المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: علم اللغة والمجتمع الإنساني - المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي

[رمضان عبد التواب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌القسم الأول: ال‌‌مدخلإلى علم اللغة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الدراسة الصوتية

- ‌مدخل

- ‌كيف يحدث الصوت الإنساني:

- ‌الأصوات الصامتة والمتحركة:

- ‌بيننا وبين القدماء في وصف بعض الأصوات

- ‌الضاد

- ‌الطاء:

- ‌الجيم:

- ‌القاف:

- ‌العين:

- ‌نظرية الفونيم والكتابة:

- ‌أصوات العلة "الحركات

- ‌المقاطع الصوتية:

- ‌النبر والتنغيم:

- ‌الفصل الثاني: نشأة اللغة الإنسانية

- ‌مدخل

- ‌المذهب الأول:

- ‌المذهب الثاني:

- ‌المذهب الثالث:

- ‌المذهب الرابع:

- ‌المذهب الخامس:

- ‌المذهب السادس:

- ‌المذهب السابع:

- ‌الفصل الثالث: علم اللغة والمجتمع الإنساني

- ‌الفصل الرابع: علم اللغة والنفس الإنسانية

- ‌الفصل الخامس: علم اللغة والجغرافيا اللغوية‌‌ الأطلس اللغوي

- ‌ الأطلس اللغوي

- ‌طريقة عمل الأطلس اللغوي

- ‌مدخل

- ‌ الطريقة الألمانية:

- ‌ الطريقة الفرنسية:

- ‌الفرق بين الطريقتين:

- ‌محاولات "برجشتراسر" في هذا الميدان

- ‌الفصل السادس: اللغة المشتركة واللهجات

- ‌الفصل السابع: الصراع اللغوي "أسبابه ونتائجه

- ‌القسم الثاني: مناهج البحث اللغوي وتطبيقات المنهج المقارن

- ‌الفصل الأول: المنهج المقارن بين مناهج البحث اللغوي

- ‌مدخل

- ‌ المدرسة اللغوية البنيوية:

- ‌ مدرسة النحو التوليدي التحويلي:

- ‌ مدرسة القوالب:

- ‌المستويات النحوية:

- ‌الفصل الثاني: في أصوات اللغة

- ‌ الأصوات الشفوية:

- ‌ أصوات الصفير والأصوات الإنسانية:

- ‌ صوت الجيم:

- ‌ الكاف والقاف:

- ‌ أصوات الحلق:

- ‌ الأصوات المائعة:

- ‌الفصل الثالث: أبنية الفعل

- ‌ الوزن الأصلي "مجرد الثلاثي

- ‌ وزن فعل

- ‌ وزن فاعل:

- ‌ وزن السببية:

- ‌ وزن المطاوعة بالتاء:

- ‌المطاوعة البنون

- ‌ المبنى للمجهول:

- ‌ أبنية أخرى:

- ‌الفصل الرابع: أدوات التعريف والتنكير

- ‌الفصل الخامس: التذكير والتأنيث

- ‌الفصل السادس: إسناد الماضي إلى الضمائر

- ‌الغائب المفرد المذكر

- ‌ الغائبة المفردة المؤنثة:

- ‌جمع الغائبين

- ‌ جمع الغائبات:

- ‌ المخاطب المذكر:

- ‌ المخاطبة المؤنثة:

- ‌ جمع المخاطبين:

- ‌ جمع المخاطبات:

- ‌ المتكلم المفرد:

- ‌ المتكلمون:

- ‌الفصل السابع: الأفعال المعتلة

- ‌الفصل الثامن: تطابق العدد في الجملة الفعلية

- ‌قائمة المصادر:

- ‌أولا: المصادر العربية

- ‌ثانيا: المصادر الأفرنجية:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌الفصل الثالث: علم اللغة والمجتمع الإنساني

