الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - كِتابُ العِلمِ
[2]
كِتابُ العِلمِ
(كتاب العلم)
مِنَ الصِّحَاحِ:
147 -
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومَنْ كذبَ عليَّ مُتعمِّدًا فلْيتبوَّأْ مقعدَهُ مِنَ النَّارِ"، رواه عبد الله بن عمرو.
قوله: "بَلِّغوا عَنِّي"، (بلغوا): أمر المخاطبين، من التبليغ، وهو إيصال الخبر إلى أحد، (الآية) لها معانٍ كثيرة، ومعناها ها هنا: كل كلام مفيد، نحو قوله:"مَنْ صمتَ نجا" و"الدِّين النصيحة".
يعني: بلغوا عني أحاديثي إلى أمتي ولو كان قليلًا، وهذا تحريض على نشر العلم وتعليم الناس العلم وأحكام الدين ونشر الحديث.
فإن قيل: لِمَ قال: (ولو آية)، ولم يقل: ولو حديثًا، مع أن المراد بالآية هنا: الحديث؟
قلنا: هذا إشارة إلى أنه يجوز تبليغ بعض حديث دون حديث تام، كما هو عادة مصنف "المصابيح" في كثير من أحاديث "المصابيح" نحو: حديث صلح الحديبية، فإن ذلك حديث طويل أورد في "المصابيح" بعضه، ومثل ذلك كثير، ومثل هذا: أحاديث الكتاب المعروف بـ "شهاب الخَبَرْ"، فإن كل ما عداه حديثًا فهو
بعض حديث ولا بأس به، إذ الغرض: تبليغ لفظ الحديث سواء كان حديثًا تامًا أو بعضه إذا كان مفيدًا.
فإن قيل: لم حَرَّضَ النَّبي عليه السلام بتبليغ الأحاديث لقوله: "بلغوا عني"، ولم يحرِّضْهُم بتبليغ القرآن.
قلنا: لهذا جوابان:
أحدها: أن تبليغ القرآن داخل في قوله: "بلَّغُوا عني"؛ لأنه هو المبلِّغ للقرآن والأحاديث، فإذا قال:"بلغوا عني" يدخل فيه تعليم القرآن والحديث.
والجواب الثاني: أن طباع المسلمين مائلة وحريصة على قراءة القرآن وتعليمه وتعلمه ونشره بما فيه من الثواب بقراءته وتعليمه وتعلمه؛ لأنه الكلام القديم، ولهذا صار القرآن مشهورًا في العالم ومتواترًا بحيث لا ينكره أحد من المسلمين، فإذا كان كذلك فتبليغ القرآن ونقله حاصل، فلا يحتاج فيه إلى تحريض.
وأما الأحاديث فليس كذلك، فيحتاج فيها إلى تحريض النبي عليه السلام الناس على تبليغها وتعليمها وتعلمها، فلأجل هذا قال في نقل الأحاديث:"بلغوا عني ولو آية".
قوله: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، (الحَرَجُ): الضيِّق، ويستعمل في الإثم، وهذا رخصة من النبي عليه السلام لأمته في التَّحدث عن بني إسرائيل، وإن لم يعلموا صحة ما نقلوه عن بني إسرائيل، ولم يعلموا إسناده وراويه (1)؛ لأن معرفة صحته متعسر؛ لبعد الزمان بينهم وبين زمان موسى، ولانقطاع بني إسرائيل في زمان بُخْت نَصَّر، وهو كافر قد قتلَ بني إسرائيل إلا قليلًا.
(1) في "ق": "ورواته".
فإن قيل: قد نهاهم النبي عليه السلام في حديث الباب المتقدم عن أن يكتبوا شيئًا عن لسان بني إسرائيل، وقال لهم:(أَمُتَهَوِّكُونَ أنتم)، ورخصَّ لهم (1) هنا في التحدث عن بني إسرائيل، كيف التوفيق بين الحديثين؟.
قلنا: المراد بالتحدث عن بني إسرائيل هنا: أن يتحدثوا بقصص بني إسرائيل من حديث عوج بن عنق، وقتل بني إسرائيل أنفسهم لتوبتهم عن عبادة العجل، وغير ذلك من حكاياتهم وقصصهم؛ لأن في ذلك عبرة (2) وموعظة لأولي الألباب.
وأما ما نهاهم عنه في الحديث المتقدم: هو ما أراد المسلمون كتابته (3) من أحكام التوراة وشريعة موسى عليه السلام، فنهاهم النبي عليه السلام؛ لأن جميع الشرائع والأديان والكتب صارت منسوخة بشريعة النبي عليه السلام.
قوله: "ومن كذب علي متعمدًا فليتبَوَأْ مقعَدَهُ من النار"، (تبوأ): إذا هَيَّأَ، (المَقْعَد): المنزل؛ يعني: قد أذنت لكم أن تتحدثوا عن بني إسرائيل بشرط أن تتحرزوا عما عَلِمْتُم كذبه.
قوله: (متعمِدًا) نصب على الحال، وهذا إشارة إلى أن من نقل حديثًا وعلم كذبه، يكون مستحقًا للنار، إلا أن يتوب أو يعفو الله عنه.
وأما مَنْ سمع حديثًا منقولًا عن رسول الله عليه السلام مِنْ واحد، أو رآه في كتاب، ولم يعلم كذبه، لم يكن عليه إثم برواية ذلك الحديث، ولكن ينبغي أن لا ينقل الحديث إلا من شيخ معتبر أو كتاب مصنفه معتبر؛ لأن النبي عليه
(1) في "ت" و"ق": "رَخصهم"، ولعل الصواب ما أثبت.
(2)
في "ت" و"ق": "لعبرة"، ولعل الصواب ما أثبت.
(3)
في "ت": "كيفيته".
السلام قال: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع"، وقد شرحناه في الباب المتقدم.
* * *
148 -
وقال: "مَنْ حدَّثَ عنِّي بحديثٍ يُرى أنَّه كذِبٌ فهُوَ أحدُ الكاذِبَينَ".
قوله: "من حدث
…
" إلى آخره.
"يُرى" بضم الياء: إذا ظن، يعني: من سمع حديثًا من أحدٍ، وظنه كاذبًا، ولم يعلم صدقه، ثم يحدث بذلك الحديث "فهو أحد الكاذبين"؛ يعني: شيخه كاذب وهو أيضًا كاذب بنقل ذلك الحديث عنه وتحدُّثِهِ به؛ يعني: لا يجوز نقل الحديث إلا إذا علم صدقه، أو غلب على ظنه صدقه، بكون الشيخ صالحًا ذا أمانة.
وكنية "سَمُرَة": أبو سَعيد، واسم جده: هِلال بن خديج بن مُرَّة ابن عَمرو.
* * *
149 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُردِ الله بهِ خيرًا يُفقهْهُ في الدِّينِ، وإنَّما أنا قاسمٌ والله يُعطي، ولا تَزالُ منْ أُمَّتي أُمَّةٌ قائمةٌ بأمرِ الله لا يضرُّهمْ مَنْ خَذَلَهُمْ ولا مَنْ خالفهُمْ حتى يأْتيَ أمرُ الله وهمْ على ذلك"، رواه مُعاوية رضي الله عنه.
قوله: "يُفقِهْهُ في الدِّين"؛ أي: يجعله عالمًا بأحكام الدين، ويجعله ذا فهم حتى يفهم من ألفاظٍ قليلةٍ معانيَ كثيرة، وخير الدنيا والآخرة في العلم بأحكام الدين.
قوله: "وإنما أنا قاسم والله يعطي"؛ يعني: إنما أنا أُحدِّث وأخبِرُ بما
يُوحَى إليَّ من القرآن وغيره من أحكام الدين، ولا أفضلُّ بعضكم على بعض في الأخبار، ولكن الله تعالى يرزق من يشاء من العلم، ويجعل من يشاء منكم ذا فَهْمٍ وإدراك، فبعضكم يسمع ما أقول ويحفظه ولا ينساه، وبعضكم يحفظه ولكن ينساه، وبعضكم له فهمٌ كثيرٌ يفهم من ألفاظه معانيَ كثيرة، وبعضكم لا يفهم منها إلا الظاهر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
قوله: "ولا يزال": مضى شرحه في (باب (1) الاعتصام) قبل حِسانه بأربعةِ أحاديث.
* * *
150 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "الناسُ معادنُ كمعادنِ الذَّهبِ والفضَّةِ خِيارُهم في الجاهليَّةِ خِيارُهم في الإسلامِ إذا فَقُهوا"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
قوله: "الناس معادن
…
" إلى آخره.
(المعادن): جمعُ مَعْدِن - بكسر الدال - وهو موضع الإقامة والاستقرار، والموضع الذي يخرج منه الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها من الجواهر وهو من عَدَنَ - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - عَدْنَا: إذا أقام بمكان.
يعني: الناس معادن الأخلاق والأعمال والأقوال، فكما أن الأرض معدن الذهب وغيره من الجواهر، وكما أن بعض المعادن يخرج منها الذهب، وبعضها يخرج منها الفضة، وبعضها يخرج منها النحاس، وغير ذلك، فكذلك الناس يكون بعضهم معدن الأخلاق الحميدة، وبعضهم معدن الأخلاق الذميمة، فمن
(1) هنا ينتهي السقط في النسخة الخطية المرموز لها بـ "ش"، والمشار إليه في (ص: 250) من هذا المجلد.
كان في الجاهلية صاحب أخلاق حميدة وأعمال وأحوال وأقوال مرضيَّةٍ كالحلم والكرم والكلام الطيب والشجاعة والسخاوة وغيرها، ثم أسلم وصار فقيهًا في الدين= فهو خير من الذي أسلم وفقه في الدين، ولم يكن له غير الفقه صفة مرضيَّة.
قوله: "خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام"؛ يعني: مَنْ كان له شرف على غيره قبل الإسلام، فكذلك يكون له شرف على غيره في الإسلام إذا كان مساويًا لغيره في العلم والإسلام؛ لأنه إذا كان مساويًا شَرُفَ من النسب، وليس لغيره ذلك الشرف فلا شكَّ أن الذي له شرفٌ أشرفُ مِنَ الذي ليس له شرفٌ، وأما الذي له شرفٌ قبل الإسلام فأسلم، ولم يكن فقيهًا في الدين، فليس له شرف على مَنْ هو فقيه في الدين، وإن لم يكن له شرف قبل الإسلام.
* * *
151 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا حَسَدَ إلا في اثنتَيْنِ: رجلٌ أَعطاه الله مالًا فسَلَّطهُ على هَلَكَتِهِ في الحقِّ، ورجلٌ آتاهُ الله حِكْمةً فهُوَ يقضي بها ويُعلِّمُهَا"، رواه ابن مَسْعود رضي الله عنه.
قوله: "لا حسد"، (الحسد): أن يتمنى أحد زوال ما يَعدوه من النعم، هذا لا يجوز في الشرع، و (الحسد) هنا: بمعنى الغِبطة، وهي أن يتمنى الرجل أن يحصل له ما يرى في شخص من النعم مِنْ غيرِ أن يتمنى زوال النعم من ذلك الشخص، وهذا جائز في الشرع.
قوله: "إلا في اثنتين: رجلٍ آتاهُ الله مالًا"، (رجلٍ) مجرور لأنه بدل من (اثنتين)، وتقديره: لا غبطة إلا في شأن رجلين، وفي حال رجلين؛ يعني: لا قدر ولا عزة لشيء مما في الدنيا أن يتمناها المسلم إلا في شأن هذين الاثنين؛
لأنهما مشغولان بالخير، والخير شيء يُستحب بل يجبُ طلبُهُ لكل أحد.
قوله: "فسلطَهُ على هَلَكَتِهِ"، (سلطه)؛ أي: وكَّلَهُ ووفَّقَهُ؛ لأن تصرفه على وجهٍ يحبه الله.
