الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيننا وبين القدماء في وصف بعض الأصوات
الضاد
…
بيننا وبين القدماء في وصف بعض الأصوات:
حين نطالع كتب القدماء من علماء العربية في وصف أصوات اللغة الفصحى، نجد خلافا بيننا وبينهم في وصف بعض هذه الأصوات.
ويرجع ذلك في نظرنا إلى أحد أمرين، أولهما: أن نطق العربية الفصحى أصابه التطور فاختلف نطق بعض الأصوات في زماننا على مستوى النطق الفصيح، عنه في زمان أولئك القدماء، الذين وصفوا ما سمعوه، وأصابوا في هذا الوصف.
والثاني أن يكون نطق الفصحى في زماننا، هو بعينه نطق العرب القدماء، لم يصبه تطور، ولم يحدث فيه تغيير، غير أن القدماء وهموا في وصف هذا النطق.
ونحن نميل في الأعم الأغلب، إلى تصديق القدماء في أوصافهم، ونؤمن بالتطور اللغوي الذي أصاب بعض أصوات الفصحى، ولا نلجأ إلى تخطئة القدماء في وصفهم إلا إذا أعيتنا الحيل في القول بتطور هذا الصوت أو ذاك.
وينحصر الخلاف بيننا وبين القدماء في وصف خمسة أصوات وهي: الضاد والطاء والجيم والقاف والعين. وفيما يلي تفصيل القول في ذلك:
الضاد:
عرفنا من قبل أن الضاد حسب نطقنا لها الآن، تعد المقابل المفخم للدال، أي أنها صوت شديد مجهور مفخم، ينطق بنفس الطريقة، التي تنطق بها الدال، مع فارق واحد، هو ارتفاع مؤخرة اللسان نحو الطبق، في النطق بصوت الضاد. وعلى هذا فالضاد العربية هي المقابل المطبق للدال.
غير أننا إذا نظرنا إلى وصف القدماء لها، من النحويين واللغويين وعلماء القراءات، عرفنا أن الضاد القديمة، تختلف عن الضاد التي ننطقها الآن، في أمرين جوهريين:
أولهما: أن الضاد القديمة ليس مخرجها الأسنان واللثة، بل حافة اللسان أو جانبه.
وثانيهما: أنها لم تكن انفجارية "شديدة"، بل كانت صوتا احتكاكيا "رخوا".
فقد عدها الخليل بن أحمد، في حيز الجيم والشين، وهما من الأصوات الغارية، فقال وهو يذكر أحياز الحروف:"ثم الجيم والشين والضاد في حيز واحد"1.
كما يقول سيبويه: "ومن بين أول حافة اللسان وما يليه من الأضراس مخرج الضاد"2. ويوضح ذلك "المبرد" فيقول: "الضاد ومخرجها من الشدق، فبعض الناس تجري له في الأيمن، وبعضهم تجري له في الأيسر"3. كما يقول ابن جني: "ومن أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، مخرج الضاد، إلا أنك إن شئت تكلفتها من الجانب الأيمن، وإن شئت من الجانب الأيسر"4.
يتضح من هذه النصوص، الفرق الأول بين الضاد القديمة والضاد
1 كتاب العين للخليل بن أحمد 1/ 64.
2 كتاب سيبويه 2/ 405.
3 المقتضب للمبرد 1/ 193.
4 سر صناعة الإعراب 1/ 52.
التي ننطقها الآن، وأنها كانت جانبية، وليست أسنانية لثوية. أما الفرق الثاني، وهو أنها لم تكن انفجارية، بل احتكاكية أو رخوة، فيتضح من قول سيبويه في تقسيم الحروف:"ومنها الرخوة وهي: الهاء والحاء والغين والخاء والشين والصاد والضاد والزاي والسين والظاء والثاء والذال والفاء"1.
وقد عرفنا من قبل أن الضاد التي ننطقها اليوم في مصر، هي المقابل المطبق أو المفخم للدال، فالدال صوت ينطق بنفس الطريقة التي ينطق بها صوت الضاد، مع فارق واحد، وهو أن مؤخرة اللسان، ترتفع قليلا في اتجاه الطبق عند نطق الضاد، ولا يحدث مثل ذلك مع الدال. أما الضاد القديمة، فلا يقابلها شيء من الأصوات؛ إذ يقول سيبويه: "ولولا الإطباق
…
لخرجت الضاد من الكلام؛ لأنه ليس شيء من موضعها غيرها"2.
