المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - كتاب الإيمان - المفاتيح في شرح المصابيح - جـ ١

[مظهر الدين الزيداني]

الفصل: ‌1 - كتاب الإيمان

‌1 - كِتابُ الإيمَانِ

ص: 35

[1]

(كِتابُ الإيمَانِ)

(كتاب الإيمان)

مِنَ الصِّحَاحِ:

1 -

قال عمرُ بن الخَطَّاب رضي الله عنه: بينما نحنُ عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذْ طلعَ علينا رجلٌ شديدُ بياضِ الثيابِ، شديدُ سوادِ الشَّعرِ، لا يُرى عليهِ أثَرُ السَّفَرِ، ولا يعرفُهُ منا أحدٌ، حتَّى جلسَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأسندَ رُكبتَيْه إلى رُكبتَيْهِ ووضَعَ يدَيْهِ على فَخِذَيْهِ، فقال: يا محمَّدُ! أخبرني عن الإِيمان، فقال:"الإيمانُ أنْ تُؤمنَ بالله وملائكتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليومِ الآخرِ، وتؤمِنَ بالقَدَرِ خيرهِ وشرِّه"، فقال: صدقتَ، قال: فأخبِرْني عن الإِسلام، قال:"الإسلامُ أنْ تشهدَ أن لا إلهَ إلاّ الله وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله، وتُقيمَ الصَّلاةَ، وتُؤتي الزَّكاةَ، وتصومَ رمضانَ، وتحُجَّ البيتَ إن استطعتَ إليه سبيلاً"، قال: صدقتَ، قال: فأخبِرْني عن الإِحسان، قال:"الإحسانُ أنْ تعبدَ الله كأنَّكَ تراهُ، فإنَّ لمْ تكُنْ تراهُ فإنَّهُ يراكَ"، قال: فأخبرني عنِ السَّاعة، قال:"ما المسؤولُ عنها بأعلمَ مِنَ السَّائلِ"، قال: فأخبِرْني عن أَمَاراتِها، قال:"أنْ تلدَ الأَمَةُ ربَّتَها، وأنْ ترى الحُفاةَ العُراةَ العالةَ رِعاءَ الشَّاءِ يتطاولونَ في البنيانِ" ثمَّ انطلقَ، فلبِثْتُ مليًّا، ثمَّ قال لي:"يا عمرُ! أتدري مَنِ السَّائلُ؟ "، قلتُ: الله ورسولُهُ أعلمُ، قال:

ص: 37

"فإنَّهُ جبريلُ أتاكُمْ يُعلِّمُكُم أَمْرَ دينِكُم".

ورواه أبو هريرة رضي الله عنه، وفي روايته:"وأنْ ترَى الحُفاةَ العُراةَ الصُّمَّ البُكمَ مُلوكَ الأرض في خمسٍ لا يَعلمُهُنَّ إلَّا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الآية".

قوله: "بينما

" إلى آخره، (بين): كلمة معناه: الوسط، يقال: جلس بين القوم؛ أي: في وسطهم، وتُشبَع فتحة النون حتى يتولَّدَ منها ألفٌ، فيقال: (بينا)، ويزاد عليه (ما)، فيقال: (بينما)، ومعنى ثلاثتها واحد، وثلاثتُها ظرفٌ، فقد يكون ظرفَ مكان كقولك: جلس بين القوم وبين الدار، وقد يكون ظرفَ زمان كما ها هنا، وحقيقته: بين الزمان الذي "نحن" كنا "جالسين عند رسول الله عليه السلام، طلع"؛ أي: ظهر ودخل "علينا رجلٌ" ثيابُهُ بيضٌ على غاية البياض، وشعرُهُ أسودُ على غاية السواد، وظهور جبريل عليه السلام على هذه الهيئة يدل على أشياء:

أحدها: أن الملك ممكنٌ خروجُهُ بصورة البشر بأمر الله تعالى، وليس ذلك باختياره وقوله، بل بتصييره الله إياه على أيِّ شكل شاء الله.

فإن قيل: هل يمكن لجميع الملائكة الخروجُ بصورة البشر أم لا؟

قلنا: هذا من علم الغيب، لا يعلمه أحدٌ إلَّا بطريق الوحي، وصاحبُ الوحي نبينا عليه السلام أخبر عن نزول الملائكة على صورة البشر راكبين على الأفراس يوم البدر، ويوم حُنين، وفي غزوة الخندق، وغزوة بني قريظة، فما وجدنا فيه نصًا نعتقده ونتحدث به، وما لم نجدْ فيه نصًا نَكِلُ علمه إلى الله تعالى وإلى الرسول، ولا نتكلم به، ولا عبرة بأقوال الحكماء وأصحاب المعقول، فإن الدينَ سمعيٌّ عن صاحب الشريعة، وليس فيها للعقل استقلالٌ واهتداءٌ بنفسه دون إخبار صاحب الشريعة.

والثاني: أن النظافةَ وبياضَ الثوب سنةٌ مرضية لله تعالى؛ لأنه لو لم يكن

ص: 38

مرضيًا لم يصيِّر الله تعالى جبريل على تلك الهيئة.

والثالث: زمان طلب العلم هو زمان الشباب؛ لأن سواد الشعر يكون في زمان الشباب؛ فإن الشابَّ إذا صرف مدة من عمره في طلب العلم، تبقى مدة أخرى من عمره إلى زمان الشيخوخة يعمل بذلك العلم ويعلمه الناس.

وفي الجملة: طلبُ العلم قدرَ ما يعرف به الرجل صحةَ ما يجب عليه وفسادَه فريضةٌ على كل بالغ عاقل من الرجال والنساء والشبان والشيوخ، وأما قدرُ ما زاد على ما يجبُ عليه فمستحبٌّ أيضًا للشبان والشيوخ، إلا أنه في حق الشبان أكثر استحبابًا.

وفي الجملة: طلبُ العلم بقدرِ ما يصير الرجل صاحبَ الإفتاء والاجتهاد والقضاء فرضٌ على الكفاية، ينبغي أن يكون بكلِّ ناحية رجلٌ واحد بهذه الصفة حتَّى يفتيَ ويقضيَ ويقومَ ويحفظَ أمورَ الشرع، وإن لم يكن في ناحية واحدٌ بهذه الصفة، عصى جميعُ أهل تلك الناحية حتى يبلغَ واحدٌ منهم إلى هذه الصفة في العلم.

قوله: "لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد"؛ يعني: تعجَّبنا من كيفية إتيانه، ووقع في خاطرنا: أنه ملك، أم من الجنِّ؛ لأنَّه لو كان بشرًا؛ إما إن كان من المدينة أو غريبًا، ولم يكن من المدينة؛ لأنا لا نعرفه، ولم يكن آتيًا من بُعدٍ؛ لأنه لم يكن عليه أثرُ السفر من الغبار وغيره.

قوله: "حتى جلس"، لفظُهُ:(حتَّى) متعلقٌ بمحذوف، وتقديره: أستأذنَ وأتى حتى جلس عند النبي عليه السلام.

و (جلس إليه)؛ أي: وجلس بقربه.

"أسند": إذا اتكأ أحدٌ على شيء، أو وصل والتصق شيءٌ إلى شيء.

و (أسند ركبتيه)؛ أي: وضع جبريلُ ركبتيه متصلتين بركبتي رسول الله عليه

ص: 39

السلام، وإنَّما جلس جبريل عند النبي عليه السلام هكذا؛ ليتعلم الحاضرون كيفيةَ جلوس السائل عند المسؤول؛ لأن الجلوس على الركبة أقربُ إلى التواضع والأدب، واتصال ركبة السائل بركبة المسؤول يكون أبلغَ في استماع كلَّ واحدٍ من السائل والمسؤول كلامَ صاحبه، وأبلغَ في حضور القلب، وألزمَ في الجواب؛ لأن الجلوس على هذه الهيئة دليلٌ على شدة حاجة السائل إلى المسؤول، وتعلق قلبه واهتمامه إلى استماع الجواب، فإذا عرف المسؤولُ هذا الحرصَ والاحتياجَ من السائل يُلزِم على نفسِهِ جوابَهُ، وبالغ في الجواب أكثر وأتم مما سأل السائل.

قوله: "ووضع يديه على فخذيه"، الضمير راجعٌ إلى النبي؛ أي: وضع جبريل يديه على فخذي رسول الله عليه السلام، هكذا فَسَّر هذين الضميرين مصنفُ الكتاب في كتابه المسمَّى بـ "الكفاية"، وأورد إسماعيل بن أبي الفضل التيمي هذا الحديث في كتابه المسمى بـ "الترغيب والترهيب"، ولفظه: وضعَ يديه على فخذي رسول الله عليه السلام؛ طلبَ إحضار رسول الله عليه السلام؛ يعني: ليكون أبلغَ في استماع رسول الله إلى كلام جبريل عليه السلام.

وقيل: كلا الضميرين راجع إلى جبريل؛ يعني: وضع جبريل يديه على فخذي نفسه، وهذا أقرب إلى التواضع والأدب، وكلُّ ذلك لتعليم الناس هيئة الجلوس والسؤال والجواب عند السادات والعلماء.

قوله: "أخبرني"، (الإخبار): الإعلام.

"فقال: يا محمد! أخبرني عن الإيمان"؛ يعني: قال جبريل: يا محمد! أخبرني عن الإيمان ما هو؟ فأجابه رسول الله عليه السلام بأن الإيمان صفةٌ للقلب، وجعل القلب ساكنًا مطمئنًا بحقيقتِهِ وصدقِ هذه الأشياء الستة - أي: يؤمن بالله، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره - بحيث لا يخطرُ بقلبه شكُّ وترددٌّ في شيء منها، فمن شكَّ في شيء منها فهو كافر.

ص: 40

و (الإيمان): من الأمن وسكون النفس وزوال الخوف عن القلب، (أَمِنَ زيد): إذا زال عنه الخوف، وزال عن قلبه التحرك والقلق الذي كاد عليه من الخوف، و (آمَنَ زيدٌ عمرًا) على وزن أَفْعل: إذا أزال عنه الخوفَ، وأَسكنَ قلبه عن التحرك من الخوف، و (المؤمن): اسم فاعل منه، وهو: الذي أمِن قلبه؛ أي: جعل قلبه ساكنًا مطمئنًا بما أخبره المخبر من غير أن يجعل للشك أو التردد في قلبه سبيلًا.

وإنما يكون الإيمانُ ثابتًا في قلب المؤمن إذا حصل له يقينٌ بما أخبره المُخبِر، واليقينُ ضدُّ الشَّك والظن، فمن كان في قلبه مثقال ذرة من ظنٍّ أو شكٍّ فيما أخبر به المخبر، فليس بمؤمن البتة، ومن ضرورة تصديق المخبر قَبولُهُ جميعَ أوامر الشارع ونواهيه عن الطوع والرغبة، ومن ترك مأمورًا أو فعل منهيًا فانظر، فإن كان تركَهُ المأمورَ وفعلَهُ المنهيَّ عن تكذيبه المُخبِر في ذلك فهو كافر، وإن تركَ المأمورَ تكاسلًا، وهو يعلم أنه حق، فليس بكافر، ولكنه عاصٍ مستحقٌ للعقوبة؛ إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عاقبه، وكذا فعل المنهي.

وأما الأشياءُ الستة التي أخبر رسول الله عليه السلام جبريل:

فأحدها: الإيمانُ بالله، ومعنى الإيمان بالله: أنك تعتقد أن الله تعالى قديمٌ أزليٌّ أبديٌّ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3 - 4]، وليس القديم إلَّا ذاته وأسماؤه وصفاته، وما سوى الله وأسمائه وصفاته فهو مخلوقٌ خلقَهُ الله.

والثاني: الإيمان بملائكته، وهو: أن يعتقد أن الملائكةَ عبادُ الله، يعبدونه ولا يشركون به شيئًا، ولا يعصونه لحظة، ولا يَفترون عن عبادته لمحة، ومن قال: ليس لله ملائكة، فهو كافر، ومن قال: الملائكة موجودون، ولكنهم بنات الله، فهو كافرٌ أيضًا، بل هم روحانيون مخلوقون، ولا يأكلون ولا يشربون، وهم داخلودن تحت قوله تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، فهم يَهلِكون

ص: 41

بأمر الله تعالى، ويعودون إلى ما كانوا قبل الهلاك من الحال، كما أن الإنس والجن وغيرهم يُحشَرون.

والثالث: الإيمان بكتبه، وهو: أن يعتقد أن جميعَ ما أنزل على رسله من الكتب كلامُ الله القديم غيرُ مخلوق، وصار جميعُها منسوخًا بحكم الله تعالى إلَّا القرآن، فإنَّه مُحكَمٌ لا يُنسَخ إلى يوم القيامة؛ لأنَّه لا نبيَ بعد محمد عليه السلام.

ومن رأى كتابًا من كتب الله غير القرآن فلا يجوز أن ينظر إليه بالحقارة، فإن حقر منها شيئًا صار كافرًا، بل يجب إعزازها وإكرامها؛ لأنها كتب الله، ولكن لا يجوز العمل بها، فهل يجوز إتلافها أم لا؟ فانظر؛ إن كان لحربي، يجوز إتلافها عليه، كما يجوز إتلافُ سائر أمواله وقتلُ نفسه، وإن كان لذمي، لا يجوز إتلافه عليه، كما لا يجوز قتلُ الذمي ولا إتلافُ ماله؛ لأنَّ كتبهم مالٌ كما أن مصحف القرآن عندنا مالٌ؛ يباع ويشترى، وطريقُ إتلاف كتب الحربي بغسلها؛ لأنه ليس فيه تحقير، وأما التحريق بالنار فالأدبُ أن لا يُحرَّق، فإن حَرَّق لم يأثم في أصح القولين.

والرابع: الإيمان برسله، وهو: أن يعتقد أن جميع رسل الله مبعوثون إلى الخلق بالحق، والإيمانُ بهم واجب، وهم خير البشر، وأدنى الأنبياء خيرٌ من أكمل الأولياء.

وقولنا: (أدنى الأنبياء) أردنا به: أنَّ الأنبياء بينهم تفاوتٌ، فبعضُهُم أفضل من بعض، كما قال الله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، ولا يجوز لأحد أن يفضِّلَ نبيًا على نبي من تلقاء نفسه؛ لأن فضل أحد على أحد شيء لا يعلمه أحد إلا أن يُنبئَهُ الله تعالى في كلامه أو يبيَّنَهُ الرسول عليه السلام، فما وجدنا في القرآن والحديث من فضل نبي على نبي نقول به، وما لم نجده

ص: 42

لا نقول به، بل نقول: لا نفرِّق بين أحد من رسله، ولكن يجوز أن نقول: الرسول خير من النبي، ونبينا محمد خير من جميع الرسل والنبيين.

والخامس: الإيمان باليوم الآخر، والإيمان به: أن يعتقد أن الله يبعث الخلق بعد الموت، ويقفهم في عرصات يوم القيامة، ويضع الميزان، ويحاسب الخلق بالحق، ولا يظلم أحدًا؛ فبعضهم يدخلهم الجنةَ بفضله، وبعضهم يدخلهم النارَ بعدله.

والسادس: الإيمان بالقدر خيره وشره، ومعنى القدر: ما قدَّر الله تعالى وقضى به، فالمسلِّمون به على طوائف في القدر؛ فطائفة تقول: كلُّ ما يجري في العالم من الأقوال والأفعال والحركات والسكنات كلها بقضاء الله تعالى وقدره، لا اختيارَ للعباد فيه، وسُمِّي هذه الطائفة: جبرية، ومعنى الجبر: القهر والإكراه على الفعل، يقولون: أجرى الله تعالى على عباده أفعالهم وأقوالهم بغير اختيارٍ منهم فيها وهذا المذهب باطل، فإن قالوا هذا القولَ؛ ليسقطوا عن أنفسهم التكليفَ، ويُشبِّهوا أنفسهم بالصبيان والمجانين في عدم جريان الخطاب بهم = فقد كفروا بهذا القول، وهذا القولُ مُفضٍ إلى إبطال الكتب والرسل؛ لأنه إذا لم يكن للعباد اختيارٌ فلا يكونون مكلفين، ومجيءُ الكتب والرسل إلى غير المكلف غيرُ صواب، وإن قالوا هذا القولَ لا عن اعتقاد إبطال الكتب والرسل، بل لتعظيم الله وتحقير أنفسهم وعجزهم عن دفع قضاء الله = فليسوا بكافرين بهذا القول، ولكن صاروا مبتدعين فاسقين؛ لأنهم خالفوا الإجماعَ في الاعتقاد.

