه في القربات، كالصدقات وبناء
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المساجد، وحج بيت اللَّه الحرام غير مقبول أي لا يثاب المنفق عليه، فقد روى مسلم عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إن اللَّه تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن اللَّه تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى:" يا أيها الرسل كل من الطيبات واعملوا صالحاً" الآية. وقال تعالى: " يا أيها الذين أمنو كلوا من طيبات ما رزقناكم وأشكروا الله أن كنتم أياه تعبدون"، ثم ذكر الرجل يطل السفر أشعث أغبر يمد يده الى السماء، يارب، يارب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب ذلك؟.
وقد جاء في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن أبي مسعود رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (والذي نفسي بيده لا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه، فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره، إلا كان زاده في النار، إن اللَّه لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث) .
وروي عن أبي هُرَيْرَة عن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (من كسب مالاً حراماً فتصدق به لم يكن له أجر، وكان اصره - يعني اثمه وعقوبته - عليه) .
وما في مراسيل القاسم بن مخيمرة قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (من أصاب مالاً من مأثم، فوصل به رحمه، أو تصدق به أو أنفقه في سبيل اللَّه، جمع ذلك جميعاً، ثم قذف به في نار جهنم) .
وروي عن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: (أنه إذا خرج الحاج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز - أي الركاب - وقال: لبيك، ناداه ملك من السماء: لا لبيك، ولا سعديك، وحجك مردود عليك) .
فهذه الأحاديث التي يشد بعضها بعضاً تدل على أنه لا يقبل اللَّه صدقة، ولا حجة، ولا قربة آخرى من القربات من مال حرام، من أجل ذلك نص علماء الحنفية على أن الإنفاق على الحج من المال الحرام حرام.
ونستطيع أن نلخص ما ذكرناه فيما يأتي:
أولاً: تحريم تعاطي الحشيش والأفيون والقات، وغيرها من المخدرات المسكرة والمفطرة.
ثانياً: تحريم الإتجار فيها واتخاذها حرفة تدر الربح.
ثالثاً: حرمة تهريبها، ومساعدة التجار على رواجها، والتدليس عليها.
رابعاً: حرمة زراعتها لإتخاذ المادة المخدرة لتعاطيها، أو الإتجار بها.
خامساً: إن الربح الناتج من الإتجار في هذه المواد حرام خبيث، وإن إنفاقه في الطاعات غير مقبول.
هذا وقد أطلت القول في شرح هذا الموضوع وإقامة الأدلة عليه، تبياناً للحق، وكشفاً للصواب، ليزول ما قد عرض من شبهة عند الجاهلين الذين يفتون بحل هذه المخدرات، وليعلم أن القول بحل هذه المخدرات من أباطيل المبطلين، وأباضاليل المضلين، وحتى أضع حداً لهذه المخدرات
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التي شاعت في هذا الزمان، وانتشرت بين جميع الأوساط والطبقات، حتى كادت تودي بالأمة الإسلامية، وتطيح بكرامتها وعزتها. واللَّه ولي التوفيق.
مضار البيرة
لقد أعلن البروفيسير ايت موترين مدير جامعة لاما في "كندا" أمام المؤتمر العالمي لأمراض القلب المنعقد في لندن - أنه قام بالدراسة تبين منها أن 48 رجلاً وامرأتين كانوا يعانون من أعراض تشبه مرض "البري بري" اتضح فيما بعد أنهم مصابون بمرض في القلب بسببه أحد مكونات أنواع معينة من "البيرة". وقال: (إن هؤلاء المرضى كانوا يحتسون يومياً 11. 3 ليتراً من البيرة، وأن سبب المرض هو مادة "الكبريتات والكربات" التي تستخدم لزيادة تأثيرات المادة المسكرة في أنواع معينة من البيرة وأثبتت التجارب أنها تسبب تضخماً في القلب وتمدداً في الصمامات.
