الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن: تطابق العدد في الجملة الفعلية
من المعروف في العربية الفصحى: أن الفعل يجب إفراده دائما، حتى وإن كان فاعله مثنى أو مجموعا، أي أنه لا تتصل به علامة تثنية ولا علامة جمع، للدلالة على تثنية الفاعل أو جمعه، فيقال مثلا:"قام الرجل" و"قام الرجلان" و"قام الرجال" بإفراد الفعل: "قام" دائما؛ إذ لا يقال في الفصحى مثلا: "قاما الرجلان" ولا "قاموا الرجال".
وعلى هذا النحو، جاءت جمهرة الجمل الفعلية في القرآن الكريم، يقول الله تعالى مثلا:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 3/ 146] ولم يقل قاتلوا معه. كما قال جل شأنه: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران: 3/ 122] ولم يقل: همتا طائفتان.
تلك هي القاعدة المطردة في العربية الفصحى، شعرا ونثرا. أما قبيلة طيئ القديمة، فقد روي لنا عنها1 أنها كانت تلحق الفعل علامة تثنية للفاعل المثنى، وعلامة جمع للفاعل المجموع. وقد حكيت لنا هذا اللغة كذلك، عن قبيلة "بلحارث بن كعب"2 وقبيلة "أزد شنوءة"3، وهما من القبائل اليمنية، التي تمت إلى أصل قبيلة طيئ بصلة4.
1 انظر: الجني الداني للمرادي 171 وشرح درة الغواص للخفاجي 152 وبصائر ذوي التمييز 5/ 149 وشرح التصريح 1/ 275، 2/ 110 وهمع الهوامع 1/ 160 والقاموس المحيط "الواو" 4/ 413 والنهاية لابن الأثير 3/ 297 والفائق للزمخشري 3/ 74.
2 انظر: بصائر ذوي التمييز 5/ 149 والقاموس المحيط "الواو" 4/ 313 ومغني اللبيب 2/ 365.
3 انظر: بصائر ذوي التمييز 5/ 149 وشرح التصريح 1/ 276 والقاموس المحيط "الواو" 4/ 413 ومغني اللبيب 2/ 365.
4 انظر: الاشتقاق لابن دريد 361.
وتعرف هذه الظاهرة عند النحاة العرب، بلغة:"أكلوني البراغيث". وقد عرفت عندهم بهذا الاسم؛ لأن سيبويه هو أول من مثل لها في كتابه، واختار هذا المثال؛ فقال:"في قول من قال: أكلوني البراغيث1"، كما قال في موضع آخر:"ومن قال: أكلوني البراغيث، قلت على حد قوله: مررت برجل أعورين أبواه2"، وإن كان قد ضرب لهذا الظاهرة أمثلة أخرى في ك تابه، فقال:"واعلم أن من العرب من يقول: ضربوني قومك، فكأنهم أرادوا أن يجعلوا للجميع علامة، كما جعلوا للمؤنث علامةى، وهي قليلة3".
1 كتاب سيبويه 1/ 5.
2 كتاب سيبويه 1/ 237.
3 كتاب سيبويه 1/ 236.
4 سفروث 1/ 5.
5 سفر المزامير 1/ 5 وانظر أمثلة أخرى في سفر تكوسن 2/ 1؛ 6/ 2؛ 8/ 2 وسفر الأمثال 5/ 10.
6 أحيقار 33/ 1 وانظر أمثلة أخرى في إنجيل متى 5/ 1 وإنجيل لوقا 1/ 23.
وقد تخلصت العربية الفصحى من هذه الظاهرة، رويدا رويدا، أخذا بمبدأ الاستغناء عن بعض العلامات، عند تكدسها للدلالة على الظاهرة الواحدة؛ فإن الذي كالن يدل على لاتثنية هنا، هو علامة التثنية في الفعل، ووضع الفاعل في صيغة المثنى، وكذكل كان يدل على الجمع علامته المتصلة بالفعل، ووضع الفاعل في صيغة الجمع.
وإذا استغنى اللغة عن العلامات المتصلة بالفعل، لم تخسر الدلالة على التثنية والجمع، لوجود ما يدل عليهما في صيغة الفاعل نفسها؛ ولذلك قال سيبويه:"وإنما قالت العرب: قالت قومك، وقال أبواك؛ لأنهم اكتفوا بما أظهروا، عن أن يقولوا: قالا أبواك، وقالوا قومك، فحذفوا ذلك اكتفاء بما أظهروا3".
وإذا كانت العربية الفصحى، قد تخلصت رويدا رويدا من هذه الظالهرة، فإن بقاياها ظلت حية، عند بعض القبائل العربية القديمة، كقبيلة "طيء" و"بلحارث بن كعب" و"أوذ شنوءة" كما ذكرنا من قبل.