قوله: "ورجلٍ آتاه الله حكمةً"؛ أي: عِلْمَ أحكام الدين "فهو يقضي بها"؛ أي: يعمل بها ويحكم بها بين الناس بالحق ويعمل "ويُعلِّمها" الناس.
* * *
152 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عنهُ عملُهُ إلا منْ ثلاثةٍ: إلا منْ صَدَقَةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتفَعُ بهِ، أو ولدٍ صالحٍ يدعُو لهُ"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
قوله: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله
…
" إلى آخره.
يعني: إذا مات الإنسان لا يكتب له بعد موته أجر وثواب؛ لأن الأجر جزاء العمل الصالح، والعملُ ينقطعُ بموتِ الرَّجل إلا إذا فعل فعلًا في الحياة يدوم خيره، وإذا كان كذلك يلحقه أجره، وذلك ثلاثة أشياء:
أحدها: "الصدقة الجارية": وهي وَقْفُ أرضٍ أو دارٍ على المسلمين أو على شخصٍ واحدٍ أو بناءُ مسجدٍ أو مدرسةٍ أو رباطٍ، أو حفرُ بئرٍ وغير ذلك مما ينتفع به الناس.
والثاني: "العلم الذي ينتفع به"؛ يعني: يعلِّمُ أحدًا أو جماعة مسألة أو أكثر من أحكام الدين، فيعملون بتلك المسألة ويعلمونها غيرهم من المسلمين، فيحصل له بذلك ثواب، وكذلك إذا صنف كتابًا.
والثالث: "ولد صالح يدعو له" بعد موته، واعلم: أنه من ترك ولدًا صالحًا يحصل له من ذلك الولد ثوابٌ كل لحظة، سواء يدعو له الولد أو لا يدعو؛ لأن الولد كلما عمل عملًا صالحًا أو تلفظ بتسبيحٍ يحصل لأبيه ثواب؛
لأن الولد كشجرةِ مثمرة، فكما أن من غرس شجرة مثمرة يحصل له ثواب بأكل تلك الثمرة، سواء يدعو آكلها للغارس أو لا يدعو، فكذلك الأب كالغارس، والولد الصالح كالشجرة المثمرة، فهذا مثل قوله:"من سنَّ سُنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة".
و (الولد الصالح) كسُنةٍ حسنةٍ سنها أبوه؛ أي: وضعها، فإن كان الولد سيئًا لا يلحق من سيئاته إلى الأب إثم؛ لأن نيَّةَ الأب في طلب الولد الخير لا الشر؛ لأن نيته في طلب الولد أن يحصل له ولد صالح يعبد الله ويحصل منه الخير إلى الناس، وإنما يصل من شر الولد إلى الأب نصيبٌ أن يعلِّمَ الأبُ الولدَ شرًا كالسرقة وشرب الخمر وغيرهما من المعاصي.
قوله: "يدعو له" إنما قال هذا لتحريض الولد على الدُّعاء لأبيه، لا لأنه لو لم يدعُ الولد لا يلحق والده منه ثواب، بل يحصل له، فكما أن الأب يحصل له ثواب من الولد فكذلك الأم يحصل لها ثواب من ولدها بل ثوابها أكثر؛ لأن حقَّها على الولد أكثر.
فإن قيل: قال هنا: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة"، فينبغي أن لا يكون غير هذه الثلاثة من يحصل له ثواب بعد موته، وقد جاء في الحديث: "من سنَّ سُنَّة حسنة
…
" إلى آخره.
وأيضًا: "كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة"، فهذان آخران يحصل لهما ثواب بعد موتهما.
قلنا: هذان داخلان في تلك الثلاثة؛ لأن السُّنة التي سنَّها الرجل فهي: إما تعليم علم أو جعل موضع وقفًا أو ترك ولد صالح وما أشبه ذلك، وكذلك المرابط - وهو الغازي - لأنه قصد ونوى إحياء الدين وإظهاره، وجعل كل كافر
مسلمًا، وجعل نفسه فداءً لدين الله تعالى، فنيَّتُهُ وقصده في هذه الأشياء يشبه الوقف والعلمَ المنتَفَعِ به، فلذلك يدوم له الأجر والثواب إلى يوم القيامة.
قوله: "ينمو"؛ أي: يزيد أجره.
* * *
153 -
وقال: "مَنْ نَفَّسَ عنْ مُؤمنٍ كُرْبَة مِنْ كُرَبِ الدُّنيا نَفَّسَ الله عنهُ كُربةً مِنْ كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومَنْ يَسَّرَ على مُعسِرٍ يَسَّرَ الله عليهِ في الدُّنيا والآخرة، ومَنْ سَتَرَ مُسلِمًا ستَرهُ الله في الدُّنيا والآخرة، والله في عَوْنِ العبْدِ ما دام العبْدُ في عَوْنِ أَخيه، ومَنْ سلكَ طَريقًا يلتمِسُ فيهِ عِلْمًا سهَّلَ الله لهُ بهِ طريقًا إلى الجنَّة، وما اجتمعَ قومٌ في مَسْجدٍ مِنْ مَساجدِ الله تعالى يتْلُونَ كتابَ الله ويتدارسُونَهُ بينهُمْ إلَّا نزلَتْ عليهِمُ السَّكينةُ، وغشِيَتْهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتْ بهِم الملائكةُ، وذكرهُمُ الله فيمنْ عنده، ومَنْ بطَّأَ به عمَلُهُ لمْ يُسْرعْ بهِ نسَبُه"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
قوله: "من نَفَّسَ عن مؤمنٍ
…
" إلى آخره، نَفَّسَ تنفيسًا: إذا ذهب الحزن.
(الكُربة) بضم الكاف: الحزن، وجمعها: الكُرَب - بضم الكاف وفتح الراء - (يَسَّرَ) تيسيرًا: إذا سَهَّلَ الأمرَ وجعلَ أمرَ أحدٍ سهلًا، (المُعْسِر): الفقير.
قوله: "مَنْ يَسَّرَ على مُعْسِرٍ"؛ أي: من كان له دينٌ على فقير فساهله بأن يمهله من وقتِ أداء دينه إلى وقتٍ يحصل له مال، أو يترك بعض دينه، ويطلب الباقي.
قوله: "من سَتَرَ مسلمًا" هذا يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يرى رجلًا على فعلٍ قبيح فيسترَ عليه ولا يفضحه.
والثاني: أن يكسُوَ مسلمًا ثوبًا.
قوله: "والله تعالى في عون العبد"، (العون): النصرة، "ما كان العبد"؛ أي: ما دام العبد مشغولًا "في عون أخيه" المسلم؛ يعني: من يقضي حاجة مسلمٍ أو يعينُه قضى الله تعالى حاجته وأعانه على أمره.
قوله: "ومن سلك طريقًا"؛ أي: ذهب طريقًا، "يلتمس"؛ أي: يطلبُ "فيه علمًا": من علوم الشريعة، "سَهَّلَ الله تعالى له به"، (الباء) باء السببية؛ يعني: جعل الله تعالى ذهابَه في طلب العلم سببًا لوصوله إلى الجنة من غير تعب، وذلك أن من طلبَ العلم يعرف به طريق الدين، وطريق الدين: هو الطريق الذي يوصل العبد إلى الجنة، والعلم هو الدليل إلى الجنة.
قوله: "وما اجتمع قوم في مسجدٍ من مساجد الله تعالى يتلون كتاب الله"؛ أي: يقرؤون القرآن، "ويتدارسونه"، (التدارس): أن يقرأ بعضُ القوم مع بعضٍ شيئًا؛ يعني: يقرأ بعضهم بعض القرآن ويسمع بعض، أو يعلم بعضُهم بعضًا القرآن ويبحثون في معناه، أو تصحيح ألفاظه وحسن قراءته.
وذكر هنا (المسجد)، والمراد به: جميع المواضع من المدارس والرباطات، وإنما قال:(في مسجد من مساجد الله تعالى)؛ لأن في زمان النبي عليه السلام وبعده إلى قرن أو قرنين لم تكن المدرسة والرباط، بل كان مجمع المصلين والمحدثين المساجد.
قوله: "إلا نزلت عليهم السكينة"، (السكينة): الشيء الذي يحصل به سُكُون الرجل، والمراد ها هنا بها: حصول الذوق والشوق للرجل من القرآن، وصفاء قلبه بنوره، وذهاب الظلمة النفسانية من القلب، ونزول الضياء الرحمانية فيه.
وقيل: (السكينة): اسم ملك ينزل قلب المؤمن، ويأمره بالخير، ويحرضه
على الطاعة، ويوقع في قلبه الطمأنينة والسكون على الطاعة.
(غَشِيَ) - بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر - غشيانًا: إذا جاء من جانب العُلُوِّ، "وغَشِيَتْهُمُ الرحمة"؛ يعني: تنزل عليهم رحمة الله وبركاته.
قوله: "وحفت بهم الملائكة"، (حفَّ) بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر، حفًا: إذا دارَ شيءٌ حولَ شيءٍ؛ يعني: تقف الملائكة حولهم يحفظونهم من الآفات، ويصافحونهم، ويزورونهم.
قوله: "وذكرَهُمُ الله فيمَنْ عنده"؛ يعني: ذكرهم الله تعالى بين الملائكة ويقول لهم: انظروا إلى عبيدي يذكرونني ويقرؤون كلامي، وأيُّ شرفٍ أعظم من ذكر الله تعالى عباده بين الملائكة.
قوله: "ومن بَطَّأَ به عَمَلُهُ"، (بطأ) بتشديد الطَّاء وفتح الهمزة، فعل ماضٍ من التَّبطئة، وهو ضدُّ التعجيل، (بطأ به)؛ أي: أَخَّر، و (أسرع به): إذا عَجَّله؛ يعني: التقديم بأمر الآخرة لا يحصل بالنَّسب وكثرة الأقارب والعشائر، بل بالعمل الصالح؛ يعني: من لم يتقرب بالعمل الصالح إلى الله لا يُقرِّبه علوُّ النسب وكونه ابن مَلِكٍ عظيم القدر لا ينفعه.
* * *
154 -
وقال: "إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقضى عليهِ يومَ القيامةِ: رجلٌ استُشْهِدَ، فأَتى بهِ الله فعرَّفهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فِيها؟ قال: قاتلْتُ فيكَ حتَّى استُشْهِدْتُ، قالَ: كذبتَ، ولكنَّكَ قاتلتَ لأنْ يُقالَ: إنك جَريءٌ، فقد قيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ حتى أُلقيَ في النَّار، ورجلٌ تعلَّم العِلْمَ وعلَّمَهُ وقَرأَ القُرآنَ، فأُتيَ بهِ فعَرَّفهُ نِعَمَهُ فعرفَها، قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: تعلمت العِلْمَ وعلَّمْتُهُ وقرأْتُ فيكَ القرآنَ، قال: كذبْتَ ولكنَّكَ تعلمتَ العِلمَ لِيقالَ: عالمٌ، وقرأْتَ القُرآنَ ليُقالَ: هو قارئٌ، فقدْ قيلَ، ثم أُمِرَ بهِ فَسُحِبَ على وجهِهِ حتَّى
أُلقيَ في النَّار، ورجلٌ وسَّعَ الله عليهِ وأعطاهُ مِنْ أصنافِ المالِ كُلِّهِ، فأُتيَ بهِ فعرَّفهُ نِعَمَهُ فَعرفَها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ مِنْ سَبيلٍ تُحبُّ أنْ يُنفقَ فيها إلَّا أنفقتُ فيها لكَ، قال: كذبتَ، ولكنَّكَ فعلْتَ ليقالَ: هو جَوَادٌ، فقدْ قيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجهِهِ، ثُمَّ أُلقيَ في النَّار"، رواه أبو هُريرة رضي الله عنه.
قوله: "يُقضى عليه"؛ أي: يسأل يوم القيامة عن أفعاله ويُحاسب.
