الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يدي العلاج
للدكتور محمد الهراس
بين يدي العلاج
…
بين يدي العلاج
للدكتور عبد السلام الهراس الأستاذ بجامعة محمد بن عبد الله (كلية الآداب) فاس ـ المغرب
إن في عالم اليوم تيارات امتاز بعضها بأحكام الفكرة وشموليتها وقد أكسبتها الممارسة والتطبيق بريقا وأي بريق. وهكذا لم تعد أفكارها تتردد في مجال النظر والعقل بما تمخضت عنها دول وكتل متميزة بمعالم وملامح انعكست على حياتها واخلاقها وعلاقاتها فهي مدينة لهذه الإيدلوجية أو تلك ملتحمة بها التحاما شديدا لأنها منذ اعتنقاها لها واتخاذها منطلقا لنهضتها وأسلوبا لحياتها واطارا لتطورها حدث تغيير عظيم في حياتها الحضارية وهكذا ارتبطت النهضة بالفكرة وتلازم ذكر التقدم الروسي بالماركسية، والتقدم الغربي باللبرالية والرأسمالية.
وقد كان للصراع الفكري أثر في عدة مجالات حتى في ميدان الرياضة كما تجلى ذلك في مونريال حيث كان التبارى والصراع على أشده بين الفريقين الممثلين للفكرتين للبرهنة على التفوق احدى الإيديولوجيات على الأخرى. ومعنى ذلك أن الفكرة، كأي انتاج يجب أن تتجاوز الدعوة إليها الإكتفاء بالبرهنة على صلاحيتها نظريا إلى تقديمها في صورة حضارية ملموسة يعيشها الإنسان ويسعد بها، لأن الفكرة الأكثر تأثيرا واغراءا أو اطراحا وتنفيرا هي التي يعكسها واقعها الملموس، بقطع النظر بأن يكون هذا الواقع انعكاسا حقيقيا لها أو انعكاسا لاختلال أخلاقي وعقائدي للذين يدعون أنهم أصحابها دون أن تكون هي في الحقيقة مسؤولة عنه، ففرق كبير بين فكرة تقدم وتعرض خلال أمة متماسكة، ودولة أو دول عظيمة ومصانع ضخمة وانجازات مذهلة في مجالات العلوم والإختراعات والتقدم الإجتماعي والحضاري، ومن خلال الحرص على كرامة الإنسان وأمنه وسلامته، وبين فكرة يدعى لها من خلال أمة أو أمم ممزقة ودول ضعيفة أو عجفاء متناحرة ومجتمعات متخلقة راكدة وانجازات جبارة ولكن في ميدان التفقير ومصادرة الكرامة الإنسانية بل البشرية وخنق الفكر السليم وتناقضات بين القول والعمل
وسيطرة جو من سوء الثقة بين الأفراد والجماعات والرعاة والرعية. فالمقياس المتداول أو المستعمل لاختيار صلاحية الفكرة أو عدم صلاحيتها هو مدى ما حققته لأصحابها من حضارة وما أنجزته في ظلها من نهضة أو تقدم أما المقاييس المثالية والتجريدية والمعتمدة على الإستدلال بالماضي والإشادة بعظمته والوعود بمستقبل غامض فأمور أثبتت أنها فاقدة لأهم عناصر التأثير والإلتفات.
فالرواج الإيديلوجي هو لمن يملك رصيدا ملموسا يؤيد دعوته وهذا بالضبط ما ساعد أعداء الإسلام على اقتحام عقول شبابه ومجتمعاته.
إذن فأول ما تواجه الدعوة الإسلامية هذه الأجهزة الجبارة التي تهاجمنا من كل صوب مدججة بالقوة والحجة والتنظيم مستعينة بوسائل كثيرة فعالة، تؤازرها دول عظمى وأخرى دونها متعاونة ببيادقها والتي تجاور الرقعة الإسلامية لضرب المسلمين والدعوة الإسلامية التي تتزعم دائما العمل التحرري التقدمي.