وقد ذكر الإمام مُحَمَّد رشيد رضى في تفسيره، بعد تفسير آية الخمر التي في المائدة وقد اطنب فيها ما نصه: أطلنا هذه الإطالة في بيان حقيقة الخمر، لأنه قد ظهر في الناس من عهد بعيد مصداق ما ورد في الحديث من استحلال الناس لشرب الخمر بتسميتها بغير اسمها، وقد اخترع الناس بعد زمن التنزيل أنواعاً كثيرة من الخمور أشد من خمرة العنب ضرراً في الجسم والعقل باتفاق الأطباء، وأشد إيقاعاً في العداوة والبغضاء، وصداً عن ذكر اللَّه، وعن الصلاة. والقول بأنه لا يحرم منها قطعاً إلا ما كان من عصير العنب، وأنه إنما يحرم من غيرها القدر المسكر فقط، يجرئ الناس على شرب القليل من تلك السموم المهلكة، والقليل يدعو إلى الكثير، فابلإدمان فالإهلاك، وفي هذا القول مفسدة عظيمة، وليس في تضغيفه، وترجيح قول السلف والخلف عليه إلا المصلحة الراجحة، وسد ذرائع شرور كثيرة، اه.
هذا وإن حوادث العداوة والبغضاء التي تنشأ عن السكر، ما يحدث بين السكارى من القتل والضرب، والعداوة والسلب، والفسق والفحش، والتجرؤ على ارتكاب المحرمات، والإقدام على الزنا، ومن إفشاء أسرار الأسر والعائلات، وهتك الأستار المخبئة، وخيانة الحكومات، والأوطان - ما زالت حديث الناس في كل زمان ومكان وكثيراً ما يلجأ بعض الجواسيس إلى إسكار كبار القادة، وعظماء الساسة، لكي يسلب منه أسرار الجيوش، وسياسة الشعوب. ورب جرعة خمر من رئيس أضاعت أمة بأجمعها، وأهلكت شعباً بأكمله، وكانت سبباً في هزيمة جيش جرار. ولهذا شدد الدين الإسلامي في تحريم شرب الخمر، وذكرها في ثلاث آيات من كتاب اللَّه تعالى، وشدد رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في النهي عنها فقال صلوات اللَّه وسلامه عليه:(من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها حرمها في الأخرة) رواه البخاري وأصحاب السنن، وزاد اٌاما مسلم في رواية (فلم يسقها) ومعناها أن اللَّه حرم عليه الجنة فلا يدخلها فيشربها فيها، وقيل معناه: لا يشربها فيها وإن مات مؤمناً ودخل الجنة، لأنه استعجل شيئاً فجزي بحرمانه، إلا أن يعفو اللَّه عنه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وروى أحمد والبخاري وملسم وأبو داود والترمذي والنسائي، عن أبي هُرَيْرَة رضي اللَّه تعالى عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) قيل النفي لكمال الإيمان، وقيل هو خبر بمعنى النهي، وقيل: إن الإيمان يفاق مرتكب هذه الكبائر مدة ملابسته لها، وقد يعود إليه بعدها. وإذا مات وهو مرتكبها مات على غير الإيمان.
ومن العجيب أننا نرى جميع المتعلمين مذنباً في العصر. وأكثر الناس في البلاد المتحضرة الراقية التي تنتشر فيها الجرائد والمجلات العلمية يعتقدون أن الخمر شديدة الضرر في الجسم، والعقل، والمال، والصحة العامة، وأداب الإجتماع، ولم نر هذا الإعتقاد باعثاً على التوبة منها والإقلاع عنها، حتى أن الأطباء منهم - وهم أعلم الناس بمضارها - كثيراً ما يعاقرونها، ويدمنونها مع علمهم أن السكر يحدث الأمراض، والأدواء، ويؤدي بصاحبه إلى الجنون، ويفسد عليهم شبابهم، وعفتهم، وبيوتهم، وثروتهم، ولكن ضعف الإرادة عند هؤلاء، وغريزة حب التقليد للأصحاب والخلان، ما يحدثه الخمر من لذة النشوة، والذهول عن المكدرات، ومجاملة الأخوان، جعلهم يدمنون عليه، ويقدمون على شربه، ويغضبون رب العالمين.
(وقد لخص العلماء أضرار الخمور فيما يأتي:)
أولاً: تنتزع من الشارب الخمر أنواع الإيمان حين شربه.
