المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(شرح ديباجة الكتاب) - المفاتيح في شرح المصابيح - جـ ١

[مظهر الدين الزيداني]

الفصل: ‌(شرح ديباجة الكتاب)

(شَرحُ دِيبَاجَةِ الكِتَابِ)

قوله: "الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى"، (الحمدُ): يطلق على جميل صفات الموصوف، والشكرُ على إنعامه، والله يحمد نفسه، ولا يشكره، والثناء: ذكر فضائل من أثنيت عليه، وفي هذه الألفاظ اختلاف كثير، ونحن لا نطول بحث اللغة، كي لا يطول الكتاب.

و"سلام على عباده الذين اصطفى"؛ أي: سلام من الله تعالى ومنا نازل أو واقع على الذين اصطفاهم الله؛ أي: اختارهم الله من الأنبياء والأولياء والملائكة، وجميع أهل طاعته.

و (اصطفى) أصله: اصتفى، وهو افتعل من (صفا يصفو)، وإذا كان فاء فعل افتعل حرفًا من حروف الإطباق، وهي: الصاد والضاد والطاء والظاء، تُقلَبُ تاء افتعل طاءً؛ ليكون مجانسًا لفاء فعل افتعل في الإطباق.

والمصنفُ أورد هذه الألفاظ تيمنًا بقوله تعالى لرسوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59].

والتنكيرُ في (سلام) بمعنى التعريف في إفادة العموم في كثير من المواضع، كما يقال: والله لا أشرب ماء، ولا أشرب الماء؛ فإن حكمهما واحد.

وقيل: التنكير ههنا لأجل أن السلام من الله على عباده لا يكون قليلاً، حتى يتفاوت بين التنكير والتعريف.

وعادةُ جميع المصنفين أن يبتدئوا في أول كتبهم بالحمد لله؛ تمسكًا بما رواه أبو هريرة: أن النبي عليه السلام قال: "كلُّ خطبة ليس فيها تشهُّدٌ، فهي كاليدِ الجذماء"، وفي رواية:"كلُّ كلامٍ لا يبدأ فيه بالحمد، فهو أجذمُ".

الخِطبةُ: طلبُ زوجة وغيرها من الحاجات، والتشهُّدُ: كل ذكر يذكر فيه

ص: 19

كلمتا الشهادة كخطبة النكاح، وخطبة الجمعة، وقراءة التحيات في الصلاة.

الجذماء: تأنيث (الأجذم)، وهو المقطوع.

"والصلاة التامة الدائمة على رسوله المجتبى، محمد سيد الورى، وعلى آله مصابيح الهدى"، وفي نسخة:"نجوم الهدى".

الصلاةُ على النبي من الله: إرادةُ التشريف ورفع الدرجات، ومن الملائكة: الاستغفار والثناء وطلب زيادة الدرجة له، ومن المؤمنين: الدعاء وزيادة رفع الدرجة أيضًا له.

وأراد بالتامة: أن تكون أكملَ وأتمَّ ما يُعطى أحدٌ من الأنبياء والملائكة وغيرهم من الفضيلة والكرامة.

وأراد بالدائمة: أن يكون نزولُ الصَّلاة عليه متصلًا غيرَ منقطع.

(الرَّسول): فَعول بمعنى: المرسل، وهو مفعول، من (أرسل): إذا بعث.

والفرقُ بين الرسول والنبي: أن الرسولَ: من بعثه الله إلى قومٍ وأنزل معه كتابًا، أو لم ينزل عليه كتابًا، ولكن أمره بحُكمٍ لم يكن ذلك الحكم في دين الرسول الذي كان قبله.

والنبيَّ: من لم يُنزِل عليه كتابًا، ولم يأمره بحكم جديد، بل أمره بأن يدعو الناس إلى دين الرسول الذي كان قبله.

وقيل: الرسولُ من نزل عليه جبريل، وأمره بتبليغ رسالة الله تعالى إلى الناس.

والنبي من لم ينزل عليه جبريل، سمع صوتًا أو رأى في المنام: أنك نبي، فبلغْ رسالةَ الله تعالى إلى الناس.