والطائفة الثانية: القدرية، وهم يقولون: إن ما يجري في العالم من الأفعال والأقوال، من الخير والشر، والكفر والإيمان، والطاعة والعصيان = الاختيارية، كلها بأفعال العباد واختيارهم، لا تقديرَ لله تعالى فيها.

وهذا المذهب أيضًا باطل؛ فإن قالوا هذا القول عن اعتقادِ جريانِ العجز

ص: 43

وجوازه على الله تعالى، صاروا بهذا القول كافرين؛ لأن العجز على الله تعالى غيرُ جائز البتة، وإن قالوا هذا القول لا عن اعتقاد تجويز عجزٍ على الله تعالى بل، عن خطِأ ظنونهم واجتهاداتهم في هذا القول، ولتنزيهِ الله تعالى عن تقديرِ أفعالهم القبيحة، ولأنهم لا يُجوِّزون أن يخلق الله تعالى فعلًا قبيحًا، فليسوا بكافرين بهذا القول، ولكن صاروا مبتدعين فاسقين؛ لأنهم خالفوا الإجماعَ، ومن هذه الطائفة قوم يقولون: الخير بتقدير الله تعالى، والشر ليس بتقديره، وهذا أيضًا خطأ.

والطائفة الثالثة: هم أهل السنة والجماعة، وهم يقولون: جميعُ ما يجري في العالم من الخير والشر، والكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، وغير ذلك، كلها بتقدير الله تعالى وقضائه، ولكن للعباد اختيارها، فالتقدير من الله، والكسب من العباد، ويخلق الله تعالى الأفعالَ في العباد كلَّ فعل في الوقت الذي قدَّره في الأزل، والتقدير والفعل يجريان معًا، لا يجري الفعل بدون تقدير الله، ولا التقدير بحصول الأفعال في العباد بدون اختيارهم واكتسابهم، فهم مثابون بالخير ومعاقبون بالشر بسبب أن لهم اختيارًا في الفعل.

ومن لم يكن له اختيارٌ كالمجنون والصبي والنائم والمغمى عليه والمكره، فهم كالمُرتَعِشِ في أنه لا مؤاخذة عليهم بأفعالهم فيما هو حقُّ الله تعالى، وأما ما هو حقُّ العباد، كإتلاف المال وقتل النفس، فهم يؤاخذون بالغُرْم.

والمُرتَعِشُ: هو الذي تتحرَّك أعضاؤه بغير اختياره من علَّةٍ، والثوابُ والعقابُ يتعلقان بما في العبد من الاختيار.

وعلةُ تكريره عليه الصلاة والسلام لفظة (تؤمن)، فقال:"وتؤمن بالقدر خيره وشره" للتأكيد؛ لأن الإيمانَ بالقدر أحوجُ إلى المبالغة فيه؛ لأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ظاهرٌ مشهور عند المسلمين، وأمَّا الإيمانُ بالقدر لا يعلمه كلُّ أحد إلَّا حاذقٌ في علوم الدين، فلأجلِ هذا أكَّد وكرَّر لفظة:(تؤمن) عند لفظ (القدر).

ص: 44

وعلة قول جبريل عليه السلام للنبي عليه السلام: "صدقت": أنه إذا قال: (صدقت) صار هذا الجوابُ آكدَ وأحكمَ في قلوب السامعين؛ لأنَّه لو لم يقل جبريل عليه السلام: (صدقت) ربمَّا توهَّم واحد أن السائلَ لم يوافقه الجوابُ، ولم يكن عنده صحيحًا حتى لا يصدق المسؤول، فإذا صدَّق المسؤولَ، زال هذا التوهم عن قلوب الحاضرين.

ولأنه إذا سمع القوم هذه الأشياء من رسول الله، وسمعوا التصديق من جبريل، فكأنهم سمعوا هذا الحديث من اثنين، ولا شكَّ أن الشاهدين آكد من شاهد واحد.

ويحتمل أنه قال جبريل: (صدقت) ليعلم القومُ أن السائل لم يسأل هذه المسألة لأجل نفسه، بل لأجل أن يحفظها الحاضرون؛ لأنه إذا صدَّق السائلُ المسؤولَ عُلِمَ أن السائل يعلم المسألة؛ لأن من لا يعلم المسألة لا يصدِّقُ مُخبِرَه فيه، بل يقبل الجواب، ويسكت.

قوله: "فأخبرني عن الإسلام"، (الإسلام): الانقياد والطاعة عن الطوع والرغبة من غير اعتراضٍ، والإسلامُ في الشرع: اسمٌ لفعلِ هذه الأشياء الخمسة، كما أن الإيمان اسمٌ لتصديق القلب الستة المذكورة، و (المسلم): اسم فاعل من (أسلم).

ومن صدَّق بقلبه تلك الستةَ المتقدمة، وقَبِلَ هذه الخمسة، وعمل بها، فهو مؤمن مسلم، ولكن بشرط أن لا ينكر فرضًا، ولا يعتقد ما هو حرامٌ حلالًا، ولا ما هو حلالٌ حرامًا.

(الشهادة): الخبر القاطع، شهد بكذا؛ أي: أدَّى ما عنده من الشهادة، وشاهد: إذا رأى معاينة، وشرطُ الشهادةِ: أن يشهد بشيء وقعَ عليه علمه، فقال رسول الله عليه السلام:"إذا علمتَ مثلَ الشمسِ فاشهدْ" وقولُ المسلم: أشهد

ص: 45

أن لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا رسول الله = إشارةٌ إلى أني رأيتُ بقلبي وحصلَ لي اليقينُ وعلمٌ قاطعٌ بأن لا إله إلَّا الله، وبأن محمدًا رسول الله.

والفاء في قوله: (فأخبرني) للتعقيب، وهو إشارةٌ إلى أن الإيمانَ متقدمٌ على الإسلام؛ لأن من قال بلسانه كلمتي الشهادة، وعمل الصلاة وغيرها من الطاعات، ولم يكن في قلبه الستة المتقدمة، فهو منافق، والمنافقُ أشدُّ عذابًا من الكافر الذي يظهر كفره.

"وتقيم" مضارع من (أقام إقامة)، وإقامة الصلاة: عبارةٌ عن أدائها في أوقاتها، والمداومة بها.

"وتُؤتي" مضارع من (أتى)، وأصله من (أءتى) بوزن أفعل، فقُلبت الهمزة الثانية ألفًا، ومعناه: أعطى.

صام الفرس يصوم صومًا: إذا وقفَ وتركَ السير، وصام النهار: إذا انتصف؛ يعني: وقفت الشمس لحظة عن السير، والمراد من الصوم في الشرع: ترك الأكل والشرب وغير ذلك مما يبطل الصومَ، ولكن بشرط نيةِ الصوم.

حج يحج حجًا: إذا قصد، والحجُّ في الشرع: زيارة الكعبة مع وقوف عرفة ومراعاة غيره من أركان الحج.

والمراد بالبيت هنا: الكعبة.

قوله: "سبيلاً" منصوبٌ على التمييز، وكان في الأصل: إن استطعت إلى سبيله، والضمير عائد إلى البيت، ثم أخَّر السبيل ونكَّر ونصب، فصار:"إن استطعت إليه سبيلاً"؛ يعني: إن استطعت وقدرت على الذهاب إلى الكعبة.

واختلفوا في الاستطاعة؛ فمذهب الشافعي: الاستطاعةُ وجدانُ الزاد والراحلة، فإن كان له قوة يحج بنفسه، وإن لم تكن له قوة يعطي المال إلى من يحجُّ عنه.

ص: 46

ومذهب أبي حنيفة رحمه الله: الاستطاعة هي الزاد والراحلة والقوة، فلا يجوزُ عنده أن يحجَّ أحدٌ من أحدٍ ما دام حيًا، وإن كان ضعيفًا.

ومذهب مالك: الاستطاعة القوة فقط.

(الاستطاعة): استفعالٌ من (طاع يطوع): إذا سهل الأمر.

ولكل واحد من هذه الأركان شروط وفروض وسنن، وليس هذا موضع بيان استيفائها؛ لأنه يأتي كل واحد في بابه في هذا الكتاب، ولأنها مذكورة في كتب الفقه.

قوله: "فأخبرني عن الإحسان": حَسُنَ الشيء بنفسه: إذا جَمُل، وأحسنه غيره: إذا أجمله وزينه، ومصدره: الإحسان.

يعني: قال جبريل للنبي عليهما السلام: أخبرني عن الشيء الذي هو تزيينُ أركانِ الإسلام وإحسانُها وإكمالُها.

فقال النبي عليه السلام: "أن تعبد الله كأنك تراه"؛ يعني: الشيء الذي يُكمِل أركانَ الإسلام ويحسنها هو الإخلاص، والإخلاص: أن تقف في عبادة الله تعالى كأنك تراه؛ يعني: تحضر قلبك، ولا تلتفت بقلبك إلى وسوسةٍ مشاغلةٍ لك، ولا يجري بخاطرك: أنك تصلي أو تصوم ليراك أحد، وليقول الناس: إنك رجل صالح متعبد، ولا تنظرْ بعينك إلى يمينك وشمالك، ولا تعبثْ بيدك، ولا تخطو برجليك؛ لأن من يرى مولاه حاضرًا يغلب عليه خوفٌ بحيث لا يقدر على شيء من هذه الأشياء، ومن وقفَ بين يدي سلطان، والسلطانُ ينظر إليه، يتغيَّر وجهه من الخوف، وتقلُّ قوى يديه ورجليه من الخوف، ولا يقدر أن يدفع الذباب من وجهه من الخوف، فإذا كان هذه حال واقفٍ بين يدي مخلوقٍ، فكيف كان حال واقفٍ بين يدي خالق المخلوقات؟

قوله: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك"؛ يعني: لا تقصِّرْ في العبودية،

ص: 47

ولا تعملْ بالرياء من أجل أنك لا تراه بعينك، فإنه إن لم تكن تراه، فإنه يراك، ويرى ما في قلبك من الإخلاص والرياء، فإنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم خائنةَ الأعين وما تخفي الصدور.

أعلم أنه لا يرى أحدٌ الله تعالى في الدنيا، ومن قال: إن أحدًا يرى الله تعالى، فقد أخطأ، فإن النبي عليه السلام قال:"فإنَّه لن يَرَى أحدُكم ربَّه حتَّى يموتَ"، وقال عليه السلام أيضًا:"الموتُ قبلَ لقاءِ الله تعالى"، وهذا إجماعُ أهل العلم، ومن قال بخلاف هذا، فهو جاهل، وتجوز رؤية الله تعالى في النوم.

والأصحُّ أن رسول الله عليه السلام رأى ليلة المعراج، وهو مخصوصٌ به عليه السلام، لم تكن لأحد قبله، ولا تكون لأحد بعده في الدنيا.

فإن قيل: لمَ لمْ يقل جبريل عليه السلام: صدقت؟

قلنا: قد جاء في كثير من الروايات أيضًا ها هنا قول جبريل عليه السلام للنبي: صدقت، ولعل الراوي لم يذكر ها هنا اختصارًا أو نسيانًا.

قوله: "فأخبرني عن الساعة"، (الساعة): القيامة.

الضمير في "عنها" راجع إلى الساعة، وأراد النبي عليه السلام بالمسؤول: نفسه، وأراد بالسائل: جبريل عليه السلام، و (ما) في "ما المسؤول" للنفي؛ يعني: لست أنا أعلم منك يا جبريل بعلم القيامة، بل العلم بوقت مجيء القيامة مختصٌّ بالله تعالى.

قوله: "فأخبرني عن أماراتها"، الأمارات: جمع أمارة، بفتح الهمزة في الواحد والجمع، وهي العلامة.

"تلد" مضارع من ولد يلِد ولادةً.

"الرب": السيد، والرب هو الله تعالى، وحيث يكون الرب بغير إضافة لا يطلق إلَّا على الله تعالى، وإطلاقُ الرب على غير الله تعالى لا يجوز إلَّا بالإضافة، يقال: رب البيت، ورب المال؛ أي: مالكه وسيده.

ص: 48

يعني: إذا لم تعلم علمَ القيامة، فأخبرني عن علاماتها، فقال رسول الله عليه السلام:"أن تلد الأمة سيدها"؛ يعني: يطأ الرجل أمته، وتلد تلك الأمة من سيدها ولدًا، فيكون الولد سيدًا لأمه؛ لأن ملكَ الوالد يعود إلى الولد بعد موته، فيكون الولد سيد أمته ومولاها، لا بمعنى: أنَّ أمَّه تكون ملكًا له؛ لأن الأمَّ صارت أمَّ ولد للسيد، وتعتقُ بعد موت السيد، ولكن بمعنى: أنه مولى أمه، وله ولاؤها، فإذا أرادت الأمُّ أن تتزوج وليس لها وليٌّ من النسب، فوليها ولدها بحكم الولاء، فقد ثبت أنها ولدت سيدها.

فإن قيل: هذا الشيء قد كان قبل النبي عليه السلام، فإن إبراهيم عليه السلام خليلَ الله وَطِئَ أمته هاجر، وولدت إسماعيل صلوات الله عليهم، فكيف يكون هذا من علامات القيامة؟

قلنا: صيرورةُ الجارية التي هذه صفتها أمَّ الولد وعتقَها بعد موت السيد من علامات القيامة، لا مجرد ولادة الأمة من سيدها ولدًا؛ لأنه لم يكن قبل نبينا عليه السلام وإلى مدة من أول الإسلام عتقُ أم الولد، بل جاز في أول الإسلام بيعُ أمهات الأولاد، ثم حكم النبي صلى الله عليه وسلم بعتق أمهاتِ الأولاد بعد موت سادتهن، ونهى عن بيعهن.

وأما التاء في "ربَّتها" فيها ثلاث احتمالات:

أحدها: أن التاء لتأنيثِ لفظٍ، وهو مؤنَّثٌ مقدَّر، تكون (ربتها) صفةً لها، فعلى هذا تقديره: وأن تلد الأمة نفسًا هي ربتها، فتكون (ربتها) صفة للنفس، والنفس مؤنث، أو يكون تقديره: وأن تلد الأمة نسمة هي ربتها، وما أشبه ذلك ممَّا يكون تقديره من الألفاظ المؤنثة، والنسمة: الإنسان، فعلى هذا الاحتمال يتناول لفظُ (ربتها) الابن والبنتَ.

والاحتمال الثاني: أن المراد بـ (ربتها): البنت، فيكون الابن داخلًا

ص: 49

بالطريق الأولى؛ لأن البنت أخسُّ وأنقص رتبة من الابن، فإذا كانت الأمة بولادة البنت تصيرُ أمَّ ولد، وتصير بنتها سيدةَ الأم، فالابن أولى بهذا الشيء، وكان ذكرُ البنت مغنيًا عن ذكر الابن.

والاحتمال الثالث: أن التاء في (ربتها) إنما كان لتمييز ما يطلق على المخلوقات مما يطلق على الله؛ فإن (الرب) يطلق على الله تعالى، وقد جاء في الحديث: أن العبد لا يقول لسيده: ربي، ولكن ليقل: سيدي، فهذا نَهْي أن يقول أحدٌ لأحد: ربي، ولكن قد جاء: رب المال، ورب الدار، وغير ذلك في الحديث، والأولى أن لا يقال لمخلوق: رب فلان، أو رب ذلك الشيء، بل يقال: صاحب مال، أو مالك ذلك الشيء، فالتاء في (ربتها)؛ لأجل أن لا يقال:(الرب) لمخلوق.

فإن قيل: قد جاء في الحديث الصحيح برواية أبي هريرة: "وأن تلد الأمة ربَّها"، فإذا كان كذلك، فلا يصحُّ على ما قلتَ من الاحتمال الثالث.

قلنا: إن (ربتها) أصح من (ربها)؛ لأن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه أولى بالقبول؛ لأنه كان قد حضر عند سؤال جبريل النبي عليهما السلام في الحديث، ولأن من هو مُقدَّم في الخلافة أولى بقَبولِ قوله من غيره، ولأن النبي عليه السلام قال:"اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر"، ولأنا إذ قلنا: ربتها، يكون أولى لأنَّ هذا اللفظ لا يطلق على الله تعالى، ولفظ الرب يطلق على الله تعالى، هذا ما بينا أن رواية (ربتها) أكثر صحة.

ومع ذلك نقول: إنا قد قررنا الاحتمالات الثلاث على قول من روى هذا الحديث بالتاء في (ربتها)، أما من رواه (ربها) بغير تاء، فلا يحتاج إلى تقدير شيء من هذه التأويلات.

قوله: "وأن ترى الحفاة"(الحُفاة): جمع الحافي، و"العُراة": جمع العاري،

ص: 50

والعراة: المتجردون عن الثياب، والحافي: متجرد القدم عن النعل.