ثانياً: استحق لعنة اللَّه وطرده من رحمته، لمخالفته أمره تعالى.
ثالثاً: شرب الخمر يدعو إلى جلب الهموم، وتضييق الأرزاق وإنتشار الأزمة والسخف والمسخ، ويسبب التخنث.
رابعاً: لا يقدم على شرب لاخمر إلا الفاجر العاصي، الذي لا يؤمن باللَّه واليوم الآخر.
خامساً: شرب الخمر يجر إلى الوقوع في ارتكاب المعاصي كلها، لأنها أم الخبائث.
سادساً: يعذب اللَّه شارب الخمر يوم القيامة، بشربه القذارة الخارجة من فروج الزناة. - والعياذ باللَّه -.
سابعاً: حرم اللَّه تعالى الجنة على شارب الخمر، فلا يشم رائحتها.
ثامناً: عقاب شارب الخمر، كعقاب عابد الوثن والصنم.
تاسعاً: يحشر اللَّه شارب الخمر شديد الظمأ، كثير العطش.
عاشراً: لا يقبل اللَّه عبادة شارب الخمر أربعين يوماً، ولا يجيب له دعاء.
الحادي عشر: يستحق شارب الخمر الإهانة والإزدراء، والتحقير كما قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(لا تسموا على شربة الخمر) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثاني عشر: شارب الخمر حل عليع غضب اللَّه، ولو مات في هذه الحالة حرم من ثواب اللَّه تعالى ورحمته.
الثالث عشر: السكران إن مات على حالته يعذبه اللَّه بسكره، ويذوق مرارة فعله هذا في غيره. ويموت على غير اٌيمان.
الرابع عشر: شارب الخمر تنبع له عين في نار جهنم تمده باقيح والصديد وأنواع الأذى (يجري منها القيح والدم) .
الخامس عشر: شارب الخمر مسكين، مضيع فاقد الخير، (فكأنما ملك الدنيا، وسلبها) .
السادس عشر: شرب الخمر إحدى الخصال المدمرة التالفة، المذهبة للثروة، المضيعة للعقل المهلكة للأمة.
السابع عشر: شرب الخمر يفسد الصحة، ويحرم صاحبها من التمتع بعافيته، ويجلب له النقم والهلاك والدمار.
الثامن عشر: إن أضرارها تنتقل من الرجل إلى أولاده وذريته، فيولدون مرضى.
التاسع عشر: شارب الخمر لا يقبل اللَّه منه صرفاً ولا عدلاً، ولا فرضاً ولا نفلاً.
العشرون: من فارق الدنيا وهو سكران، يدخل القبر سكران، ويبعث من قبره سكران، ويزج في النار سكران، ويؤمر به إلى حبل يقال له سكران فيه عين يجري منها القيح والصديد وهو طعامهم وشرابهم، مادامت السموات والأرض، كما أخبر بذلك رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف (ملخص من شرح الترغيب والترهيب) .
الآيات الواردة في تحريم الخمر في كتاب اللَّه تعالى
-1 - قَالَ اللَّه تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما} : آية 219 من سورة البقرة.
-2 - قَالَ اللَّه تعالى: {يا أيها الذين آمنو إنما الخمر والميسر، والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} . آية 90 من سورة المائدة.
-3 - قَالَ تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وأحسنوا إن اللَّه يحب المحسنين} . آية 195 من سورة البقرة.
-4 - قَالَ تعالى: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} . آية 2 من سورة النساء.
-5 - قَالَ تعالى: {يا أيها الذين آمنو كلوا من طيبات ما رزقناكم} . آية 172 من سورة البقرة.
-6 - وقال تعالى: {وكلوا مما رزقناكم حلالاً طيباً} . آية 88 من سورة المائدة.
-7 - قَالَ تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن اللَّه كان بكم رحيماً} . آية 29 من سورة النساء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
-8 - قَالَ تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم} . آية 51 من سورة المؤمنون.
-9 - قَالَ تعالى: {يا أيها الذين آمنو لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} . آية 43 من سورة النساء.