والنبيُّ هو الذي ينُبِئ؛ أي: يخبر عن الله تعالى، فعيل بمعنى (مُفعِل)

ص: 20

بكسر العين، وقيل: بمعنى (مفعَل) بفتح العين، فعلى الوجه الأول: مُبلِّغ ومُخبِرٌ عبادَ الله بما أمرهم الله من الأحكام.

وعلي الوجه الثاني معناه: أنه رجل أخبره الله وعلمه القرآن والأحكام وغير ذلك مما علمه.

ويجوز أن يقال للرسول: مرسل ونبي، كلاهما جاز له، ولا يجوز أن يقال للنبي: مرسل، بل يقال له: نبي.

المُجتبَى: مفعول من (اجتبى) بمعنى: اصطفى.

(محمد): اسم مفعول من التحميد، وهو مبالغةٌ في الحمد والتكثير في الحمد؛ يعني: هو من حمده الله حمدًا كثيرًا لما فيه من الخصال الحميدة.

(الورى): الخلق.

(المصابيح): جمع المصباح، وهو معروف، (الهدى): الطريق المستقيم؛ يعني بمصابيح الهدى: أنهم أرشدوا المؤمنين إلى طريق الدين وأظهروا الدين.

"أما بعد: فهذه ألفاظ صدرت عن صدر النبوة، وسنن سارت عن معدن الرسالة، وأحاديث جاءت عن سيد المرسلين وخاتم النبيين".

لفظة: (أما)، لتفصيل ما أجمله القائل؛ يعني: حين ابتدأ الكتاب بالحمد لله لا يعلم أحدٌ ما يريد، ففصَّل وبيَّن بعد هذا ما يريد من التصنيف.

و (بعد) كان أصله: بعد حمد الله والصلاة على رسوله، فترك ذكر المضاف إليه للعلم به، فلما قطع لفظة (بعد) عن المضاف إليه بنيَ على الضم.

فـ (هذه) مبتدأ، و (ألفاظ) خبره.

وقوله: (صدرت) جملة صفة الألفاظ، وما بعده مضاف معطوف على هذه الجملة.

ص: 21

ومعنى: صدرت؛ أي: خرجت وجاءت عن (صدر النبوة)؛ أي: عن لسان من له صدر النبوة، وصدر القوم: أجلُّهم وأكبرهم في الرتبة؛ يعني به: عن سيد المرسلين.

(السنن): جمع سنة، والسُّنة: السيرة والطريقة وصورة الوجه، والمراد بها ههنا: ما بيَّنه النبيُّ من أمور الدين.

(المعدِن) بكسر الدال: الموضعُ الذي يخرج منه الذهب والفضة والياقوت وغير ذلك من الجواهر؛ يعني به ها هنا: عمن هو موضع الرسالة.

(الرسالة): ما أرسل الله رسلَهُ به من أحكام الدين؛ يعني: هو الذي ظهر من أحكام الدين.

(الأحاديث): جمع أحدوثة، وهي ما يُحدَّثُ به، والحديث مثله، ويجوز أن تكون (الأحاديث) جمع: حديث، فيكون جمعًا على غير قياس.

و (الخاتم): اسم فاعل من (ختم يختم): إذا أتمَّ شيئًا وطبع عليه، كطبع صرة الذثهب وغيرها؛ يعني: نبينا محمدًا عليه السلام أتم النبيين، وختم عليهم؛ يعني: لا يجيءُ بعده نبي.

"هنَّ مصابيحُ خرجت عن مشكاة التقوى"، (هن)؛ أي: الأحاديث كالأنوار يهتدي المسلمون بنورها، ويتخلَّصون من ظلمة الكفر والجهل، ويصلون إلى نور الشريعة وفضاء الطريقة والحقيقة، فمن حفظ حديثًا واحدًا عن اعتقاد صحيح تنوَّر وأضاء ساحاتِ صدره، وارتحلت الظلمةُ الشيطانيةُ عن قلبه، فإن عمل به ازداد نورًا على نوره، فكلما يزيد الرجلُ حفظَ الأحاديث والعملَ بها يزداد نورًا على نوره حتى يظهر نورُ التجلي في فضاء قلبه، ويجلس سلطانُ الحقيقة على كراسي التقوى المصفوفة على فراش قلبه، فحينئذ لا يضرُّه من خذله، ولا من خالفه، ويستغفرُ له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان

ص: 22

في جوف الماء.