"العالة": أصله عَوَلة، فقُلبت الواو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وهو جمع: عائل، وهو الفقير، مِنْ عال يعول عولًا: إذا افتقر، وحقيقة العَوْل: الغلبة، وصيرورة الرجل كثير العيال.

"الرعاء": جمع الراعي، "الشاء": جمع الشاة، والشاء: اسمُ الجنس، كالغنم.

"يتطاولون في البنيان"؛ أي: يتفاخرون في طول بيوتهم ورفعتها، تطاول الرجل: إذا تكبر، وتطاول: إذا مدَّ عنقه إلى جانب شيء؛ لينظر إليه.

يعني: من علامات القيامة أنْ ترى أهل البادية ممن ليس لهم لباس جميل ولا مَداسٌ، بل كانوا رعاء الإبل والشاء يتوطَّنون في البلاد، ويتخذون العقار، ويبنون الدور والقصور المرتفعة.

وقيل: معناه أن يصير الفقراء ورعاء الشاء والإبل ملوكًا وأمراءً، فتكون همتهم قاصرةً يتفاخرون في رفعة البنيان، وملوكُ العرب لا يلتفتون إلى طول البنيان ولا يتفاخرون به، بل تفاخرهم بالشجاعة والسخاوة والفصاحة، وليس من عادتهم أن يجعلوا من ليس له أصلٌ شريفٌ ملكًا أو أميرًا، بل إنما يجعلون من له استحقاق الإمارة والملك ملكًا وأميرًا، وإذا وقع الملك والإمارة إلى من لم يكن له أصلٌ شريف ولا استحقاقٌ له للإمارة والحكم، فقد يكون هذا من علامات القيامة.

قوله: "ثم انطلق"؛ أي: ذهب، "مليًّا" بياء مشددة؛ أي: زمانًا طويلاً، وهو من المَلاوة، وهي المدة، يقال: عشت مع فلان مَلاوةً من الدهر؛ أي: مدة طويلة.

يعني: قال عمر: ذهب السائل، فلبثتُ بعد ذهاب السائل زمانًا طويلاً

ص: 51

جالسًا عند النبي عليه السلام، فقال رسول الله عليه السلام بعد ذهاب السائل:

"أتعلم من كان هذا السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل عليه السلام" آتيكم؛ ليسأل مني ما تحتاجون إليه من أمر دينكم؛ لتسمعوا ما أجيبه وتحفظوه.

وفي قول عمر: (الله ورسوله أعلم) فائدةٌ، وهي: أنه إذا قال لك أستاذك أو أحد أعلم منك: أتعلم كذا؟ لا تقل: نعم أعلم؛ لأنك إذا قلت: نعم، فإن لم تكن تعلم ذلك الشيء وقلت: نعم، فقد كذبت، وربما تظن أنك تعلم، ولا يكون ذلك الشيء كما تعلم، فإذا قلت: نعم، فقد كذبت أيضًا، وإن كنت تعلم ذلك الشيء كما ينبغي وقلتَ: نعم أعلم، لم تكن في هذا الجواب كاذبًا، ولكن حُرِمت من بركة لفظ أستاذك، ومن فائدة تفيدك، فإنك إذا لم تقل: نعم، وطلبت منه أن يعلمك ذلك، فربما يصدر من لفظه في البحث أكثر مما تعلم، فتكون فيه فوائدُ:

أحدُها: ما سمعتَ من الزيادة.

والثانية: يقدر ذلك الشيء في قلبك؛ فإنه تكرار لك، بل ما تسمع من أحد يكون أشد ثباتًا في القلب مما ترى في كتاب وتقرأ.

والفائدة الثالثة: بركة صوت أستاذك أو غيره، فإن الفضلاء والصلحاء لهم بركةٌ عظيمة يتشرَّف ويتبرَّك كلُّ واحد بألفاظهم ومجالستهم، وكان عادةُ الصحابة رضي الله عنهم إذا قال رسول الله عليه السلام لأحد: أتعلم كذا؟ أن يقول: الله ورسوله أعلم.

وينبغي لغير الصحابة إذا قال له أستاذه أو أحد أعلم منه أو مثله: أتعلم كذا؟ أن يقول: الله أعلم، أو يقول: الله وأهل العلم أعلم.

وتقدير قول عمر: الله ورسوله أعلم؛ أي: أعلم من غيرهما.

ص: 52

وقوله عليه السلام: "أتاكم يعلمكم دينكم" يدُّل على أشياء:

أحدها: أن السؤالَ عن مسألة تعلم أن السامعين يحتاجون إليها مستحبٌّ اقتداءً بجبريل عليه السلام.

والثاني: أن العالم لا يجب عليه تعليمُ الناس إلا إذا سأله أحدٌ عن مسألة يحتاج إليها، أو رأى أحدًا يعمل أو يقول منهيًا، فيلزمه حينئذ تعليمه ما هو الحقُّ؛ لأن النبي عليه السلام لم يُعلِّم الصحابةَ ما سأل جبريل قبل سؤال جبريل.

وهذا إذا ظن العالم أن الحاضرين عنده والمترددين إليه يعلمون ما هو فرضٌ عليهم، أما إذا علم أنهم لا يعلمون ما هو فرضٌ عليهم، فيجب عليه أن يعلمهم الفرائض.

والثالث: أن الرجل إذا ظن أنه لم يجب عليه شيءٌ غير ما علم، لم يأثمْ بترك تعلم غير ما علم؛ لأن رسول الله عليه السلام ما عاب الصحابة وما نسبهم إلى الإثم بترك سؤالهم عما سأل جبريل قبل سؤال جبريل.

قوله: "رواه أبو هريرة"؛ أي: راوي هذا الحديث أبو هريرة أيضًا، كما رواه عمر رضي الله عنه، ولكن بينهما اختلاف في الألفاظ يأتي بعد هذا.

و (أبو هريرة): اسمه عبد الرحمن بن صخر الدوسي.

"وفي روايته: وأن ترى الحفاة العراة الصم البكم ملوكَ الأرض".

(الصم): جمع أصم، وهو الذي به صمم، وهو ثقل الأذن بحيث لا يسمعُ، أو يسمعُ قليلًا.

و (البكم): جمع أبكم وهو الأخرس.

والمراد بالصم والبكم ها هنا: أهل البادية الذين ليس لهم فصاحة، وتفهّم كأنهم صم من غاية عدم إدراكهم وتفهم الكلام، وكأنهم بكم من غاية قلة

ص: 53

فصاحتهم ومعرفتهم بالعبادة.

يعني: في رواية عمر: "وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان"، وفي رواية أبي هريرة:"وأن ترى الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض"؛ الألفاظ مختلفة، والمراد واحد.

قوله: "في خمس لا يعلمهن إلا الله": هذا من تمام جواب النبي عليه السلام لجبريل في سؤاله عن الساعة، ومعنى (في خمس): من جملة خمس، كما يقول في الدعاء: اللهم احشرنا في زمرة الصالحين، واجعلنا من جملتهم.

يعني: ما سألتني يا جبريل عن علم الساعة، ذلك من جملة الأشياء الخمسة التي لا يعلمهن إلا الله.

قوله: "الآية" هذا لفظ المصنف؛ لأن رسول الله عليه السلام قرأ الآية إلى آخرها، والمصنف ذكر أولها، وقال للاختصار: الآية؛ يعني: إلى آخر الآية، ويجوز أن تكون (الآية) مجرورًا ومنصوبًا؛ فالمجرور على تقدير: إلى آخر الآية، فحذف حرف الجر والمضاف وهو (آخر)، وترك المضاف إليه وهو (الآية)، والمنصوب على أن معناه: اقرأ الآيةَ إلى آخرها.

يعني: الخمسة التي لا يعلمهن إلا الله مذكورةٌ في هذه الآية، وهي:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].

وسبب نزول هذه الآية: أن الوارثَ بن عَمرو بن حارثة بن محارب من أهل البادية أتى النبي عليه السلام، فسأله عن الساعة ووقتها، وقال: إن أرضنا قد أجدبت - أي: يبست - فمتى ينزل الغيث؟ وتركتُ امرأتي حُبلى، فماذا تلد؟ وقد علمت أين ولدت، فبأيِّ أرض أموت؟ فأنزل الله هذه الآية.

قوله: " {عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} "؛ أي: عنده علم قيام الساعة وظهورها.

ص: 54

قوله: " {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} "، (ينزل): فعل مضارع معروف، من أنزل إنزالًا، (الغيث): المطر؛ يعني: ويعلم متى يرسل المطر؟ ويجوز أن يكون (أن) مقدَّرًا، فيكون تقديره: وأن ينزل الغيث، و (أن) مع ما بعده على تقدير المصدر، فيكون معناه: وعنده علم الساعة وإنزال الغيث أيضًا.

قوله: " {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} "، (الأرحام): جمع رحم، وهو موضع الولد في بطن الأم، يعني: ويعلم ما في أرحام النساء من الأولاد أنها ذكور أو إناث، ويعلم وقت ولادتهن؛ لأنه الخالق الآمر، ويجوز أن يُقدَّر (أن) ها هنا أيضًا، فيكون تقديره بعد جعل (أن) وما بعده مصدرًا: وعنده علم ما في الأرحام.

قوله: " {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} "، (الدراية): العلم، من (درى يدري).

واختلف في (ماذا)؛ فبعضُ النحويين يجعله كلمة واحدة، فيكون معناه: أي شيء؟ وبعضهم يجعل (ذا) بمعنى: الذي، فعلى القول الأول يكون (ماذا) منصوبًا على أنه مفعول (تكسب)، وعلى القول الثاني (ما) مبتدأ، و (ذا) بمعنى الذي، وهو موصول، وصلته (تكسب)، تقديره على هذا القول تكسب، وهو صلة (ذا)، و (ذا) مع صلته خبر (ما).

و (غدًا): نصب على الظرف في القولين جميعًا.

يعني: لا يعلم أحدٌ ما يفعل في الزمان المستقبل، ولا يعلم حاله في ساعة أخرى؛ أن يصيبَهُ خير أو شر، ويعملَ خيرًا أو شرًا.

قوله: " {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} "؛ يعني: لا يعلم أحد أنه يموت في وطنه أو غير وطنه، في البر أو في البحر.

قوله: " {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} "، (الخبير): العالم، ذكرَ خبيرًا للتأكيد؛

ص: 55

يعني: أن الله عليم بهذه الخمس، ولا يعلم واحدًا منها غيرُ الله تعالى، ومن ادعى علم واحد منها، فهو كافر، إلا أن يقول أحد: علَّمني الله وقتَ ولادة فلانة، أو أنها تلد ذكرًا أو أنثى، أو موت فلان وما أشبه ذلك في النوم، أو هتف بي هاتف، أو قال نبي: أوحى لي ربي بشيء من هذه الأشياء، فإن كلَّ ذلك يجوز؛ لأن النبي عليه السلام قد أخبر بكثير من علم الغيب، وجاء عن أولياء الله أنهم أخبروا عن موت أنفسهم، أو موت غيرهم.

* * *

2 -

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بنيَ الإسلامُ على خمسٍ: شهادةِ أنْ لا إله إلَاّ الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والحجِّ، وصَوْمِ رمضان".

قوله: "بني الإسلام"، (بني) ماض مجهول، من بنى يبني بنيًا وبناء، ومعناه معروف.

يعني: جعل هذه الأركان الخمسة أصولًا للإسلام، وما عدا هذه الخمسة من أحكام الشريعة فَرْعًا لها، ومثال الإسلام كقصر، وهذه الأركان الخمسة كالأسطوان لذلك القصر، وما بقي من أحكام الشريعة كجدار سطح ذلك القصر، وكالجُدُرِ التي حواليه، وكتزيينه بأنواع النقوش، فمن حفظ هذه الأركانَ الخمسة وسائرَ أحكام الشريعة يكون قصر إسلامه تامًا كاملًا مزينًا، ومن لم يحفظ هذه الأركان الخمسة، ولم يحفظ سائرَ أركان الشريعة يكون قصر إسلامه بغير جدار سطحه، وبغير جدار حواليه، وأما من ترك ركنًا من هذه الأركان فنبيِّنُ بحثه في الحديث الذي يأتي بعد هذا الحديث، إن شاء الله تعالى.

قوله: "شهادة": يجوز بجرِّ (شهادة) وجرِّ الكلمات التي بعدها على أنها بدلٌ من قوله: (على خمس)، ويجوز برفعها على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي:

ص: 56

فهي شهادة أن لا إله إلا الله، وقد ذُكِر معنى هذه الكلمات في الحديث المتقدم.

فإن قيل: لم قدَّم ذكر الصوم على ذكر الحجِّ في الحديث الأول، وقدَّم ذكرَ الحج على ذكر الصوم في هذا الحديث؟

قلنا: الواو لا توجب الترتيب، فلا يعلم ترتيبُ هذه الأركان من لفظ هذين الحديثين؛ لأن هذه الأركان في هذين الحديثين ذكرت بلفظ الواو، والواو لا توجب الترتيب، وقد عُلِمَ ترتيبُ وجوبِ هذه الأركان مما روى الوَالبِي عن ابن عباس: أنه قال: بعث الله تعالى نبيه عليه السلام بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدَّق به المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا به زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم الدين هكذا.

ذكر أبو الحسين عليُّ الواحديُّ في تفسيره المسمى بـ "الوسيط": فحيث ذُكِرت هذه الأركان على هذا الترتيب فلا إشكالَ فيها؛ لأنها ذكرت على ترتيب وجوبها، وان ذكرت على خلاف هذا الترتيب، فيحتاج إلى الجواب.

والجواب: أن الواو لا توجب الترتيب، فيكون تقديم الحجِّ على الصوم في هذه الأحاديث كتقديم السجود على الركوع في قوله تعالى:{يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]، ومعلوم أن الركوعَ مقدَّمٌ على السجود.

* * *

3 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإِيمانُ بِضعٌ وسبعونَ شُعبةً، فأفضلُها قولُ: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأَذى عن الطَّريق، والحياءُ شُعبةٌ مِنَ الإِيمانِ".

ص: 57

قوله: "الإيمان بضع وسبعون شعبة

" إلى آخره، وقد جاء في بعض الروايات: بضع وستون، فاختار صاحب الكتاب أتمَّ الروايات.

و (البضع) بكسر الباء: اسم لعدد مبهم من الثلاثة إلى التسعة؛ يعني: يقال للثلاثة: بضع، ولأربعة: بضع، وكذلك الخمسة، والستة، وسبعة وثمانية وتسعة، ويذكر البضع مع عقود العشرات إلى ما دون المئة، ولا يذكر مع المئة والألف، ولا يقال: بضع ومئة، أو بضع وألف.

ونصب (شعبة) على التمييز، و (الشعبة): غصنُ الشجرة، وفرعُ كلَّ أصل.

يعني: الإيمانُ أقلُّ من ثمانين وأكثر من سبعين شعبة، ولكن لم تعلم بالتعيين أنها سبعة وسبعون، أو ستة وسبعون، أو خمسة، أو أربعة، أو ثلاثة، أو اثنان، أو واحد وسبعون، وقد جاء في بعض الروايات: الإيمان سبع وسبعون شعبة، فعلى هذا لا إشكالَ فيه.

واختلف العلماءُ في أركان الإيمان؛ فعند الشافعي رحمه الله: الإيمان له ثلاثة أركان: تصديقٌ بالجنان - وهو القلب -، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان؛ يعني بتصديق الجنان: أن يعتقدَ الصدق وحقيقةَ ما أخبر به النبي عليه السلام من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.

ويعني بالإقرار باللسان: قول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.

ويعني بالعمل بالأركان: أن يأتي بأداء الصلاة والزكاة والصوم والحج، وغير ذلك من الواجبات.

وعند أبي حنيفة رحمه الله: الإيمان: تصديق بالجنان، وإقرار باللسان فقط، وأما العمل بالأركان فمن حقوقِ الإيمان عنده، لا من الإيمان.

ومعنى الأركان: الأعضاء.

ص: 58

فمن أنكر فرضًا من الفروض، أو اعتقد شيئًا حرامًا أنه حلال، أو شيئًا حلالًا أنه حرام، كفر بالإجماع.

أما من لم ينكر شيئًا من الواجبات، ولم يعتقد استحلالَ محرَّم، ولا تحريمَ حلال، فانظر؛ فإن لم يقرَّ بلسانه بكلمتي الشهادة، فهو كافر أيضًا بالإجماع، ولو أقر بلسانه بكلمتي الشهادة، واعتقد بقلبه فرضية ما هو فرض عليه، ولم يعمل بالأركان، فهو مؤمن عند أكثر أهل السنة والعلم، ولكنه مؤمنٌ ناقصٌ عند الشافعي رضي الله عنه؛ لأن عنده جميعُ شعب الإيمان من الإيمان، فيكون المؤمن ناقصًا بقدر ما ينقص من عمله، والإيمانُ عنده يزيدُ وينقصُ؛ يزيد بالعمل الصالح، وينقص بالمعصية.