إقامة الحد في الحرب
اتفق الأئمة على أن الحدود لا تقام في حال الغزو، ولا في دار الحرب.
مع أن الشريعة اٌسلامية تأمر أتباعها من الضباط، والجند، والقادة، بالمحافظة على طاعة اللَّه تعالى، والتمسك بأوامر الشارع الحكيم، والتحلي بالتقوى حتى يكتب اللَّه لهم النصرة على الأعداء حيث يقول اللَّه تعالى:{ولينصرن اللَّه من ينصره إن اللَّه لقوي عزيز} .
ويقول تبارك وتعالى: {إن تنصروا اللَّه ينصركم ويثبت أقدامكم} ولهذا كان الأمراء والقادة يوصون الجند والضباط، بالمحافظة على الصلاة في ميدان القتال. ويأمرونهم بالبعد عن ارتكاب المعاصي والذنوب، حتى ينصرهم اللَّه تعالى على أعدائهم، {وما النصر إلا من عند اللَّه} .
وقد ثبت أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قائد جيش المسلمين في حرب الفرس بالقادسية فأرسل إليه يوصيه وجنده ويقول له: أوصيك ومن معك بتقوى اللَّه تعالى على كل حال، فإن تفوى اللَّه من أفضل العدة على العدو، ومن أقوى المكيدة في الحرب. وأمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخطر عليهم من عدوهم، وإنما ينتصر المسلمون بطاعتهم للَّه تعالى وإيمانهم به ومعصية عدوهم له، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة.
ومع كل هذا فإذا وقع أحد المسلمين المجاهدين في ذنب يوجب الحد، فلا يقام عليه الحد في دار الحرب، والدليل على ذلك ما فعله سيدنا سعد بن أبي وقاص مع أبي مجحن الثقفي. فقد كان من الشجعان الأبطالفي الجاهلية والإسلام، ومن أولي البأس والنجدة. وكان شاعراً مطبوعاً كريماً، إلا أنه كان منهمكاً في الشراب، لا يكاد يقلع عنه، ولا يردعه حد ولا لوم لائم، وقد جلده عمر بن الخطاب في "الخمر" مراراً، ونفاه إلى جزيرة في البحر، وبعث معه رجلاً فهرب منه ولحق بسعد بن أبي وقاص بالقادسية وهو يحارب الفرس، وكان قد هم بقتل الحارث الذي بعثه معه عمر، فأحس الرجل بذلك فخرج فاراً ولحق بعمر، وأخبره خبره. فكتب سيدنا عمر إلى سعد بن أبي وقاص بحبس أبي محجن فحبسه. فلما كان (قس) الناطف بالقادسية والتحم القتال سأل أبو محجن امرأة سعد أن تحل قيده، وتعطيه فرس سعد، وعاهدها أنه إذا سلم عاد إلى حاله من القيد والسجن، وإن استشهد فلا تبعة غليه، فخلت سبيله وأعطته الفرس. فقاتل أيام القادسية، وأبلى فيها بلاءً حسناً ثم عاد إلى محبسه، وكان نصر المسلمين على يده، فترك سعد بن أبي وقاص إقامة الحد عليه حيث أن الحدود
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لا تقام في حال الغزو. والتعزير يرجع إلى الاجتهاد وقد رأى سيدنا سعد عدم إقامة حد الشرب على أبي محجن ولا تعزيره بعد أن بذل نفسه في سبيل اللَّه تعالى، وأبلى ما أبلى. ولا مطهر من الذنب أقوى من هذا، فقد ضمن اللَّه للمجاهد إن مات أن يدخله الجنة، وإن رجع يرجعه بما نال من أجر وغنيمة مغفور له، وقد أثر هذا العفو في نفس أبي محجن فتاب إلى اللَّه تعالى توبة نصوحة، وأقلع عن الشرب بعد ذلك. وهكذا يكون المؤمن قوي الإيمان، قوي العزيمة. يقلع عن الذنب بعد الادمان عليه، إذا خاف ذنبه. ورجع إلى ربه.
وقد روي أن الْنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم (نهى أن يقام حد في أرض العدو) أخرجه ابن أبي شيبة رحمه اللَّه تعالى) .
-