(خرجت)؛ أي: خرجت المصابيح، عن (مشكاة التقوى)؛ أي: عن صدر النبوة الذي هو معدن التقوى ومبين التقوى.

(المشكاة): الكوَّةُ التي تكون في الحائط وغيره، يوضع فيها المصباح، وقيل: المشكاة هي الظرف الذي فيه الدهن والفتيلة، والمصباح هو الضوء.

شبَّه المصنف رحمه الله الأحاديثَ بالمصابيحِ، وفم النبي أو صدره بالمشكاة، وهي تشبيه على غاية الحسن والفصاحة.

"مما أوردها الأئمةُ في كتبهم، جمعتُها للمنقطعين إلى العبادة؛ لتكون لهم بعد كتاب الله حظًّا من السنن، وعونًا على ما هم فيه من الطاعة".

(أوردها)؛ أي: من الأحاديث التي جمعها الأئمة في كتبهم، ورد الرجل: إذا أتى بنفسه، وأورده غيره: إذا أتى به.

(الأئمة): جمع الإمام.

(للمنقطعين إلى العبادة)؛ أي: لمن انقطع عن جمعِ المال، وأعرضَ عن الدنيا، وتوجَّه إلى العبادة وأمرِ الآخرة، فمن كانت هذه صفته لا بدَّ له من معرفة الأحاديث؛ لأنَّ من أراد أن يسلكَ من مفازة بعيدة، لا يمكنه سلوكها إلا بدليل حاذقٍ يَقتدي به، ويمشي على أثره؛ ليوصله إلى المقصد، فلا سبيلَ أبعدَ وأخوفَ من سبيل الآخرة، فإذن لا بد لسالك هذا السبيل من دليلٍ حاذقٍ، ودليلُ هذا السبيل رسولُ الله عليه السلام، فلا بدَّ لسالكي سبيل الآخرة من الاقتداء بأفعال رسول الله عليه السلام وأقواله، ولا سبيلَ إلى معرفة أفعاله وأقواله بعد الصحابة إلا بتتبع الأحاديث، فإن أفعال رسول الله عليه السلام وأقواله منقولة فيها، فمن حُرِم الأحاديثَ حُرِم خيرَ الدنيا والآخرة، ومن رُزِقَ منها حظًّا رُزِقَ حظًّا كاملًا من خير الدُّنيا والآخرة.

ص: 23

وأحاديث رسول الله عليه السلام كالمطر النازل، وصدور الناس كالأرض، فكلُّ صدر قبلها مع عقيدة صحيحة، وعظَّم شأنها، يثبت في صدره فنون الرياحين، وأصناف النبات الذي ينتفعُ به الناس ويشفي المريض، ومن تقبلها ولكن لا عن عقيدة صحيحة، ولم يعظم شأنها، تثبت في أرض صدره أنواع الشكوك التي يتأذَّى بها الناس؛ يعني: يتولد منه النفاق والمجادلة والتكبر، ودليلُ ما قلنا قولُهُ تعالى:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} [الأعراف: 58] إلى آخر الآية.

(ليكون لهم بعد كتاب الله حظًّا من السنن)؛ يعني: يكون لهم حظان:

أحدهما: بقراءتهم القرآن والعمل به.

والثاني: بقراءتهم الأحاديث والعمل بها، فمن علم القرآن وعمل به ولم يعلم الأحاديث لم يكن حظه تامًا؛ لأن جميعَ أحكام الشريعة من الأمر والنهي، والحلال والحرام، وأحوال الإنسان من الموت إلى دخول أهل الجنةِ الجنةَ، وأهل النَّارِ النَّارَ، وغير ذلك ليس مذكورًا في القرآن، بل بعضُ هذه الأشياء مذكورٌ في القرآن، وبعضُهُ غيرُ مذكور، ودليلُ ما قلناه ما قال رسول الله عليه السلام: "أيحسبُ أحدُكم متكئًا على أريكته، فظنَّ أن الله تعالى لم يحرِّمْ شيئًا إلا ما في القرآنِ، ألا وإني والله قد أمرتُ ووعظت، ونهيت عن أشياءَ، إنها كمثل القرآن وأكثر

" إلى آخر الحديث.