وعند أبي حنيفة رحمه الله: هو مؤمنٌ من غير أن يكون في إيمانه نقصانٌ، بل هو ناقصُ العمل، لا ناقص الإيمان، والإيمان لا يزيد بالطاعة، ولا ينقص بالمعصية؛ لأن شعبَ الإيمان عنده ليست من الإيمان، بل هي من حقوق الإيمان.

ولكلَّ واحدٍ منهما حججٌ وأدلة كثيرة على قوله، وليس هذا موضع ذكرها.

قوله: "فأفضلها قول: لا إله إلا الله"، فها هنا بحثان:

أحدهما: أن الضمير راجع إلى (بضع وسبعين شعبة)، وهذا عند الشافعي رحمه الله يستقيم، لأنه جعل ما سوى قول:(لا إله إلا الله) من الشعب الباقية من جملة الإيمان، فإذا كان جميعها من الإيمان، فتكون (لا إله إلا الله) منها، فيجوز أن يقال: أفضلها: لا إله إلا الله، كما يقال: أفضل القوم زيد.

وبيان أن قول: (لا إله إلا الله) أفضلُ من الشعب الباقية؛ لأن من لم يقل: لا إله إلا الله، فهو كافر، ومن ترك الشعب الباقية لا عن اعتقادٍ، فهو مؤمن ناقص.

ص: 59

وأما عند أبي حنيفة رحمه الله: [فـ]ـلا يستقيم قوله: فأفضلها: لا إله إلا الله؛ لأن الشعب الباقية عنده ليست من الإيمان، فإذا لم تكن الشعب الباقية من الإيمان، لم يكن قول:(لا إله إلا الله) من جنس الشعب، فيكون هذا كقول أحد: أفضل الأنعام زيد (1).

هذا هو الظاهر من مذهبه، ولكنه هو يقول: ليس تسميةُ الإيمان مختصةً بتصديق الجنان، بل يجوز أن يسمى ما هو من حقوق الإيمان إيمانًا، كقوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]؛ أي: صلاتكم، فسمى الصلاة إيمانًا، فإذا كان كذلك، فقول:(لا إله إلا الله) من جنس شعب الإيمان؛ لأن كل شعبة منها إيمان، كما أن الصلاة سماها الله تعالى إيمانًا، فيجوز أن يقال: أفضلها قول: لا إله إلا الله.

البحث الثاني: قوله عليه السلام: "فأفضلها قول: لا إله إلا الله" يريد بها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ لأنه قد كان كثير من اليهود والنصارى يقولون:(لا إله إلا الله) في زمن النبي، ولم يحكمْ عليه الصلاة والسلام بإسلامهم ما لم يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

ذكرُ الشعب البضع والسبعين وبيانُها: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر؛ خيره وشره، وسؤال منكر ونكير، وأحوال القبر من العذاب والراحة، وبعث يوم القيامة، والحساب، والميزان، وشفاعة النبي عليه السلام لمن شاء الله من أهل الكبائر، وشفاعة النبيين والمؤمنين لمن شاء الله تعالى، وكذلك الملائكة تشفع لبعض المؤمنين، ولا شفاعةَ لأحد قبل نبينا عليه السلام، والصراط، والجنة، والنار، ورؤية الله تعالى في الجنة للمؤمنين، وقول كلمتي الشهادة، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، والحج، والجهاد، والحب

(1) أي فهو كلام غير مستقيم؛ لأنَّ زيدًا ليس من الأنعام.

ص: 60

في الله، والبغض في الله، والخوف من الله، والرجاء من الله، وحب النبي عليه السلام، وتعظيم القرآن، والاعتقاد بقدمه، والتوكل، وأقلُّه: أن يعتقد أن لا دافعَ للبلاء ولا معطيَ للعطاء إلا الله تعالى، وأنواع التوكل كثيرة، وليس هذا موضع استقصائها.

وشحُّ الرجل بدينه، والشحُّ البخل، وهو نوعان:

أحدهما: الشحُّ بأصل دينه، وهو: أن لا يترك أن يفوتَ عنه شيء مما يتعلق بأصل دينه.

والثاني: الشحُّ بكمال دينه، وهو: أن لا يترك أن يفوتَ عنه مما يتعلق بكمال دينه، وهذا الأصل للكمال لا يقدرُ عليه كلُّ واحد.

وطلب العلم، وهو نوعان:

أحدهما: طلب ما فرض عليه، والثاني: طلب ما زاد على الفرائض.

ونشر العلم، وهو: أن يعلم الناس ما يحتاجون إليه من أحكام الشريعة، كالطهارة، وهو الوضوء، والغسل، وغسل الأعضاء والثياب، والتيمم منها.

والاعتكاف، وهو نوعان: فرض وسنة؛ والفرض: إذا نذر، والسنة: في غير النذور.

وترك الفرار من الزحف؛ يعني: لا يجوز لمسلم أن يفرَّ من الكافرين عند القتال.

والعتق، وهو نوعان: فرض، وغير فرض؛ فالفرض: في الكفارات والنذور، وغير الفرض: فيما عداها.

وإخراج خمس الغنيمة، وأداء الكفارات والنذور، والوفاء بالعقود، وهو: العقود بين الناس.

ص: 61

وشكر نعم الله تعالى، وحفظ اللسان عما لا يجوز، وأداء الأمانات، وترك الخيانة، وتحريم النفوس؛ يعني: لا يُقتَل أحدٌ بغير حق.

وتحريم الفروج، وقبض اليد عن الحرام، وترك أكل الحرام، وترك الغلَّ والحسد، وتحريم أعراض الناس؛ يعني: لا يغتابُ أحدًا.

وإخلاص العمل لله تعالى، والتوبة، وطاعة أولي الأمر؛ يعني: تجب على الرعية طاعة السلطان إذا لم يأمر بمعصية، وإذا أمر بمعصية لا يطيعه، ولكن لا ينكر عليه بالسيف، بل ينكر عليه بالقلب فيما هو معصية، وينصح له إن قدر على نصحه باللطف.

والتمسك بالجماعة؛ يعني: يقتدي بما اجتمع عليه أئمة أهل السنة من أحكام الدين، والحكم بين الناس؛ يعني يجب أن يكون في كل ناحية قاضٍ يقضي بين الناس بالعدل.

والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونصرة المسلمين؛ يعني: بدفع الظالم عن المظلوم.

والحياء، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وحسن الخلق، وحق المماليك؛ يعني: يجب على السيد أداء ما عليه من حقوق عبده وأمته؛ من الكسوة، والنفقة، وترك إيصال المشقة إليهم.

وحق السادة؛ يعني: يجب على العبد والأمة أن يؤدَّيا ما عليهما من خدمة سيدهما.

وحقوق الأهلين؛ يعني: يجب على الرجل أداء ما عليه من حقوق زوجته وأولاده وآبائه وأمهاته وإن علوا؛ من نفقتهم وكسوتهم إذا كانوا محتاجين إليه.

وحق الزوجة واجب على الزوج، وإن كان لها مالٌ كثير.

وإفشاء السلام؛ يعني: يستحب السلام على من عرفه ومن لم يعرفه.

ص: 62

ورد السلام، وعيادة المريض، والصلاة على موتى المسلمين إلا الشهيد في سبيل الله، وتشميت العاطس، ومعاداة الكفَّار، وإكرام الجار، وإكرام الضيف، والستر على الناس، والصبر؛ يعني: يرضى بقضاء الله تعالى فيما أصابه من الفقر والمرض وموت الأقارب وغير ذلك، ويرجو الثواب على صبره من الله تعالى.

والغيرة؛ يعني: يكره ما لا يرضاه الله تعالى فيما يجري على نفسه وغيره.

والجود؛ يعني: لا يكون بخيلًا في أداء الزكاة، بل يؤديها على الطوع والرغبة، ويعطي أيضًا بقدر وسعه من الصدقات غير الواجبة.

ورحم الصغير والكبير؛ يعني: ليكن له شفقة ورحمة على المسلمين من الصغار والكبار.

والإصلاح بين الناس، ومحبة الرجل لأخيه ما يحبه لنفسه، وإماطة الأذى عن الطريق.

فهذه سبع وسبعون شعبة، وهي التي أرادها النبي عليه السلام في قوله:"الإيمان بضع وسبعون شعبة"، وكلُّ أمر ونهي من أوامر الله ونواهيه غير ما ذكرنا، فهو مندرجٌ في هذه الأعداد.

قوله: "وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، (الأدنى) أفعل التفضيل من دنا يدنو: إذا قَرُب، ويحتمل أن يكون أصله:(أدنؤها) بالهمزة، فقُلِبت الهمزة ألفًا للتخفيف، من دَنَأ يَدْنَأ دَنَاءةً، إذا فعل فعلًا حقيرًا، وصار حقيرَ القوم، والمراد بأدناها ها هنا: الأقل.

(الإماطة): الإبعاد.

يعني: أقل شعب الإيمان إبعادُ الأذى من طريق المسلمين، وهو: إبعاد شوك، أو حجر، أو عظم، أو غصن شجر يتأذَّى به من يمشي في الطريق.

ص: 63

ومنه: أن لا يفعل ولا يلقي في الطريق ما يتأذَّى به المارُّ، كحفر حفرةٍ في الطريق، أو إلقاء قشرِ بطيخ، أو التغوط والبول في الطريق، وما أشبهَ ذلك، فإنه لو أمرته نفسه بشيء من هذه الأشياء، ثم لم يفعل ما أمرته نفسه به لله، فيكون هذا من الإيمان أيضًا.

ومنه: دفع الظلم والمضرة عن المسلمين؛ لا يؤذي أحدًا، ولا يترك أحدًا، أن يؤذيَ أحدًا إن قدر.

قوله: "والحياء شعبة من الإيمان"، (الحياء): انقباض النفس، وتركها الشيء الذي يستحي الرجل منه؛ احترازًا من اللوم وغيره.

والحياء نوعان: نفساني، وإيماني.

نعني بالنفساني: الجبلي الذي خلقه الله تعالى في جميع النفوس من الكافر والمسلم، نحو: كشف العورة، ومباشرة الرجل المرأة بين الناس؛ فإن كلَّ أحد يستحي من هذين الشيئين وشبههما.

ونعني بالإيماني: ما يمنع الإيمانُ الشخصَ من فعله، كترك الرجل الزنا، وشرب الخمر، وغير ذلك من الأفعال المحرمة؛ استحياء من الله تعالى، وهذا الحياء ليس جِبِلِّيًا، بل إيماني؛ لأن الكفار ومن إيمانه ناقص من المسلمين قلَّما يستحيون من هذه الأشياء، وهذا القسم من الحياء هو الذي ذكر النبي عليه السلام: أنه من الإيمان في قوله: "والحياء شعبة من الإيمان".

وقال بعض المشايخ: الحياء على وجوه:

أحدها: حياءُ الجناية، كحياء آدم عليه السلام لمَّا أكل الشجرة طَفِق - أي: أقبل - يتردَّدُ، ويسعى إلى كلِّ جانب، قال الله تعالى له: أفرارًا مني؟ فقال: لا، بل حياء منك.

والثاني: حياء التقصير، كحياء الملائكة حيثُ قالوا: ما عبدناك حق عبادتك.

ص: 64

والثالث: حياء الإجلال، كحياء إسرافيلَ حيثُ تسربلَ بجناحه؛ أي: ستر وجهه بجناحه، لم يرفع رأسه حياء من الله تعالى.

والرابع: حياء الكرم، كحياء النبي عليه السلام، كان يستحي من الصحابة إذا دخلوا بيته أن يقول لهم: اخرجوا، فقال الله تعالى:{وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب: 53]؛ أي: ولا تشتغلوا بالحديث بعد الفراغ من الطعام، فتجعلوا النبيَّ ملولًا، بل اخرجوا.

ولا (مستأنسين) محله جر بالعطف على (ناظرين)؛ أي: غير ناظرين وغير مستأنسين؛ يعني: إذا دعاكم النبي عليه السلام إلى طعام ادخلوا غير ناظرين إلى جوانب البيت؛ كي لا يقع نظركم على امرأة، وغير مستأنسين بحديث.

والخامس: حياء حِشْمة، كحياء علي رضي الله عنه حين أمر المقداد رضي الله عنه حتى سأل رسول الله عليه السلام عن حكم المذي؛ لكون فاطمةَ بنت النبيَّ عليه السلام زوجتَهُ.

والسادس: حياء الاستغفار، كحياء موسى عليه السلام؛ قال لربه: إنه لتعرض إليَّ الحاجة من الدنيا، فأستحي أن أسألك يا رب؟ فقال الله تعالى: سلني حتى مِلْحَ عجينِكَ، وعلفَ شاتِكَ.

والسابع: حياء الربِّ جل جلاله، فإنه يدفع إلى بعض العباد كتابًا مختومًا بعدما عبر الصراط فإذا فيه: فعلتَ ما فعلتَ، ولقد استحييتُ أن أظهر عليك، فاذهب فقد غفرتُ لك.

* * *

4 -

وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المُسلمُ مَنْ سَلِمَ المُسلمون مِنْ لِسانِهِ ويدِهِ، والمُهاجِرُ مَنْ هجَرَ ما نَهى الله عنه".

ص: 65

قوله: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"؛ يعني: المسلمُ الكاملُ في إسلامه من لا يؤذي أحدًا بلسانه بالشتم والغيبة والبهتان، ولا يأخذُ مالَ أحد، ولا يضربُ أحدًا بغير حق، ولا يمدُّ يده إلى امرأة ليست منكوحة ولا مملوكة له.

وإنما اختص اللسان واليد؛ لأن أكثرَ الإيذاء والضرر يحصلُ بهذين العضوين، وإلا يمكنُ إيذاءُ الناس بالعين والرجل بأن ينظر إلى بيت أجنبي، أو يمشي إلى موضع يتأذَّى أهل ذلك الوضع من دخوله عليهم.

ومراد النبي بهذا الحديث: أن مَنْ ترك إيذاء الناس من جميع الوجوه مع أداء الفرائض بصحيح الاعتقاد، فهو مسلم كامل، ومن لم يترك إيذاء الناس، فهو مسلم ناقص.

ومن أجرى هذا الحديثَ على نفيِ أصل الإسلام، وقال: من لم يترك إيذاء الناس فليس بمسلم أصلًا، فهو مبتدع.

قوله: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، (المهاجرة): ترك الرجل وطنه، والانتقال إلى موضع آخر، وفي الشرع: ترك الرجل وطنه الذي كان بين الكفار والانتقال إلى دار الإسلام لله تعالى ولرسوله عليه السلام.

والمهاجر ليس من هاجر من مكة إلى المدينة قبل فتح مكة فقط، بل الهجرة باقية إلى يوم القيامة؛ لأن الهجرة هي الانتقال من الكفر إلى الإسلام، ومن ديار الكفر إلى ديار المسلمين، ومن المعصية إلى الطاعة، وهذه الأشياءُ باقيةٌ أبدًا.

والمهاجر في هذا الحديث هو المهاجر الكامل؛ لأن من هاجر من دار الكفر، وانتقل إلى دار المسلمين، فهو مهاجر، وإن لم يُهاجرْ ما نهى الله تعالى عنه من الذنوب، ولكنه مهاجر غير كامل، ومن هاجر جميع ما نهى الله تعالى

ص: 66

عنه، فهو مهاجرٌ كامل.

راوي هذا الحديث: أبو محمد "عبد الله بن عمرو" بن العاص بن وائل.

فإن قيل: لم قدِّم الراوي على الحديث في بعض الأحاديث، وأخَّر الراوي في بعضها؟

قلنا: لا فرقَ بين تقديم الراوي وتأخيره؛ لأنَّ كل حديث أُخِّر الراوي عن الحديث في هذا الكتاب، فقد قُدِّم في كتاب "شرح السنة"، ومصنفهما واحد، ولعل المصنف كتب رواة بعض الأحاديث في حاشية الكتاب، فكتبها الناسخون في المتن؛ بعضها مقدَّمًا، وبعضها مؤخَّرًا.

* * *

5 -

وقال: "لا يُؤمِنُ أحدُكُمْ حتَّى كون أحبَّ إليهِ مِنْ والدِهِ، وولدِهِ، والناس أجمعين"، رواه أنس.