‌الفصل الثالث: علم اللغة والمجتمع الإنساني

ليست اللغة بمعزل عن العلوم الأخرى، فلها "ارتباط وثيق بعلوم الطبيعة، فإن أصوات لغة الكلام، تنتج وتستقبل عن طريق أجهزة الجسم الإنساني. وتركيب هذه الأجهزة ووظائفها جزء من علم وظائف الأعضاء. وكذلك فإن انتقال الصوت على شكل موجات صوتية عبر الهواء، يدخل في اختصاص علم الطبيعة، وبخاصة ذلك الفرع، المعروف بعلم الصوت. ولكن اللغة، من ناحية أخرى، لها علاقة وثيقة بعلم الإنسان، وعلم الاجتماع، باعتبارها نتاج علاقة اجتماعية، ووسيلة نقل الثقافة، التي تعد من وجهة نظر علم الإنسان، مجموعة تقاليد الشعب، وأوجه استعمالاته للغته. وبالنظر إلى وظيفة اللغة، كتعبير عن الفكر، يمكن اعتبار اللغة جزءا من علم النفس"1.

ونتناول في هذا الفصل، علاقة اللغة بالمجتمع الإنساني، وقد ذكرنا من قبل، أن اللغة نشاط اجتماعي، من حيث إنها استجابة ضرورية، لحاجة الاتصال بين الناس جميعا، ولهذا السبب يتصل علم اللغة اتصالا شديدا، بالعلوم الاجتماعية، وأصبحت بعض بحوثه تدرس في علم الاجتماع، فنشأ لذلك فرع منه يسمى:"علم الاجتماع اللغوي"، يحاول الكشف عن العلاقة بين اللغة والحياة الاجتماعية، وبين أثر تلك الحياة الاجتماعية في الظواهر اللغوية المختلفة.

1 انظر: أسس علم اللغة لماريوباي 42.

ص: 125

وقد تنبه اللغويون إلى مثل هذه البحوث، بعد أن رأوا الدراسات، التي تقوم بها المدرسة الاجتماعية الفرنسية، التي أنشأها "دوركايم" Durkheim في أوائل القرن العشرين، وانضم إليها كثير من علماء اللغة في فرنسا وألمانيا وإنجلترا وسويسرا والدانيمارك، وكثير من أساتذة الجامعات في أوربا وأمريكا.

ومن العلماء من لم ينضم انضماما إيجابيا إلى هذه المدرسة غير أنهم تأثروا بعقلية "دوركايم" الجبارة، وبذلك أصبحت بحوث المدرسة الاجتماعية الفرنسية، أساسا للبحوث اللغوية في كثير من الأحيان؛ إذ طبقت نظريات علم الاجتماع العام على اللغة، وحاول الباحثون أن يبينوا لنا أثر المجتمع ونظمه وحضاراته المختلفة، على الظواهر اللغوية، باعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي أولا وقبل كل شيء، ولذلك كانت اللغة كائنا حيا كالإنسان سواء بسواء؛ لأنها ألصق الظواهر الاجتماعية به.

ويقول فندريس: "في أحضان المجتمع تكونت اللغة، ووجدت يوم أحس الناس بالحاجة إلى التفاهم بينهم، وتنشأ من احتكاك بعض الأشخاص، الذين يملكون أعضاء الحواس، ويستعملون في علاقاتهم الوسائل التي وضعتها الطبيعة تحت تصرفاتهم، الإشارة إذا أعوزتهم الكلمة، والنظرة إذا لم تكف الإشارة"1.

وهكذا يرى "فندريس" أن اللغة تنتج من اللاحتكاك الاجتماعي، ثم تصبح عاملا من أقوى العوامل، التي تربط أفراد المجتمع الإنساني، ويرى علماء الاجتماع أن الظواهر الاجتماعية لها قوة قاهرة آمرة، تفرض بها على أفراد

1 اللغة لقندريس 35.

