الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لمبعوثيه الذين أرسلهم معلمين هنا وهناك من أمثال معاذ بن جبل، وفي إجاباته عن أسئلة محددة من أشخاص ذوي سمات خاصة مجال واسع لتأمل رشيد، يعود على صاحبه بما يفتح بصيرته على رؤى ومدارك لم يكن يراها من قبل.
إن العصر الذي نعيشه ابتكر من وسائل الاتصال والتوصيل ما لم تعرفه الدنيا ولا سمعت به قبل قرن واحد. وكلها مما يتوسل به لتوصيل الكلمة نافذة مؤثرة بأقصى ما تحتمل من هذا التأثير.
والدعوة الإسلامية ـ وأداتها الكلمة ـ لا بد لها من تفكير جاد في دراسة وسائلها التقليدية لتطورها من جهة، ولتكملها بما استحدثه العصر من وسائل تلائمها وتجعله أكثر قدرة على النفاذ إلى القلوب والعقول.
إن نقاء أجهزة الدعوة الإسلامية في عالمنا مقيدة بهذه الحدود والوسائل الضيقة التي دفعت إلى مضايقها دفعاً خلال فترات مختلفة من تاريخ المسلمين، يجعلها متخلفة عن الوفاء بحاجة العصر. والمسلمون طوروا كل أساليب حياتهم تقريباً. واستحدثوا كل جديد رأوه نافعاً في مجالات الحياة، ومن واجبهم أن يعطوا ((الدعوة)) إلى الله جانباً من هذه العناية.
ثالثا: مناخ الدعوة
وهو الميدان الثالث الذي تنبثق منه مشكلات كثيرة تتصل بالدعوة والدعاة بل لعله أخطر الميادين كلها على الدعوة سلباً وإيجاباً.
إن مناخ ((الدعوة)) حينما يكون ملائماً يتيح لها من الحرية والانطلاق ما هو شرط ضروري لازدهارها وإيجابيتها، وحين يكون هذا المناخ غير موات بما يسوده من كبت وتقييد تفقد الدعوة أول شرط لحياتها، وتصبح مختنقة محبوسة الأنفاس.
حينما قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ـ الجن 18 فقد قرر حق الدعوة في حرية مطلقة لا قيود عليها، وأوجب على الدعاة ألا يذعنوا لأي نوع من أنواع الضغط أو التوجيه الذي ينال من تجردهم للغاية التي جندوا أنفسهم لها.
وإذا كان من واجب حكام المسلمين أن يوفروا للدعوة هذه الحرية الكاملة فمن واجب الدعاة كذلك ألا يسيئوا استخدام هذه الحرية بما يسئ إلى أممهم ودولهم دون غاية من دين أو دنيا تبرر هذه الإساءة.
وإذا كان لا بد هنا من ضابط لهذه الحرية فهذا الضابط يتمثل في أمرين:
1ـ تجريد الغاية كلية لله، فلا هوى ولا غرض، ولا مرض ولا عرض من أعراض الدنيا.
2ـ سمو الأسلوب، واستقامة المنهاج بالالتزام بما أرسته الآية المباركة. {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} النحل الآية 125.
إن حرية الدعوة يقابلها الالتزام بهذا الأدب الإلهي الذي سنه الله تعالى لإمام الدعوة صلوات الله وسلامه عليه.
حرية الدعوة والتزامها على هذا النحو هي الصيغة الوحيدة التي يمكن على أساسها حل المشكلة الأساسية التي تعاني منها)) الدعوة الإسلامية ((في كثير من البلدان، وهي مشكلة كونها تابعة للحكومات والسلطات.
والمشكلة هنا ذات أبعاد يجب تأملها ليمكن تصورها على نحو صحيح.
ماذا تعني تبعية أجهزة الدعوة في بلد ما للحكومة المسؤولة فيه؟
تعني أولاً: أن ينسحب منطق الوظيفة على هذا الجهاز.. فالعاملون فيه موظفون تحدد عليهم واجبات، وتقرر لهم حقوق، ويخضعون لنظام من التوجيه والرقابة تشبه إلى حد كبير ما يسود مجالات الحياة الأخرى، كما يتعرضون لنظام العقاب والثواب أسوة بغيرهم من موظفي الدولة هنا وهناك.