"استُشْهِد" على بناء المجهول إذا جُعل شهيدًا؛ أي: قُتِلَ في معركة الكفار "فأُتيَ به" على بناء المجهول؛ أي: دُعِيَ وأحضر يوم القيامة للحساب.
"فعرَّفه نعمه" تعريفًا: إذا جعله عالمًا بشيء، الضمير في (عَرَّفَ) يرجع إلى الله تعالى.
(النِّعم): جمع نعمة؛ يعني: أعلمَهُ الله وذكَّره بما أنعم عليه من أنواع النِّعم من إعطاء القوة والشجاعة والفرس والسلاح وغير ذلك من أسباب المحاربة مع الكفار.
"فعرَّفها"؛ أي: عَرَّف ذلك الشخص تلك النعم وأقر بها.
"قال: فما عملت"؛ أي: قال الله تعالى له: فما عملت في تلك النعم، وعلى أيَّ وجهٍ صرفتها؟
"قال: قاتلتُ فيك"؛ أي: قاتلت في سبيل الله؛ أي: حاربت الكفار لإعلاء دينك ولرضاك "حتى استشهدت، قال: كذبت"؛ أي: قال الله له: كذبتَ إنك ما قاتلتَ مع الكفار لمرضاتي، بل قاتلتَ ليقولَ الناسُ إنك رجل شجاع، فغرضك من قتالك إظهارُ شجاعتك لا لإعلاء ديني.
(الجَرِيء): الشجاع، من جَرُء - بضم العين في الماضي والغابر - جُرْأَةً وجَرَاءَةً: إذا صار شُجاعًا.
قوله: "فقد قيل"؛ أي: فقد قال الناس ما طلبتَ، وهو مدحُك وإظهارُ
صيتك وشجاعتك؛ يعني: حصل لك غرضك في الدنيا، وهو إظهار شجاعتك، فليس لك ثواب غير ذلك، فإذا لم تقاتل لمرضاتي فما أديت حق نعمتي، وإذا لم تؤدِّ حق نعمتي فقد استوجبت العقوبة.
"ثم أُمِرَ"؛ أي: أُمِرَ به، على بناء المجهول؛ أي: قيل لخزنة النار: ألقوه في النار، "سُحِبَ" ماضٍ مجهول؛ أي: جُذِبَ وجُرَّ.
قوله: "ورجلٌ تعلَّم العلم"؛ أي: جيء يوم القيامة برجل تعلَّم العلم وعَلَّمه الناس، فعرفه الله تعالى ما أنعم عليه من الفهم والفصاحة والعلم والقرآن.
قوله: "وقرأتُ فيك القرآن"؛ أي: في رضاك، وشرح باقيه قد تقدم.
قوله: "وَسَّعَ الله تعالى عليه"؛ أي: كَثَّرَ الله مالَه، ووَسَّع رزقه "من أصناف المال" من الإبل والبقر والغنم والفرس وغيرها من الدواب، ومن الذهب والفضة وغير ذلك من أنواع المال كلها.
قوله: "ما تركتُ من سبيلٍ تحبُّ أن ينفق فيها"؛ يعني: ما تركت مَصرفًا تحبه وترضاه إلا صرفت فيه، كبناء المسجد والمدارس وإعطاء الزكاة والصدقات وغير ذلك من وجوه الخيرات، (الجواد): السَّخي، وباقي شرحه قد تقدم.
* * *
155 -
وقال: "إنَّ الله تعالى لا يقبِضُ العِلْمَ انتزاعًا ينتزِعُهُ مِنَ العِبادِ، ولكنْ يَقبِضُ العلمَ بقبضِ العُلماءِ حتى إذا لم يُبقِ عالِمًا اتَّخذَ الناسُ رُؤَساءَ جُهَّالًا، فسُئِلُوا، فأَفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فضَلُّوا، وأَضَلُّوا"، رواه عبد الله بن عَمْرو بن العاص.
قوله: "إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعًا" منصوب على أنه مفعول
مطلق، والمفعول المطلق هو المصدر المنصوب.
(الانتزاع): الجَذْبُ والجرُّ؛ يعني: إنَّ الله تعالى لا يقبض العلم من بين الناس على سبيل أن يرفعه مِنْ بينهم إلى السماء، ولكن يقبض بقبض أرواح العلماء حتى لا يترك عالمًا، فإذا قبض العلماء بقي الجهال، فاتخذ الناس قضاة وأئمة جاهلين، فقاضيهم يقضى بغير علم، ومفتيهم يفتي بغير علم.
"رؤوساء": جمع رَأس، وهو السيد والإمام والقاضي والمفتي.
"فسُئلوا" على بناء المجهول، والضمير في (سئلوا) يعود إلى (رؤوساء).
قوله: "فضلوا"؛ أي: صار قضاتهم والذين أفتوهم ضالين وجعلوا قومهم ضالين أيضًا؛ لأنه مَنْ تَبِعَ جاهلًا يدله على سبيل الضلال، ومن تبع عالمًا يدله على سبيل الرَّشاد.
* * *
156 -
وقال عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتخَوَّلُنا بالمَوعظةِ في الأَيامِ كراهَةَ السَّآمَةِ علَينا.
قوله: "يتخولنا"، (التخول): التعهد وحسن الرعاية.
"السآمة": الملالة؛ يعني: كان رسول الله عليه السلام لا يعظنا متواليًا كيلا نَمِلَ، فلا يؤثِّرُ كلامُه في قلوبنا عند ملالتنا، بل يعظنا فيه يومًا دون يوم، ووقتًا دون وقت، ويطلب وقتًا نكون فيه مجموعي الخواطر فيعظنا فيه، وكذلك ليفعل المشايخ والوعاظ في تربية المريدين.
* * *
157 -
وقال أنس رضي الله عنه: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا تكلَّمَ بكلمةٍ أعادَها ثلاثًا حتى
تُفهمَ عنه، وإذا أَتَى على قومٍ فسلَّمَ عليهِمْ سَلَّم عليهم ثلاثًا.
قوله: "إذا تكلم رسول الله عليه السلام" بوعظ وغيره أعاد ذلك الكلام ثلاث مرات حتى يفهمه المستمع، ويتقرر في طبعه، ويحفظه، وكذلك ليفعل الوعاظ في كل زمان.
قوله: "وإذا أتى على قوم فسَلَّمَ عليهم سَلَّمَ عليهم ثلاثًا"؛ يعني: إذا أتى باب أحد أو أتى جمعًا سَلَّمَ عليهم للاستئذان، وإذا أذنوا له ودخل، سَلَّمَ عليهم ثانية للتحية، وإذا قام وخرج من عندهم سَلَّمَ عليهم ثالثة للوداع، وهذه التسليمات الثلاث سُنَّةٌ في كل أحد حين يأتي قومًا.
* * *
158 -
وعن أبي مَسْعُودٍ الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دلَّ على خَيْرٍ فلهُ مِثْلُ أَجْرِ فاعلِهِ".
قوله: "مَنْ دلَّ على خير"؛ يعني: مَنْ أَمَرَ أحدًا بإعطاء صدقة أو بناء مسجد أو مدرسة أو رباط وغير ذلك من الخيرات، أو وعظ أحدًا حتى يخافَ الله تعالى، ويرجع من المعاصي إلى الصلاح = فله مِثلُ أجر مَنْ فعل خيرًا بقوله، وهذا نظير قوله عليه السلام: "من سن سنة حسنة
…
" إلى آخر الحديث.
واسم "أبي مسعود": عُقبة بن عَمرو بن ثَعلبة بن أسيرة بن عَسيرة الأنصاري.
* * *
159 -
وقال: "مَنْ سَنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً حسنةً فلهُ أجرُها وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بها بعدَهُ، مِنْ غيرِ أنْ ينقُصَ مِنْ أُجورِهم شيءٌ، ومَنْ سنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً
سيَّئَةً كان عليهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عملَ بها بعدَهُ، مِنْ غيرِ أنْ ينقُصَ مِنْ أَوزارِهم شيءٌ"، رواه جَرِيْر رضي الله عنه.
قوله: "مَنْ سَنَّ": قد تقدم شرح هذا الحديث في (باب الاعتصام)؛ لأن هذا الحديث مثل قوله عليه السلام: "مَنْ دعا إلى هدى
…
" إلى آخر الحديث.
وجد "جرير": الشليل بن مالك.
* * *
160 -
وقال: "لا تُقْتَلُ نفسٌ ظُلْمًا إلَّا كانَ على ابن آدمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِها؛ لأنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ"، رواه ابن مَسْعُود رضي الله عنه.
قوله: "لا تقتل نفسٌ ظلمًا"، (ظلمًا) منصوب على التمييز، وأراد بـ (ابن آدم الأول): قابيل؛ فإنه قتل أخاه هابيل، وهو أول قاتل في العالم، ويدل هذا أنَّ قابيل أول ولد وُلد من آدم.
قوله: "ابن آدم الأول"، (الأول) صفة للابن لا لآدم؛ لأنه لم يكن آدم أكثر من واحد حتى يكون هو أولهم، وقد بلغنا أن بعض الجهال يقولون: إنه قد كان قبل آدم هذا سبعة أوادم، وهذا القول كفر بل لم يكن آدم غير آدم الذي هو أبو البشر.
قوله: "كِفْلٌ من دَمِها"، (الِكفل): النصيب، الضمير في (دمها) راجع إلى النفس، في قوله:(لا تُقتل نفسٌ)؛ يعني: كل قتل باطل يجري بعد قابيل إلى نفخة الصور يكون لقابيل نصيب من ذلك الإثم، وهذا الحديث نظير قوله: "ومن سَنَّ سنة
…
" إلى آخر الحديث.
* * *
مِنَ الحِسَان:
161 -
عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: قال رسولُ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَلَكَ طَريقًا يطلُبُ فيهِ عِلْمًا سَلَكَ الله به طَريقًا من طُرُق الجنَّةِ، وإنَّ الملائكةَ لتضَعُ أجنحتَها رِضًا لطالبِ العِلْمِ، وإنَّ العالمَ ليَستغفرُ لهُ مَنْ في السَّماواتِ وَمَنْ في الأَرضِ، والحِيْتانُ في جَوْفِ الماءِ، وإنَّ فَضْلَ العالم على العابِدِ كفضْلِ القمَرِ ليلةَ البَدْرِ على سائرِ الكوكِبِ، وإنَّ العُلَماء وَرثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياء لم يُورَّثوا دِيْنارًا ولا دِرْهمًا، وإنَّما ورَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أخذَ بحظٍّ وافِرٍ".
قوله: "من سلك
…
" إلى آخره، "سلك طريقًا"؛ أي: ذهب في الطريق.
"سلك الله به": الباء في (به) للتعدية، والضمير يعود إلى (مَن)؛ يعني: أذهبه الله بسبب طلب العلم في طريق من طرق الجنة، حتى يوصله إلى الجنة والضمير يعود إلى العلم.
قوله: "طريقًا من طرق الجنة" إشارة إلى أنَّ طرق الجنة كثيرة؛ يعني: كل عمل صالح طريق من طرق الجنة، وطلب العلم أقرب طريق إلى الجنة، وأعظم وأفضل عمل من الأعمال المرضية عند الله؛ لأن صحة الأعمال وقبولها موقوف على العلم، ألا ترى أن من ليس له علم الصلاة لا تصح صلاته، وكذلك الصوم والحج وجميع الأعمال الصالحة.
قوله: "وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم"، (رضًا) منصوب في التقدير؛ لأنه مفعول له.
(الأجنحة) جمع جَناح - بفتح الجيم - يعني: أن الملائكة تفرش وتبسط أجنحتها تحت قدمي طالب العلم تواضعًا له، ولتحمله ليبلغه حيث يمشي،
ويحتمل أن يريد بوضع الأجنحة: التقرب والتواضع له من غير حقيقة وضع الأجنحة؛ يعني: تدور الملائكة حول طالب العلم ويزورونه ويحفظونه من الآفات، وذلك لعظم قدر العلم.