ولأعداء الإسلام زيادة على أجهزتها الصريحة والعلنية منظمات وأندية ذات أهداف دينية أو اجتماعية أو انسانية ولكنها في الحقيقة ذات هدف واحد وهو تهديم القيم الإسلامية وتعويق العمل الإسلامي، فهي إذن نشاط مواز للنشاط الإيديولوجي خادمة لأهدافه، إنه النشاط المستتر والعلني المتخفي وراء عناوين يبدو بعضها بريئا ولكن البعض الآخر مكشوف الأهداف شرس الأطماع مثل البهائية التي أصبح لها دور خطير في بعض البلاد الإسلامية وتتمتع بحماية ودعم يمكنها من التسرب والإشراف والتحرك في أمان وحرية مع وضوح اتصالها بالصهيونية والأجهزة الإمبريالية ومن هذه الأنشطة الأندية الثقافية والتجارية والإجتماعية التي تعمل في كثير من بلاد الإسلام بقيادة جماعة ممن يرتبطون بهذه الأمة إسما ونسبا ولكن باشراف أجنبي مشبوه. ولهذه الأندية فروع ذات أهمية في بعض البلاد الإسلامية وتتمتع بتقدير خاص وبارز حتى أصبح الإنتساب إليها شرفا وقربى، وقد وقع في شراكها بعض ذوي النبات الحسنة الذين لا يعرفون ماذا تدبر هذه الأندية بإسمهم وإسم أمثالهم من شر لأمتهم على المدى البعيد. وفي الحقيقة أنها خطت خطوات هامة وقطعت مراحل ملموسة مما يجعل منها مراكز قوى توجه وتتدخل من بعيد أو قريب في شؤون البلاد الإسلامية.
وهناك دعوات وجماعات من
انتاج محلي مهمتها نشر البدع وتعديم السنن وتتمتع بنفوذ قوي أوساط العوام وربما على مستويات أخرى، وهذه الدعوات تنازع العمل الإسلامي وتناوئه وقد استغلها أعداء الإسلام في بعض الفترات ولكن الذي يقع اليوم زيادة على ذلك أن أجهزة الإستشراق تعمل فيها لمحاربة الإسلام على احياء نوع خاص من الترات الصوفي لاستغلاله فب محاربة الإسلام والتشويش عليه. وهكذا تصبح هذه الدعوات والطرق من أشد المعوقات للدعوة الإسلامية الناصعة.
وهناك حركات ومنظمات سياسية في بلاد المسلمين لا تعادي الإسلام ولكنها لا تتخذه اطارا وسلوكا ودعوة لها ومها من حاول أن ((يعصر)) الإسلام و ((يعصرنه!)) وجعله مبدأ جزئيا من مبادئ دعوته السياسية. وهنا الخطر إذا أصبح الإسلام صالحا لأن يكون تارة في اليمين وتارة في اليسار حسب الموضة السائدة فهو موضوع استغلال لا موضوع قيادة واتباع. وهناك من جعل الإسلام وسيلة للإحتلال على الضمائر والتمويه والتضليل لغايات مرحلية محددة. وهكذا تشكل هذه الإتجاهات معوقا للإسلام حتى عند أصحاب النيات الحسنة الذين يظنون أنهم يحسنون صنعا بهذا التلفيق والترقيع! وهناك تعويق مزمن وهو الذي يتجلى في النزاع بين بعض الدعوات الإسلامية وبين سلطات بعض البلاد الإسلامية ولسنا هنا في موقف الادانة أو اللوم وإنما نحب أن نقول إن هذا النزاع لم يستفد منه إلا أعداء الإسلام.
ولكن ثمة معوق خطير يجب الإعتراف به والتنبيه إلى خطورته وهو ذلك التطاحن والصراع السلبي بين بعض الجماعات الإسلامية. مما جعلها مشغولة بانشقاقاتها منصرفة عن رسالتها الأصلية ومهمتها التي من أجلها أسست، ومن المؤسف أن تكون بعض الجماعات مصرة على سلوك هذا السبيل لهدم جماعة أخرى باذلة في سبيل ذلك كثيرا من الجهود والوقت والمال غير ملتفتة لما تبدده من طاقات وما تفوته من فرص وما تبثه من شقاق وما تقدمه لأعداء الإسلام من خدمات جلى وما تضيعه على المسلمين من خير كثير، بل أكثر من هذا فقد وقعت اختلافات هدامة بين الجماعة الواحدة وكل طرف فيها كان متمسكا بحجج ومتذرعا بمبررات مستدلا بالقرآن والسنة والأصول الأخلاى وهكذا استخدم الإسلام لهدم الإسلام!! إن هذا الاختلاف لا يقل خطورة ولا صورة عن ذلك الاختلاف الذي وقع بين أبي عبد الله بن الحسن وعمه أبي
عبد الله الزغل لغرناطة بينما كانت هذه المدينة الإسلامية في حالة احتضار ومحاصرة حصارا شديدا من جيوش الملوك الكاثوليك فضاعت الأندلس وضاع الأمراء.. إن هذا الصراع ليس في الحقيقة إلا نوعا من الإنتحار وجريمة من أمهات الكبائر التي لا تغتفر.