وعلى هذا فالضاد التي ننطقها اليوم، ليست هي الضاد القديمة، التي كانت عند العرب القدماء، وإنما هي تطور عنها. ولنسمع في هذه الضاد القديمة آراء بعض العلماء:
يقول المستشرق "شاده" عن سيبويه إنه "عد من الرخوة حرفا خرج منها بعده، في كثير من اللهجات العربية، وهو الضاد، فإنها ليست الآن من الرخاوة إلا في لفظ من قال: ضرب مثلا، بضاد جانبية المخرج. وأما في النطق المعتاد في مصر، يعني بضاد مقدمة المخرج، فقد لحقت فيه الشديدة"3.
1 كتاب سيبويه 2/ 406.
2 كتاب سيبويه 2/ 406.
3 علم الأصوات عند سيبويه وعندنا ص9.
ويقول المستشرق "برجشتراسر": "أما الضاد فهي الآن شديدة عند أكثر أهل المدن، وهي رخوة "عند القدماء" كما هي الآن عند أكثر البدو، ومع ذلك فليس لفظها البدوي الحاضر نفس لفظها العتيق؛ لأن مخرج الضاد "عند القدماء" من حافة اللسان. ومن القدماء من يقول: من جانبه الأيسر، ومنهم من يقول: من الأيمن، ومنهم من يقول: من كليهما، فمخرجها قريب من مخرج اللام من بعض الوجوه. والفرق بينهما هو أن الضاد من الحروف المطبقة كالصاد، وأنها من ذوات الدوي "الاحتكاك"، واللام غير مطبقة، صوتية محضة، فالضاد العتيقة حرف غريب جدا، غير موجود -حسبما أعرف- في لغة من اللغات إلا العربية، ولذلك كانوا يكنون عن العرب، بالناطقين بالضاد. ويغلب على ظني أن النطق العتيق للضاد، لا يوجد الآن عند أحد من العرب، غير أن للضاد نطقا قريبا منه جدا عند أهل حضرموت، وهو كاللام المطبقة. ويظهر أن الأندلسيين، كانوا ينطقون الضاد مثل ذلك، ولذلك استبدلها الإسبان بصوت "ld" في الكلمات العربية المستعارة في لغتهم، مثال ذلك أن كلمة: "القاضي" صارت في الإسبانية alcalde. ومما يدل أيضا على أن الضاد كانت في نطقها قريبة من اللام، أن الزمخشري ذكر في كتابه: "المفصل" أن بعض العرب، كانت تقول: "الطجع" بدل: "اضطجع". ونشأ نطق الضاد عند البدو، من نطقها العتيق بتغيير مخرجها من حافة اللسان إلى طرفه، ونطقها عند أهل المدن، نشأ من هذا النطق البدوي، يإعماد طرف اللسان على الفك الأعلى، بدل تقريبه منه فقط، فصار الحرف بذلك في نطقه شديدا، بعد أن كان رخوا"1.
1 التطور النحوي 18.
ويبدو أن ما حدث للكلمة العربية ذات الضاد في الإسبانية، حدث مثله لتلك الكلمات في اللغة الإندونيسية، مثل قولهم: hail= حيض، lalalat= ضلالة، loha= ضحى1.
ويرى "كانتينو" أن "النطق القديم كان "ظ ل"، أي ظاء ذات زائدة انحرافية، أي بتقريب طرف اللسان، من الثنايا كما في النطق بالظاء، وبأن يجري النفس لا من طرف اللسان فقط، بل من جانبيه أيضا2.
كما يقول المستشرق "هنري فليش": "ولقد كان العرب يتباهون بنطقهم الخاص لصوت الضاد، وهو عبارة عن صوت مفخم، يحتمل أنه كان ظاء جانبية أي أنه كان يجمع الظاء واللام في ظاهرة واحدة. وقد اختفى هذا الصوت، فلم يعد يسمع في العالم العربي، وأصبح بصفة عامة إما صوتا انفجاريا، هو مطبق الدال، وإما صوتا أسنانيا هو الظاء"3.