(وعونًا على ما هم فيه من الطاعة)؛ يعني: ليتعلموا كيفية العبادة، وقدر وظائف رسول الله وأوراده من الصوم والصلاة وغير ذلك، فإن العملَ بسنَّةٍ من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتضاعف ثوابه - وإن كانت عبادة قليلة - على عبادة ليست بسنة، وإن كانت عبادة كثيرة.

"تركت ذكر أسانيدها حذرًا من الإطالة عليهم، واعتمادًا على نقل الأئمة".

ص: 24

(الأسانيد): جمع إسناد، وهو: رواية واحد عن أصحاب الحديث عن واحد هكذا متصلًا إلى رسول الله عليه السلام.

(الحذر): الاحتراز، (حذرًا)؛ أي: للحذر.

(الإطالة): أصله إطوال، فنُقِلت فتحة الواو إلى الطاء، وقُلِبت ألفًا، ثم حُذِفت إحدى الألفين، وأدخلت الهاء عوضًا عن الألف المحذوفة، ومعناه: التطويل.

(الاعتماد): الاكتفاء بأحدٍ والاتكاء عليه؛ يعني تركت ذكر رواة كلِّ حديثٍ بيني وبين رسول الله عليه السلام لشيئين:

أحدهما: كيلا يطولَ الكتاب.

والثاني: اكتفاءً بإيراد الأئمة الذين استخرجتُ هذه الأحاديث عن كتبهم.

ذكر الرواة؛ يعني: إذا أورد الأئمة رواة الأحاديث بينهم وبين رسول الله عليه السلام وصحَّحوا الأحاديث، فلا حاجةَ لي إلى أن أذكر الرواة.

"وربما سميتُ في بعضها الصحابي الذي يرويه عن رسول الله عليه السلام".

(ربما): كلمة التقليل، كما أن (كم) كلمة التكثير، فهذا اللفظ يدلُّ على أن أكثرَ أحاديث هذا الكتاب لم يورد المصنف الصحابي الذي يرويها، وأقلَّها أورد الصحابي الذي رواها عن رسول الله عليه السلام، ونحن نجدُ بخلاف ذلك؛ لأنا نجد أكثرَ أحاديثه مذكورًا فيه الصحابي وأقلَّها لم يكن الصحابي فيها مذكورًا، ولعل المصنفَ ذكر قليلًا من الصحابة (1) في متن الكتاب، وكتب بعضًا من الرواة عن رسول الله عليه السلام في الحواشي، فكتب النساخون في المتن ما كتبه المصنف

(1) في "ش" و"ت" و"ق": "الصحابي"، ولعل الصواب ما أثبت.

ص: 25

في الحواشي، فصار الرواة المذكورون في متن الكتاب كثيرًا، والمتروكون ذكرهم قليلًا، فإذا كان كذلك فقد صحَّ قول المصنف: وربما سميت في بعضها الصحابي؛ لأن ما أورده كان قليلًا، فكثَّره النساخون في المتن، والدليل على هذا وِجْداننا نسخَ هذا الكتاب مختلفةً في ذكر الرواة؛ فبعضُ النسخ يكون فيه راوٍ، ولم يكن ذلك الراوي في نسخة أخرى، ولذلك أكثر النسخ متفاوتة.

"لمعنى دعا إليه"؛ يعني: لا حاجة إلى أن أذكر الصحابي ولا غيره من الرواة؛ لأن رواة أحاديث كتابي هذا مذكورة في كتب الأئمة، ولكن ذكرت لبعض الأحاديث الصحابي الذي يرويه عن رسول الله عليه السلام لما في ذكره [من] احتياج، وذلك الاحتياجُ يكون من وجوه:

أحدها: أن يكونَ للحديث رواةٌ كثيرة من الصحابة بألفاظ مختلفة، كلُّ واحد يرويه بلفظ آخر، فإن لم أذكر الصحابي، لم يُعرَف أن هذه العبارة روايةُ أيِّ صحابي من الذين يروون ذلك الحديث، فلأجل أن يُعلم أن ذلك الألفاظ رواية أيهم، ذكرت صحابيَّ ذلك الحديث.