قوله: "لا يؤمن أحدكم

" إلى آخره، (لا) في قوله: لا يؤمن، لنفي أصل الإيمان، لا لنفي الكمال، والهمزة في (أكون) همزة نفس المتكلم، والهمزة في (أحبَّ) همزة أفعل التفضيل؛ يعني: لا يكون أحدكم مؤمنًا حتى أكون أنا أشد حبًا في قلبه من حبه نفسَهُ وآباءَه وأولاده وجميعَ الناس، ومن كان حبُّ شيء في قلبه أكثرَ وأشدَّ من حبي، فهو كافر.

وبهذا الحب يريد: الحبَّ الاختياري الحاصل من الإيمان، لا الحبَّ الجبلِّيَّ الطبعي، فإن كل أحد يحب نفسه من حيثُ الطبعُ والبشرية أكثر مما يحب غيره، وكذلك يحب ولده، ومن عشق بها من النساء أكثر من غيرها.

والحبُّ الذي هو الطبعيُّ ليس داخلًا تحت اختيار الشخص، فلم يُؤاخذْ به؛ لقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

ص: 67

والحبُّ الاختياري الحاصل من الإيمان، وهو: أن يبذلَ نفسه وماله وأولاده وجميع أقاربه في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله، مثل أن يأمره الرسول بقتل أبائه وأمهاته وأولاده الكافرين يجب عليه أن يقتلهم، ولو أمره أن يلقي نفسه بين الكفار بالقتال لوجب عليه الطاعة، وإن علم أنه يقتله الكافر.

روى هذا الحديث "أنس" بن مالك بن نضر الأنصاري، خادم النبي عليه السلام.

* * *

6 -

وقال: "ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وجدَ حَلاوةَ الإيمانِ: مَنْ كانَ الله ورسولُهُ أحبَّ إليهِ ممَّا سِواهُما، ومَنْ أحبَّ عبدًا لا يُحبُّهُ إلا لله، ومَنْ يكرهُ أنْ يَعُودَ في الكُفْر بعدَ إذْ أنقذَهُ الله منهُ كما يكرهُ أنْ يُلقى في النَّارِ"، رواه أنس.

قوله: "ثلاث من كن

" إلى آخره، يقال:(ثلاثة) للذكور، و (ثلاث) للإناث بغير الهاء، والمراد ها هنا: الخصال؛ لأنها جمع: خصلة، وهي مؤنثة؛ يعني: ثلاث خصال من اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث وَجَدَ حلاوةَ الإيمان.

قوله: "من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما"، الحب ها هنا: هو الحب الاختياري، كما ذُكِر. (مما سواهما)؛ أي: مما سوى الله ورسوله، وقد جمع النبيُّ بين الله وبين نفسه بلفظ الضمير في قوله:"مما سواهما"، وكره عليه السلام الجمعَ بين الله وبين نفسه بلفظ الضمير في قول الخطيب الذي قرأ خطبة بحضرته عليه السلام، وقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال النبي عليه السلام:"اسكتْ؛ فبئسَ الخطيبُ أنت"، كره له قوله: ومن يعصهما.

قيل: علة كراهيته قوله: (ومن يعصهما) أنه جمع بين الله وبين رسوله فيما

ص: 68

هو حقُّ الله تعالى على الحقيقة؛ لأن الطاعة والعصيان حقُّ الله تعالى، فطاعة الرسول طاعة الله، وعصيان الرسول عصيان الله تعالى، فكره - النبي عليه السلام أن يجمع بينه وبين الله تعالى بلفظ الضمير الذي هو (هما)، وأما ها هنا فقد جمع بين الله وبين نفسه في الحب، والحب شيءٌ يجوزُ أن يكون لله ولغيره.

هذا ما قيل في علة هذين الحديثين، والأولى أن لا يَجمَعَ أحدٌ بين الله تعالى وبين رسوله بلفظ الضمير في شيء من المواضع في الحب والطاعة والعصيان وغيرها، بل يقتصِرْ على ما جاء في الحديث.

قوله: "ومن أحب عبدًا لا يحبه إلا لله"؛ يعني: إذا أحب أحدًا ينبغي أن لا يكون حبك إياه إلا لله تعالى، وإن كان ذلك الشخص هو أباك أو أمك أو ولدك أو غيرهما؛ يعني: تقول في نفسك: إني أحب أبي وأمي؛ لأن الله تعالى أمرني بالإحسان إليهما حيثُ قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف: 15]، وتقول أيضًا في نفسك: إني أحبهما لأنهما كانا سبب وجودي وولادتي، وربَّياني حتى بلغتُ إلى سنٍ أعبد الله تعالى وأطيعه، وتقول: أحب ولدي لأنه يكبر ويعبد الله تعالى ويطيعه، وإن أحببت أجنبيًا، فليكنْ حبك إياه لأجل صلاحه وتعبده، لا لأجل ماله ومنصبه ومعاونته إياك في الأمور الدنيوية.

قوله: "ومن يكره

" إلى آخره: (الإنقاذ): التخليص والتنجية، إنما قال النبيُّ عليه السلام هذا تحذيرًا وتخويفًا للصحابة؛ لأنهم كانوا كفارًا فأسلموا، وكان في بعض النفوس حبُّ ما كان فيها في الزمان الماضي، فقال عليه السلام: العود إلى الكفر كإلقاء الرجل نفسه في النار؛ لأن عاقبةَ الكفار دخولُ نار جهنم، ونقض التوبة والرجوع من التوبة إلى المعصية أيضًا كإلقاء الرجل نفسه في نار جهنم.

ص: 69

يعني: من كان فيه هذه الخصال الثلاث، فقد وجد فيه حلاوة الإيمان، وثبت الإيمان في قلبه، وكمل يقينه، ومن لم يكن فيه أحد هذه الخصال الثلاث، فانظر؛ فإن لم يكن حبُّ الله تعالى وحب رسول الله في قلبه أشدَّ وأكثر من حب سوى الله تعالى وسوى رسوله، فهو كافر، ونعني بهذا الحديث: الحب الاختياري.

وإن كان فيه ترك الخصلة الثانية، وهي أن لا يحب من أحبه من الناس لله، بل يحبه لخلة أو تعصب أو لمال أو لمنصب، لم يكن بترك هذه الخصلة كافرًا، بل يكون مسلمًا ناقصًا.

وأما الخصلة الثالثة، وهي: أن لا يكره العود إلى الكفر؛ فانظر؛ فإن مالت نفسه الشيطانية إلى الأشياء التي كان عليها في حال الكفر، وهو ينقضُ هذا الميل من نفسه، ويستعيذُ بالله من هذه الوسوسة، فلم يكن كافرًا بهذه الوسوسة؛ لأن النبي عليه السلام قال:"إن الله تجاوزَ عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلَّم"، وإن عزم على العود إلى الكفر، ورضي به، صار كافرًا.

* * *

7 -

وقال: "ذاقَ طعْمَ الإيمانِ مَنْ رضيَ بالله ربًّا وبالإِسلام دينًا وبمحمَّدٍ رسولًا"، رواه العبَّاس بن عبد المطَّلِب.

قوله: "ذاق طعم الإيمان

" إلى آخره: (ذاق طعم الإيمان)؛ أي: وجد الإيمان.

"من رضي بالله ربًا"، يقال: رضيت به مصاحبًا، ورضيت عليه، ورضيت عنه؛ أي: رضيت بمصاحبته، ولا أطلبُ غيره.

قوله: (ربًا) منصوب على التمييز، وكذلك (دينًا) و (نبيًا).

ص: 70

يعني: من قال: من الآلهة حسبي الله، ومن الأديان حسبي الإسلام، ومن الأنبياء حسبي محمد عليه السلام.

يعني: من اطمأن قلبه بكونِ الله تعالى إلهه وربه، ولم يطلب إلهًا غيره، ولم يجعل له شريكًا في الملك، وكذلك رضي بكون الإسلام دينه، وكون محمد عليه السلام نبيه، ولم يطلبْ دينًا سوى الإسلام، ولم يطلبْ نبيًا سوى محمد عليه السلام، فهو مؤمن، ومن لم يرضَ بواحد من هذه الثلاثة، فهو كافر.

روى هذا الحديث "عباس بن عبد المطلب" بن هاشم بن عبد مناف بن قصي.

* * *

8 -

وقال: "والذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ، لا يسمعُ بي أحدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يهوديُّ أو نصرانيٌّ، ثمَّ يموتُ ولمْ يُؤمِن بالذي أُرْسِلْتُ بهِ إلَاّ كانَ مِنْ أصحابِ النَّار"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.

قوله: "والذي نفس محمد

" إلى آخره، الواو في و (الذي) للقسم، وأراد بـ (الذي) الله تعالى.

(النفس): الروح والدم والجسد والعين.

(بيده)؛ أي: بقدرته وأمره، يقلبها ويصرفها كيف يشاء، سميت القدرة يدًا؛ لأن قوة الإنسان وقدرته وتصرفه باليد، فاُطلِق اسمُ اليد التي هي سبب القدرة والقوة على القوة والقدرة.

الباء في "لا يسمع بي" يحتمل أن تكون زائدة، فيكون تقديره: لا يسمعني، كما جاء: سمعته، وسمعتك، وسمعت فلانًا، وهذا كثير.

ص: 71

ويحتمل أن تكون الباء بمعنى (من)، كما يقال: اسمعْ مني، وسمعت هذا الحديث من فلان، فعلى هذا الاحتمال تكون الباء هنا كالباء التي في قوله:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الأنسان: 6]؛ أي: عينًا يشرب منها.

وقد جاء الباء بمعنى (عن) أيضًا، كقوله:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} ؛ أي: فاسأل عنه خبيرًا، و (من) و (عن) متقاربان في المعنى.

"الأمة": الجماعة التي تَؤُمُّ جهة واحدة؛ أي: تقصد، أو تؤم أمرًا واحدًا، ويقال لأهل زمان واحد: أمة، ولجماعة يتبعون نبيًا: أمة.

والأمة على قسمين: أمة دعوة، وأمة إجابة؛ فأمة الدعوة: هم الذين بعث عليهم نبي، ويدعوهم إلى الله تعالى، سميت تلك الأمة أمة الدعوة، سواء أجابوا ذلك النبي أو لم يجيبوا، وأمة الإجابة: هم الذين أجابوا ذلك النبي.

والمراد بالأمة في هذا الحديث: أمة الدعوة.

وإنما خُصَّت اليهود والنصارى في هذا الحديث بالذكر؛ لأنهما أهلا كتابي التوارة والإنجيل، وهم أشرفُ وأخصُّ ممن لم يكن لهم كتاب من الأمم الباقية، فإذا ذكر أن اليهودَ والنصارى يصيرون كفارًا بترك الإيمان بمحمد عليه السلام مع زيادة شرفهم على غيرهم من الأمم، فأَنْ يصيرَ غيرهم من الأمم كفارًا بترك الإيمان بمحمد عليه السلام أولى.

قوله: "ثم يموت ولم يؤمن" إشارةٌ إلى أن من آمنَ في آخر عمره يكون إيمانُهُ مقبولًا؛ لأنه آمن قبل أن يموت، فلم يمت كافرًا.

وقوله عليه السلام: "ولم يؤمن بالذي أرسلت به" إشارةٌ إلى أن الإيمانَ بجميع أحكام الإسلام واجبٌ، ومن قال: آمنت بأن محمدًا رسول الله، ولكن محمدًا رسول الله إلى بعض الناس، فهو كافر؛ لأنه لم يؤمن بقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]، قيل: تقديره: وما أرسلناك إلا لتكون رسولًا

ص: 72

للناس كافة؛ أي: جميعًا، فعلى هذا التقدير (كافة) حال للناس مقدم عليه، وقيل: بل (كافة) حال عن النبي عليه السلام، والتاء للمبالغة؛ يعني: لتكون مانعًا للناس عن الكفر، والكف: المنع.

ومن قال: آمنت أن محمدًا رسول الله على كافة الناس، ولكن أعظمَ أمرَ السبت، أو حرَّم لحم الإبل، كما كان في دين موسى عليه السلام، أو قال ما أشبه ذلك من تحليل حرام أو تحريم حلال، فهو كافر؛ لأنه لم يؤمنْ بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]، والسلم: الإسلام؛ يعني: اقبلوا جميعَ ما أمركم [به] محمد عليه السلام، واتركوا ما نهاكم عنه محمد عليه السلام.

و (كان) في قوله عليه السلام: "إلا كان من أصحاب النار" بمعنى: يكون.

فإن قيل: ينبغي أن لا يكون كافرًا من لم يدرك زمن النبي عليه السلام ولم يسمع كلامَهُ بتركِ الإيمانِ به؛ لأن النبي عليه السلام قال: "لا يسمع بي"، وهذا الرجلُ لم يسمع منه.

قلنا: ليس المراد من قوله: "يسمع بي" أن يسمع هو منه، بل المراد: وصول كلامه إليه ولو كان بواسطة كتاب أو شخص، ألا ترى أن من خالف كتاب سلطان أو رسوله يستوجبُ عقوبةَ ذلك السلطان؟

وتعظيمُ الرسول تعظيمُ الله تعالى وعصيانُهُ عصيانُ الله تعالى، فكذلك تعظيمُ ألفاظ رسول الله عليه السلام، وتعظيمُ العلماء الذين هم نوَّابه وورثته = تعظيمُ الله، وعصيانهمُ عصيانُ الله؛ لأنهم يدعون الخلق إلى الله تعالى، كما أن الرسول يدعو الخلق إلى الله تعالى لا إلى نفسه، ألا ترى أنه عليه السلام قال:"ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به"، ولم يقل: ثم يموت ولم يؤمن

ص: 73

بي، وحيث ذكر الإيمان بالرسول فالمراد منه: الإيمان بما جاء به الرسول، ولكنه لا يحصل الإيمان بما جاء به الرسول إلا بتصديق الرسول عليه السلام.

* * *

9 -

وقال: "ثلاثةٌ لهم أجرانِ: رجلٌ مِنْ أهلِ الكتابِ آمنَ بنبيِّهِ وآمنَ بمحمدٍ، والعبدُ المملوكُ إذا أدَّى حقَّ الله وحقَّ مَواليهِ، ورجلٌ كانتْ عندهُ أمَةٌ يَطؤها، فأدَّبها فاحسنَ تأدِيبَها وعلَّمَها فأحسنَ تعليمَها، ثمَّ أعتَقَها فتزوَّجَها، فلهُ أَجران"، رواه أبو موسى الأَشْعَري رضي الله عنه.

قوله: "رجلٌ من أهل الكتاب" أراد به: النصارى لا غيرهم من أهل الكتاب؛ لأنَّ عيسى عليه السلام نسخَ جميع الأديان التي كانت قبله، فكلُّ مَنْ عمل بدين منسوخٍ كيف يكون له أجر؟

وأراد بقوله: "لهم أجران" أحد الأجرين على العمل بدين نبيه والإيمان به، والأجر الثاني على الإيمان بمحمد عليه السلام، والعمل بدينه.

وقد قلنا: قد نُسِخت الأديان التي كانت قبل عيسى عليه السلام بعيسى، فلا يُؤجَر من كان على دين غير عيسى، ثم لم يكنْ جميعُ من كان على دين عيسى يؤجر أجرين، بل من كان منهم متبعًا لعيسى عليه السلام، ولم يقل شيئًا كفر به في دينهم، كقول بعضهم: المسيح ابن الله، وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة، وما أشبه ذلك، فإن هذه الطائفة كفروا بعيسى عليه السلام بقولهم هذه الأشياء، فلم يؤجروا بالعمل بدين عيسى.

وأما من كان على الحقِّ من النصارى، فيحصل له أجرٌ بالإيمان بعيسى والعمل بدينه إلى بعثة نبينا عليه السلام، ثم إذا آمن بنبيَّنا يحصلُ له أجرٌ آخر، ويكون له أجران؛ أجر على اتباع رسوله عليه السلام وأجرٌ على اتباع نبينا محمد عليه السلام.

ص: 74

ثم لا يجوز لأحد التأخيرُ في الإيمان بالنبي إلا بقدر ما يمتحنُ النبيَّ ويعرف صدق كونه نبيًا، فإن أخَّر الإيمان به لأجل طلب الدلائل على نبوته، فهو معذور في هذا التأخير، وله الأجرُ على العمل بدين عيسى عليه السلام في هذا الزمان؛ لأنه لم يكن كافرًا بالتأخير لطلب دلائل النبوة، وإن ثبتت عنده دلائلُ النبوة وأخرَّ الإيمان به عليه السلام، فهو كافر في زمان التأخير، ولم يكن له الأجرُ على العمل بدين عيسى عليه السلام في زمان تأخير الإيمان بنبينا عليه السلام بعد ثبوت دلائل النبوة عنده، فإذا آمنَ فله أجران؛ أحدهما: على العمل بدين عيسى عليه السلام في زمان تأخير الإيمان بنبينا صلى الله عليه وسلم بعد ثبوت دلائل النبوة عنده، والأجر الثاني على الإيمان بنبينا عليه السلام واتباعه.