وأخيرا يرى الدكتور إبراهيم أنيس أنه "يستدل من وصف القدماء لهذا الصوت، على أن الضاد كما وصفها الخليل ومن نحوا نحوه، تخالف تلك الضاد التي ننطق بها الآن؛ إذ معها ينفصل العضوان المكونان للنطق انفصالا بطيئا نسبيا، ترتب عله أن حل محل الانفجار الفجائي انفجار بطيء، نلحظ معه مرحلة انتقال بين هذا النوع من الأصوات، وما يليه من صوت لين، فإذا نطق بالضاد القديمة، وقد وليتها فتحة مثلا، أحسسنا بمرحلة انتقال بين الصوتين، تميز فيها كل منهما تميزا كاملا هذا إلى أن
1 انظر: Kamus Lengkap.
2 دروس في علم أصوات العربية 86.
3 العربية الفصحى 37
الضاد، كما وصفها القدماء، كانت تتكون بمرور الهواء بالحنجرة، فيحرك الوترين الصوتيين، ثم يتحذ مجراه في الحلق والفم، غير أن مجراه في الفم جانبي عن يسار الفم عند أكثر الرواة، أو عن يمينه عند بعضهم، أو من كلا الجانبين، كما يستفاد من كلام سيبويه
…
والذي نستطيع تأكيده هنا، هو أن الضاد القديمة، قد أصابها بعض التطور، حتى صارت إلى ما نعهده لها من نطق في مصر
…
ولا يزال العراقيون حتى الآن، وبعض البدو ينطقون بنوع من الضاد، يشبه إلى حد ما الظاء، كما يشبه إلى حد كبير ذلك الوصف، الذي روي لنا عن الضاد القديمة. والذين مارسوا التعليم في بلاد العراق يذكرون، كيف يخلط التلاميذ هناك بين الظاء والضاد. والضاد القديمة -كما أتخيلها- يمكن النطق بها، بأن يبدأ المرء بالضاد الحديثة، ثم ينتهي نطقه بالظاء، فهي إذن مرحلة وسطى، فيها شيء من شدة الضاد الحديثة، وشيء من رخاوة الظاء العربية، ولذلك كان يعدها القدماء من الأصوات الرخوة"1.
هذه هي بعض الآراء التي قيلت في الضاد العربية القديمة. ويبدو من وصف القدماء لها، ومن تطورها في بعض اللهجات واللغات، أنها كانت لاما مطبقة، كما يقول "برجشتراسر"، كما يبدو أنها كان فيها بعض الشبه بالظاء والضاد، وإلا ما تطورت في اتجاه كل واحد من هذين الصوتين، في اللهجات العربية الحديثة.
وأما ما ذهب إليه الدكتور كمال بشر، من احتمال أن يكون القدماء قد "وصفوا الضاد المولدة، لا الضاد العربية الأصلية"2، وترجيحه هذا
1 الأصوات اللغوية، للدكتور إبراهيم أنيس 49.
2 علم اللغة العام: الأصوات 137.
الاحتمال بقوله: "ربما لكثرة استعمال هذا الصوت المولد، وشيوعه على الألسنة، عند قيام حركة التأليف اللغوي" فقد بنى مذهبه هذا على نص مصحف، في ترجمة المرحوم النجار لكتاب "العربية" للمستشرق "يوهان فك"، وهو:"كما يتعلق بهذا أيضا تغيير حرف الضاد. وهذا الصوت الذي هو في أصله، الحرف المطبق القسيم للدال، خاص بالعربية"1. هذا النص بهذه الصورة، يفهم منه أن الضاد في الأصل، هي النظير المفخم للدال، أي أنها حينئذ كما يقول الدكتور بشر "كانت تشبه ضادنا الحالية، أو هي هي". غير أن ترجمة النجار بها تصحيف في هذا الموضع للأسف، وصوابه كما في الأصل الألماني2:"الحرف المطبق القسيم للذال". وقد حدث مثل هذا التصحيف مرة أخرى، في تلك الترجمة:"كالدال المفخمة"3، وصوابه كما في الأصل الألماني4:"كالذال المفخمة".
