المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير كلمات مشكلات من هذا الخبر - المصباح المضي في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي - جـ ١

[ابن حديدة]

الفصل: ‌تفسير كلمات مشكلات من هذا الخبر

فَقطع عَلَيْهَا مُعَاوِيَة قَوْلهَا فَقَالَ

(صه يَا ابْنة الأكارم

فعبد شمس هَاشم)

(هما برغم الراغم

كَانَا كغربى صارم)

فَلَمَّا سمع الْعَبَّاس وَأَبُو سُفْيَان مقَالَة مُعَاوِيَة ابتدراه أَيهمَا يتَنَاوَلهُ قبل صَاحبه فتعاوراه ضما وتقبيلا وتفدية وافترقا راضيين

‌تَفْسِير كَلِمَات مشكلات من هَذَا الْخَبَر

أما قَول الشَّاعِر هبلتك أمك فالهبل الْهَلَاك والتلف وَمِنْه قيل للمثقل سمنا إِنَّه لمهبل وَكَذَلِكَ يُقَال لفاسد الْعقل مهبل وَالْعرب تطلق هَذِه الْكَلِمَة ونظائرها من الدُّعَاء بالمكروه وَلَا تُرِيدُ بهَا شرا تجريها مجْرى اللَّغْو الَّذِي لَا يعْتد بِهِ وَقد تجريها مجْرى الْمَدْح عِنْد استعظام الشَّيْء وَقد تجريها مجْرى الحض وَالنَّدْب إِلَى الْفِعْل وَالْقَوْل

وَمن نظائرها قَوْلهم إِذا استحسنوا فعل إِنْسَان أَو قَوْله قَاتله الله وَمَا لَهُ هوت أمه قَالَ الشَّاعِر

(هوت أمه مَا يبْعَث الصُّبْح غاديا

وماذا يُؤَدِّي اللَّيْل حِين يؤوب)

ص: 176

فَهَذَا فِي الْمَدْح والتعظيم وَمِنْهَا قَول عمر بن عبد الْعَزِيز رحمه الله ويل أم الْإِمَارَة لَوْلَا قَول الله عز وجل وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظلمون فَهَذِهِ لَفْظَة أَرَادَ بهَا الْمَدْح وَحملهَا على الذَّم جهل بمواقع الْكَلم وَمِنْهَا قَول امريء الْقَيْس يصف رجلا بجودة الرماية

(فَهُوَ لَا تنمي رميته

مَا لَهُ لاعد من نفره)

فَظَاهر هَذَا أَنه دَعَا عَلَيْهِ بِأَن يهْلك حَتَّى لَا يعد مَعَ قومه إِذا عدوا وَهُوَ لَا يُرِيد ذَلِك بل تعجب من رمايته ومدحه وَمِنْهَا قَوْلهم لَا أَب لفُلَان فِي استعظام مَا يكون مِنْهُ قَالَ الشَّاعِر

(فَمَا راعني إِلَّا زهاء معانقي

فَأَي عنيق بَات لي لَا أَبَا ليا)

وَقد نطق النَّبِي صلى الله عليه وسلم من نظائرها لقَوْله لصفية عقرى حلقى أَي عقرهَا الله وحلقها وَقَوله عَلَيْك بِذَات الدّين تربت يداك وَهُوَ دُعَاء بالفقر