والثاني: أن يروي الحديثَ جماعةٌ، وفي رواية بعضهم ضعف أو إنكار؛ إما بجهالة الراوي، أو يكون الحديث مرسلًا أو منقطعًا وغير ذلك، وليس في رواية بعضهم ضعف وخلل، فحينئذ لا بدَّ من ذكر الصحابي حتى يعلمَ المحدثون أن هذا الراوي من الذين في روايتهم ضعف، أم من الذين ليس في روايتهم ضعف.

والثالث: أن يكون الحديثُ يعارضه حديثٌ آخر، ويكون أحدُ الحديثين المتعارضين منسوخًا، فلا بد ههنا من ذكر الصحابي حتى يُعلَم كونه متقدمًا في الإسلام أو متأخرًا، مثل أن يروي أحدٌ حديثًا، ومات في السنة الثانية من الهجرة، وأسلم في السنة الثالثة أحدٌ، وروى حديثًا يعارض حديث الصحابي

ص: 26

الذي مات في السنة الثانية، فيُعلَم أن حديثَ الصحابيِّ الذي أسلم في السنة الثالثة ناسخٌ لحديث الصحابي الذي مات في السنة الثانية إذا كان الحديثان متناقضين؛ لأن التناقضَ في الشرع غيرُ جائز.

والرابع: أن يروي أحد حديثًا فيه حكمٌ مطلق، ويروي آخر ذلك الحديث، وقد قيَّد في روايته هذا الحكم الذي كان مطلقًا في رواية ذلك، فلا بدَّ من ذكر الصحابي حتى يتميَّز راوي الحديث المقيد من راوي الحديث المطلق، مثاله: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "وكاءُ السهِ العينان، فمن نامَ فليتوضَّأ"، أطلق الحكمَ في هذا الحديث، ولم يبيِّن أن الوضوء على من نام قاعدًا أو مضطجعًا.

وروى ابن عباس: أن النبي عليه السلام قال: "إن الوضوء على من نام مضطجعًا، فإنه إذا اضطجعَ استرخَتْ مفاصلُهُ"، فقيَّد في هذا الحديث وجوبَ الوضوء على من نام مضطجعًا.

"وتجدُ أحاديثَ كلَّ باب منها تنقسم إلى صحاح وحسان".

و (تجد)؛ أي: وتجد أيها المخاطب، (منها)؛ أي: من الأحاديث المجموعة في هذا الكتاب؛ يعني: تجد أحاديث كل باب من الأحاديث المجموعة في هذا الكتاب ينقسم على قسمين: أحدها: صحاح، والآخر: حسان، وقد ذكر الأحاديث الصحاح والحسان قبل هذا في مقدمة الكتاب.

"أعني بـ (الصحاح): ما أخرجه الشيخان، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري رحمه الله" أشار بقوله: (أعني)[إلى] أن الصحاح والحسان اصطلاحٌ وضعه هو، وليس شيئًا وضعه المتقدمون؛ لأنه لو كان شيئًا وضعه المتقدمون لقالَ: عنوا، وما قال: أعني.

ص: 27

ومعنى (أعني): أريد، من (عني يعني عناية): إذا أراد، وأكثرُ استعماله في إرادة المعاني من الألفاظ يقال: عنى فلان بما تكلم هذا المعنى.

(أخرجه الشيخان)؛ أي: أورده الشيخان، وجمعه الشيخان، والضمير في (أخرجه) راجعٌ إلى صحاح.

و (الجعفي): نسبة إلى جُعفة، وهي اسم بلد، ونُسِب البخاريُّ إلى جُعفة وإلى بُخارى؛ لكونهما وطنين له.

و (قشيرٌ): اسم قبيلة، نسب مسلم إليه.

في "جامعيهما"؛ أي: في كتابيهما (الجامع): الكتاب، سمي الكتاب جامعًا؛ لأنه يجمع أحاديث أو كلمات متفرقة في موضع واحد.