وإذا نظرنا إلى اللغات السامية، وجدنا أن الضاد العربية تقابل صادا في اللغة الأكادية والأوجاريتية والعبرية، فكلمة "أرض" في العربية، تقابل كلمة ersetu في الأكادية وكلمة ars في الأوجاريتية5، وكلمة eres في العبرية، كما تقابل الضاد عينا في السريانية مثل ara بمعنى "أرض"
1 العربية ليوهان فك، بترجمة النجار 102/ 9.
2 Arabiya s 58 20 انظر ترجمتنا للعربية 111/ 9.
3 العربية، بترجمة النجار 103/ 2.
4 Arabiyss وانظر ترجمتنا 112/ 2.
5 أحيانا تقابل الضاد ظاء في الأوجاريتية كذلك. انظر كتاب: "جوردون" cH Gordon Ugarite Manuel p 23.
كذلك. ولم تبق ضادا إلا في العربية الشمالية، والعربية الجنوبية "السبئية والمعينية" والحبشية، مثل كلمة rd في العربية الجنوبية، بمعنى"أرض" كذلك1، وكلمة dahay بمعنى:"الشمس، الضحى" في الحبشية2.
وتقول مارية هفنر": إن "هذه الضاد احتكاكية في الحبشية، ولا بد أنها كانت كذلك في العربية الجنوبية. والدليل على صحة ذلك، ورود بعض الكلمات، التي كتبت بالضاد في بعض النقوش، وبالزاي في بعضها الآخر، فلو كانت هذه الضاد انفجارية، لما التبست على الكاتب إطلاقا، فدلت كتابته إياها بصورة الزاي على أنها كانت احتكاكية"3.
وإذا كانت الضاد بهذه الصورة، توجد في بعض اللغات السامية كما رأينا، كان من التجوز قول ابن جني:"واعلم أن الضاد للعرب خاصة، ولا يوجد في كلام العجم إلا في القليل"4.
أما السر في إطلاق "لغة الضاد" على اللغة العربية، فإنه يكمن في أن هذه الضاد، كانت مشكلة عويصة بالنسبة لمن يريد أن يتعلم العربية من الأعاجم. ويقول الدكتور إبراهيم أنيس: "يظهر أن القديمة، كانت عصية النطق على أهالي الأقطار التي فتحها العرب، أو حتى على بعض
1 انظر كتاب "موسكاتي" Moscati An lntroduction وكتاب "بروكلمان" C Brokeln Grondriss l 128.
2 انظر كتاب "بريتوريوس" Praetorius Athiop.Grammatik
3 انظر MHofner Altsudarabische Grammatik 18.
4 سر صناعة الإعراب 1/ 222.
القبائل العربية في شبه الجزيرة، مما يفسر تلك التسمية القديمة "لغة الضاد"، كما يظهر أن النطق القديم بالضاد، كان إحدى خصائص لهجة قريش"1.
ويقول ابن الجزري: "والضاد انفرد بالاستطالة، وليس في الحروف ما يعسر على اللسان مثله، فإن ألسنة الناس فيه مختلفة، وقل من يحسنه، فمنهم من يخرجه ظاء، ومنهم من يمزجه بالذال، ومنهم من يجعله لاما مفخمة، ومنهم من يشمه الزاي. كل ذلك لا يجوز"2.
وكل هذا الذي حكاه ابن الجزري، روت لنا كتب الإبدال طرفا منه، فمن أمثلة الضاد والظاء، ما حكاه أبو الطيب اللغوي من قوله:"الحضل والحظل: فساد يلحق أصول سعف النخل"3.
ومن أمثلة الضاد والذال: "ما ينبض له عرق نبضا، وما ينبذ له عرق نبذا، وقد نبض العرق ينبض، ونبذ ينبذ إذا ضرب"4. ومن أمثلة الضاد واللام: "تقيض فلان أباه وتقيله، تقيضا، وتقيلا: إذا نزع إليه في الشبه"5. ومن أمثلة الضاد والزاي: "أنا على أوفاز، وعلى أوفاض، أي على عجلة"6.