قوله: "وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان" جمع حوت؛ يعني: أهل السموات وأهل الأرض حتى الحيتان في الماء يدعون لأهل العلم بالخير ويستغفرون لهم، وذلك لأن مَن طلبَ العلم يطلبُ إحياءَ الدين مما يرضاه الله ورسوله وأهل السموات والأرض، فلأجل هذا يدعون له، ولأن نفع العلم يصل إلى جميع الحيوانات.
أما وصول نفع العلم إلى الملائكة؛ فهو أن الكفار بعضهم يقولون: ليس لله ملائكة، وبعضهم يقولون: الملائكة بنات الله، وبعضهم يعبدون الملائكة وكل ذلك كفر، ويتأذى من جميع ذلك الملائكة، وأهل العلم يقولون: الملائكة عباد الله، فهذا الاعتقاد شيء يحبه الله وملائكته فتدعوا الملائكة لأهل العلم؛ لأنهم يقولون فيهم ما هو حقهم لا زيادة فيه ولا نقصان.
وأما وصول نفع العلم إلى أهل الأرض من الإنس والجن؛ فهو أن خلاصهم من النار بسبب العلم.
وأما سائر الحيوانات؛ فلأن أهل العلم يبيِّنون ما هو الحلال وما هو الحرام، وما يجوز قتلها وما لا يجوز، ويبيِّنون فيما يحل أكله كيف يُذبح حتى يجوز أكله، وكل ذلك نفع للحيوانات؛ لأن مَنْ لا علم له يظن أن قتل جميع الحيوانات غير الإنسان جائز فيقتلهم فيلحقهم ضرر بذلك، فلأجل أن العالم يصل منه نفع إلى الحيوانات تدعو الحيوانات له شكرًا لإنعامه عليها.
قوله: "كفضل القمر ليلة البدر"، (ليلة البدر): وهي الليلة الرابع عشرة من الشهر، ونور القمر في هذه الليلة أكثر من نوره في جميع الشهر؛ يعني: بقدر
التفاوت بين نور القمر ليلة البدر وبين نور الكواكب، يكون التفاوت بين فضل العالم وفضل العابد، والمراد بـ (العالم) العالم الذي له اعتقاد صحيح وله أداء فرائض الله تعالى، ولكن لا يشتغل بنافلة الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات لاشتغاله بتحصيل العلم، والمراد بـ (العابد) هنا: هو الذي يَعلم من العلم ما تصح به عباداته، ولكن لا يشتغل بالعلم الذي ليس عليه فرض؛ لاشتغاله بالعبادات.
قوله: "وإن العلماء ورثة الأنبياء"؛ يعني: كما أن أولاد الرجل يرثون ويأخذون ماله بعد وفاته، فالعلماء يرثون ويأخذون العلم من الأنبياء، وينقلون العلم عنهم وينشرونه ويظهرون دينهم، ومحبة الأنبياء للعلماء أكثر من محبة الآباء للأولاد؛ لأن وصول النفع من العلماء إلى الأنبياء أكثر من وصول النفع من الأولاد لآبائهم.
قوله: "أخذ بحظ وافر"، (الحَظُّ): النصيب، و (الوافر): التام الكامل؛ يعني: فمن أخذ العلم من الأنبياء يكون حظه أكثر من حظ الذي أخذ المال.
* * *
162 -
وقال أبو أُمامة الباهليُّ: ذُكِرَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم رَجُلانِ أحدُهُما عابِدٌ والآخَرُ عالمٌ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"فضلُ العالِمِ على العابدِ كفَضْلي على أَدناكُمْ"، ثم قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله وملائكتَهُ وأهلَ السَّماواتِ والأرضِ حتَّى النَّملَةَ في جُحْرِها وحتَّى الحوتَ لَيُصلُّونَ على معلِّمِ النَّاسِ الخير".
قوله: "ذُكِرَ لرسول الله"؛ يعني: وُصِفَ عند رسول الله عليه السلام رجلٌ بالعبادة ورجل بالعلم، وسئل: أيهما أفضل؟ فقال رسول الله عليه السلام: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل منكم".
ومعنى (الأدنى): الأقل مرتبة وعزة (1)، وإنما فضل العالم يكون أكثر من فضل العابد؛ لأن العابد يعمل شيئًا ينفع نفسه فقط وهو العبادة، وأما علم العالم ينفع نفسه وغيره من المسلمين.
(جُحْرِها): أي: الثُّقبة التي تكون فيها.
قوله: "لَيُصَلُّون": وقد ذكر شرح الصلاة من الله ومن الملائكة ومن المؤمنين في (شرح ديباجة الكتاب).
قوله: "على معلِّمِ الناس الخير" أراد بـ (الخير) ها هنا: علم الدين وما به نجاة الرجل.
* * *
163 -
وقال أبو سَعيد الخُدْريُّ رضي الله عنه: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ النَّاسَ لكُمْ تَبَعٌ، وإنَّ رِجالًا يأْتونكُمْ مِنْ أقطارِ الأرضِ يتفقَّهُونَ في الدِّينِ، فإذا أَتَوْكُمْ فاسْتَوْصُوا بهِمْ خَيْرًا".
قوله: "إن الناس لكم تبع"، (لكم) خطاب للصحابة؛ يعني: الناس يأتونكم من جوانب الأرض يطلبون العلم منكم بعدي، فإذا أتوكم فأمروهم بالخير وعظوهم وعلموهم علوم الدين.
قوله: (لكم تبع)؛ يعني: يتبعونكم في أفعالكم وأقوالكم؛ لأنكم أخذتم أفعالي وأقوالي.
"الأقطار": جمع قُطْر - بضم القاف - وهو الجانب والناحية.
"يتفقَّهون"؛ أي: يطلبون الفقه ويتعلمونه.
(1) في "ت": "وعِشْرة".
"في الدين"؛ أي: في أمور الدين وأحكامه.
قوله: "فاستوصوا بهم خيرًا" أصل هذا: استوصيو، فَنُقِلت ضمة الياء إلى الصاد وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها، والاستيصاء: قبول الوصية، والاستيصاء أيضًا بمعنى التوصية يُعَدَّى بالباء يقال: استوصيت زيدًا بعمرو خيرًا؛ أي: طلبت زيدًا أن يفعل بعمرو خيرًا.
ومعنى قوله: (فاستوصوا بهم خيرًا)؛ أي: مروهم بالخير، وعظوهم خيرًا، وعلموهم الخير.
* * *
164 -
وقال: "الكلِمةُ الحِكْمَةُ ضالَّةُ الحَكيم، فحيثُ وجدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بها"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه. غريب.
"الكلمة الحكمة"، (الكلمة): موصوفة.
و (الحكمة): صفتها، ومعنى (الحكمة): المحكمة المثبتة والممنوعة عن الخطأ والفساد، وفي بعض الروايات:"كلمة الحكمة" على الإضافة، و (الحكمة): المانعة للرجل عن الجهل والفساد، و (حكم): إذا منع الضالة التي ضلت عن صاحبها؛ أي: غابت، و"الحكيم": ذو الحكمة؛ أي: ذو الصلاح والعلم والعقل الكامل؛ يعني: كلمة الحكمة مطلوبة الحكيم.
و"الحكيم": هو الذي يعرف قَدْرَ العلم والمسائل الشرعية والمواعظ، فينبغي للحكيم أن يطلب العلم كما يطلب الرجل ما غاب عنه من دوابَّه وغيرها من الأموال، فحيث وجدها فليحفظها؛ لأنه هو صاحبها، ولا ينبغي أن يتركها وينساها، وإذا سمع حكيم مسألة من رجل فليحفظها، وإن كان الرجل الذي سمعها منه جاهلًا، ولا ينبغي له أن يستنكف من طلب العلم ممن هو دونه.
روى هذا الحديث: "أبو هريرة".
* * *
166 -
وقال: "لَفَقيهٌ أشدُّ على الشيطانِ مِنْ ألفِ عابِدٍ"، رواه ابن عباس رضي الله عنهما.
قوله: "لفقيه واحد أشد
…
" إلى آخره؛ يعني: بقاء فقيه واحد وحياته أشد وأبغض على الشيطان من ألف عابد وحياتهم؛ لأن الفقيه عدو الشيطان؛ لأن الشيطان يأمر الناس بالكفر والفسق، والفقيه يأمرهم بالإيمان والطاعة، ويدعوهم من سبيل الشيطان إلى سبيل الرحمن، ولا يحصل من العابد شيء من هذه الأشياء إذا كان العابد غير عالم.
* * *
165 -
وقال: "طلَبُ العِلْمِ فريضةٌ على كُلِّ مُسلمٍ"، رواه أنسٌ رضي الله عنه.
قوله: "طلب العلم فريضة" واعلم: أن المراد بالعلم الذي هو فريضة على كل مسلم: العلم الذي طلبه فرض عين لا فرض كفاية، وذلك مختلف باختلاف الأشخاص.
فالفقير الذي ليس عليه إلا الصلاة والصوم من الأركان يجب عليه معرفة صحة الاعتقاد من كون الله تعالى واحدًا لا شريك له، وهو حي قديم أزلي أبدي، وغير ذلك مما ذكر تعلمه من العقائد في كتب الاعتقادات، ويجب عليه تعلم ما تصح به الصلاة والصوم وما يفسدهما، ويجب عليه معرفة الحلال والحرام، والخبيث والطاهر، والوضوء والغسل.
وأما الغني الذي تجب عليه الزكاة والحج؛ فيجب عليه تعلم ما يجب على الفقير من العلم مع زيادة تعلم علم الزكاة والحج، ويجب على التاجر تعلم علم
ما تصح به العقود، وما يفسدها، وكذلك من يعمل عملًا يجب عليه تعلم علم ذلك العمل.
وأما تحصيل العلم بحيث يصير الرجل مجتهدًا في بلد ومفتيًا، فهذا فرض كفاية لا فرض عين، وإذا صار رجلٌ مجتهدًا في بلد أو في ناحية سقط الفرض عمن كان قريبًا بمكان ذلك الرجل المجتهد بحيث تبلغ فتواه إليه، وإن لم يكن بكل ناحية مفتي عصى أهل تلك الناحية، حتى يصير واحد منهم مفتيًا.
* * *
167 -
وقال: "خَصْلَتَانِ لا تجتمعانِ في مُنافِقٍ: حُسْنُ سَمْتٍ، ولا فِقْهٌ في الدِّين"، رواه أبو هُريرة رضي الله عنه.
قوله: "خصلتان لا تجتمعان
…
" إلى آخره؛ يعني: لا تكون هاتان الخصلتان مجتمعتين في المنافق، بل إما أن لا تكون واحدة منهما، أو تكون واحدة منهما دون الأخرى؛ يعني: لا يكون المنافقُ حَسَنَ الخْلق حَسَنَ الطريقة في الدين، بل يكون سيئ الخلق مفسدًا لأمور الدين، وكذلك لا يكون عالمًا بالعلوم الشرعية؛ لأنه لا اعتقاد له بكون الشريعة حقًا، ولو تعلم مسائل من العلوم؛ لكون ذلك التعلم لمصلحة الأمور الدنيوية، ودفع السيف عن نفسه.
وهذا الحديث يدل على عظم قَدْر حُسْنِ السَّمت والفقه في الدين، وهو أيضًا تحريض للمسلمين على حسن السَّمت، والفقه في الدين؛ لينالوا بركة وفضيلة ما لا يناله المنافقون.
السَّمْت - بفتح السين وسكون الميم -: الطريق والهيئة.
* * *
168 -
وقال: "مَنْ خَرَجَ في طَلَبِ العِلْمِ فهو في سَبيلِ الله حتَّى يرجِعَ"،
رواه أنس رضي الله عنه.