لقد مرت بالدعوة الإسلامية فترات من المحن القاسية ولكن أعني محنة عانتها هذه الدعوات هو الإنشقاق الداخلي الذي شل نشاطها وأخمد جذوتها وسلب عنها كثيرا من الفاعلية والنجاعة وما زالت مضاعفات هذه المحن الداخلية تلاحق الدعوات وتعرقل سيرها.
إن ما بيناه من معوقات الدعوة الإسلامية والحيلولة دون انطلاقها، قبل كل شيء في الداخل أمور مسلمة وهناك معوقات أخرى رئيسية أو ثانوية يدركها كل من زاول الدعوة إلى الإسلام.
فما العلاج؟ إنني أستبعد موقف التهرب والإنزواء واليأس، فالداعي إلى الله دائما متفائل حتى لو كان في أحلك الظروف وأشد الأحوال ولذلك لابد من البحث الحثيث والدراسة المستفيضة لوضع خطط واقتراح سبل وأساليب للتغلب على هذه المعوقات والعقبات وتحويل بعضها إلى عوامل دعم وقوة ومساعدة.
ومما يزيد في تفاؤلنا هذه التباشير التي تنطوي على ارهاصات بأن المستقبل للإسلام، ومن هذه الارهاصات الخارجية والداخلية.
(1)
الإفلاس الحضاري الذي يتمثل في الجفاف الروحي والتعفن الخلقي والتمزق الأسري والإضطرابات الإقتصادية والفوضى الفكرية مما أوجد تيها وضياعا بالإضافة إلى اصرار الغرب والشرق معا على ظلم الشعوب واستغلالها والحيلولة دون انعتاقها من ربقة التبعة مما جرد هذه الحضارة بشقيها من أهلية القيادة، ورغم ما يبدو من محاولات جبارة للانقاذ فإن الأمور لا تعدو أن تكون صحوة المحتضر.
(2)
أما في الداخل فهناك افلاس شامل ومذهل لما استوردوه من مذاهب وايديولوجيات وما ابتدعوه من ترهات القومية وغيرها فقد تعرت حقائقها وانكشفت أهدافها أمام الشعوب الإسلامية بسرعة كبيرة بما جرته عليها من ويلات وما حققته من خيبات
وما زرعته من سخط وتذمر وليس بينها وبين اقبارها النهائي سوى توفر بعض الظروف المواتية للإعلان عن الإستجابة السليمة لمطامح هذه الشعوب وارادتها.
(3)
وقد صاحب هذا الإفلاس المذهبي الداخلي يقظة مفعمة بالوعي والتطلع والقصد الجميل في أوساط الشعوب الإسلاميةولا سيما على مستوى الشباب والأجيال الصاعدة التي عانت خلال عشرين سنة ما عانت من قهر وإذلال وكبت للحريات وحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية باسم الحرية الديمقراطية والكفاية والعدل إلى آخر القائمة التهريجية المشؤومة التي لم تكن في الحقيقة إلا إرهاباً وتسلطاً وتثبيطاً للعزائم وتيئيساً من الحياة وتشتيتاً للجهود وتدميراً للمحاولات الطيبة لتقوية هذه الأمة وإرشادها لأحسن السبل وأقومها. كل ذلك كان خدمة للعدو الرابض في القدس وتمديداً لعمر العدوان والظلم وإغاثة للإمبريالية على إبقاء هيمنتها على مصائرنا وثرواتنا وعواطفنا وبالتالي على إبقاء الأمة الإسلامية منتكسة في المؤخرة بعيدة عن الاهتداء لشروط نهضتها وممارسة حياة حرة كريمة كما يأمرها بها دينها.