1 الأصوات اللغوية ص50
2 النشر في القراءات العشر 1/ 219
3 الإبدال لأبي الطيب 2/ 270
4 الإبدال لأبي الطيب 2/ 16
5 الإبدال لأبي الطيب 2/ 277
6 الإبدال لأبي الطيب 2/ 138
ويحدثنا اللغويون عما سموه "بالضاد الضعيفة"، وهو مظهر من مظاهر عدم تمكن بعض العرب القدماء، من نطق الضاد التي عرفنا وصفها من قبل، يقول ابن يعيش:"والضاد الضعيفة من لغة قوم اعتاصت عليهم، فربما أخرجوها طاء، وذلك أنهم يخرجونها من طرف اللسان وأطراف الثنايا، وربما راموا إخراجها من مخرجها، فلم يتأت لهم، فخرجت بين الضاد والظاء"1.
وقد وصلت إلينا بعض الأخبار، التي تؤكد لنا أن الناس كانوا يخلطون الضاد بالظاء في بعض الأحيان، فقد روى أبو علي القالي أن رجلا "قال لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، أيضحى بضبي؟ قال: وما عليك لو قلت: بظبي؟! قال: إنها لغة. قال: انقطع العتاب، ولا يضحى بشيء من الوحش"2. كم سجل الجاحظ مثل هذا الخلط بين الضاد والظاء فقال: "وزعم يزيد مولى ابن عون، قال: كان رجل بالبصرة له جارية تسمى ظمياء، فكان إذا دعاها، قال: يا ضمياء بالضاد، فقال ابن المقفع: قل: يا ظمياء! فناداها: يا ضمياء، فلما غير عليه ابن المقفع، مرتين أو ثلاثا، قال له: هي جاريتي أو جاريتك؟! "3.
ويذهب المستشرق "برجشتراسر" إلى أن "نطق الظاء، كان قريبا من نطق الضاد، وكثيرا ما تطابقتا وتبادلتا، في تاريخ العربية. وأقدم مثال لذلك،
1 شرح المفصل 10/ 127 وانظر كلاما غير مفهوم عن هذه الضاد الضعيفة، في كتاب سيبويه 2/ 404.
2 ذيل الأمالي والنوادر للقالي 143 وانظر الخبر برواية أخرى، في المزهر للسيوطي 1/ 562، 563.
3 البيان والتبيين 2/ 211.
مأخوذ من القرآن الكريم، وهو:"الضنين" في سورة التكوير 81/ 24، فقد قرأها كثيرون بالظاء مكان الضاد، التي رسمت بها في كل المصاحف. وممن قرأها بالظاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما قال مكي في كتاب الكشف"1.
ومما لا شك فيه، أن العرب القدامى في البيئة القرشية، كانوا يفرقون بين الضاد والظاء، بدليل أن الكتابة العربية، التي شاعت أول ما شاعت في قريش، فرقت بين الصوتين في الصورة الموضوعة لكل واحد منهما. ويقول الدكتور إبراهيم أنيس: "لا يخالجنا الآن أدنى شك في أن العرب القدماء كانوا في نطقهم يميزون هذين الصوتين، تمييزا واضحا، ولكنهم فيما يبدو، كانوا فريقين: فريق يمثل الكثرة الغالبة، وهؤلاء هم الذين كانوا ينطقون بهما ذلك النطق، الذي وصفه سيبويه. أما الفريق الآخر، فكان يخلط بين الصورتين
…
وهذا الخلط الذي وقع في بعض اللهجات المغمورة، إنما كان سببه أن هذين الصوتين -على حسب وصف سيبويه لهما- يشتركان في بعض النواحي الصوتية، أو بعبارة أخرى، كان وقعهما في الآذان متشابها. ولعل مما يستأنس به لهذا التشابه بين الصوتين في النطق القديم، وقوعهما في فاصلتين متواليتين من فواصل القرآن الكريم2، مثل ما جاء في قوله تعالى:
1 التطور النحوي 11 وانظر الكشف لمكي 2/ 364 ويرى المفسرون أن المعنى مختلف على القراءتين، فهي بالضاد بمعنى:"بخيل"، وبالظاء بمعنى:"متهم". انظر الكشف في الموضع السابق، وتفسير القرطبي 19/ 242 وزينة الفضلاء 97.