قوله: "من خرج في طَلَبِ العلم
…
" إلى آخره، يعني: من خرج من بيته في طلب العلم فله أجر من خرج للجهاد مع الكفار حتى يرجع إلى بيته.
ووجه مشابهة طلب العلم بالجهاد: أن طلب العلم إحياء للدين، وإذلال للشيطان، وإتعابٌ للنفس، وكَسْرٌ للهوى واللذة، كما كانت هذه الأشياء في الجهاد.
* * *
169 -
وقال: "مَنْ طَلَبَ العِلمَ كان كفَّارةً لِمَا مضَى"، رواه عبد الله بن سَخْبَرَة الأزدي رضي الله عنه. ضعيف.
قوله: "كان كفارة"؛ أي: كان طلبُ العلم كفارةً "لما مَضى من ذنوبه".
و (الكفارة): تستر الذنوب وتزيلها، من كَفَرَ: إذا سَتَرَ.
روى هذا الحديث "عبد الله بن سَخْبَرة" عن أبيه.
* * *
170 -
وقال: "لَنْ يَشبَعَ المؤمنُ مِنْ خَيْرٍ يسمَعُهُ حتَّى يكونَ مُنتهَاهُ الجنَّةُ"، رواه أبو سَعيد الخُدْري رضي الله عنه.
قوله: "من خيرٍ يسمعُهُ"؛ أي: مِنْ علمٍ يسمعه.
قوله: "حتى يكون منتهاه الجنة"، (منتهاه): غايته ونهايته، وهو ظرف خبر (يكون)، و (الجنة): اسمه، وتقديره: حتى تكون الجنة منتهاه؛ يعني: يكون المؤمن حريصًا على طلب العلم، ولا يشبع، ولا يمل منه، حتى يموت، فإذا مات دخل الجنة.
* * *
171 -
وقال: "مَنْ سُئلَ عن عِلْمٍ عَلِمَهُ ثمَّ كتمَهُ أُلْجِمَ يومَ القيامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نارٍ"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
قوله: "ثم كَتمَهُ"؛ أي: ستره؛ أي: جُعِل وأُدخِل في فمه لِجَامٌ من النار؛ يعني: مَنْ سألَهُ أحدٌ عن مسألةٍ علمها ثم أخفاها، ولم يُعلِّمها السَّائل، جعل له يوم القيامة لِجَام من النار، وإنما عذب فمه؛ لأن الفم موضع خروج العلم منه، فلما لم يُجِبِ السَّائل وسكت، جازاه عن سكوته بلجام من النار.
واعلم أن المسألة التي يكون الإثم في ترك جوابها هي المسألة التي يحتاج إليها السائل في أمور دينه، أما لو سئل عن علم لا ضرورة له فيه، فلا يجب جوابه، بل يُخيَّرُ المسؤول في الجواب وتركه.
* * *
172 -
وقال: "مَنْ طلَبَ العِلْمَ ليُجارِيَ بِهِ العُلماء، أو ليُمارِيَ بِهِ السُّفهاءَ، أو يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إليهِ أدخلَهُ الله النَّار"، رواه كعب بن مالك رضي الله عنه.
قوله: "ليجاري به العلماء"، (المجاراة): المقاومة، وجعل الرجل نفسه مثل غيره؛ يعني: لا يطلب العلم لله، بل ليقول للعلماء: أنا عالم مثلكم، ويتكبر، ويحصل لنفسه رفعة.
قوله: "أو ليماري به السفهاء"(المماراة): المجادلة، (السفهاء): جمع سفيه، وهو ضعيف العقل، والمراد به ههنا: مَنْ ليس له علم، يعني: ليجادل الجاهلين ويقول لهم: أنا عالم وأنتم لستم بعالمين، وأنا خير منكم.
قوله: "أو يصرفَ به وجوهَ الناس إليه"؛ يعني: طلب العلم على نية تحصيل المال والجاه من العوام؛ ليصير العوام مريدين يخدمونه ويعظمونه ويعطونه المال.
يعني: من طلب العلم لله يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، ويحصل له ثواب كثير، ومن طلب العلم لا لله، بل لغرض آخر يحصل له إثم عظيم، وكذلك جميع الأعمال الصالحة.
* * *
173 -
وقال: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مما يُبتغى بهِ وَجْهُ الله، لا يتعلَّمُهُ إلا لُيصيبَ بهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنيا لمْ يَجدْ عَرْفَ الجنَّةِ يومَ القيامَةِ"؛ يعني: ريحَهَا، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
قوله: "مما يُبتغى به وجه الله"، (من): للتبيين، (يُبتغى)؛ أي: يُطلب (وجه الله)؛ أي: رضا الله.
يعني: من تعلم علمًا من العلوم التي يكون لله رضا بتحصيل ذلك العلم؛ يعني: به العلوم الشرعية، فمن طلب شيئًا مِنْ هذه العلوم لطلب مال الدنيا تكون له العقوبة؛ لأنه طلب الدنيا بعمل الآخرة؛ فقد وجد ثواب سعيه في طلب العلم؛ لأن نيته في طلب العلم جمع المال، وقد وُجِدَ، فإذا وجد ثوابه في الدنيا لا يكون له في الآخرة ثواب.
"ليصيب"؛ أي: ليجد، (العَرَضُ): المال، (العَرْفُ) بفتح العين وسكون الراء: الرائحة.
قوله: "لم يجد عَرْفَ الجنة" يحتمل أن يُريد به: التهديد والزجر عن طلب الدنيا بعمل الآخرة، ويحتمل أن يريد به: أنه لا يجد رائحتها ولا يدخلها قَبْلَ العذاب، بل يُعذب بقدر ذنوبه في طلب الدنيا بعمل الآخرة، ثم يدخل الجنة.
وليس المراد به أن لا يدخل الجنة أبدًا؛ لأن المؤمن تكون عاقبته دخول
الجنة، وإن كان له ذنوب عظيمة.
* * *
174 -
وقال: "نَضَّرَ الله عبدًا سَمِعَ مَقالَتي فحفِظَهَا ووَعَاهَا وأَدَّاهَا، فرُبَّ حامِلٍ فِقْهٍ غيرِ فقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فِقْهٍ إلى مَنْ هو أفقهُ مِنْهُ".
وقال: "ثلاثٌ لا يُغَلُّ عليهِنَّ قلبُ مُسلمٍ: إخلاصُ العَملِ لله، والنَّصيحةُ للمُسلمينَ، ولزومُ جماعَتِهِمْ، فإنَّ دعوتَهُمْ تُحيطُ مِنْ ورائِهِمْ"، رواه ابن مَسْعود رضي الله عنه.
175 -
وقال: "نَضَّرَ الله امْرءًا سَمِعَ مِنَّا شيئًا فَبَلَّغَهُ كما سَمِعَهُ، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى له مِنْ سامِعٍ"، رواه ابن مَسْعود رضي الله عنه.
قوله: "نضرَ الله امرءًا"، (نَضَرَ) - بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر - نَضْرَةً: إذا جعل أحدًا ذا جمالٍ، وحسن الوجه من أثر النعمة، وهذا اللفظ يكون لازمًا ومتعديًا، وها هنا متعدٍّ.
وروي: "نضَّر الله" بتشديد الضاد، ومعناهما واحد، ومن شدد يريد المبالغة والكثرة في النَّضْرَة.
وَعَى يَعِي وَعْيًا: إذا حفظ كلامًا بقلبه، والمراد بقوله:"ووعاها"؛ أي: دام على حفظها ولم ينسها.
"وأدَّاها"؛ أي: أوصلها إلى الناس، وعلمها الناس.
قوله: "فربَّ حامِلِ فقهٍ غيرِ فقيه"، (غير): صفه لـ (حامل فقه).
يعني: قد يكون بعضُ الناس يسمع حديثًا من النبي صلى الله عليه وسلم أو من الصحابة أو غيرهم، ويحفظ لفظ الحديث، وهو لا يعلم معناه، ويروي ذلك الحديث لشخص يعلم معنى ذلك الحديث.
وقد جَوَّزَ أصحاب الحديث أن يسمع العالم الفاضل الحديث من الرجل العامي ليس له علم، إذا سمع ذلك الرجل العامي الحديث من أحد، كما سمع فضلاء بغداد وأصفهان والعراق وغيرها من البلاد صحيح (1) البخاري وغيره من كتب الحديث على أبي الوقت، وهو رجل صوفي ليس له من العلم إلا قليل، وذلك بدليل هذا الحديث.
قوله: "وربَّ حاملِ فقهٍ إلى مَنْ هو أفقهُ منه"؛ يعني: قد يكون التلميذ أعلم بمعنى الحديث والأحكام من الأستاذ.
يعني: تعلموا العلم ممن دونكم في العلم، ومن ليس له إلا مجرد نقل لفظ الحديث، وكل ذلك تحريضٌ على تعليم الحديث والعلوم وتعلمها ونشرها.
وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءًا" في مُبَلِّغ الحديث؛ لأن تبليغَ الحديث تجديدُ الدين وإظهاره وتزيينه، فدعا رسول الله عليه السلام بأن يعطيه نضرة وسرورًا، وحسن الحال مجازاة له بتجديد الدين.
قوله: "ثلاث لا يَغِلُّ عليهِن قلبُ مسلم"، (ثلاث)؛ أي: ثلاث خصال، (لا يَغِل) - بفتح الياء وكسر الغين -؛ أي: لا يكون ذا حقد على هذه الخصال؛ يعني: لا يدخل في قلب مسلم شيء من الحقد يزيله ويمنعه من هذه الخصال.
ويروى: "لا يُغِل" - بضم الياء وكسر الغين - وهو من الإغلال، وهو الخيانة؛ يعني: لا يخون قلب مسلم في هذه الخصال، والنفي في هذا الحديث بمعنى النهي؛ يعني: لا يتركها، بل يأتي بها.
إحدى الخصال: "إخلاص العمل لله"؛ يعني: ليخلص كل مسلم عمله لله
(1) في "ت" و"ش" و"ق": "الصحيح".
لا للرياء وتحصيل جاه ومال.
والخصلة الثانية: "النصيحة للمسلمين"، ومعنى (النصيحة): إرادة الخير؛ يعني: ليعظ بعض المسلمين بعضًا، وليحب كلُّ واحد من المسلمين للناس ما يحب لنفسه.
والخصلة الثالثة: لزوم جماعتهم؛ أي: جماعة المسلمين؛ يعني: ليكن متفقًا مع المسلمين في الاعتقاد والعمل الصالح وصلاة الجمعة والجماعة والعيد، والكسوف، وغير ذلك مما عليه إجماع المسلمين من الأفعال والأقوال والاعتقاد.
قوله: "فإن دَعوتَهُمْ تحيطُ من ورائِهم"، (أحاط): إذا دار حول شيء؛ يعني: فإن دعوة المسلمين تدور من ورائهم، ويكون اتفاقهم واجتماعهم على الدين حِرزًا وحصنًا لهم يحفظهم عن كيد الشيطان وعن الضلالة، كما قال عليه السلام في حديث آخر:"اتبعوا السَّواد الأعظم"، وقال:"يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار".
قوله: (فإن دعوتهم): لفظة (فإن) للتعليل، مثل لفظة (لأن)، وتقديره: لا يغلنَّ قلب مسلم في لزوم جماعتهم، ولا يقصرن أحد في لزوم جماعتهم؛ لأن دعوتهم تحيط من ورائهم، فلا ينبغي لأحد أن يجعل نفسه محرومة من بركتهم.
وإنما قال رسول الله عليه السلام: "ثلاث لا يغل عليهن" عقيب قوله: "نضر الله امرأ"؛ لأنه أمر الأمة بأداءِ ما سمعوا من الأحاديث، ثم قال: أداء الحديث، وتعليم الناس من إخلاص العمل لله، ومن نصيحة المسلمين، ومن لزوم جماعتهم، وهذه الأشياء مما لا يجوز لأحد أن يترك واحدًا منها.