إن الإفلاس الخارجي والإفلاس الإديولوجي الداخلي والوعي الإسلامي الغامر أمور مساعدة للدعوة الإسلامية ومهيئة لها لتنمو بسرعة وثبات وشمول، لذلك فعلى هذه الدعوة أن تتدارك ما فاتها وتسارع إلى تنظيم نفسها تنظيماً مدروساً حتى تتلاءم والأوضاع الجديدة في الداخل والخارج معاً.
وأعود للسؤال السابق: فما العلاج؟ أو بعبارة أخرى: كيف نستطيع تجاوز هذه العراقيل والتغلب على المعوقات التي في طريق الدعوة؟
إنه من الصعب جداً أن يزعم الإنسان أنه قادر وحده على الجواب بسهولة وكفاية وصواب وبخاصة خلال كلمة مستعجلة أو مقالة مرتجلة لكن يمكن القول أن علاج الذات وصيانتها وتحصينها هي الشرط الأساسي لمواجهة الأخطار الخارجية، ويقتضي ذلك ترميم الجبهات الداخلية ولم شملها وإحكام أنظمتها وإنعاش مرافقها ومؤسساتها.
إن في العالم الإسلامي الآن مؤسسات
وجماعات وأفراداً للدعوة الإسلامية سواء على المستوى الرسمي والمستوى الشعبي وهي في مجموعها ذات إمكانات وطاقات عظيمة تستطيع أن تقوم بأهم مما تقوم به الآن من أداور ومهمات وقد أثبتت كثير من هذه المؤسسات والجماعات قديمها وحديثها فاعليتها في الدعوة بما تركته وتتركه من آثار في المجالات التي تعمل فيها كما أن ثمة أفراداً وأعلاماً يعملون في حقل الدعوة وبث الفكرة الإسلامية بالكتاب والمحاضرة والمقالة والمناظرة وغير ذلك من الوسائل المتاحة، أثبتوا جدارة مما قدموا من نفع عميم في مجال الفكرة والكلمة الإسلامية. ولكي تكون أعمالها أكثر فاعلية وإحكاماً أرى أن يقام جهاز للتنسيق بين هذه المؤسسات والجماعات والمنظمات ذات الأحجام والمواقع المحترمة. وأقترح أن يبادر إلى الدعوة من أجل تنظيم ملتقيات للتوصل إلى أحسن ما يمكن التوصل إليه من صيغة ذات صبغة عملية تنفيذية للتنسيق والتعاون والتكامل. من السهل فيما أحسب أن يتم ذلك بين بعض المؤسسات وبخاصة تلك التي لها إمكانات مهمة، لذلك إذا كان الأمر ينتج بهذه البداية فلنفعل والبقية تأتي. المهم أن يضع المؤتمر الأسس الكفيلة بإرساء قاعدة سليمة لانطلاق هذا التنسيق والتكامل إذ بذلك نكون قد خطونا بالدعوة الإسلامية خطوة محترمة.
أما الجماعات الإسلامية فإنها كما، نقرأ، تقوم بمجهودات ملحوظة من أجل اتحاد أو تنسيق لكن رغم ذلك فإن لخلاصنا لهذه الرسالة المقدسة تقتضينا أن نقول بصراحة أن الهدف لا يزال بعيدا إلا أن العزم الأكيد والمبادرة الجادة تؤتي أكلها دائما، لذلك فإن أول واجبتنا الدعوة إلى توحيد الصفوف على الصعيد المحلي بين الجماعات الإسلامية والجمعيات ذات الأهداف المشتركة وتدعيم كل جماعة إسلامية أثبت التاريخ أنها أخلصت لهذه الدعوة وضحت في سبيلها وسارت بها أشواطا كبيرة.
وهناك جماعات ناشئة في بعض البلاد الإسلامية لاتزال في مرحلة التكوين والتخلق مجاهدة وحدها، في الميدان تواجه تحديات كثيرة ومتنوعة وليس لها على الحق أعوان كما أنها لا تملك سوى وسائل بسطة وأفراد قلائل لأنها تعتمد على نفسها وامكاناتها الضئيلة، فهي في مسيس الحاجة إلى تشجيع مادي ومعنوي وإلى مؤازرة تشد من أزرها وتنقذها من المصير الذي آلت إليه
أمثالها من الجمعيات ذات الأهداف الإسلامية النبيلة التي أجهضت حركتها وهي بعد في طور التكوين والنشوء.