ص: 126

المجتمع، ألوانا من السلوك والتفكير والعواطف، وتحتم عليهم أن يصبوا سلوكهم وتفكيرهم وعواطفهم، في قوالب محددة مرسومة -على حد تعبيرهم.

ويدل على وجود القهر في الظواهر الاجتماعية -عند علماء الاجتماع- أن الفرد إذا حاول الخروج على إحدى هذه الظواهر الاجتماعية، فإنه سرعان ما يشعر برد فعل مضاد من المجتمع الذي يعيش فيه؛ ذلك لأن المجتمع يشرف على سلوك أفراده. ويستطيع توقيع العقاب، على كل من تسول له نفسه الخروج عليه. وأهون صور هذا العقاب، هو التهكم الشديد، أو السخرية المرة.

والأمثلة على وجود هذا القهر، أن المجتمع لا يسمح لنا مثلا أن نتحدث باللغة العربية لمن يفهمها، ولا أن نحدث العامة مثلا باللغة الفصحى، التي لا تسمو إليها مداركهم، فإن كل من يحاول الخروج على السلوك اللغوي لجماعته، يعد خارجا على الظواهر الاجتماعية نفسها.

وقصة أبي علقمة الثقفي، الذي اشتهر باستعمال الغريب والوحشي من الألفاظ، في حواره مع طبيب جاءه يشكو إليه من مرض ألم به، خير مثال لهذه القضية، من تراثنا العربي، فقد "دخل أبو علقمة على أعين الطبيب، فقال له: أمتع الله بك! إني أكلت من لحوم هذه الجوازل، فطسئت طسأة، فأصابني وجع ما بين الوابلة إلى دأية العنق، فلم يزل يربو وينمي حتى خالط الخلب والشراسيف، فهل عندك دواء؟ فقال أعين: نعم، خذ خربقا وشلفقا وشبرقا، فزهرقه وزقزقه، واغسله بماء روث واشربه. فقال أبو علقمة: لم أفهم عنك! فقال أعين: أفهمتك كما أفهمتني"1.

1 انظر عيون الأخبار 2/ 162.

ص: 127

ويروى أن الشيخ "حمزة فتح الله" رحمه الله، وكان مفتشا بالمدارس المصرية، قدم ذات يوم من رحلة تفتيشية له بمدارس الريف، وعندما وصل به القطار إلى محطة القاهرة نظر حوله، لعله يجد رجلا يحمله على حماره إلى بيته -أيام كانت الحمير هي الوسيلة الوحيدة للنقل- فبصر برجل يجر خلفه حمارا فناداه:"أيها المكاري! "، فقال الرجل:"نعم" فقال الشيخ حمزة: "إيتني بأتان جمزى! "، فظن الرجل أنه يتكلم لغة أجنبية، فقرب منه، وجعل يستطلع جلية ما يريد، حتى أخذ منه الجهد، ولم يحظ منه بطائل. وهنا حلت العقوبة بالشيخ حمزة؛ إذ تركه صاحب الحمار، وذهب لحال سبيله، وهرول الشيخ إلى بيته، وهو يقول:

مشيناها خطى كتبت علينا

ومن كتبت عليه خطى مشاها1

وهذا القهر الذي يفرضه المجتمع على أفراده، يختلف بالطبع شدة وضعفا، إلا أنه موجود دائما، حتى ولو لم نشعر به حين نستسلم له. ويرى علماء الاجتماع، أن ضروب السلوك والتفكير، لا توجد خارج شعور الفرد فحسب، بل تمتاز كذلك بقوة قاهرة آمرة، هي السبب في أنها تستطيع أن تفرض نفسها على الفرد، شاء أم أبى. حقا إن الإنسان ربما لا يشعر بهذا القهر، أو لا يكاد يشعر به، حين يستسلم له بمحض اختياره؛ لأن الشعور بالقهر في مثل هذه الحالة ليس مجديا، ولكن ذلك لا يحول دون أن يكون القهر من خصائص الظواهر الاجتماعية.