قوله: "والعبدُ المملوك إذا أدَّى حقَّ الله وحق مواليه"، قيَّد العبدَ بالمملوك احترازًا عن الحرَّ؛ لأن الحرَّ أيضًا عبدٌ، ولكنه عبد الله تعالى، لا عبدٌ مملوك لمخلوق، ولو قال: والعبد، توهَّم أحدٌ أنه يريد به: عبد الله، فيقع حينئذ على الحر والعبد.

والمراد بـ (حق الله): فرائض الله من الصلاةِ والصومِ والتكفيرِ بالصوم إن وجب عليه.

يعني: كل مملوك "أدَّى"؛ أي: قضى ما فرض الله تعالى عليه يحصل له أجرٌ، وإذا قضى خدمة سيده يحصل له أجر آخر.

ولا يجوز للسيد أن يمنعَ العبد من أداء فرائض الله تعالى، ولا يجوز للعبد أيضًا أن يترك فرائضَ الله تعالى لأجل خدمة السيد.

وإذا أدَّى فرائض الله تعالى لا يجوز له أن يتركَ خدمة السيد ويشتغلَ بعبادةٍ غير واجبة إلا أن يأذن له السيد فيها، حتى لو أحرم بالحجِّ يجوز لسيد أن يُخرجَهُ من الإحرام، ويمنعه من إتمام الحج، ولو أحرم بغير إذن السيد وحجَّ وفات عنه خدمته، أثمَ.

ص: 75

وكذلك للسيد أن يمنعه عن صلاة النفل، وصوم النفل، وعن تعلم غير التشهد والفاتحة وفرائض الصلاة والصوم؛ لأن هذه الأشياء واجبة عليه دون غيرها.

قوله: "رجل كانت عنده أمة يطأها"؛ أي: يجامعها.

"أدَّبها"؛ أي: علمها الأدب، و (الأدب): حسن الأفعال في القيام والقعود، وحسن الأخلاق، واجتماع الخصال الحميدة في الشخص، وأدَّبَ أيضًا: إذا منع أحدًا عن فعل القبيح، وكلا المعنيين حسنٌ في قوله: و"أدَّبها".

قوله: "فأحسن تأديبها"؛ أي: أدبها من غير عنف وضرب، بل باللطف والتأني.

"وعلمها"؛ أي: علمها من أحكام الشريعة ما يجب عليها، وإن علمها باللطف من أحكام الشريعة أكثر مما يجب عليها فهو خيرٌ له.

وقوله: "فأحسن تعليمها"؛ أي: علمها بالرفق وحسن الخلق.

فإن قيل: هنا إشكالٌ من وجهين:

أحدهما: تقييده بقوله: كانت عنده أمة يطأها؛ يعني لو كان لم يطأها، أو عبد = لم يكن حكمها كذلك؟

والوجه الثاني: أنه ينبغي أن يقول: له أربعة أجور؛ أحدها بتأديبها، والثاني بتعليمها، والثالث بإعتاقها، والرابع بتزويجها، فلمَ قال: فله أجران، ولم يقل: أربعة أجور؟

قلنا: المراد بحصول الأجرين له ها هنا بالإعتاق والتزويج؛ لأن التأديب والتعليم موجبان الأجرَ في الأجنبي والأولاد وجميع الناس، فلم يكن مختصًا بالإماء، فإذا كان حصول الأجرين له يكون بالإعتاق والتزويج، فلم يكن العبد داخلًا في هذا الحديث.

ص: 76

وأما تقييده بقوله: "أمة يطؤها" المراد بهذا اللفظ: أمة يريد وطأها، ويحل له وطؤها، سواء كانت الأمة موطؤة له قبل الإعتاق أو لم تكن موطوة له.

وإنما قال: "فأدبها، فأحسن تأديبها، وعلمها، فأحسن تعليمها"؛ لأن هذا أفضلُ وأكملُ للأجر، وتزوجُ المرأة التي وجدت التأديب والتعليم أكثرُ بركة وأقرب إلى أن تُعينَ زوجَها على دينه، فلأجل هذا قيَّد بالتأديب والتعليم.

روى هذا الحديث "أبو موسى" عبد الله بن قيس بن سليم بن حَضَار "الأشعري".

* * *

10 -

وقال: "أُمِرتُ أنْ أُقاتلَ النَّاسَ حتَّى يَشهدوا أنْ لا إله إلَاّ الله وأنَّ مُحمَّدًا رسولُ الله، ويُقيموا الصَّلاة، ويُؤْتوا الزَّكاة، فإذا فَعَلوا ذلكَ عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهُم وأموالَهُم إلا بحقَّ الإسلام، وحسابُهم على الله"، رواه ابن عمر رضي الله عنهما.

قوله: "أمرتُ": هذا فعلٌ ماضٍ مجهول، والتاء مفعول ما لم يُسمَّ فاعله، والفاعل غير مذكور، وهو الله تعالى؛ أي: أمرني الله تعالى.

"أن أقاتل الناس"؛ أي: أحارب الناس وأقتلهم.

"فإذا فعلوا ذلك" إشارةٌ إلى مذكر غائب مقدر، وهو: ما أمرهم به، وما أقاتلهم لأجله، وما أشبه ذلك مما يمكن تقديره؛ يعني: فإذا فعلوا ما آمرهم به وما أقاتلهم لأجله من الإقرار بكلمتي الشهادة وأداء الصلاة وإيتاء الزكاة "عصموا"؛ أي: حفظوا، من (عصَم - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - عِصمة): إذا حفظه.

"إلا بحق الإسلام"؛ يعني: إذا فعلوا هذه الثلاثة لا أقتلهم ولا آخذ أموالهم إلا بحق الإسلام، مثل أن يقتل مسلمٌ مسلمًا عمدًا عدوانًا فأقتله بالقصاص، أو

ص: 77

يقطع الطريق ويقتل أحدًا فأقتله، أو زنى وهو محصن فأرجمه، وما أشبه ذلك من الأحكام الشرعية.

"وحسابهم على الله تعالى"؛ يعني: أنا أحفظ وأراعي أفعالَهم الظاهرة، لا أترك أحدًا أن يترك شيئًا من فرائض الله تعالى، ولا أترك أحدًا أن يظلمَ أحدًا، وأما ما في نياتهم وعقائدهم [التي] ليس لي اطلاع فهو إلى الله، وهذا مثلُ قوله عليه السلام:"أنا أقضي بالظاهر، والله يتولى السرائر"؛ أي: هو الذي يعلم السرَّ وأخفى.

فإن قيل: لمَّا لم يذكر الصومَ والحجَ ها هنا، فينبغي أن لا يقاتل أحدًا ممن لا يصوم ولا يحج!

قلنا: قيل: لهذا جوابان:

أحدهما: أن النبي عليه السلام إنما خصَّ هذه الأركان الثلاثة لعظم شأنهما؛ لأن الشهادة أفضلُ شعب الإيمان وأولها، والصلاة واجبة في كل يوم خمس مرات، وهي مجمع جميع العبادات؛ لأن فيها تلاوة القرآن والقيام والركوع والسجود والتسبيح والتكبير وترك الأكل والشرب الذي هو نوع من الصوم وما أشبه ذلك من الخضوع والتذلل، وأما الزكاة فهي حقوق الفقراء وسبب معاشهم وقيامهم بعبادة الله تعالى والقوة على الجهاد، وأيضاً الزكاةُ أشدُّ شيءٍ على النفس؛ لأن النفس؛ مجبولةٌ على حب المال، فأوجب الله تعالى الزكاةَ؛ ليخالف الرجل نفسه، ويختار أمر الله تعالى على ما أحبته نفسه.

بخلاف الصوم والحج؛ فإن الحج مؤخَّر إلى آخر عمر الرجل، فإذا كان للرجل التأخير في أداء الحج إلى آخر عمره، فكيف يقاتله أحد على ترك أداء الحج؟

وأما الصوم فمُسقطاتُهُ كثيرة، وهي: المرض والكبر الذي يضعف به عن

ص: 78

الصوم والسفر وإن كان يجب القضاء، وهذه الأشياء ليست بمسقطات الصلاة والزكاة، فإذا كان كذلك، لم يكن الصوم مثل الصلاة والزكاة في التأكيد.

ويجوزُ أن يُخصَّصَ ما هو الأكملُ بالذكر (1)، وتخصيصُ هذه الأشياء بالذكر لا يدلُّ على نفي وجوب غيرها، بل يعلم وجوب غير هذه من حديث آخر، وإذا ثبت وجوبُ غير هذه الأركان بحديث آخر، فتكون كهذه الأركان في توجُّهِ المطالبة إلى تاركه.

* * *

11 -

وقال: "مَنْ صَلَّى صلاتَنا، واستقبلَ قِبلتَنا، وأكلَ ذَبيحتَنا، فذلكَ المسلمُ الذي لهُ ذِمَّةُ الله وذِمَّةُ رسولِهِ، فلا تُخْفِرُوا الله في ذِمَّتهِ"، رواه أنَسٌ رضي الله عنه.

قوله: "من صلى صلاتنا"؛ أي: من صلَّى صلاةً، مثل صلاتنا، وهذه الصلاة لا توجد إلا من مسلم؛ لأنَّ أهل الكتاب يصلون، ولكن لا يصلون مثل صلاتنا، وغير أهل الكتاب لا يصلون.

"واستقبل قبلتنا"؛ أي: توجَّه إلى الكعبة في الصلاة، وهذا بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، واستقبالُ الكعبة أيضًا علامةُ الإسلام؛ لأنه لم يستقبل الكعبة أهل الكتاب.

"وأكل ذبيحتنا"، (الذبيحة): فعيلة بمعنى: المفعول؛ أي: المذبوح، والتاء ليست للتأنيث، بل هي للجنس، كالتاء في (شاة).

يعني: من أكل لحم ما ذبحه المسلمون من الشاة والبقر والإبل وغيرها مما يحلُّ أكلُهُ، فهو مسلم.

والمراد بهذا: أهل الكتاب؛ لأنهم هم الذين لا يأكلون ذبيحتنا، ويعتقدون

(1) لعل هذا هو الجواب الثاني.

ص: 79

تحريمَ ما ذبحه المسلمون، فإذا أكلوا ذبيحة المسلمين، واعتقدوا حلَّه، فهو دليلُ إسلامهم.

وأما غير أهل الكتاب لم يكن أكلُهم ذبيحةَ المسلمين دليلَ إسلامهم؛ لأنهم لم يعتقدوا تحريمَ ذبيحة المسلمين، ولم يمتنعوا من أكل ذبيحة المسلمين، فلم يكونوا (1) تاركين لدينهم بأكلهم ذبيحة المسلمين، بخلاف أهل الكتاب.

"فذلك المسلم الذي له ذمةُ الله تعالى وذمةُ رسوله عليه السلام"؛ يعني: من فعل هذه الأشياء المذكورة فهو مسلم، وحصل له عهدُ الله ورسوله، وأمان الله تعالى وأمان رسوله عليه السلام.

(الذمة): الأمان والعهد.

"فلا تخفروا الله في ذمته"، خفر - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - خَفْرًا وخِفارة: إذا وفَّى بالعهد، وأعطى أحدًا الأمان ومنعه عن القتل والظلم، و (الخُفرة) بضم الخاء: العهد، و (أخفر): إذا نقض العهد، (فلا تخفروا الله تعالى)؛ أي: فلا تنقضوا عهد الله وأمانه، فحذف المضاف ها هنا وهو العهد والأمان، ونصب المضاف إليه - وهو الله تعالى - مكان المضاف، والضمير في (ذمته) راجعٌ إلى المسلم الذي له ذمة الله تعالى وذمة رسوله.

يعني: لا تقتلوا، ولا تؤذوا من فعل هذه الخصال؛ فإنكم لو قتلتموه لنقضتم عهد الله وحاربتم الله بسبب قتله.

فإن قيل: لم لم يذكر من الأركان غير الصلاة في هذا الحديث؟

قلنا: لأنه معلومٌ أن الكافر لا يصلي صلاتنا، ولا يستقبل قبلتنا، فمن

(1) في "ق" و"ش" و"ت": "يكن".

ص: 80

صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فقد اعترفَ بنبوة محمد عليه السلام وقبلَ قولَهُ، فإذا صدَّقه على الرسالة، وقبل قوله في الصلاة، واستقبلَ القبلة، فالظاهرُ والغالبُ أنه لا ينكرُ شيئًا مما أمره النبي عليه السلام من أحكام الدين، فإذا كان كذلك، فلا حاجةَ إلى ذكر جميع الأركان؛ لأن ذكر ما في هذا الحديث يدلُّ على الباقي.

* * *

12 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى أعرابيٌّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: دُلَّنِي على عَملٍ إذا عملتُهُ دخلتُ الجنّةَ، قال:"تعبدُ الله ولا تشركُ به شيئًا، وتُقيمُ الصَّلاةَ المكتوبةَ، وتُؤدِّي الزكاةَ المفروضةَ، وتصومُ رمضانَ"، فقال: والذي نفسي بيدِهِ، لا أزيدُ على هذا، ولا أنقُصُ منه، فلما ولَّى قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سرَّهُ أنْ ينظرَ إلى رجلٍ مِنْ أهلِ الجنَّةِ فلينظُرْ إلى هذا".

قوله: "أتى أعرابي"، ففي بعض النسخ:"أتى أعرابي النبي عليه السلام" وفي بعضها: "أتى أعرابي إلى النبي عليه السلام"، وكلاهما بمعنى واحد. "دُلَّ" بضم الدال وفتح اللام: أمرُ مخاطب؛ من دَلَّ يدُل دلالة: إذا أرشد أحدًا إلى صراط مستقيم أو إلى أمر.

"قال: تعبد الله"؛ أي: قال رسول الله عليه السلام: العمل الذي إذا عملته دخلت الجنة أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، ولا تقول بوجود إله سوى الله، بل تقول وتعتقد أن لا إله إلا الله، وأن تخلص العبادة له، وتحترزَ عن الرياء؛ فإن الرياءَ شركٌ خفي.

فإن قيل: لم لم يكن في الحديث ذكر: محمد رسول الله، ولا يصحُّ الإيمان إلا بالإقرار برسالة محمد عليه السلام؟

ص: 81

قلنا: لأن الرجل كان مسلمًا مقرًا برسالته؛ لأنه لو لم يكن مسلمًا، لم يسأل النبي شيئًا، ولم يصدقه فيما قال، فلما قبل ما قال له النبيُّ عليه السلام في هذا الحديث عُلِمَ أنه كان مسلمًا.

فإن قيل: لو كان مسلمًا، فلم قال له النبي عليه السلام:"لا تشرك بالله شيئًا"؟

قلنا: إنما قال له النبي عليه السلام هذا إما ليحترزَ عن الرياء في العبادة، أو ليحترز عما قالت اليهود والنصارى من قولهم: عزيرٌ ابن الله، والمسيح ابن الله، وما أشبه ذلك.

"وتقيم الصلاة المكتوبة"؛ أي: المفروضة؛ يعني: وتؤدي الصلوات الخمس التي فرضها الله تعالى على عباده.

"وتؤدي الزكاة المفروضة"، وقيدُ (المفروضة) ها هنا احترازٌ عن صدقة التطوع؛ لأن الزكاة تُطلَق على إعطاء المال على سبيل التبرع.

"ولَّى"؛ أي: أدبر وذهب.

"سره"؛ أي: فرَّحه؛ أي: من أراد "أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" الرجل، فإنه من أهل الجنة.

اعلم أن أصحاب الحديث قالوا: هذا الحديث والحديث الذي يرويه طلحةُ بن عبيد الله واحد، ولكن عبارات الرواة فيه مختلفة، فنذكر هذا الحديث برواية طلحة بن عبيد الله عقيب هذا الحديث، وإن كان في بعضِ نسخ "المصابيح" هو مكتوبٌ بعد حديث سفيان الثقفي، وإنما نذكر حديث طلحة بن عبيد الله عقيبَ هذا؛ لأنا قد قلنا: هما حديث واحد، فنذكر شرح ألفاظ ما في رواية طلحة، ثم نذكر ما في الروايتين من السؤال والجواب.