وبعض هذه الجمعيات الإسلامية الصغيرة تقوم بأعمال إذا قيست بما لديها من وسائل وامكانيات لعدت أعمالا كبيرة ولنا أمثلة كثيرة من هذا النوع في البلاد الإسلامية وفي أوربا.
وتوجد عبر العالم الإسلامي كفاءات مهمة في مجال الدعوة الإسلامية ولكنها فردية ومشتتة لا تربط بينها رابطة ولا يقيدها التزام جماعة أو جمعية. من هذه الكفاءات من تعمل في الداخل والخارج استجابة لدعوة موجهة إليها من هنا أو من هناك، فإن لم تجد من يحركها ويستفيد من طاقاتها تجمد وتنزوي بما استغلها المستغلون ومنها من هو ساكن قلما ما يتحرك سيما في بعض الظروف الخاصة!! وهناك من تقيده عن العمل ضرورات الحياة المادية فلو وجدت سبيلا إلى التفرغ للدعوة لسارعت للعمل بحماس واخلاص ولأعطت انتاجا وأي انتاج. لذلك يجب أولا القيام بمحاولة لحصر تلك الكفاءات واحصائها ودراسة أحوالها دراسة دقيقة للعمل على استثمار طاقاتها واخراجها من العزلة الإنفرادية إلى العمل الجماعي أو على الأقل العمل المخطط المضبوط المتناسق مع العمل الجماعي القائم على دراسة وشورى. لأننا نواجه عدوا بل أعداء يعملون عملا جماعيا منظما كأعظم ما يكون العمل الجماعي المنظم.
وأحب هنا أن أعطي مثالا واحدا عن مدى الربح الذي تجنيه الدعوة الإسلامية إن هي استطاعت أن تستفيد من عمل هؤلاء الدعاة الأفراد. لقد كان مالك بن نبي رحمه الله كاتبا كبيرا في بلده وفي فرنسا ولكنه لم يجد آذانا صاغية ولا مناخا متجاوبا إلا في دائرة ضيقة وصغيرة وذلك لأسباب ليس هناك مجال لدراستها، وهكذا ظلت أفكاره مجمدة طيلة ثلاثين سنة وعندما جاء لاجئا للقاهرة سنة 1956لم يلتفت إليه أحد وذات يوم وجد بعض الطلاب مقالة منشورة في مجلة روز اليوسف بقلم رئيس تحريرها تحت عنوان ((الإستعمار في نفوسنا)) يتحدث فيها صاحبها عن زيارة لكاتب جزائري له، لا يتقن العربية ويتكلم الفرنسية بطلاقة ولكنه يفكر بعمق ويتناول مشاكل أمته الإسلامية بعقلية جديدة وأسلوب علمي صارم. وأعطى الكاتب الصحفي صورة سليمة عن فكرته التي تتلخص في أن الإستعمار عرض لمرض داخلي وهو القابلية للإستعمار فللقضاء
على العرض لابد من علاج المرض والقضاء عليه وهو القابلية للإستعمار وباختفائها يتخفى الإستعمار منطلقا في فلسفته تلك من قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . لقد قرأ هذا المقال كثير من القراء ولكن طالبا واحدا أو طالبين هما اللذان تنبها إلى قيمة الرجل ورأيا أن الشباب الإسلامي في أشد الحاجة إليه، وبذلا جهدهما للإتصال به، وأخيرا إتصل به أحدهما وتلك كانت البداية، وهناك اتصل ببعض الطلاب المسلمين المغاربة واللبنانيين واللبيين والسعوديين والجزائريين وغيرهم من طلاب العالم الإسلامي ونتيجة لهذا الاتصال والإعجاب بالرجل قام بعض الطلاب المغاربة واللبنانيين والمصريين بطبع أول كتاب له بمصر بعد أن ترجموه للعربية وهو)) شروط النهضة ((ومن ثم انطلق نشاط مالك بن نبي رحمه الله فكان هذا العطاء المثمر وهذا الإنتاج العضيم الذي نفع الله به المسلمين في هذا الظرف من حياة دعوتهم. وقد كان مالك بن نبي يعيش منذ أن حلّ بالقاهرة في جو الطلبة ويتعامل معهم ويحاورهم ويفيدهم ويستفيد منهم وإن بعض طلابه هم الآن القائمون على جمع آثاره وترجمتها وطبعها ونشرها كما أوصى هو نفسه بذلك.