يعني: سميت الأحاديث التي أوردها الشيخان في كتابيهما أو أوردها أحدهما في كتابه صِحاحًا.

"وأعني بـ (الحسان): ما أورده أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني وأبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي وغيرهما من الأئمة في تصانيفهم"؛ يعني: سميت الأحاديث التي أوردها أصحاب الصحاح السبعة غير البخاري والمسلم حِسانًا.

وقد ذكر أسامي أصحاب الصحاح السبعة في مقدمة الكتاب، فكلُّ واحد منسوبٌ إلى بلد إلا القُشيري؛ فإنَّ القشيرَ اسم قبيلة.

و (الحسان): جمع حسن كـ (جِمَال).

"وأكثرها صحاح بنقل العدل عن العدل غير أنها لم تبلغ غاية شرط الشيخين في علوِّ الدرجة من صحة الإسناد"

و (أكثرها)؛ أي: أكثر الأحاديث الحسان؛ يعني: لا يُظنَّ أن الأحاديث الحسان ليست معتبرة مرضية، بل كلها صحيحة منقولة عن العدول، ولكن لم

ص: 28

تبلغ غاية شرط الشيخين اللذين هما صاحبا الصحاح، وشرط أصحاب الحسان في مقدمة الكتاب.

"إذ أكثر الأحكام ثبوتها بطريق حسن"؛ يعني: الأحاديث الحسان التي أوردها الأئمة الخمسة المذكورة كلُّها مرتبة على أبواب الأحكام: من الطهارة، والوضوء، والغسل، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والبيع، والنكاح، والجنايات، وغير ذلك من الأحكام، والأحكامُ لا تثبت إلا بحديث منقول عن العدول، وهذا بخلاف من رتَّب أحاديث كتابه بإسناد كل واحد من الصحابة والتابعين؛ فإنه إذا أراد أن يذكر جميع ما يرويه أبو هريرة مثلًا، لا بدَّ أن يذكر كلَّ حديث يرويه أبو هريرة سواء كان راويه من التابعين أو أتباع التابعين أو غيرهم عدلًا أو غير عدل، فمن رتَّب كتابه على هذا الترتيب، لا يمكنه أن يذكر في كتابه الأحاديث المنقولة في الكتب المعتبرة المصنفة قبله.

و (إذ) في قوله: (إذ أكثر الأحكام) للعلة؛ يعني: علة قولي: و (أكثرها صحاح بنقل العدل عن العدل): أن أحاديث هذه الأئمة مرتبة على الأحكام، والأحكام لا تثبت إلا بأحاديث معتبرة. هذا ما قاله أحدٌ في شرح قوله: إذ أكثر الأحكام ثبوتها بطريق حسن.

ويحتمل أن يكون المراد من قوله: إذ (أكثر الأحكام) أن أحكام الشرع التي أجمع عليها الأئمة مثل الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل وغيرهم من الأئمة وأتباعهم ليس كلها ثابتة بالأحاديث المروية على شرط البخاري والمسلم، بل أكثر الأحكام ثابتة بالأحاديث المروية على شرط أصحاب الحسان. "وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه"؛ يعني: للأحاديث ألقاب كالضعيف، والغريب، والمرسل، والمنقطع، والمنكر، وغير ذلك، فكلُّ واحد من هذه الألقاب قد ذُكِرَ في مقدمة الكتاب.

ص: 29

قوله: (أشرت إليه)؛ يعني: يُثبَتُ كلُّ حديث: أنه مرسل أو ضعيف أو غير ذلك، كلٌّ واحد في موضعه، وكلُّ حديث لم أذكر: أنه ضعيف، أو غريب، أو غير ذلك من ألفاظ، فاعلم أنه متصل الإسناد، وليس فيه ضعف بوجهٍ من الوجوه.