* * *
176 -
وقال: "اتَّقُوا الحديثَ عنِّي إلَّا ما عَلِمْتُمْ، فَمَنْ كَذبَ عليَّ مُتَعمِّدًا فلْيتبوَّأْ مَقْعدَهُ مِنَ النَّار".
وقال: "مَنْ قالَ في القُرْآنِ برأْيهِ فليتبوَّأْ مَقْعدَهُ مِنَ النَّار"، رواه ابن عباس رضي الله عنهما.
وفي روايةٍ أُخرى: "مَنْ قالَ في القُرآنِ بغيْرِ علْمٍ فليتبوَّأْ مَقْعدَهُ مِنَ النَّارِ".
قوله: "اتقوا الحديث
…
" إلى آخره.
يعني: احذروا وخافوا رواية الحديث عني فيما لا تعلمون أنه حديثي، ولا تحدثوا عني إلا ما علمتم أنه حديثي.
روى هذا الحديث: "ابن عباس".
* * *
177 -
وقال: "مَنْ قالَ في القُرآنِ برأْيِهِ فأَصابَ فقدْ أخطَأَ"، رواه جُندُب رضي الله عنه.
قوله: "من قال في القرآن
…
" إلى آخره.
اختلفوا فيمن فسر القرآن برأيه؛ فقال بعضهم: هو الذي يقرأ القرآن بمراد نفسه، مثل أن يفسر المشبهي:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] استوى: على معنى استقرار الله وثبوته على العرش، ونعوذ بالله من هذا الاعتقاد.
وكما فسر القدري: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] على أن الخير من الله، والشر من الإنسان، وغير ذلك؛ ممن فسر القرآن على حسب اعتقاده الباطل وعمله الفاسد.
وقال بعضهم: هو الذي يفسر القرآن من غير أن يكون له علم التفسير
وشرائطه من معرفة أقوال العلماء واعتقادهم، وموافقًا لأصول الدين [و] ما تقتضيه اللغة العربية، ومن غير أن يعلم سبب نزوله.
قوله: "من قال في القرآن" هذا اللفظ يتناول التكلم في معنى القرآن، وفي سبب نزوله، وفي إعرابه، وفي لفظه بأن يقول: لفظه هكذا، وهذه القراءة جائزة، أو هذه قراءة فلان من القراء، كل ذلك غير جائز إذا لم يعلم؛ يعني: لا يجوز أن يتكلم في القرآن بغير دليل.
قوله: "من قال في القرآن
…
" إلى آخره.
يعني: مَن قال في القرآن من المعاني أو سبب النزول أو غير ذلك من غير علم، فقد أخطأ وأَثِمَ، وإن ظهر أن ما قال كان صوابًا؛ لأنه لا إذن في التكلم في القرآن، بل في جميع أحكام الشريعة من غير علم، فقد تكلم بغير إذن الشارع، ومن تكلم بغير إذن الشارع، فقد أخطأ، وإن كان ما قاله صوابًا.
* * *
178 -
وقال: "المِراءُ في القُرآنِ كُفْرٌ"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
قوله: "المراء في القرآن"، المراء والمماراة: المجادلة.
واختلف في تفسير هذا الحديث؛ فقال بعض أهل العلم: (المراء) ها هنا: الشك؛ يعني: الشكُّ في كون القرآن كلام الله كفر.
وقال بعضهم: معناه: المجادلة في معاني القرآن مما هو من أصول الدين والاعتقاد، كما يستدل واحد على اعتقاده أو قوله بآية، فيقول الآخر: بل القول قولي بدليل هذه الآية، كما يستدل السني على كون الخير والشر من الله بـ:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، ويستدل القدري بـ:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: 79].
ويأتي بحث هذا الحديث في الحديث الذي بعده؛ فهذا الاختلاف مُفْضٍ إلى
الكفر؛ لأنه إذا قال أحد المناظرين معناه هذا، وأنكر الآخر ذلك المعنى، لا بد وأن يكون أحدهما حقًا، والآخر باطلًا، فيكون أحدهما منكرًا للحق، وإنكار الحق كفر، إلا أنه إذا ظن أنه ليس بحق؛ فلم يكن منكرًا للحق عن اليقين؛ فإذا كان كذلك لم يكن كافرًا، ولكن فَتْحَ بابِ الجدال في القرآن مهلك ومُفْضٍ إلى الكفر؛ لأن الرجل لا يأمن أن ينكر قول خصمه، وإن علم كونه حقًا يقينًا عند شدة غضبه، وإظهار فضله، وإذلال خصمه.
وقال بعضهم: معنى (المراء في القرآن): أن ينكر الرجل قراءة من القراءات السبع التي أنزلت على رسول الله عليه السلام بأن يقرأ أحدٌ قراءة، فيقول: هذه القراءة ليست من القرآن، فيكون منكرًا للقرآن، فيصير كافرًا.
وكان أبو العالية الرِّياحي إذا قرأ عنده أحد قراءة لم يسمعها لم يقل: إنها ليست كما تُقرأ، بل يقول: لكن أنا أقرأها هكذا لا كما تقرأ، من خوف أن ينكر القرآن.
وإنما قال رسول الله عليه السلام هذا الحديث؛ لتعظيم القرآن، ولاحتراز الأمة عن الاختلاف في لفظ القرآن ومعناه فيما كان من أصول الدين.
وأما الاختلاف فيما هو من فروع الدين كالمسائل الفقهية لا بأس بهذا الاختلاف؛ لأن هذا الاختلاف قد كان بين الصحابة كاختلافهم في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] أن الوضوء هل يبطل بلمس النساء أم لا؟ وغير ذلك.
* * *
179 -
وقال عَمْرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه: سمعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قومًا يتدَارَؤُنَ في القُرآن، فقال: "إنَّما هلكَ مَنْ كَانَ قبلَكُمْ بهذا، ضَربُوا كتابَ الله بعضَهُ ببعضٍ، وإنَّما نزَلَ كتابُ الله يُصدِّقُ بعضُهُ بعضًا، فلا تُكَذِّبُوا بعضَهُ
ببعضٍ، فما عَلِمْتُمْ منه فقولُوه، وما جهلتُم فكِلُوهُ إلى عالمِهِ".
قوله: "سمع رسول الله عليه السلام قومًا يتدارؤون"، (التدارؤ): الاختلاف والدفع، من دَرَأَ - بفتح العين في الماضي والغابر - دَرْأً: إذا دفع؛ يعني: يختلفون في القرآن، ويدفع بعضهم دليل بعض من القرآن، مثل أن يقول أهل السنة: الخير والشر بتقدير الله بدليل قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، ويقول القدري: ليس كذلك بدليل قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] فقد دفع القدري آية من القرآن وهو قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
وكذلك كل شخصين اختلفا في مسألة، ويأتي كل واحد منهما بآية من القرآن بدليل ما قال، فقد دفع كل واحد منهما الآية التي أتى بها صاحبه، وهذا الاختلاف منهي عنه، بل الطريق في الآيات التي بينهما تخالف وتناقض في الظاهر أن يؤخذ ما عليه إجماع المسلمين منها، وتؤول الآية الأخرى على وجهٍ لا يكون بينه وبين ما عليه الإجماع تخالف، كما تقول: قد انعقد الإجماع على أن الخير والشر بتقدير الله، فإذا كان كذلك فلا تخالف بين الإجماع وبين قوله تعالى:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
وإنما التخالف في الظاهر بين الإجماع وبين قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ، وفي هذه تخالف بينهما وبين الإجماع عند من لا يعلم التفسير، وأما عند من يعلم التفسير، فيعلم أنه لا تخالف بين الإجماع وبين هذه الآية؛ لأن المفسرين قالوا: هذه الآية متصلة بما قبلها، والتقدير: فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا؛ لأنهم يقولون: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ
…
} إلى آخره؛ يعني: المنافقون لا يعلمون ما هو الصواب؛ لأنهم يقولون: {مَا أَصَابَكَ
…
} إلى آخره.
وقال بعض المفسرين: إن هذه الآية مستأنفة، ومعناها: ما أصابك يا محمد أو يا إنسان من حسنة أو من فَتْحٍ وغنيمة وراحة وصحة وكثرة مال وأولاد وعافية؛ فمن فضل الله، وما أصابك من سيئة؛ أي: من هزيمة في الغزو، أو من جوع وتلف مال ومرض فهو جزاء ما عملت من الذنوب.
قوله: "ضربوا كتابَ الله بعضَهُ ببعض"؛ (الضرب) ها هنا: الخلط، والضرب: الصرف أيضًا؛ يعني: خلط اليهودُ التوراة، والنصارى الإنجيلَ، (بعضَهُ ببعضٍ)؛ يعني: لم يميزوا بين المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، بل حكموا في كلها حكمًا واحدًا.
ويحتمل أن يكون معناه: دفع أهل التوراة الإنجيل، وأهل الإنجيل التوراة، وكذلك دفع أهل التوراة ما لا يوافق مرادهم من التوراة، وكذلك أهل الإنجيل؛ يعني: لا تفعلوا يا أهل القرآن بالقرآن ما فعلت اليهود والنصارى بكتابهم.
قوله: "وإنما نزل كتابُ الله يصدِّق بعضه بعضًا"؛ يعني: الإنجيل بيَّن أن التوراة كلام الله وهو حق، والقرآن بيَّن أن جميع الكتب المنزلة من الله كلام الله أنزله بالحق على عباده، فإذا كان كذلك لا تكذبوا شيئًا منها، ولا تقولوا: هذا حق وذلك باطل، بل قولوا: كل ما أنزل الله على رسله حق.
قوله: "فما علمتم منه فقولوا"؛ يعني: ما علمتم معناه فقولوا، وما لم تعلموا معناه كالمتشابهات من القرآن وغيره، فلا تقولوا: إنه ليس بحق، ولا تقولوا فيه معنًى من تِلقاء أنفسكم، بل فاتركوه وفوضوه إلى عالمه، وهو الله تعالى، أو من هو أعلم منكم من العلماء.
واعلم أن كنية "عمرو بن شعيب": أبو إبراهيم، وجده: محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، فالضمير في (عن جده) إن رجع إلى (عمرو) فالحديث مرسل؛ لأنه يكون تقديره: روى عمرو بن شعيب، عن محمد، سمع رسول
الله، ولم يسمع محمد من رسول الله عليه السلام؛ لأن محمدًا تابعي، وإن رجع إلى (شعيب) يكون الحديث متصلًا؛ لأن تقديره: روى عمرو بن شعيب عن محمد عن عبد الله: أنه سمع رسول الله عليه السلام و (عبد الله) صحابي، فالحديث متصل على هذا.
* * *
180 -
وقال: "أَلا سأَلوا إذْ لم يعلَمُوا، فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤال"، رواه جابر.
قوله: "ألا سألوا"، (ألا) بفتح الهمزة وتشديد اللام معناه: هَلَّا بمعنى: لِمَ لا.
"العِيَّ" - بكسر العين وتشديد الياء -: التحيُّر في الكلام، والمراد به ها هنا: الجهل، يعني: لِمَ لَمْ يسألوا إذا لم يعلموا شيئًا، فإن الجهل داء شديد، وشفاؤه السؤال والتعلم من العلماء، وكل جاهل لم يستحِ عن التعلم، وتَعَلَّم يجدُ شفاء دائه، ويصير الجاهل بالتعلم عالمًا، ومن استحى عن التعلم لا يبرأُ أبدًا من دائِهِ.
وسبب صدور هذا الحديث من النبي عليه السلام مذكور في (باب التيمم).
روى هذا الحديث "جابر بن عبد الله" بن جابر وهو الشَّلِيل.
* * *
181 -
وقال: "أُنْزِلَ القُرآنُ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، لكلِّ آيةٍ منها ظَهْرٌ وبَطْنٌ، ولكلِّ حدٍّ مَطْلَعٌ"، رواه ابن مسعود رضي الله عنه.