ويهمنا هنا بالطبع اللغة، من بين الظواهر الاجتماعية، وهي أداة للتعبير عما يدور في المجتمع، فهي تسجل لنا في دقة ووضوح الصور المختلفة المتعددة الوجوه، لهذا المجتمع، من حضارة ونظم وعقائد، واتجاهات فكرية وثقافية، وعلمية وفنية واقتصادية وغير ذلك.

1 انظر اللغة بين المعيارية والوصفية 65.

ص: 128

واللغة بدورها تتأثر بكل هذه الظواهر الاجتماعية، تأثرا كبيرا، فهي بدوية في المجتمع البدوي غير المتحضر، ولذلك نجدها فيه محدودة الألفاظ والتراكيب والخيال، ليست مرنة ولا تتسع لكثير من فنون القول. أما إذا كانت اللغة في مجتمع قد أخذ قسطا من الحضارة، فإننا نجدها متحضرة الألفاظ، مطردة القواعد، يسيرة في نطقها، خفيفة الوقع على السمع.

واللغة في المجتمع البدائي كثيرة المفردات، فيما يتعلق بالأشياء المحسوسة، والأمور الجزئية، قليلة الألفاظ التي تدل على المعاني الكلية، فالرجل البدائي "قد توجد لديه كلمات خاصة للدلالة على المعاني الجزئية، كغسل نفسه، وغسل رأسه، وغسل شخص آخر، وغسل رأس شخص آخر، غسل وجهه، وغسل وجه شخص آخر

إلخ، في حين أنه لا توجد لديه كلمة واحدة، للدلالة على العملية العامة البسيطة، وهي: مجرد الغسل"1.

وكثيرا ما تخلو مدلولات الكلمات، في هذا المجتمع البدائي، من الدقة، ويكثر فيها اللبس والإبهام، وهي غالبا لا تعبر إلا عن ضرورات الحياة اليومية، ولذلك كانت جملها قصيرة، وروابطها قليلة. ولا يزال بعض هذه اللغات البدائية. يعتمد حتى الآن اعتمادا كبيرا، على الإشارات اليدوية والجسمية، لإعطاء المعنى المقصود، من الألفاظ التي ينطقونها، إلى درجة أن الأهالي يوقدون النيران ليلا، لكي يتمكنوا من فهم ما يقال؛ لأن الإشارات التي تصحب الكلام، تكمل الناقص من المفردات، وتحدد مدلول الكلمات.

1 دور الكلمة في اللغة لأولمان 116.

ص: 129

ولا تزال في اللغات الراقية، بقايا هذه البدائية، في بعض الإشارات الجسمية الموضحة للمراد من الكلام، في بعض الأحيان. وهذا هو السر في غموض بعض كلمات الحديث التليفوني، أو أحاديث الظلام. وقد روى لنا ذلك "ابن جني" فقال:"وقال لي بعض مشايخنا رحمه الله: أنا لا أحسن أن أكلم إنسانا في الظلمة"1. كما يقول ابن جني أيضا: "وكذلك إن ذممت إنسانا، ووصفته بالضيق، قلت: سألناه وكان إنسانا! وتزوي وجهك وتقطبه، فيغني ذلك عن قولك: إنسانا لئيما أو لحزًا أو مبخلا أو نحو ذلك"2.

وتعكس اللغة أثر التفاوت بين طبقات المجتمع. وفي ذلك يقول "ماريو باي": "من المسلم به أن اللغة تتغير، تبعا للطبقة التي تتحدث بها. وقد صرح بعض هواة اللغويات في بريطانيا، بأن هناك نوعين من اللغة، أحدهما وقف على الطبقة الراقية، ولا يمتد استعماله إلى الطبقة الدنيا، والآخر لا يستخدمه إلا أفراد الطبقة الدنيا. وهناك لغات تصل الفوارق الطبقية فيها إلى أبعد من ذلك، فهناك مثلا ثلاثة أنواع للغة "جاوا"، أحدها يتحدث به أهل الطبقة الدنيا ويسمى: نجوكو Ngoko والآخر تستخدمه الطبقة الراقية، ويسمى كراما Krama وثالث لتسهيل عملية التفاهم بين الطبقتين، ويسمى: ماديا Madya. ويتحدث أفراد الطبقة الراقية في بعض التمثيليات الهندية القديمة: اللغة السنسكريتية، على حين يتحدث أفراد الطبقة الدنيا: اللغة البراكريتية"3.