ص: 177

وَأما قَول الشَّاعِر من إقراف فالإقراف هُنَا تغير الْجِسْم وضؤلته

وَقَوله الآخذون الْعَهْد من آفاقها

مَعْنَاهُ أَن هَاشم بن عبد منَاف انْطلق إِلَى الشَّام فَأخذ من قَيْصر ملك الرّوم وَمن مُلُوك غَسَّان عهدا وَذمَّة لقريش أَن يَأْتُوا الشَّام ويتجروا بِهِ وَانْطَلق أَخُوهُ عبد الشَّمْس ابْن عبد منَاف إِلَى بِلَاد الْحَبَشَة فَأخذ لتجار قُرَيْش عهدا من النَّجَاشِيّ الْأَكْبَر وَذهب أخوهما الْمطلب بن عبد منَاف إِلَى الْيمن فَأخذ عهدا من مُلُوكهَا لتجار قُرَيْش وَذهب أخوهم نَوْفَل ابْن عبد منَاف إِلَى الْعرَاق فَأخذ عهودا من مُلُوك آل ساسان وَمن سادة من بالعراق من الْعَرَب فتوجهت قُرَيْش للتِّجَارَة إِلَى هَذِه الْأَرْبَعَة الْوُجُوه على حَال آمِنَة بِمَا عقد لَهُم بَنو عبد منَاف من الذمم فمسي بَنو عبد منَاف لذَلِك المجبرين لِأَن الله تَعَالَى جبر بهم قُرَيْش وأغناها بِالتِّجَارَة وَكَانَ الأَصْل أَن يُقَال الجابرون وَلَكِن هَكَذَا جَاءَ فَيدل على أَن جبرت وأجبرت بِمَعْنى وَاحِد وَالْمعْنَى الْمَشْهُور الْكثير جبرت الكسير وَالْفَقِير فَأَنا جَابر وأجبرت فلَانا على الْأَمر أَي أكرهته فَأَنا مجبر وَقد أدخلُوا أفعل فِي بَاب التَّمْكِين من الْفِعْل فَقَالُوا سقيت الرجل بيَدي

ص: 178

وَقَالُوا أسقيته أَي مكنته من الْورْد وقته أَي أَعْطيته قوتا وأقته إِذا مكنته من شَيْء يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْقُوت وقبرت الْمَيِّت بيَدي وأقبرته إِذا أَعْطيته مَا يقبر فِيهِ من الأَرْض

وَلَعَلَّ تسميتهم المجبرين من هَذَا لأَنهم لم يجبروا قُرَيْش بِأَمْوَالِهِمْ بل مكنوهم من فعل مَا يتجبرون بِهِ فَالَّذِي ذكرنَا هُوَ مَقْصُود الشَّاعِر

وَقَوله ويقابلون الرّيح يَقُول يجاودونها فيهبون بالجود كهبوبها

ويروى والمطعمون إِذا الرِّيَاح تناوحت أَي تقابلت فِي الهبوب

وَقَوله تغيب الشَّمْس فِي الرجاف الرجاف هُوَ الْبَحْر سمي بذلك لاضطرابه

وَقَوله فعال التلد والأطراف يُرِيد قديم الفعال وحديثها يَعْنِي المكارم التالدة أَي الْقَدِيمَة والطارفة أَي الحديثة هَذَا مجَاز اللَّفْظَيْنِ قَالَ الْجَوْهَرِي الفعال بِالْفَتْح مصدر مثل ذهب ذَهَابًا وَكَانَت مِنْهُ فعلة حَسَنَة أَو قبيحة

وَقَوله عَمْرو الْعلَا هشم الثَّرِيد لِقَوْمِهِ فَهُوَ أَن قُرَيْش أَصَابَتْهُم سنة فنالت مِنْهُم فارتحل هَاشم بن عبد منَاف وَكَانَ اسْمه

ص: 179

عمرا إِلَى الشَّام فأوقر عيرًا لَهُ من الكعك والفتيت فَقدم بهَا مَكَّة وَنحر الْإِبِل فأطبخ لحومها ثمَّ هشم ذَلِك الكعك والفتيت فَاتخذ مِنْهُ الثَّرِيد فأطعمه النَّاس حَتَّى أحيوا فَسُمي بذلك هاشما

وَقَوله مسنتون أَي أَصَابَتْهُم السّنة وَهِي المجاعة

وَقَوله تناقلا فِي الْمُفَاخَرَة المناقلة فِي الْكَلَام أَن يَقُول هَذَا مرّة وَيَقُول هَذَا مرّة فيتداولا القَوْل بَينهمَا

وَأما قَوْله نافرني إِلَى ولدك فَإِن المنافرة هِيَ المحاكمة وَاخْتلف فِي اشتقاقها فَقيل كَانُوا يتحاكمون فِي الْمُفَاخَرَة فَيَقُولُونَ للْحَاكِم بَينهم أَيّنَا أعز نَفرا وَقيل بل هُوَ من النفير لأَنهم كَانُوا ينفرون إِلَى الْحُكَّام وَتقول نافرت فلَانا فنفرني عَلَيْهِ الْحَاكِم وَكَانُوا يُعْطون الْحَاكِم شَيْئا من أَمْوَالهم فيسمونه النفارة