قوله: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، (الأحرف): جمع حرف، والحرف ها هنا القراءة؛ أي: على سبعة قراءات، والقراءات: لغات العرب.
أمر الله نبيه أن يقرأ بجميع لغاتهم؛ ليتيسر على كل قبيلة القراءة بلغتها، وهذا رحمة من الله على عباده؛ لأنه لو أمر قبيلة أن تقرأ بلغة غيرها يلحقها مشقة بذلك، وربما لا يتيسر لها نحو: الإدغام والإظهار، وهمز المهموز وتليينه، والإمالة والتفخيم، وغير ذلك، وإبدال الحرف وترك إبدالها كقوله تعالى:{وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] بالهمزة، وأصله:(وقتت) بالواو.
والحذفُ والزيادةُ كقوله تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ} [قريش: 1 - 2] بحذف الياء بعد الهمزة في الكلمتين وإثباتهما.
والإسكانُ والتحريكُ كقوله تعالى: {رُسُلُكُمْ} [غافر: 50] بإسكان السين وتحريكها بالضم.
وإفرادُ الكلمةِ وجمعُها نحو: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، ورسالاته
وتحريكُ الحرف بالضم والكسر كقوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا} [يونس: 101] بتحريك اللام إلى الضم، والكسر وتلوين الخطاب كـ (يعلمون) و (تعلمون) بالياء والتاء و (نرتع) و (نلعب) والياء فيهما، وغير ذلك مما ذُكِرَ مفصَّلًا في كتب القراءات وكل واحدةٍ من هذه القراءات لغةُ قومٍ من العرب كقريش وثقيف وطيِّئ وهوازن، وأهل اليمن، والمدينة، وجهينة.
وقولنا: "سبع قراءات": ليس معناه: أنه في كل لفظ سبعُ قراءات، بل أكثر ألفاظ القرآن لا خلافَ فيه، والذي فيه تجوز القراءة قد يكون فيه قراءتان نحو:{يَعلَمُونَ} بالياء والتاء.
وقد تكون ثلاث قراءات نحوَ: {الصِّرَاطَ} بالصاد والسين الخالصتين، وبين الصاد والسين.
وقد تكون أربع قراءات نحو: (نَرتع) بالنون وسكون العين وبالنون وكسر العين من غير ياء بعدها، وبالنون وكسر العين وبعدها ياء ساكنة، وبالياء وسكون العين.
وقد تكون خمس قراءات نحو: (جبريل) بكسر الجيم وسكون الباء، وبالياء بعد الراء، وجِبْرِيل بوزن زِنْبِيل، وجَبْرَئيل بوزن سَلْسَبيل، وجِبْرَئِيل بوزن جِبْرَعِيل، وجِبْرَائِيل بوزن جِبْراعِيل.
وقد تكون ستَّ قراءات نحو: {تَختصِمُونَ} بفتح الخاء وتشديد الصاد، وباختلاس فتحة الخاء وتشديد الصاد، وبسكون الخاء وتخفيف الصاد، وبكسر الخاء وتشديد الصاد، وكلها بفتح الياء وبكسر الخاء والياء وتشديد الصاد.
قوله: "لكل آية منها ظهر وبطن"، فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ظهرها ما ظهرَ منها من معانيها، وبطنها ما خفيَ وأَشْكَلَ، واحتاج إلى فِكْرٍ وفَهْمٍ تامٍّ من استخراج معانيها.
والقول الثاني: أن ظهرها: لفظُها وتلاوتُها، وبطنَها: معانيها.
والقول الثالث: أن ظهرَها: قصَصُها، وبطنَها: الاعتبارُ والاتعاظ بها.
قوله: "ولكل حَدٍّ مُطلَعٌ"، (الحدُّ): المنع، والحَدُّ: الموضع الذي مُنِعَ الرجلُ إذا انتهى إليه عن أن يُجاوِزَه، والمراد ها هنا: ما بُيِّنَ لنا، ومُنِعْنا أن نخالفَه ونجاوِزَه من الحلال والحرام.
وفي بعض الروايات: "لكل حرف حَدٌّ، ولكل حَدٍّ مُطَّلَع" يعني: حدُّ كلَّ حرف معلومٌ في التلاوة، ولا يجوزُ مخالفتُها؛ مثل: عدم جواز إبدال الضاد بحرف آخر، وكذلك الظاء، وغير ذلك من الحروف، ولا يجوز إبدال حرف بحرف إلا ما جاز في القراءة، وكذلك أحكام الشرع معلومة لا يجوز مخالفتُها، وكذلك سبب نزول كل آية وسورة وقصصها، لا يجوز إبدالُ شيء منها بغيرها، وكل ذلك حَدُّ القرآن.
وأما (المطَّلع): بتشديد الطاء فهو موضع الاطَّلاع، وهو رؤية شيءٍ وتفهُّم معنى شيء، يعني: لكل كلمة ولكل آية حكمٌ معلوم، وقصة معلومةٌ، ولها موضِعُ اطَّلاعِ الخواطر، وتَفَهُّم القلوب لمعانيها، وتَفهُّم معاني القرآن توفيقُ الله تعالى يُؤتيه من يشاء من عباده.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لا تَفْقَهُ كلَّ الفِقْهِ حتى ترى للقرآن وجوهاً كثيرة؛ يعني: لا تكون فقيهًا كاملًا حتى تفهمَ مِن كل لفظٍ معانيَ كثيرة.
وقال بعض العلماء: أكثرُ أحاديثِ الرسول مستنبطَةٌ من القرآن، ولكن العلماء لا يعرِفُون مَأْخَذَها من القرآن.
* * *
182 -
وقال: "العِلْمُ ثلاثةٌ: آيةٌ مُحْكَمَةٌ، أو سُنَّةٌ قائمةٌ، أو فريضةٌ عادِلَةٌ، وما كان سِوى ذلكَ فَهُوَ فَضْلٌ"، رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
قوله: "العلم ثلاثة"، يعني: أصلُ علوم الدين ومسائل الشرع ثلاثة:
أحدها: آية مُحكَمة، يعني: كل حكم مذكور في القرآن، وليس بمنسوخ، ومعنى المُحْكَمة ههنا: غير المنسوخة.
الثاني: سُنَّةٌ قائمة؛ أي: حَديثٌ ثابثٌ صحيحٌ عند أصحاب الحديث غيرُ منسوخ.
الثالث: فريضةٌ عادلة، قيل: معنى الفريضة العادلة ما يجب العمل به من أحكام الشرع غير القرآن والحديث، وهو ما عليه إجماعُ المسلمين كالاعتقادات وبعضِ المسائل الفقهية.
سُمِّيَ هذا القسمُ فريضةً؛ لأنه يجبُ العمل به؛ لأنه إجماع، وسُمِّيَ: عادلة؛ لأن معنى العدل: المِثْل، ومعنى عادلة؛ أي: مساوية للقرآن والحديث في وجوبِ العمل بها، وفي كونها صدقًا وصوابًا؛ لأن الإجماع لا يكون خَطَأً.
وقيل: الفريضة العادلة في الأحكام المستنبطة المستخرجة من القرآن والحديث بأن يقيس العلماء بعض الأحكام التي ليس بها نصٌّ على ما يشابهها من القرآن والحديث، مثاله: قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: إذا ماتت امرأة وخَلَّفَتْ زوجًا وأبوين، أو مات رجل وخَلَّفَ زوجةً وأبوين، يُدْفَعُ أولًا فرضُ الزوج أو الزوجة، والباقي بين الأم والأب، للأم ثلثُ الباقي، وللأب ثلثاه.
وليس فيما قال زيد نَصٌّ، ولكن قاس هاتين المسألتين على قوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] جعل المال في الآية بين الأب والأم على ثلاثة أثلاث للأم ثلثه، وللأب ثلثاه عند عدم الولد.
فهاتان المسألتان تُشابهان تلك المسألة المذكورة في الآية؛ لأنه ليس للميت أو الميتة ولدٌ في هاتين المسألتين، فإذا أخذ الزوج أو الزوجة نصيبَه جعلَ الباقيَ بين الأم والأب كما ذكرنا.
فالحاصل: أن أدلَّةَ الشرع أربعةٌ: القرآن، والحديث، والإجماع، والقياس، ويسمَّى الإجماعُ والقياس: فريضةً عادلة.
قوله: "وما كان سوى ذلك فهو فضل"، (الفضل): الزائد، يعني: كلُّ علمٍ سوى هذه الثلاثة فهو نادرٌ زائدٌ لا ضرورة في معرفته، كالنحو والتصريف والعَروض والطب وغير ذلك.
* * *
183 -
وقال: "لَا يَقُصُّ إلَّا أميرٌ، أو مأمورٌ، أو مُختالٌ"، رواه عَوْف بن مالك الأَشجَعي رضي الله عنه.
قوله: "لا يَقُصُّ إلا أمير"، (لا يقص):(لا) نفيٌ، والقَصُّ، التكلُّم بالقصص، ويُستعمل في الوعظ، يعني: الذين يَعِظُون الناس ثلاثة:
أحدها: الأمير، وهو الحاكم.
والثاني: وهو المأمور، وهو الذي يأمرُه الأمير، ويأذَنُ له في ذلك، وهذان يجوز لهما الوَعْظ.
والثالث: المختالُ وهو المتكبِّر، اختال: إذا تكبر، والمراد بالمختال ها هنا: الواعظ الذي ليس بالأمير ولا بالمأذون من جهة الأمير، ومن كان هذه صفتَه فهو متكبِّرٌ فُضُوليٌّ طالبٌ للرئاسة.
وقيل: هذا الحديث في الخطبة خاصَّةً؛ لأن الخُطْبةَ للأمراء ولمن نَصَّبه الأمراء.
وفي هذا الحديث زَجْرٌ عن الخطابة والوَعْظ بغير إذنِ الإمام، وإنما كان كذلك لأن الإمام أعرَفُ بمصالح الرعية، فلينظر الإمامُ في العلماء، فمن رأى فيه علمًا وديانةً، وتَرْكَ الطمعِ وحُسْنَ العقيدةِ وسكونَ النفس عن العداوة مع الناس = يأذنْ له في أن يَعِظَ الناسَ، ومن لم ير فيه هذه الصفات لم يأذنْ له في الوعظ؛ لئلَّا يوقعَ الناسَ في البدعة والجهل.
كُنية "عوف": أبو عبد الرحمن، واسمُ جَدِّه: أبو عوف.
* * *
184 -
وقال: "مَنْ أُفتيَ بغيرِ عِلْمٍ كان إثمُهُ على مَنْ أفتاه، ومَنْ أشارَ على أخيهِ بأمْرٍ يعلَمُ أنَّ الرُّشْدَ في غيره فقدْ خانَهُ"، رواه أبو هريرة.
قوله: "من أفتى بغير علم"(أفتى): فعلٌ ماض مجهول من الإفتاء، وهو أن يأمر أحدًا بحكمٍ من أحكام الشرع، وأجابه بعد سؤاله.
يعني: كل جاهل سأل عالمًا عن مسألة فأجابه العالمُ بجوابٍ باطل، والسائلُ لم يعلمْ كونَ الجوابِ باطلًا، فعمل السائلُ بتلك المسألةِ لا إثمَ على السائل؛ لأنه لم يعلم كونَ الجوابِ باطلًا، وإنما الإثمُ على المجيب.
قوله: "ومن أشار على أخيه"، يعني: من استشار أحدًا في أمر، وسأله: كيف أفعل هذا الأمر؟ وهل فيه مصلحة أم لا؟ فقال له المستشار: المصلحة في أن تفعله، وهو يعلَمُ أن المصلحةَ في عدم فعلِه فقد خانه؛ لأنه دلَّه على ما ليس فيه مصلحتُه، أمَّا لو لم يعلم المستشارُ أن مصلحتَه في غير ما يأمره، بل ظَنَّ أن المصلحةَ فيما يأمره، ثم تبيَّنَ أنه لم تكنْ مصلحتُه فيما يأمرُه لم يكن عليه إثمٌ، بل كان كمَنْ أخطأَ في الاجتهاد، فكما أنه لا إثم على المجتهد إذا أخطأ، فكذلك لا إثم على المستشار إذا أخطأ فيما قال.