1 praetorius، Aethiopische Gtammatik، Chrestomathia 41.
2 Ptaetorius، Aethiopiche Gtammatik، Chrestomathia 42.
3 كتاب سيبويه 1/ 234.
وكذلك بقيت بعض آثارها في العربية القصحى، في القرآن الكريم والحديث الشريف، واحتفظ بها الكثير من أبيات الشعر العربي القديم.
أما القرآن الكريم، فقد ورد فيه قوله تعالى:{ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 5/ 71] وقوله عز وجل: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 21/ 3] .
وقد أكثر النحويون، والمفسرون، وعلماء اللغة العرب، القول في تخريج هاتين الآيتين الكريمتين، فقد قال الإمام القرطبي، في تفسير الآية الأولى مثلا:" {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} أي عمي كثير منهم وصم، بعد تبين الحق لهم بمحمد عليه السلام، فارتفع "كثير" على البدل من الواو، كما تقول: رأيت قومك ثلثيهم، وإن شئت كان على إضمار مبتدأ، أي العمي والصم كثير منهم. ويجوز أن يكون على لغة من قال: أكلوني البراغيث"1.
كما قال في الآية الثانية: " {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي تناجوا فيما بينهم بالتكذيب، ثم بين من هم، فقال: الذين ظلموا، أي الذين أشركوا. فالذين ظلموا، بدل من الواو في: "أسروا" وهو عائد على الناس المتقدم ذكرهم. قال المبرد: وهو كقولك: إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبد الله، فبنو بدل من الواو في: انطلقوا، وقيل: هو رفع على الذم، أي هم الذين ظلموا. وقيل: على حذف القول، أي: يقول الذين ظلموا. وقول رابع أن يكون منصوبا بمعنى: أعني الذين ظلموا. وأجاز الفراء أن يكون خفضا، بمعنى للناس الذين حسابهم. فهذه خمسة
1 تفسير القرطبي 6/ 248.
أقوال. وأجاز الأخفش الرفع على لغة من قال: أكلوني البراغيث، وهو حسن. وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، ومجازه: والذين ظلموا أسروا النجوى"1.
تلك هي آراء المفسرين، والنحاة، واللغويين العرب، في هذه الظاهرة. وهم فيها مقلبون لكل الأوجه الممكنة في العربية، من التخريج والتأويل.
ومما جاء في الحديث الشريف، قوله صلى الله عليه وسلم:"يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" 2، بدلا من: تتعاقب فيكم ملائكة، وإن كان بعض العلماء يرى في هذا الحديث، أنه مختصر من حديث طويل، وأن أصل الحديث:"إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار"3.
وقد وردت هذه الظاهرة، في بعض أحاديث الصحابة والتابعين، كما في قول الحسن البصري، يصف طالب العلم:"قد أوكدتاه يداه وأعمدتاه رجلاه"4.
أما أبيات الشعر القديم، التي وردت فيها هذه الظاهرة، فما أكثرها في دواوين الشعر العربي. ومن أمثلة ذلك قول عمرو بن ملقط الطائي، وهو
1 تفسير الطبري 11/ 268 وانظر: معاني القرآن للفراء 1/ 316 وشرح التصريح 1/ 270-277.
2 انظر مغني اللبيب 2/ 365 والقاموس المحيط "الواو" 4/ 413 وبصائر ذوي التمييز 5/ 146.
3 انظر: شرح الأشموني على الألفية 2/ 48.
4 انظر: الفائق للزمخشري 3/ 73 والنهاية لابن الأثير 3/ 297 ولسان العرب "عمد" 4/ 296 وانظر أحاديث أخرى في: إعراب الحديث للعكبري 28، 39.
شاعر جاهلي:
ألفيتا عيناكي عند القفا
…
أولى فأولى لك ذا واقيه1
بدلا من: ألفيت عيناك. ومثله قول أمية بن أبي الصلت:
يلومونني في اشتراء النخيـ
…
ـل أهلي فكلهم يعذل2
بدلا من: يلومني أهلي. وكذلك قول أبي عبد الرحمن العتبي:
رأين الغواني الشيب لاح بعارضي
…
فأعرضن عني بالخدود النواضر3
أي: رأت الغواني. كما يقول الفرزدق:
ولكن ديافي أبوه أمه
…
بحوران يعصران السليط أقاربه4
أي: يعصر أقاربه. ويقول عبيد الله بن قيس الرقيات:
تولى قتال المارقين بنفسه
…
وقد أسلماه مبعد وحميم5
أي: أسلمه مبعد وحميم. وكذلك يقول عروة بن الورد:
دعيني للغنى أسعى فإني
…
رأيت الناس شرهم الفقير
وأبعدهم وأهونهم عليهم
…
وإن كانا له نسب وخير6
1 شرح شواهد المغني 113 وأمالي ابن الشجري 1/ 132 وشرح ديوان أبي تمام 3/ 10.