فإن قيل: قد قال: إن أكثر الأحكام ثبوتها بطريق حسن، ونحن نجد في الحسان الحديث الضعيف والمرسل والمنقطع، فكيف يثبت الحكم بحديث ضعيف أو مرسل أو منقطع؟ قلنا: جوابه من وجهين:

أحدهما: أن الحديثَ الضعيف ما يكون ضعيفًا عند واحد، وقويًا عند آخر، فيحكم به الذي كان قويًا عنده، ولا يحكم به الذي كان ضعيفًا عنده، وكذلك المرسل قد يكون مرسلًا بطريق، ومتصلًا بطريق آخر؛ لأن الرواة كثيرة، فإن فرضنا الحديث أنه مرسل البتة، ولم يثبت اتصاله عند أحد، ففي العمل بالحديث المرسل خلاف بين الأئمة؛ فبعضهم يراه حجة، وبعضهم لا يراه حجة، والشافعي يرى مراسيل سعيد بن المسيب حجة فقط.

والوجه الثاني: أن قوله: إذ أكثر الأحكام ثبوتها بطريق حسن، تقديره بالأحاديث الحسان التي ليست بضعيفة.

"وأعرضت عن ذكر ما كان منكرًا أو موضوعًا"؛ يعني: ما أوردتُ في هذا الكتاب حديثًا منكرًا أو موضوعًا.

فإن قيل: ذكر المصنف رحمه الله: أني أعرضت عن ذكر ما كان منكرًا، وقد أورد الحديث المنكر!

قلنا: ذكر حديثًا هو منكرٌ عند بعض المحدثين وغيرُ منكر عند بعضهم، وأما ما كان منكرًا باتفاق بين المعتبرين من أهل هذه الصنعة فلم يذكر البتة.

قوله: "والله المستعانُ، وعليه التكلانُ"، (المستعان): الذي يُطلَب منه

ص: 30

العون، وهو النصرة، و (التكلان): أصله: وكلان، فأُبدلت الواو تاء لقُربِ مخرجهما، كـ (تجاه) و (وجاه)، ومعناه: الاعتماد والاتِّكاء، وهو من (وكل يكل): إذا فوَّض الرجلُ أمَره إلى أحد ليقضيه.

قوله: "إنما الأعمال بالنيات

" إلى آخره.

استحبَّ جماعةٌ من أهل العلم أن يُورِدوا هذا الحديث في أول كتبهم، وقال عبد الرحمن بن مَهدي: ينبغي أن يجعل حديث: "إنما الأعمال بالنيات" رأسَ كلِّ بابٍ.

وقال الشافعي رضي الله عنه: يدخل في هذا الحديث ثلثُ العلم.

وغرضُهم في الابتداء بهذا الحديث الإعلامُ بأن تصنيف الكتاب وقراءته ليكنْ عن الإخلاص وصدق النية ورجاء الثواب من الله الكريم، ولتقوية الدين وإرشاد المسلمين عليه، لا عن الرياء وإظهار الفضل والمفاخرة على الناس.

وراوي هذا الحديث: أبو حفص، "عمر بن الخطاب" بن نُفيل ابن عبد العُزَّى بن عبد الله العَدَوي.

قوله: "إنما الأعمال بالنيات": (إنمَّا) مرَّكبٌ من كلمة النفي والإثبات، فالإثباتُ (إن)، والنفي (ما)، بحيث تكون (إنما) تعملُ الإثبات والنفي؛ يعني: تثبت المذكورَ وتنفي غيرَ المذكور، وسَّمى الأصوليون هذه الكلمة كلمةَ الحصر؛ يعني: ينحصر الحكمُ في المذكور وينتفي عن غير المذكور، كما تقول: إنما العالمُ زيدًا، أثبتَّ العلمَ لزيد، ونفيت العلم عن غير زيد.

(النَّيات): جمع: نِية، وهي: القصد، من (نوى ينوي)؛ إذا قصد أمرًا بقلبه وعزمه

يعني: صحة الأعمال الدينية وانعقادها منحصرةٌ بالنية.