* * *
185 -
وقال مُعاوية رضي الله عنه: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الأُغلوطات.
قوله: "أن النبي عليه السلام نهى عن الأغْلُوطات"، جمع أُغْلُوطة، وهي المسألةُ التي يُوقِعُ السائلُ بها المسؤولَ في الغلط، يعني: نهى رسول الله عليه السلام أن يسأل أحدٌ أحدًا مسألةً فيها إشكالٌ وأغلوطة للامتحان؛ ليُظْهِرَ السائلُ فَضْلَ نفسِه، وقِلَّةَ عِلْمِ المسؤول؛ لأن في هذا إيذاء وإذلالًا للمسؤول.
والإيذاء والإذلال منهيٌّ [عنه] في الشرع، مثاله: أن يسأل أحدٌ أحدًا: كيف تقول في رجل مات وخَلَّفَ زوجتَه وأخا زوجته، وأوجب الشرع نصف ميراثه لزوجته ونصفه لأخيها؟ فهذه المسألة وأشباهُها ما يَعْسُر على المسؤول حَلُّها، ويتأذَّى ويُفْضَحُ بين الناس، فلا ينبغي أن يسألَ أحدًا مثلَ هذه.
جواب المسألة أن يقول: كان الميت عبدًا اشترت زوجته ثُلُثَه، وأخوها ثُلُثَيه قبل النكاح، ثم أعتقاه، وتزوجت هذه المرأة به، ثم مات ولم يُخلِّف إلا زوجته وأخاها، فرُبع الميراث للزوجة بالزوجية، والباقي بينها وبين أخيها بالولاء
على قَدْر مُلْكَيهما، ثُلُثه للزوجة وثلثاه لأخيها، فيحصُلُ للزوجة النصف، ولأخيها النصف.
* * *
186 -
عن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تَعَلَّمُوا الفَرائضَ والقُرآنَ؛ فإنِّي مَقْبُوضٌ".
قوله: "تعلموا الفرائض"، قيل: المراد بالفرائض: عِلْمُ قِسْمَةِ الميراث، والصحيح: أنه أراد عليه السلام بالفرائض جميعَ ما يجبُ على الناس معرفتُه، يعني: تعلَّمُوا القرآن والعلومَ الشرعيةَ مني، فإني مقبوضٌ؛ أي: سأموتُ، فإن لم تتعلموا مني لا يُمْكِنْكُم التعليمُ من غيري؛ لأن الفرائض والعلومَ الشرعية أُوحِيَتْ إلي لا إلى غيري.
وهذا تحريضٌ للصحابة على تعلم القرآن والعلوم منه عليه السلام؛ ليعلِّموا بعده عليه السلام الناسَ ما تعلموه من رسول الله عليه السلام.
* * *
187 -
عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه: أنه قال: كُنَّا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فشخَصَ ببصرهِ إلى السَّماءِ، ثمَّ قال:"هذا أَوانٌ يُخْتَلَسُ فيه العِلْمُ مِنَ النَّاسِ حتَّى لا يقدِرُوا منهُ على شيءٍ".
قوله: "فشخص ببصره"؛ أي: نظر بعينه إلى السماء.
(الأوانُ): الحِينُ، (يُخْتَلَس)؛ أي: يُسْلَب، وكأنه عليه السلام لمَّا نظر إلى السماء كوشفَ وأُعلِمَ أن أَجَلَه قد اقترب، فأَعْلَم وأخبر أمته أنه ستُقْبَضُ روحه، وينقطع الوحيُ بانقطاعه بحيث لا يقدر الناس على شيء من العلوم الشرعية، إلا ما تعلَّموه من رسول الله عليه السلام.
واسم أبي الدرداء: عويمر بن عامر بن زيد.
* * *
188 -
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه روايةً: "يُوشِكُ أنْ يضربَ النَّاسُ أكبادَ الإبِلِ يطلُبُونَ العِلْمَ، فلا يَجِدُونَ أحدًا أعلمَ مِنْ عَالِمِ المدينةِ".
قال ابن عُيَينة: هو مالك رضي الله عنه، ومثله عن عبد الرزَّاق، وقيل: هو العُمَرِيُّ الزَّاهِدُ.
قوله: "يوشك"؛ يعني: يقرب.
"أن يضرب الناسُ أكبادَ الإبل"؛ أي: يُجْهِدَ الناسُ الإبلَ ويَرْكُضُونها في طلب العِلْمِ في جوانب الأرض والبلاد البعيدة.
(الأكباد): جمع كبد، وضرب أكباد الإبل: كنايةٌ عن إسراع الإبل والفَرَسِ وإجهادهما في السير والركض، وسَمُّوا شِدَّةَ الركضِ بضرب الأكباد؛ لأن أكبادَ الإبل والفرسِ وغيرهما تتحرَّك عند الركض، ويلحقها ضَرَرٌ وألم.
يعني: قَرُبَ أن يأتيَ زمانٌ يسيرُ الناسُ سيرًا شديدًا في البلاد البعيدة في طلب العلم، ولا يجدُون عالمًا أعلمَ من عالم المدينة.
وهذا في زمانِ الصحابة والتابعين؛ لأنه في هذين العصرين لم تكن كثرةُ العِلْم في بلدٍ مثلَ ما كانت في المدينة، وأما بعد ذلك؛ فقد ظهرت العلماءُ الفحولُ في كل بلدٍ من بلاد الإسلام نحوِ بغدادَ وكوفة وغيرهما من البلاد أكثر مما كانوا في المدينة.
ولعل غرض النبي عليه السلام من هذا الحديث: تعظيمُ المدينة وإظهارُ قَدْرِها وشرفِها عند الناس لكي يقصدَها الناسُ من كل بلد، ويعظِّموا أهلها، ولا يتركوها حتى تَخْرَبَ.
قوله: "قال ابن عُيينة: هو مالك"، يعني: قال سفيان بن عُيَينة: هذا العالمُ الذي أشار إليه رسول الله عليه السلام هو مالكُ بن أنس، وهو أستاذُ الشافعيِّ، وكان صاحبَ الفِرَاسة، وصاحبَ الحديثِ والاجتهاد.
"ومثله عن عبد الرزاق"، يعني: قال عبد الرزاق - وهو من فُضَلَاء أصحاب الحديث - مثلَ ما قال سفيانُ بن عُيَينة في مالك.
قوله: "وقيل: هو العُمَريُّ الزاهد"، أراد بالعُمَريِّ عمرَ بن عبد العزيز، قيل له عُمَري: نسبةً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو ابن بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما قالوه ظنًا منهم، وليس بيقين.
ويحتمل أن يريد النبي عليه السلام مالكًا وعمرَ بن عبد العزيز.
ويحتمل أن يريدَ غيرَهما؛ لأن العلماءَ في المدينة كانوا أكثرَ منهما في عصر الصحابة والتابعين وأتباعِ التابعين.
* * *
189 -
عن أبي هُريرة رضي الله عنه فيما أعلمُ - عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله عز وجل يَبْعَثُ لهذهِ الأُمَّةِ على رأْسِ كلِّ مئةِ سنةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لها دينَهَا".
قوله: "عن أبي هريرة رضي الله عنه"؛ يعني: يقول أبو هريرة هذا الحديثَ روايةً عن النبي عليه السلام، لا يحدِّثُ به من نفسه.
قوله: "فيما أعلم"، هذا لفظُ المصنِّف، يعني: شكَّ بعضُ الناس أن أبا هريرة روى هذا الحديث عن رسول الله عليه السلام أم لا؟.
ويقول المصنف: فيما بلغني، وفيما أعلم أنه يروي هذا الحديث عن رسول الله عليه السلام، لا عن غيره.
قوله: "إن الله عز وجل يبعث
…
" إلى آخره.
ومعنى الحديث: أنه إذا قل العلم، وغلبَ المبتدِعُون، وَفَّقَ الله لعالمٍ رَبَّانيٍّ بأن يعلِّمَ الناسَ علومَ الدين، ويبيِّنَ لهم السنةَ من البدعة، ويكسِرَ أهلَ البدعة ويُذِلَّهم، ويؤيِّدَ الدِّين، ويُعِزَّ أهله، ويُكثرَ العلم بين الناس.
* * *
190 -
وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العُذْري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحملُ هذا العلمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنفُون عنهُ تَحْريفَ الغالِيْن، وانتِحالَ المُبْطِلين، وتأْويلَ الجاهلين". والله أعلم وأحكم.
قوله: "يَحْمِلُ هذا العلمَ"، أي: يحفَظُ عِلْمَ الدين، وهذا إشارةٌ إلى عِلْم الدِّين الذي صَدَر عن رسول الله عليه السلام من الكتاب والسنة؛ أي: يأخذه ويقوم بإحيائه وتعليمه.
قوله: "من كلَّ خَلَفٍ عُدُوله"، الخَلَفُ بفتح اللام: الرجلُ الصالحُ الذي يأتي بعده، ويقوم مَقامه، ويستوي في لفظ الخَلَف الواحدُ والتثنيةُ والجمع.
والسَّلَف بفتح اللام: الجماعةُ الماضية، والخَلَفُ مَنْ يأتي بَعدَهم، يعني: كلُّ قرنٍ يأتي بعد قرن، فمَنْ كان منهم عَدْلًا صاحبَ التقوى والديانةِ يحفظ هذا العلم، ويقوم بإحيائه.
قوله: "ينفون عنه تحريفَ الغَالِين"، نفى ينفي على وزن ضرب يضرب: إذا طردَ وأبعد، وأصل ينفون: ينفيون، فنُقِلَت ضَمَّةُ الياء إلى الفاء، وحذفت عنه؛ أي: عن هذا العلم.
(التحريف): التبديل، (الغالين): أصلُه: غاليين فأُسكنت الياء الأولى؛ لثقل الكسرة عليها، وحذفت لالتقاء الساكنين، وهو اسم فاعلين من غلا يغلو إذا جاوز الحد.
يعني: يُبْعِدُ ويُزيلُ أهلُ السنة ما قال أهلُ البدعةِ في العِلْم مما فيه غُلُوٌّ عن حدِّ الصواب، كأقوال القدرية والجبرية والمشبهةِ، وغيرهم من أهل البدع.
قوله: "وانتحال المبطلين"، (الانتحال): أن يقولَ الرجلُ: هذا الشعرُ من إنشائي، وليس من إنشائه، ونَحَلَ: بفتح العين في الماضي والغابرِ نحلًا: إذا نسبَ زيدٌ مثلًا كلامَ عمرٍو أو شعرَه إلى بَكْرٍ، والانتحالُ ها هنا: يعني: النَّحْلَ.
و (المبطل): اسم فاعل من أبطل إذا قال باطلًا، أو جعل شيئًا باطلًا، وأراد بالمبطلين ها هنا: الواضعين أحاديثَ وأفعالًا وأقوالًا من تِلقاءِ أنفسهِم، ويقولون: هذا حديث رسول الله عليه السلام أو فعلُه أو سنتُه، يعني: علماءُ أهلِ السُّنَةِ يبيِّنون للناس الحقَّ، ويميِّزون أحاديث رسول الله عليه السلام وأفعاله وسنته من غيرها.
قوله: "وتأويل الجاهلين"، يعني: ما قاله الجاهلون من تأويل القرآن والأحاديث ما ليس بصواب يبيِّنُ العلماءُ للناس بطلانَ تلك التأويلات، ويمنعونهم عن قَبُولها.
جد "إبراهيم": عوف، والله أعلم.
° ° °