1 الخصائص 1/ 247.

2 الخصائص 2/ 371.

3 لغات البشر 82، 83.

ص: 130

ولا شك أن التغير الاجتماعي، في بيئة من البيئات، يتبعه تغير في شيء من اللغة المستعملة في تلك البيئة. ويكفي أن نذكر بأن قيام ثورة 23 يولية في مصر، أدى إلى تغير في النظام الاجتماعي، تبعه اختفاء كلمات مثل: بك، وباشا، وصاحب العزة، وصاحب السعادة، وصاحب الدولة، وصاحب المعالي، وصاحب الرفعة، وصاحبة العصمة، والبرنس، وسمو الأمير، وصاحب الجلالة، والذات الملكية. كما شاعت ألفاظ مثل: ثورة التحرير، والعزة والكرامة، والتأميم، والاشتراكية، والتحول الاشتراكي، والمكاسب الاشتراكية، والتقدمية، والرجعية، والتطلع الطبقي، والصراع الحتمي، وتذويب الفوارق الطبقية، ونضال الجماهير، والنقاء الثوري، والقيادة الجماعية، والجماهير الكادحة، والعناصر الانتهازية، والمصير المشترك، والسلام القائم على العدل، وفك الاشتباك. وغير ذلك كثير.

وكثيرا ما يؤدي التفاوت بين طبقات المجتمع، إلى نشوء لغات سرية عامية، هي بنوع خاص لغة الأشقياء والخارجين على القانون، ممن يعيشون في خوف دائم من سطوته؛ لأنهم يحيون حياة على هامش المجتمع.

ويقول قندريس: "كان عندنا، حتى بداية القرن التاسع عشر، هيئة منظمة حقا للأشقياء، وكانت لها لغتها الخاصة المتفق عليها، والتي كان يعمل كل عضو من أعضاء الهيئة، على المحافظة عليها"1.

ونحن نعرف عن هذه اللغة الخاصة في كل البلاد، غناها بالتعبيرات التي تشبع الغرائز المادية، والصفات المذمومة التي تنطوي على الجريمة، كالسرقة والزنا والسكر، وما إليها من أنواع الانحلال الخلقي، ففي لغة هذه

1 اللغة لفندريس 316.

ص: 131

الطبقات من أهل فرنسا مثلا، نجد ثماني عشرة كلمة تعبر عن الأكل، وعشرين عن معاقرة الخمر، وعشرين أخرى للتعبير عن الخمر نفسها، وأربعين لفظا تعبر عن السكر. ولخشيتهم دائما من سطوة القانون، جعلوا للشرطي اثنتي عشرة كلمة، وللفرار منه خمسة عشر لفظا، كما سموا السجن معهدا ومدرسة، والبؤس فلسفة وسموا الحذاء البالي فيلسوفا. أما المال الذي يستحوذ على أفكارهم وقلوبهم، فقد وضعوا له ستين كلمة. والبغايا اللاتي يعشن معهم دائما، وضعوا لهن ثمانين كلمة، تعد كلها وابلا من السباب بأحط الألفاظ. أما السيدة الفاضلة، فليس لها كلمة واحدة في لغتهم. والرجل المستقيم، يعبرون عنه بالبساطة، ومعناها في عرفهم الغفلة والغباء.