وحديث طلحة:

* * *

ص: 82

14 -

عن طلْحة بن عُبيد الله رضي الله عنه قال: جاءَ رجلٌ من أهلِ نجدٍ ثائرَ الرأسِ، نسمعُ دَويَّ صوتِه ولا نفقَهُ ما يقولُ، حتَّى دنا، فإذا هو يسألُ عنِ الإِسلامِ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"خمسُ صلَواتٍ في اليومِ والليلةِ"، فقال: هلْ عليَّ غيرهُنَّ؟ فقال: "لا، إلَّا أنْ تطوَّعَ"، قال:"وصيامُ شهرِ رمضانَ"، قال: هلْ عليَّ غيرُه؟ قال: "لا، إلَاّ أنْ تَطوَّعِ"، قال: وذكرَ لهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الزَّكاةَ، فقالَ: هَلْ عليَّ غيرُها؟ فقال: "لا إلاّ أنْ تَطَوَّعَ". قال: فأدبرَ الرجلُ وهو يقولُ: والله لا أزيدُ على هذا ولا أنقُصُ منهُ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أفلَحَ الرَّجلُ إنْ صدقَ".

قوله: "جاء رجل من أهل نجد ثائرَ الرأس"؛ أي: ثائر شعر الرأس، وحذف المضاف؛ أي: متفرق شعر الرأس، من ثار يثور ثورًا وثورانًا: إذا ارتفع الغبار وتفرق عن مكانه، و (ثائر الرأس) نصب على الحال.

"الدوي": الصوت الذي لا يُفهَم منه شيءٌ كصوتِ النَّحْل.

(فقه) - بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر - فقهًا: إذا فهم، وأدرك شيئًا.

دنا يدنو: إذا قرب.

"فإذا هو"(إذا) للمفاجأة؛ يعني: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، نسمعُ من البعدِ صوته، ولا نفهم ما يقول، حتى قَرُبَ من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قرب سمعنا وفهمنا.

قوله: "وهو يسأل عن" أركان "الإسلام" كم هي؟ "فقال رسول الله: الصلوات الخمس، فقال: هل عليَّ غيرهن؟ "؛ يعني: أحد أركان الإسلام الصلوات الخمس، فقال الرجل: هل عليَّ صلاة مفروضة غير الصلوات الخمس؟

"فقال رسول الله عليه السلام: لا، إلا أن تطوع"؛ يعني: ليس عليك غير الصلوات الخمس إلا أن تصلي تطوعًا.

ص: 83

و (التطوع): ما يفعله الرجل من الصلاة والصوم والصدقة وغيرها عن طوعه ورغبته، من غير أن يُوجِبَ الشرعُ ذلك الفعل.

وقوله: "إلا أن تطوع" كان أصله: تتطوع، يجوز حذف إحدى التاءين، ويجوز إدغام التاء الثانية في الطاء، فمن حذَفَ إحدى التاءين يقول: تَطَوَّع بتخفيف الطاء، ومن أدغمها يقول: تَطَّوَّع بتشديد الطاء.

"قال: وصيام شهر رمضان"؛ يعني: قال رسول الله عليه السلام: الركن الثاني: صيام شهر رمضان، قال: هل عليَّ صوم فرض سوى شهر رمضان؟ قال: لا إلا أن تطوع. مضى شرح هذا.

"قال: وذكر له رسول الله عليه السلام الزكاةَ"؛ أي: قال الراوي: ذكر رسول الله عليه السلام للرجل: أن الركن الثالث الزكاة.

قال: "فأدبر الرجل"؛ أي: قال الراوي: ذهب الرجل، "وهو" يحلف و"يقول: والله لا أزيدُ على هذا ولا أنقصُ منه".

قيل: معناه: لا أزيد على هذا السؤال، بل يكفيني هذا السؤال، ولم يبقَ فيما سألت إشكالٌ وشكٌّ، حتى احتاج إلى زيادة سؤال. "ولا أنقص منه"؛ أي: ولا أترك شيئًا ممَّا أمرني به، بل آتي بجميعه.

وقيل: هذا الرجل اسمه ضِمام بن ثعلبة، أرسله قومه بنو سعد بن بكر إلى رسول الله عليه السلام؛ ليسأله عن أركان الإسلام، ويرجع إليهم، ويخبرهم بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا معناه: أُبَلِّغُ قومي ما سمعتُ بحيث لا أزيدُ على ما قال رسول الله عليه السلام، ولا أنقص منه.

قيل: معناه: والله لا أزيد على أداء الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وأداء الزكاة وهذا التأويلُ مستقبحٌ؛ لأن النبي عليه السلام كان يأمر الناس بأداء السنن والنوافل من الصلاة والصيام والصدقة، ويحرَّضهم عليها، فكيف

ص: 84

يرضى ويستحسن قول رجل يقول: والله لا أزيد على هذا، ويمدحه عليه بقوله في رواية أبي هريرة:"من سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظرْ إلى هذا"، وفي هذا الرواية بقوله:"أفلح الرجل إن صدق"؟!

و (الإفلاح): وجدان الفلاح، و (الفلاح): وجدان المراد في الدنيا والآخرة، وقيل: الفلاح أربعة أشياء: بقاءٌ بلا فناء، وغنًى بلا فقر، وعزٌّ بلا ذل، وعلمٌ بلا جهل.

فإن قيل: لم لم يذكر الشهادة والحج؟

قلنا: أما الشهادة فلأن الرجل كان مسلمًا، فلم تكن به حاجة إلى عرض الشهادة عليه.

وأما الحج فهو مذكور في رواية ابن عباس؛ لأن هذا الحديث يرويه ابن عباس، كما يرويه أبو هريرة وطلحة بن عبيد الله، وبينهم اختلاف في ألفاظ، ولم يسمع أبو هريرة وطلحة لفظ الحج، أو سمعاه ولكنهما نسياه؛ لأن سؤال ضمام هذا السؤال في السنة الخامسة من الهجرة في قول، وفي السابعة في قول، وفي التاسعة في قول، ووجوب الحج كان في السنة الخامسة، فإذا كان كذلك، فترجيحُ رواية ابن عباس أولى؛ لأن كون الحج مذكورًا في حديثه زيادةُ علم، ولزيادةِ الراوي بعلمِ لفظٍ ترجيح وقوةٌ عند أصحاب الحديث.

فإن قيل: لمَ قال عليه السلام في رواية طلحة: "أفلح الرجل إن صدق"؛ حَكَمَ للرجل بالفلاح بلفظ: إن صدق، وهو للشكِّ في صدقه، وحكم بكونه من أهل الجنة مطلقًا بغير شكًّ في رواية أبي هريرة؟!

قلنا: يحتمل أنَّ قوله عليه السلام: "أفلح الرجل إن صدق" كان قبل أن يخبره الله تعالى بحال الرجل، ثم أخبره الله تعالى صدقَ الرجل وإخلاصَ نيته وكونَهُ من أهل الجنة، فقال رسول الله عليه السلام: "من سرَّه أن ينظر إلى رجل

ص: 85

من أهل الجنة، فلينظرْ إلى هذا".

ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام: "أفلح الرجل إن صدق" بحضورِ الرجل؛ كي لا يغترَّ ويتَّكِلّ على كونه من أهل الجنة، فلما ذهبَ قال عليه السلام:"من سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظرْ إلى هذا".

وجَدُّ "طلحةَ": عثمانُ بن عمرو بن كعب القرشي.

* * *

13 -

عن سُفيان بن عبد الله الثَّقَفِي قال: قلتُ: يا رسولَ الله! قُلْ لي في الإِسلامِ قولًا لا أَسألُ عنهُ أحدًا غيركَ، قال:"قُلْ: آمنتُ بالله، ثُمَّ اسْتَقِمْ".

قوله: "قل: آمنت بالله ثم استقم"، (استقم): أمر مخاطب من استقام يستقيم استقامة: إذا قام مستويًا وداوم وثبت على الحق.

يعني: قلت: يا رسول الله! أخبرني عمَّا هو كمالُ الإسلام بحيث تكون أصول الإسلام وفروعه داخلةٌ فيه بحيث لا أحتاجُ إلى أن أسأل أحدًا غيرَك عنه، فقال له رسول الله عليه السلام: قل: آمنت بوحدانية الله وقدمه، وجميع أمره ونهيه ووعده، ثم اثبتْ على جميع هذه الأشياء بحيث يكون ظاهرك وباطنك فيها موافقين.

وقوله عليه السلام: "ثم استقم" لفظٌ جامعٌ للإتيانِ بجميع الأوامر، والانتهاءِ عن جميع المناهي؛ لأنه لو ترك أمرًا لم يكن مستقيمًا على الطريق المستقيم، بل عدل عنه حتى يرجع إليه، ولو فعل منهيًا، فقد عَدَلَ عن الطريق المستقيم أيضًا حتى يتوبَ، ولهذا قال رسول الله عليه السلام:"شيبتني سورة هود" يعني: قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} ؛ لأن الاستقامة كما يحبُّ الله

ص: 86

ويرضى شديدةٌ، وقال رسول الله عليه السلام:"استقيموا ولن تحصوا"؛ أي: ولن تطيقوا أن تستقيموا بالكلية، ولكن جاهدوا واجتهدوا في طاعة الله تعالى بقدر ما تطيقون.

"وجَدُّ سفيان بن عبد الله": أبو ربيعة بن الحارث الثقفي.

* * *

15 -

وعن ابن عبَّاس أنَّه قال: إنَّ وفدَ عبدِ القَيْسِ لمَّا أَتَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ القومُ - أو: مَنْ الوفدُ -؟ "، قالوا: ربيعةُ، قال:"مرحبًا بالقومِ - أو: بالوفدِ - غيرَ خَزايا ولا نَدامَى"، قالوا: يا رسولَ الله! إنّا لا نستطيعُ أنْ نأتيكَ إلَاّ في الشهر الحرام، وبيننا وبينكَ هذا الحيُّ من كُفارِ مُضَرَ، فَمُرنا بأمرٍ فَصْلٍ نُخبرُ بهِ مَنْ وراءنَا، وندخُلُ بهِ الجنَّةَ، وسأَلوهُ عنِ الأشربةِ، فأمرهُم بأربعٍ، ونهاهُم عن أربع: أمرهُمْ بالإيمانِ بِالله وحدَه، فقال:"أتدرونَ ما الإِيمانُ بِالله وحده؟ "، قالوا: الله ورسولهُ أعلمُ، قال:"شهادةُ أنْ لا إله إلَاّ الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ، وصِيامُ رمَضانَ، وأنْ تُعطُوا من المَغْنَم الخُمُس"، ونهاهُمْ عن أربَعٍ: عنِ الحَنْتَمِ، والدُّبَّاءِ، والنَّقيرِ، والمُزفَّت، وقال:"احفظوهنَّ، وأخبِروا بهنَّ مَنْ وَراءَكم".

قوله: "إن وفد عبد القيس"، (وفد) - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - وفادةً: إذا أتى إلى الأمير من عند قوم برسالة، واسم الفاعل: وافد، والجمع: وفد، وأوفد زيدٌ عمرًا: إذا أرسله برسالة إلى أحد.

و (عبد القيس): اسم قبيلة معروفة عظيمة، وهم يتفرقون قبائل كثيرة، إحدى قبائلهم ربيعة.

ومعنى وفد عبد القيس: الجماعة الذين أرسلهم قومهم إلى النبيَّ عليه

ص: 87

السلام؛ ليتعلموا منه الدين، ويرجعوا إليهم، ويعلموهم ما تعلموا من رسول الله عليه السلام.

"قال: من القوم؟ أو: من الوفد؟ " يعني: لمَّا أُخبِر رسول الله عليه السلام بقدوم وفد عبد القيس قال: "من القوم؟ " يعني: قبائل عبد القيس كثيرة، هؤلاء الذين جاءوني من أي قبائل عبد القيس؟ وأخبره أصحابه: أنهم من قبيلة ربيعة، و (أو) في قوله:"أو من الوفد" للشك؛ يعني: شك الراوي أن رسول الله عليه السلام قال: "من القوم؟ " أو قال: "من الوفد؟ ".

وهذا دليلٌ على أنه لا يجوزُ تغييرُ ألفاظ رسول الله عليه السلام، بل يجب مراعاة ألفاظه؛ لأن في ألفاظه بركةً كثيرةً، وتحت كل لفظة من ألفاظه فائدةٌ يفهمهما أهل الحذاقة بالعربية، وأهل الفطنة والمعاني ولو غُيَّرَ لفظ من ألفاظه في حديث تزول منه بركةٌ وفائدةٌ كثيرةٌ من المعاني الداخلة تحت تلك اللفظة.

وقال قوم: يجوز رواية الحديث بالمعنى؛ يعني: ينبغي أن يروي الراوي معانيَ حديث النبي عليه السلام بأيَّ لفظ شاء الراوي، وهذا مُستنكَرٌ عند أصحاب الحديث.

"مرحبًا" اسم موضع من رَحُبَ - بضم العين في الماضي والغابر - رحبًا ورحابة: إذا اتسعَ المكان، وهو منصوب بإضمار فعل، تقول لمن نزل بك من الأضياف: مرحبًا؛ أي: جئت موضعًا واسعًا، لا ضيقَ عليك في بيتي، ولا حزن، اجلس حيث شئت، وتقول لجماعة أيضًا: مرحبًا؛ أي: مكانًا واسعًا، ولا تغيَّرُ هذا اللفظ، وتقول: مرحبك الله ومرحبًا بك الله؛ أي: أتى بك مرحبًا؛ أي: مكانًا واسعًا، وقال لك الله: مرحبًا.

والباء في "مرحبًا بالقوم" وما أشبه ذلك يحتمل أن تكون للتعدية؛ أي: أتى الله بالقوم مرحبًا، ويحتمل أن تكون زائدة؛ أي: أتى القوم مرحبًا.

ص: 88

وهذا القول لتأنيس الضعيف وتأليف قلبه وإزالة الحزن والاستحياء عن نفسه.

"غير خَزَايا ولا نَدامى"، (الخزايا): جمع الخَزيان بفتح الخاء، وهو نعتٌ؛ من خَزِي يخزَى - بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر - خزاية؛ أي: استخجل واستحى.

و (الندامى): يحتمل أن تكون جمع: ندمان، وهو بمعنى: نادم، فتكون حينئذ جمعًا مستقيمًا على القياس كـ (خزايا) جمع الخزيان، ويحتمل أن يكون جمع: نادم، وعلى هذا يكون على خلاف قياس المجموع؛ لأن جمعَ (نادم) لا يجيء على (ندامى)، ولكن أُجرِي (ندامى) مجرى خزايا اتباعًا وازدواجًا له، وقياسه أن يكون (نادمين).

والمراد من قوله عليه السلام: "غير خزايا ولا ندامى": أن هذه القبيلة دخلوا في الإسلام عن طوعهم ورغبتهم من غير أن يلحقهم من رسول الله عليه السلام حربٌ وسبيٌ؛ يعني: لم يحاربونا، ولم يقولوا فينا سوء، ولم يحصل بيننا عداوة وحقد، حتى يكونوا مستخجلين مستحيين.

ويحتمل أن يكون معناه: ما كنتم بالإتيان إلينا خاسرين خائبين، كبعض الأمراء إذا أتاهم وفدٌ لا يعطونهم حقهم، ولا يقضون حوائجهم، فيرجعون خاسرين خائبين مستخجلين مستحيين إلى قومهم، ونحن لا نفعل كذا، بل نقضي حوائجهم، وينقلبون من عندنا بالأجر والعلم.

و (غير خزايا): نصب على الحال.

قوله: "من كفار مضر"، (مضر): اسم قبيلة عظيمة، وكانوا أعداء للقبيلة التي هؤلاء الوفد منهم.

يعني: قال الوفد: يا رسول الله! لا نستطيع أن نأتيك في وقت من الأوقات غير الأشهر الحرم؛ لأن بيننا وبينك في طريقنا قبيلة مضر نازلون، وهم أعداءُنا،

ص: 89

وهم كفار يقتلوننا لو رأونا في الطريق في غير الأشهر الحرم، فإذا لم نقدر أن نأتيك في كلِّ وقت لنسألك ما نحتاج إليه من العلم، فإذا أتيناك فعلِّمنا علمًا شافيًا كافيًا.

وإنما قالوا: "في الشهر الحرام"؛ لأن العرب كلهم يعظَّمون حرمة الأشهر الحرم، لا يقاتلون فيها، ولو رأى أحدٌ عدوَّه في الأشهر الحرم لا يؤذيه.

وكذلك كان القتالُ مع الكفار منهيًا في الأشهر الحرم في أول الإسلام، ثم صار منسوخًا بقوله:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191]، ووجه الاستدلال به: أنه تعالى لمَّا أمر بالقتل حيث وجد المسلمون الكفار قد يكون وجدانهم الكفار في الأشهر الحرم. وفي البلد الحرام.

ومعنى (ثقف): وجد.