وَقَوله اهتبلت الفرصة أَي انتهزتها فبادرت إِلَيْهَا

وَقَول هِنْد سراة الحمس السراة جمع السّري وسراة كل شَيْء خِيَاره بِفَتْح السِّين

والحمس قُرَيْش وخزاعة وكل من قَارب بَلْدَة مَكَّة من قبائل الْعَرَب فقد تحمس لمجاورته لَهُم وأصل اللَّفْظَة الشدَّة وَهِي الحماسة فسموا حمسا لأَنهم كَانُوا ذَوي تشدد فِي نحل جاهليتهم

وَفِي بعض الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم صنع أمرا فَصنعَ مثله

ص: 180

رجل من الْأَنْصَار فَأنْكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا فعل الْأنْصَارِيّ وَقَالَ لَهُ إِنِّي أحمس يُرِيد أَن هَذَا الَّذِي فعلته أَنا مِمَّا تَفْعَلهُ الحمس دون غَيرهَا فَقَالَ الْأنْصَارِيّ وَأَنا أحمس يُرِيد أَنِّي على دينك ومتبع لَك

وسنعقب هَذَا التَّفْسِير بِذكر قبائل قُرَيْش إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وَقَوْلها على قديم الحرس الحرس هُوَ الدَّهْر اسْم لَهُ قَالَه الْجَوْهَرِي أَيْضا وَقَالَ قَالَ الراجز

(فِي نعْمَة عِشْنَا بِذَاكَ حرسا

)

وَيجمع على أحرس وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس

(لمن طلل داثر آيَة

تقادم فِي سالف الأحرس)

وَيُقَال أحرس فلَان بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ حرسا يَعْنِي بذلك كُله الدَّهْر

قَالَ ابْن ظفر وَقَوله صه يَا ابْنة الأكارم هِيَ لَفْظَة مَعْنَاهَا الْأَمر بِالسُّكُوتِ

وَقَوله فعبد شمس هَاشم يُرِيد أَنَّهُمَا كالشيء الْوَاحِد وَذَلِكَ أَنَّهُمَا أَخَوان لأَب وَأم توأمان وَقيل إِن أَحدهمَا خرج من بطن أمه وإصبعه ملتصقة بجبهة أَخِيه فنحيت الْأصْبع فقطرت من الْموضع قطرات من دم فتعيفوا ذَلِك وكرهوه وَقَالَ من تكهن مِنْهُم سَيكون بَينهمَا دم فَكَانَت الْمَلَاحِم الْمَشْهُورَة بَين بني أُميَّة وَبني هَاشم

ص: 181

وَقَوله كغربي صارم الْغرْبَان هما الحدان والصارم السَّيْف الْقَاطِع وَالْمعْنَى هما كحدي السَّيْف لَا فضل لأَحَدهمَا على الآخر وَهَذَا حسن من القَوْل جدا وَمِمَّا لم يسْبق إِلَيْهِ فِيمَا علمت أَلا ترى أَنه لَو قَالَ هما كالعينين فِي الرَّأْس أَو كاليدين فِي الْجَسَد لأمكن أَن يُقَال أَيَّتهمَا الْيُمْنَى وَلَقَد اجْتهد هرم بن قُطْبَة الْفَزارِيّ فِي التَّسْوِيَة بَين عَامر بن الطُّفَيْل وعلقمة بن علاثة حِين تنافرا إِلَيْهِ فَقَالَ هما كركبتي الْبَعِير الأورق أَو قَالَ الآدم تقعان إِلَى الأَرْض مَعًا فَقيل لَهُ أَيَّتهمَا الْيُمْنَى فَلم يحر جَوَابا

وَقد شجر قَول مُعَاوِيَة هَذَا أَعنِي فعبد شمس هَاشم بعض بني أُميَّة هُوَ آدم بن عبد الْعَزِيز بن عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ هَذِه الثَّلَاثَة الأبيات فِي قصيدة لَهُ قَالَهَا للمهدي

ذكره مُحَمَّد بن مَرْوَان الْقرشِي السعيدي من ولد سعيد بن الْعَاصِ فِي أَخْبَار مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَزَاد فِيهِ فَبلغ بِهِ غَايَة الْحسن وَالْأَدب وَذَلِكَ أَنه عرض للرشيد رحمه الله فِي طَرِيقه فَأعْطَاهُ رقْعَة فَأصَاب فِيهَا

(يَا أَمِين الله إِنِّي قَائِل

قَول ذِي صدق ولب وَحسب)

ص: 182