ص: 31

والمراد بالأعمال ههنا: العبادات، لأن الأعمال التي ليست بعبادة لا يُفتقَر فيها إلى النية، ألا ترى أنه لو رمى رجلٌ سهمًا إلى هدف، فأصاب إنسانًا، فقتله = تجب عليه الديةُ، ولا يقال: إنه إذا لم يقصده لا تجب عليه الدية، بل لو ضرب نائم أو سكران رِجْلَه على أحد، فقتله، تجب عليه الدية، وكذلك لو غسل أحد ثوبًا نجسًا بالماء المطلق لطهر الثوب، وإن كان الغاسل سكرانًا، أو مجنونًا، أو صبيًا لم يبلغ إلى سن التمييز، وكلُّ غسل هو عبادةٌ لا بد له من نية.

واتفق العلماء على أنه لو ترك أحدٌ الأكلَ يومًا أو أكثر قبل الصبح إلى الغروب، ولم يقصد الصوم، لم يحصل له الصوم، وكذلك لو صلى أحد صلاة رياء أو خوفًا، ولم يقصد الثواب والطاعة، لم يحصل له الثوابُ، فقد علمنا أن النيةَ لا بد منها في العبادات.

واختلف العلماء في النية؛ فبعضهم يقول: النية على القصد؛ فإذا حضرَ المصلي، وعرف أنه يصلي، وقال: الله أكبر، فقد انعقدت صلاته، وبعضهم يقول: لا بد للمصلي أن يُحضِر صفات الصلوات من تعيين الوقت وتعيين الصلاة في قلبه، ويقارن هذا القصد بالتكبير، وكذلك اختلافهم في كيفية النية في غير الصلاة من العبادات، وشرح هذا مكتوب في كتب الفقه، وليس هذا موضعه.

قوله: "وإنما لامرئٍ ما نَوَى"؛ أي: وإنما لكلِّ رجلٍ من عمله ما نوى، وإن كان غرضُه من عمله رضا الله عنه وطاعتَهُ، حصل له الثواب، وإن كان غرضه من ذلك العمل شيئًا آخرَ لا طاعة الله، لا يحصل له ثوابٌ من الله، كما إذا جلس أحد في المسجد لشُغلٍ من الأشغال الدنيوية، فلا يحصل له ثوابٌ من الجلوس في المسجد لشغل من الأشغال، وإن جلس للاعتكاف أو انتظار الصلاة، يحصل له الثواب بقدر جلوسه في المسجد.

ص: 32

قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرتُهُ إلى الله وإلى رسولهِ"، الهجرة في اللغة: المفارقة وترك الوطن والذهاب إلى موضع آخر؛ يعني: فمن ترك وطنه من مكة وذهب إلى المدينة لنصرة دين رسول الله ولموافقته ولرضاء الله، فهجرتُهُ إلى ما هاجر إليه مقبولةٌ، مرضيةٌ، مُثابٌ عليها عن الله ورسوله.

قوله: "ومن كان هجرته إلى دُنيا يُصيبها"، (دنيا): وزنه (فُعلى) بضم الفاء، ولا يجوزُ دخولُ التنوين فيها؛ لأنها غيرُ منصرفٍ في المعرفة والنكرة، وهي تأنيث (أدنى)؛ يعني:(دنيا) نعت المؤنث، كما أن (أدنى) المذكر، و (أدنى) أفعل التفضيل من (دنا يدنو دنواً)، وأراد بدنيا ها هنا: متاعًا من متاع الدنيا.

(يصيبها)؛ أي: يجدها.

يعني: من كانت هجرته من مكّة إلى المدينة لأجل مالٍ يحصل من غنيمة، أو تجارة، أو اقتضاء دين له على رجل في المدينة وغير ذلك، فلا يحصلُ له إلا ما قصده.

قوله: "أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"، قال ابن مسعود رضي الله عنه: خطب رجل بمكة امرأةً، فأبت أن تتزوج به بمكة، وهاجرت إلى المدينة، فهاجر ذلك الرجل إلى المدينة، وتزوج بتلك المرأة، ويقال لتلك المرأة: أم قيس. قال ابن مسعود: يقال لذلك الرجل: مهاجر أم قيس؛ أي: الذي هاجر لأم قيس، لا لله ورسوله، فحدَّث رسول الله عليه السلام بهذا الحديث زجرًا له ولغيره أن يقصد شيئًا ظاهرُهُ طاعةٌ، وفي نيتهم غيرُ طاعة الله ورضاه.

° ° °

ص: 33