2 يرى الدكتور إبراهيم أنيس، أن الانسجام الموسيقي بين فواصل كثير من الآيات القرآنية، يهدينا إلى النطق الأصلي لبعض أصوات اللغة وقت نزول القرآن. انظر مقاله:"على هدي الفواصل القرآنية" في مجموعة البحوث والمحاضرات لمجمع اللغة العربية "1961/ 1962" ص107-118.
ولعل هذا الخلط بين صوتي الضاد والظاء، كان قد شاع في القرن الثالث الهجري، وكان هذا هو السر فيما ذهب إليه أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، اللغوي المشهور "المتوفى سنة 231هـ" من أنه يجوز عند العرب، أن يعاقبوا بين الضاد والظاء، فقد روى ابن خلكان2، أن ابن الأعرابي كان يقول: "جائز في كلام العرب أن يعاقبوا بين الضاد والظاء، فلا يخطئ من يجعل هذه في موضع هذه وينشد:
إلى الله أشكو من خليل أوده
…
ثلاث خصال كلها لي غائض
بالضاد "بدل غائظ"، ويقول: هكذا سمعته من فصحاء العرب".
ويزعم ابن جني أن ذلك ليس من باب المعاقبة، وإنما هي مادة أخرى، فيقول:"ويجوز عندي أن يكون غائض غير بدل. ولكنه من غاضه، أي نقصه، فيكون معناه: ينقصني ويتهضمني"3.
والدليل على أن الخلط بين الضاد والظاء قديم في العربية، تلك المؤلفات الكثيرة، التي تعالج هذه المشكلة من قديم4. ولقد كانت محاولات بعض من ألف في هذا الموضوع من اللغويين العرب، منحصرة
1 سورة فصلت 41/ 50، 51 وانظر: معنى القول المأثور لغة الضاد 118، 119.
2 وفيات الأعيان 3/ 433 وانظر كذلك: طبقات الزبيدي 215.
3 سر صناعة الإعراب 1/ 222.
4 انظر الإحصاء الذي علمناه لهذه المؤلفات في مقالتنا: "مشكلة الضاد العربية وتراث الضاد والظاء" في مجلة المجمع العلمي العراقي "المجلد 21 سنة 1971" ومقدمة زينة الفضلاء لابن الأنباري بتحقيقنا.
أحيانا في تنبيه الكتاب، حتى لا يخلطوا الضاد بالظاء في خطوطهم، متأثرين في ذلك بنطقهم، الذي كان من العسير إصلاحه.
ونحن نرى أثر هذا الخلط بين الضاد والظاء، في بعض البلاد العربية، في أيامنا هذه، فقد سبق أن أوردنا ما حكاه الدكتور أنيس عن نطق العراقيين للضاد نطقا مشابها للظاء. وليس هذا الأمر خاصا بالعراقيين فحسب، بل إن أهل تونس يخلطون في أيامنا هذه بين الضاد والظاء، فينطقونهما قريبين من الظاء.
وكان لنا زميل تونسي بجامعة ميونخ، يسألنا إن كانت هذه الكلمة أو تلك، تكتب بالظاء المشالة أو غير المشالة1؟ وهو يقصد بالمشألة، التي فوقها ألف، وهي الظاء المعروفة، وبغير المشالة: الخالية من هذه الألف في الخط، وهي الضاد المعروفة.
أما الضاد القديمة، فقد عرفنا من قبل أن هناك نطقا يشبهه، عند أهل حضرموت، وهو كاللام المطبقة فيما ذكره المستشرق "برجشتراسر". ويضيف الدكتور خليل نامي إلى ذلك أن "هذا النطق موجود أيضا في لهجات منطقة ظفار كالمهرية والشحرية، كما هو موجود أيضا في منطقة دثينة، بجنوب بلاد العرب، وهو موجود أيضا في لهجات الجزيرة بالسودان"2.
1 تعبير "الظاء المشالة" تعبير قديم، كما يطلق على الطاء كذلك انظر: شرح القاموس لابن الطيب الفاسي 1/ 112، 113.
2 انظر مقالة الدكتور خليل نامي: "حرف الضاد وكثرة مخارجه" في مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة "العدد الأول من المجلد 21" مايو 1959 ص62 وانظر كذلك:"دروس في علم أصوات العربية" لكانتينو 87.