وكثيرا ما توجد في هذه اللغات العامية الخاصة نشاط وحيوية؛ إذ نجدها مليئة بالاصطلاحات المجازية والاستعارية المتجددة "فالاستعمال الاستعاري من الوسائل المحببة إلى العامية الخاصة"1. ويقول في ذلك ماريو باي: "الصوتيات وأصول الكلمات ملك مشاع لكل الطبقات الاجتماعية، على حين تظهر الاختلافات الطبقية، في اختيار المفردات اللغوية، وطريقة استعمالها"2.

ولا يطلق اصطلاح "اللغات الخاصة" على هذه اللغات السرية فحسب، وليست كل ألفاظها فحشا، وليست كل تراكيبها تعبيرا عن الرذيلة والجريمة؛ إذ إنه "يوجد من العاميات الخاصة بقدر ما يوجد من جماعات متخصصة. والعاميات الخاصة تتميز بتنوعها الذي لا يحد، وأنها

1 اللغة لفندريس 317.

2 لغات البشر 83.

ص: 132

في تغير دائم تبعا للظروف والأمكنة، فكل جماعة خاصة، وكل هيئة من أرباب المهن، لها عاميتها الخاصة، فهناك عامية التلاميذ الخاصة، وهي غير واحدة في كل المدارس، بل تختلف أحيانا باختلاف الفصول في المدرسة الواحدة. وهناك عامية الثكنات الخاصة، التي تختلف باختلاف الأسلحة، بل تختلف باختلاف الثكنات أيضا. وهناك عامية الخياطات الخاصة، وعامية الغسالات، وعامية عمال المناجم، وعامية البحارين"1.

"فكل مجموعة إنسانية، مهما صغرت، لها لغتها الخاصة بها. فهناك في دائرة الأسرة والمكتب والمصنع ومطاعم الجنود، تتوالد الكلمات والعبارات والمعاني الهامشية والألغاز، وطرق التعبير الأخرى، التي تختص بهذه البيئات، والتي يصعب إدراكها على من لم ينتم إليها. وهذا هو الحال كذلك في المجموعات الكبرى، التي يربطها رباط المصالح المشتركة، كالمهنة، والحرفة، والتجارة، والانتماء إلى مختلف فروع العلم والفن والصحافة، والقوات المسلحة، والهيئات الأكاديمية والرياضية وغيرها.

فلكل من هذه المجموعات ثروتها اللفظية الخاصة بها، وهي ثروة تعكس خصائص الموضوعات والمناقشات، التي يتناولها الأعضاء فيما بينهم، وتسهل اتصالهم بعضهم ببعض، ولكنها في الوقت نفسه، تزيد في الهوة التي تفصلهم عن غيرهم، ممن لا ينتمون إليهم. هذا الاتجاه نفسه موجود في اللهجات الطبقية الخاصة، كلهجات السوقة واللصوص. ويقوي هذا الاتجاه في هذه اللهجات النزعة إلى خلق مصطلحات صادقة التعبير، وحاوية لعناصر الفكاهة والدعابة، وكاشفة عن الروح البيئية الخاصة"2.

1 اللغة لفندريس 315.

2 انظر: دور الكلمة في اللغة لأولمان 153.

ص: 133

وقد تتسرب بعض ألفاظ هذه العاميات، إلى اللغة الأدبية، حينما يستخدم أحد الكتاب أو الشعراء لفظه من ألفاظ العاميات الخاصة في كلامه، فيقابل بالإعراض واللوم من الغيورين على اللغة الأدبية. وقد حدث مثل ذلك في فرنسا نفسها، فلم يكن الاعتراف بهذ التراكيب العامية أمرا ميسورا؛ إذ نشبت معركة شديدة بين القدماء والمحدثين، بين من يرون أن اللغة الفرنسية الحقة، هي لغة كبار الكتاب والشعراء، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، هي لغة: موليير، وراسين، ولامرتين، وفولتير وغيرهم، وأن من الخطر الشديد أن ندنس هذه اللغة الأدبية الفصيحة، بلغة عامية مبتذلة وبين أولئك الذين كانوا ينظرون إلى اللغة على أنها كائن حي يتطور على مر الزمن.