هذا الإطار الوظيفي إن صلح لأي مجال آخر في الحياة فهو في مجال الدعوة غير صالح على الإطلاق، فالدعوة إنما تقوم أٍساساً على الالتزام أمام الله وليس على الالتزام من جانب السلطات كائنة ما كانت.
ونظام الرقابة في هذا المجال لا يمكن أن يأتي من خارج الإنسان، وإنما يجب أن يتولد من داخله خلال عملية الإعداد والتربية والتكوين.
إن ضمير الداعية يجب أن يكون الفيصل في مسألة الرقابة وما يتصل بها وحاجة الدعاة إلى رقابة خارجية معناه: فشل إعدادهم وتربيتهم من ناحية، وعدم صلاحيتهم لمهمتهم من ناحية أخرى، وخير للدعوة ـ ألف مرة ـ أن ينحى عن مجالها كل من يحتاج لرقابة خارجية من بقائه في ساحتها.
وتعني ثانياً: إحساس جهاز الدعوة التابع بأن مصيره وقدره مرتبط بطاعته لأولي الأمر، وأن مخالفته إياهم ـ ولو كان فيها إرضاء الله ـ يعرض حياته وحياة من يعولهم لخطر يتصل بمصدر رزقهم.
هذا الإحساس يهدهد من شجاعة الدعاة في الجهر بكلمة الحق، وينمي، بالتدريج روح الهوينى ويبرر الخمول والكسل، حتى ينتهي الأمر إلى أداء شكلي هزيل
…
وتعني ثالثاً: أن يدخل ((الدعاة)) في معركة المطالبة بتحسين الأوضاع، فهم جزء من جهاز الدولة يتأثر بما حوله، ودخول الدعاة في هذا الجو مشغلة من جهة تصرفهم عن وجهتهم، وتبدد الكثير من طاقاتهم، ومن جهة أخرى ينال من صورتهم ـ كمثل وقدوة ـ في أنظار الناس، وعلى هذه الصورة يتوقف الكثير من استجابة الناس لهم ورفضهم إياهم.
وتعني رابعاً: أن على جهاز الدعوة أن يختار أحد طريقين: إما أن يساير ما يجري في مجتمعه ما دامت القائمة تقره، وإما أن يقول كلمة الحق معلناً أن السلطات تخالف حكم الله في هذا الذي أقرته، هذا الصراع النفسي داخل الداعية موجود مستمر طالما ظل هناك انفصال بين مواقف الحكام في التشريع والتطبيق وتنظيم الحياة، وبين توجيه الإسلام.
والحق أن هذه المشكلة من أعقد مشكلات الدعوة.
فتبعية الدعوة للحكومات تضمن لها وللقائمين عليها مواد يصعب تدبيره عن طريق آخر ومعناه: أن قطع هذه التبعية يقتلها قتلاً!
واستمرار هذه التبعية يعرض الدعوة في كثير من الأحيان لضغوط تشل فاعليتها وتفرغها من مضمونها!
والحل في نظرنا يمكن تحقيقه على النحو التالي:
1) توفير ضمانات كافية تؤمن ((الدعاة)) تأمينا كاملا فيما يتصل بأرزاقهم، بمعنى أنهم لا يصادرون في أرزاقهم مهما كانت المآخذ أو حتى التهم التي توجه إليهم!
2) أن تتولى محاسبة من يرى أنه ارتكب ما يوجب المحاسبة هيئة علمية تحاكمه على أساس واضح من مقررات الإسلام التي لا يجوز للداعية أن يذعن لغيرها، ولا يجوز لغيره أن يحاكمه إلا على أساسها.
3) التفكير في نظام يكفل تمويل الدعوة على مستوى العالم الإسلامي ـ كما اقترحنا في صدر البحث ـ وبحيث لا يكون هناك سلطان مباشر للحكومات على الدعاة.
هذه هي المجالات الثلاثة الكبرى