2 ديوانه ص16 والدرر اللوامع 1/ 142 وأمالي ابن الشجري 1/ 13 وشرح التصريح 1/ 276 وهمع الهوامع 1/ 160 وإعراب الحديث للعكبري 40 وفي شرح شواهد المغني 265: "عزاه السخاوي في المفصل إلى أحيحة بن الجلاح".
3 العيني على هامش الخزانة 2/ 473.
4 ديوانه ص50 وكتاب سيبويه 1/ 236 وأمالي ابن الشجري 1/ 133 وشرح ديوان أبي تمام 1/ 224 وإعراب الحديث للعكبري 29، 40 وشرح ابن يعيش 3/ 89 وهمع الهوامع 1/ 160.
5 ديوانه ق35/ 2 ص196 وأمالي ابن الشجري 1/ 131 وشرح التصريح 1/ 277 وهمع الهوامع 1/ 160.
6 ديوانه ص91 وشرح التصريح 1/ 277.
أي: كان له نسب وخير. ومثله قول مجنون ليلى:
ولو أحدقوا بي الإنس والجن كلهم
…
لكي يمنعوني أن أجيك لجيت1
أي: ولو أحدق الإنس والجن. ومثله قول الشاعر:
نصروك قومي فاعتززت بنصرهم
…
ولو أنهم خذلوك كنت ذليلا2
أي: نصرك قومي. ومثله أيضا قول الآخر:
نسيا حاتم وأوس لدن فا
…
ضت عطاياك يابن عبد العزيز3
أي: نسي حاتم وأوس.
وغير ذلك كثير في الشعر العربي القديم. وقد استمرت هذه الظاهرة في أشعار المولدين من الطائيين وغيرهم. فها هو أبو تمام الطائي، يمتلئ ديوان شعره بالأبيات التي جاءت على هذه اللغة. مثل قوله:
شجى في الحشا ترداده ليس يفتر
به صمن آمالي وإني لمفطر
وقد قال عنه أبو العلاء المعري في هذا الموضع4: "يبين في كلام الطائي أنه كان يختار إظهار علامة الجمع في الفعل، مثل قوله: صمن آمالي. ولو قال: صام آمالي، لاستقام الوزن. وقد جاء بمثل ذلك في غير هذا الموضع".
ومن أمثلة ذلك في شعره أيضا:
وغدا تبين كيف غب مدائحي
…
إن ملن بي همي إلى بغداد5
1 ديوانه ق58/ 4 ص74.
2 شواهد التوضيح لابن مالك 192.
3 شواهد التوضيح لابن مالك 192.
4 شرح الديوان للخطيب التبريزي 2/ 214.
5 شرح الديوان للخطيب التبريزي 2/ 131.
ومنها كذلك قوله:
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا
…
هلكن إذن من جهلهن البهائم1
وقد جاءت بعض أمثلة هذه الظاهرة في شعر المتنبي أيضا. فمن ذلك قوله:
ورمى وما رمتا يداه فصابني
…
سهم يعذب والسهام تريح2
وقال كذلك:
نفديك من سيل إذا سئل الندى
…
هول إذا اختلطا دم ومسيح3
ويبدو أن هذه الظاهرة، كانت شائعة في عصر الحريري "المتوفى سنة 516هـ" الذي عدها من اللحن4، ورد عليه الشهاب الخفاجي، فقال:"وليس الأمر كما ذكره، فإن هذه لغة قوم من العرب، يجعلون الألف والواو حرفي علامة للتثنية والجمع، والاسم الظاهر فاعلا. وتعرف بين النحاة بلغة: أكلوني البراغيث؛ لأنه مثالها الذي اشتهرت به، وهي لغة طيئ، كما قاله الزمخشري. وقد وقع منها في الآيات، والأحاديث، وكلام الفصحاء ما لا يحصى"5.
وقد بقيت هذه الظاهرة، شائعة في كثير من اللهجات العربية الحديثة، كقولنا مثلا:"ظلموني الناس" و"لاموني العوازل" و"زارونا الجيران" و"تنوصاحي لحد ما رجعوا العيال من بره". وهذا كله امتداد للأصل السامي واللهجات القديمة. والله أعلم.
1 شرح الديوان للخطيب التبريزي 3/ 178 وانظر أمثلة أخرى في: 1/ 224، 2/ 128، 3/ 10/ 3/ 74 وغيرها.
2 ديوانه ص165 وانظر كذلك: أمالي ابن الشجري 1/ 13
3 ديوانه ص169 وانظر كذلك: أمالي ابن الشجري 1/ 13.
4 انظر: درة الغواص في أوهام الخواص 65
5 انظر: شرح درة الغواص، للشهاب الخفاجي 152