وقد اضطرت الأكاديمية الفرنسية أخيرا إلى الاعتراف بكثير من الألفاظ الفرنسية العامية، التي رد لها الأدباء والشعراء اعتبارها، فأدخلتها في معاجمها، وبذلك انتصر المحدثون، فأصبحنا نرى كثيرا من الألفاظ العامية، التي كانت مستعملة في القرن الثامن عشر، وقد صارت ضمن مواد معجم الأكاديمية الفرنسية الذي يعد في فرنسا، المعجم اللغوي الرسمي. وستصبح الكثرة الغالبة من الألفاظ والتراكيب المستعملة في القرن العشرين، بدورها ألفاظا وتراكيب رسمية يوما ما.

هذه التفاعلات الشديدة بين المجتمع واللغة، قد وجد يوم تكونت المجتمعات البشرية، ويوم خلقت اللغات الإنسانية. وستظل هذه الصلة وثيقة دائما، فتنقل لنا اللغات، ما يدور في هذه المجتمعات من نظم مختلفة، وما يتصف به الأفراد في هذه المجتمعات، من علم وثقافة، ونظم اجتماعية مختلفة.

ص: 134

ومن البديهي أن لكل مجتمع طرقه في التفكير، ونظرته الخاصة إلى الحياة، فهناك مجتمع يتصف بصراحة شديدة مثلا، يراها مجتمع آخر خشنة جافة، لا تتلاءم وقواعد السلوك العامة، وعندئذ نجد فراقا واضحا في لغة كل مجتمع، من هذين المجتمعين، فلغة المجتمع الأول تعبر بصراحة مباشرة، عن الأمور المشينة والعورات، والأعمال التي لا ينبغي أن تذكر في عبارات مكشوفة. أما لغة المجتمع الثاني، فتتلمس دائما حسن الحيلة وأدب التعبير، مستعملة المجاز في الألفاظ، والكناية بدلا من صريح القول، وكلما شاع معنى لفظ واستهجن، استبدلت به سريعا لفظا آخر، ولو كان مستعارا من لغة أجنبية.

والخلاصة أن علم اللغة أصبح يعد الآن، ضمن طائفة العلوم الاجتماعية، ويتصل اتصالا وثيقا بغيره من هذه العلوم، كالأديان، والتاريخ، والآداب، والسياسة، والاقتصاد وغيرها، وأن الظواهر اللغوية متأثرة تأثرا مباشرا بالظواهر الاجتماعية. وفي بعض الأحيان، لا تفهم الظواهر الأولى إلا بمساعدة الثانية، فنشأة اللغات، وتكونها، وانقسامها إلى أسر مختلفة، وانتشارها، وما يطرأ عليها في حياتها من قوة أو ضعف، وما تدخل فيه لغة من صراع مع غيرها، وانتصارها أو هزيمتها في هذا الصراع اللغوي، وما يستتبع هذا من تطورات في أصواتها، أو تغير في مدلولات ألفاظها، واستعارة الألفاظ وتبادلها بين اللغات، واخضاعها لقوانين الأصوات في اللغة المستعيرة، وغير ذلك كل هذه الظواهر التي ذكرناها وغيرها، لا يمكن أن تعرف على حقيقتها، إلا إذا ألقت عليها الظواهر الاجتماعية، ضوءا يكشف ما قد يخفى علينا من غزوات وحروب، وما يستتبع هذا من تغلب أمة على أخرى، ومن هجرات ترجع إلى طبيعة قاسية، أو أرض مجدبة، ومن انتشار

ص: 135

دين جديد ينتزع ما سبقه من ديانات، أو يعيش بجوارها متغلبا عليها، ومن حضارات تندثر وأخرى تنتشر، وما إلى ذلك من المظاهر المختلفة، للحياة البشرية الاجتماعية المعقدة.

ص: 136