هذا مثال لمدى ما يمكن أن تفيده الدعوة من الكفاءات الفردية لو أحسنا الاتصال بها وتوجهها واتاحة الفرصة لها للعمل.
تلك نقطة أولية في سبيل العلاج.
والنقطة الأخيرة:
هو أن الدعوة الإسلامية يجب أن ترتكز قبل كل شيء على الوسائل العلمية في عملها. فالتحديات الخارجية والداخلية لهذا الدين كثيرة ومتنوعة تستعين علينا بالعلوم والخبرات والأدمغة المفكرة، ولها جامعات وأقسام ومؤسسات متخصصة في دراسة العالم الإسلامي دراسة دقيقة في ماضيه وحاضره وإن مراصدها الثقافية والعلمية تمتاز بالدقة والمرونة وطول النفس، وهو يستخدمون حتى طلابنا وبحاثنا الذين يدرسون عندهم في جامعاتهم لغاياتهم المحددة دون أن نشعر نحن بتلك الغايات ولقد تحولت كثير من الدراسات الجامعية بالغرب والشرق لخدمة الدولة في مختلف علاقاتها مع البلاد الإسلامية زيادة على أجهزة أخرى متخصصة.
ونحن نستطيع أن تكون لنا أجهزة ومراصد ومؤسسات تعنى بدراسة هذه التحديات المقتحمة علينا ديارنا من الخارج والأخرى النابتة في أرضنا
وهي أخطر علينا من تلك، ولذلك يجب تكوين جهاز علمي يضم اختصاصين مقيمين ومراسلين وجوالين مهمته دراسة هذه التحديات ووضع ملفات دقيقة عنها وجمع الوثائق المتصلة بها ونشر ما يمكن نشره منها ويجب أن يكون هذا العمل في اطار علمي موضوعي بعيد عن الانفعالات والعواطف، فالمعركة طويلة ومريرة {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} .
وبجانب هذا الجهاز ينبغي أن تكون ثمة مؤسسة (معهد أو مركز) أخرى موازية لها مهمتها دراسة تجارب الدعوات الإسلامية في القديم والحديث ونهتم بوجه خاص بالتجارب الحديثة.
والدراسة كما في علمكم تعتمد على خطة منهجية موضوعية، يبدأ بتجميع مواد الدراسة من مصادرها ومظانها ثم تصنيف هذه المواد وترتيبها والتنسيق بين أجزائها لوضعها في إطارها الكلي المترابط ثم القيام بدراستها وتحليلها واستخلاص خصائصها ومميزاتها إلى غير ذلك مما يضفي على الدراسة سمة)) العلمية ((بالإضافة إلى ذلك يقوم هذا الجهاز بطبع فهارس للكتب والمقالات والنشرات التي تتصل بالدعوة الإسلامية وتقوم برصد كل ما ينشر أو يطبع في هذا المجال لتزويد مراكزومؤسسات الدعوة بكل جديد. ويمكن نشر ما تراه مفيداً من تلك الكتب أو النشرات وترجمته إلى لغات العالم الإسلامي وينبغي أن يكون لهذا الجهاز مجلة دورية تنشر منها الجديد في الدعوة الإسلامية.
والحق أن ثمة محاولات طيبة في مجال الإعلام الإسلامي وفي مجالات ثقافية وصحفية ولكنها محدودة وضعيفة الإمكانيات والوسائل ومتعثرة.
وهناك قضايا أخرى على مستوى الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج لا أحب إثارتها هنا ذلك أن الأجهزة التي يجب أن تنبثق عن هذا المؤتمر المبارك هي التي تستطيع أن تقوم بدراسة قضايا الدعوة دراسة مستفيضة معتمدة على الوثائق والمشاهدة والاتصال والاستقصاء والتتبع لذلك يسهل وصف العلاج للتغلب على تلك المعوقات ومثيلاتها من أجل إنطلاقة سليمة وشاملة وثابتة، إذ متى كانت السبيل واضحة كان السير على بصيرة وهدى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} .