قوله: "فمرنا" هذا أمر مخاطب من أمر يأمر "أمرًا فصل" صفة الأمر، وهو مصدر بمعنى الفاعل، من فصل يفصل فصلًا: إذا ميَّز وبيَّن؛ أي: أمرٌ فاصل مبيِّن بين الحق والباطل، والحلال والحرام، ومزيل للإشكالِ عن قلوبنا.

قوله: "نخبر به من وراءنا"؛ أي: نعلم قبائلنا وعشائرنا ما حفظناه منك من المسائل.

(وراءنا)؛ أي: خلفنا؛ أي: من كان تركناهم في أوطاننا.

ويجوز في (نخبر) الجزمُ على أنه جواب الأمر، وهو قوله:(فمرنا)، ويجوز فيه الرفع على أنه صفة (الأمر).

قوله: "وندخل، معطوف على (نخبر)، ويجوز فيه الجزم والرفع أيضًا، والباء في "به الجنة" باء السببية؛ أي: ندخل بسببه الجنة؛ أي: بسبب قبول أمرك وتعظيمه والعمل به ندخل الجنة.

فاعلم أنه لا يدخل الجنة أحد بعمله، بل بفضل الله تعالى؛ لأنه لا يجب

ص: 90

على الله تعالى شيءٌ، بل ما يعطي أحدًا يعطيه بفضله ولطفه تعالى، ولكنَّ العملَ سببٌ.

وهذا مثل حصول الرزق بسبب الكسب؛ فإن الله تعالى يعطي الرزق، ولكن العبد يسعى في طلبه بحرفة وغيرها.

وكذلك الشبع يحصل بسبب الطعام، ولكن المشبع في الحقيقة هو الله تعالى، ألا ترى أن الرجل يأكل قليلًا من الطعام ويشبع، وقد يأكل ذلك الرجل في وقت آخر قدرًا كثيرًا ولا يشبع؟ فلو كان المشبع هو الطعام لما اختلف قدر الطعام في الإشباع، وقد يمر على الإنسان أيام ولا يأكل شيئًا فيها ولا يجوع، وقد يأكل في يوم واحد مرارًا ثم يجوع.

وكذلك جميعُ الأشياء، لا مؤثر في الإحراق والإشباع والإعطاش والإمراض والقتل وغير ذلك إلا الله تعالى، ولكن هذه الأشياء أسباب وعلامات لحصول الأشياء.

قوله: "وسألوه عن الأشربة"، (الأشربة): جمع الشراب، وهو اسمٌ لكلِّ ما يُشرب؛ حذف ها هنا إما المضافُ إلى الأشربة وإما صفة الأشربة؛ أي: عن الأشربة التي تكون في الأنواع المختلفة من الأواني.

الفاء في "فأمرهم بأربع": للتعقيب؛ أي: بعد قولهم: "فمُرْنا بأمرٍ" أمرهم بأربع خصالٍ وبعد سؤالهم عن الظروف التي يشرب منها.

"نهاهم عن" ظروفِ "أربعة" وهي "الحَنْتَم" إلى آخر الحديث، ويأتي شرحه.

قوله: "أمرهم بالإيمان": إلى آخره ففي هذه إشكالٌ؛ لأنه لو قرئ و"إقام الصلاة" وما بعدها بالجر على أنها معطوفةٌ على قوله: (أمرهم بالإيمان) يكون المجموعُ خمسةَ، وهو الإيمان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان،

ص: 91

وأن تعطوا من المغنم الخُمس، وإن قرئ و"إقام الصلاة" وما بعدها بالرفع على أنها معطوفةٌ على "شهادة" يكون الجميع من الإيمان، فيكون الجميع واحدًا، فأين الثلاثة الباقية من قوله:"فأمرهم بأربع"؟.

قلنا: فسَّر عليه السلام الإيمان بخمسة أشياءَ، وهي الشهادةُ إلى قوله:"وأن تعطوا من المغنم الخمس" ولكن ما أمرهم به من هذه الخمسة أربعةٌ وهي: إقامُ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وإعطاء الخُمس من المغنم.

وأما الشهادة فليست مما يأمرهم بها؛ لأنهم كانوا مسلمين مُقرِّين بكلمتي الشهادة، فقول الراوي:(أمرهم بأربع) يعني الأربعةَ التي هي: إقامُ الصلاة وما بعدها، وإنما قال:(أمرهم بأربع) وعدَّ خمسًا لأنه عَلِمَ أنه لا يَخْفَى على العلماء أن الشهادة ليست ممَّا يأمرهم النبي بها؛ لأنه قد ذكر في أول الحديث ما يدل على إسلامهم، وهو قولهُ عليه السلام:(مرحبًا) ولم يقل النبي عليه السلام هذا اللفظ إلا للمسلمين، وقوله:(غير خزايا ولا ندامى): يدل على إسلامهم لأن الكفار يكونون خزايا وندامى، والمسلمون هم الذين غيرُ خزايا ولا ندامى محقَّقٌ في حقهم.

وقولهم: (يا رسول الله) أيضًا دليلٌ على إسلامهم؛ لأن الكافر لا يقول لمحمدٍ عليه السلام: يا رسول الله، فإذا تقَّدم هذه الأدلة على إسلامهم، لم يَخْفَ أن النبي عليه السلام لم يأمرهم بالشهادة بل بغيرها ممَّا يذكر بعدها، إلا أن الراوي قال:(أمرهم بأربع) ثم قال: (أمرهم بالإيمان بالله تعالى وحده) وذكر الخَمس في تفسير الإيمان لزوال الخفاء أنَّ الشهادة ليست مما أمرهم به، فلا يجوز في "إقام الصلاة" وما بعدها إلا الرفعُ؛ لأنها معطوفةٌ على قوله عليه السلام:"شهادة أن لا إله إلا الله" هكذا ذكر الخطَّابي.

وقوله: "بالله وحده": (وحده) نصبٌ على الحال، وتقديره: الله

ص: 92

واحدًا لا شريك له.

"المغنم": الغنيمة، وهو ما يؤخذ من الكفار قهرًا.

قوله: "ونهاهم عن أربع": أي: عن ظروفٍ وأوانٍ أربع.

"الحَنْتَم" بالحاء غير المعجمة وفتح التاء: الجَرَّة الخضراء.

"الدُّبَّاء" بضم الدال وتشديد الباء وبالمد: القرع، واليقطين شجرتُهُ

"النقير": فَعيلٌ بمعنى المفعول، من نَقر - بفتح العين في الماضي وضمَّها في الغابر - نقرًا: إذا حفر حفرةً في الخشب والشجر، والنقير: أصلُ الشجر إذا نُقر حتى يصير مثل دنٍّ وخابيةٍ يجعل فيها الماء.

و"المزفَّت": ما طلُي بالزفت من سِقاءٍ أو زنبيل فيُجعل فيه الماء ويُشرب، والزِّفْت - بكسر الزاي وتشديد الفاء -: القير.

يعني سألوه عن ظروف الأشربة، وعن أن يخبرهم أنَّ أشربةَ أيَّ الأواني حلالٌ وأيِّها حرامٌ، وإنما سألوا عن الأشربة لأنهم كانوا يطرحون التمر والزبيب وغيرَ ذلك من الحلاوة في ظروف الماء ليصير ماؤهم حلوًا، وقد يصير مياه بعض الأواني مُسْكِرًا، وقد يصير بعضها قريبًا إلى المسكر، فما كان مسكرًا فهو حرام، وما قَرُب إلى الإسكار فهو مكروهٌ، وما لم يكن بهاتين الصفتين فهو حلالٌ غيرُ مكروه، فسألوا عنها ليتبيَّن لهم الحرامُ من غيره، فقال لهم رسول الله عليه السلام: اشربوا من الأواني كلها إلا من هذه الأربعة؛ لأن هذه الأربعة تصيَّر الماءَ مسكرًا عن قريبٍ؛ لأنها غليظةٌ لا منفذ للريح فيها، ولا يترشَّش منه الماء، فكلُّ ما كانت هذه صفته يَجعل الماءَ حارًا، وانقلابَ ما هو أشدُّ حرارةً إلى الإسكار أسرع وأقرب ممَّا كان أقلَّ حرارة، وكان النهي عن الشرب من هذه الأواني ثابتًا زمانًا ثم صار منسوخًا بقوله عليه السلام:"نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفًا لا يُحِلُّ شيئًا ولا يحرَّمه، وكلُّ مسكرٍ حرام".

ص: 93

يعني: اشربوا من جميع الظروف ما لم يكن فيها مُسْكرٍ، فإذا صار ما فيها مسكرًا فصبُّوه ولا تشربوه.

قوله: "احفظوهن وأخبروا بهنَّ مَن ورائكم"؛ يعني: قال رسول الله عليه السلام: احفظوا هذه المسائل ولا تنسَوهنَّ وعلَّموهن أقاربكم وعشائركم وغيرهم.

فإن قيل: يجب أن يكون التعلُّم والتعليم واجبين؛ لأنه عليه السلام قال: "احفظوهن"، وهذا أمرٌ، فظاهر الأمر للوجوب إلا أن يدلَّ دليلٌ على أنه غير واجب، وكذلك قال:(أخبروا بهن من ورائكم)، وهو أمر أيضًا فما قولكم فيه؟.

قلنا: التعلُّم والتعليم قد يكونان واجبين وقد يكونان سنَّتين، أما التعلُّم الواجب فهو تعلُّم ما يجب على الرجل من أركان الشريعة وبيانِ الحلال والحرام بقَدْرِ ما يحتاج إليه، وأما التعلُّم الذي هو سنةٌ وفضيلة هو تعلُّم ما زاد على ما يحتاج إليه من الأحكام.

وأما التعليم الواجب فهو أن يعلِّم أهله وعياله ومَن يتردد عنده ما يحتاجون إليه من الفرائض؛ لأن الله تعالى قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، يعني: احفظوا أنفسكم من النار بإتيان الأوامر والانتهاء عن المناهي، واحفظوا أهليكم بتعليمهم الفرائض والحلال والحرام وما يُنجيهم من النار.

وأما تعليم السنة والفضيلة فهو أن يعلِّم الناس من الأقارب والأباعد ما زاد على ما يحتاجون إليه من الأحكام وفي هذا بحث كثير يطول ذكره.

وراوي هذا الحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحيث ذكر الابن من غير اسمه في الصحابة فاعلمْ أن اسمه عبد الله، فإذا قيل: ابن عباس فاعلم أنه عبد الله بن عباس، فإذا قيل: ابن عمر فهو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإذا قيل: ابن الزبير فهو

ص: 94

عبد الله بن الزبير، وإذا قيل: ابن مسعود فهو عبد الله بن مسعود.

* * *

16 -

وعن عُبادة بن الصَّامِت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله عِصابةٌ من أصحابهِ: "بايعوني على أنْ لا تُشرِكوا بالله شيئًا، ولا تَسْرِقوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلوا أَولادَكم، ولا تأْتوا ببُهتانٍ تفترونَهُ بينَ أيديكمْ وأرجُلِكُمْ، ولا تَعْصُوا في مَعْروفٍ، فمنْ وَفَى منكم فأَجْرُهُ على الله، ومَنْ أصابَ مِنْ ذلك شيئًا فعُوقِبَ في الدُّنيا فهوَ كفَّارةٌ له، ومَنْ أصابَ مِنْ ذلك شيئًا ثمَّ سَتَرهُ الله عليه فهُوَ إلى الله، إنْ شاءَ عَفا عنهُ، وإنْ شاءَ عاقَبَهُ، فبايعْناهُ على ذلك".

"وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله عليه السلام وحوله عصابة".

الواو في "وحوله" للحال، و (حوله) نصبٌ على الظرف، وهو خبر المبتدأ الذي هو "عصابة".

و (العصابة) - بكسر العين -: الجماعة؛ أي: قال رسول الله عليه السلام لأصحابه: بايعوني، وهذا المقال كان في وقتِ اجتماع جمعٍ كثير من أصحابه عنده.

وقوله عليه السلام: "بايعوني"؛ أي: اضمنوا وأقبلوا إليَّ وتعاهَدوا على هذه الأشياء، وبايع الرجل السلطان: إذا أوجب على نفسه طاعته، وبايع السلطان الرعية: إذا قبل القيام لمصالحهم، وأوجب على نفسه حفظَ نفوسهم وأموالهم عن أيدي الظالمين، سمي هذا الفعل مبايعةً لأنه كان عادةُ الناس أن يضعوا أيديهم على يد مَن بايعوه، وكان الرجل يمدُّ باعه، والباع: مدُّ اليدين.

"على أن لا تشركوا بالله شيئًا"؛ أي: لا تتخذوا إلهًا غيره، ولا تعملوا عملًا إلا خالصًا لله تعالى.

ص: 95

"ولا تسرقوا"؛ أي: لا تأخذوا مال أحدٍ بغير حقٍّ، لا سرًا ولا علانيةً، لا بطريقِ الغصب ولا بطريقِ السرقة والخيانة وغير ذلك.

"ولا تزنوا" والزنا في اللغة عبارةٌ عن المُجامعة في الفرج على وجه الحرام، ويدخل في الزنى اللواطةُ وإتيان البهائم.

"ولا تقتلوا أولادكم" كان عادةُ بعض العرب أنهم يقتلون أولادهم من خوف الفقر، ربما يكون الرجل كثير العيال فقيرًا يقتل أولاده أو بعض أولاده كي لا ينفق عليهم، وربما يقتل الرجل البنتَ لا من خوف الفقر بل من خوف لحوق العار به بظهور زنًى عليها وغير ذلك، فنهاهم الرسول عن قتلهم.

"ولا تأتوا ببهتان" الباء للتعدية، و (البهتان): الكذب.

"تفترونه"؛ أي: تَكْذِبونه، وأصله: تفتريونه، فنقلت ضمة الياء إلى الراء، وحذفت لسكونها وسكونِ واو الجمع، وهو من الفَرْي وهو القطعُ، يقال: افترى فلانٌ حديثًا؛ أي: قاله من تلقاء نفسه من غير أن يكون ذلك واقعًا.

وقوله: "بين أيديكم وأرجلكم"؛ أي: من عند أنفسكم ومن تلقاء أنفسكم، وذكرُ اليد والرجل عبارةٌ عن الذات والنفس إطلاقًا للبعض عن الكل، ولأن أكثر عمل الإنسان باليد والرجل، كقوله تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] أضاف الفعل إلى الأيدي والأرجل وأراد به الأنفس، يعني: لا تقولوا في حق أحدٍ كذبًا، من نسبته إلى الزنى وشرب الخمر والسرقة، وغير ذلك ممَّا يتأذى به.

"ولا تعصوا" أصله: ولا تَعْصيوا، فنقلت ضمة الياء إلى الصاد وحذفت؛ أي: ولا تخالفوا أمرَ من يأمركم بالمعروف، والمعروف مفعولٌ من عَرَفَ، يعني ما عُرف أنه من أوامر الشرع وما فيه خيرٌ وثواب.

قوله: "فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى"؛ يعني: فمَن وفى منكم

ص: 96

الأشياء ولم ينقص على ما عاهد الله فقد استحقَّ الأجر، وأجرُه على الله لا عليَّ، يعني طاعتي طاعةُ الله، فمَن أطاعني فليطلب الثواب من الله، ومن عمل عملًا صالحًا ليَعْمَل خالصًا لله ولْيَرْجُ الثواب من الله الكريم.

قوله: "أصاب"؛ أي: وصل ووجد "من ذلك": من هذه الأشياء المذكورة "عوقب" فعل ماضٍ مجهول، من عاقب معاقبةً: إذا أوصل وألحق عقوبةً وعذابًا إلى أحد، والمراد بالعقوبة في الدنيا: إقامةُ الحد عليه.

"الكفَّارة": الخصلةُ التي تكفِّر الذنب؛ أي: تستره وتغسله عن الرَّجل يعني: مَن فعل فعلًا قبيحًا وأقيم عليه حدُّ ذلك الفعل في الدنيا لم يكن له عقوبةٌ لأجل ذلك الفعلِ يوم القيامة.

ومثله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رسول الله عليه السلام قال: "من أصاب حدًا فعجِّل عقوبتَه في الدنيا فالله أعدلُ من أن يثنِّي على عبده العقوبةَ في الآخرة"

قوله: "ثم ستره الله"؛ يعني: مَن فعل شيئًا من ذلك - أي: مما بايع النبيَّ عليه - ثم يستره الله تعالى، ولم يهتك ستره بين الناس في الدنيا، ولم يُقَم عليه حدُّ ذلك الفعل، "فهو إلى الله"؛ أي: فهو راجعٌ وصائر إلى الله يوم القيامة.

"إن شاء الله عفا عنه" وغفر له، "وإن شاء عذبه": بقَدْر ذنبه، عفا يعفو عفوًا: إذا ترك العقوبة على الذنب.

واعلم أنه لا يجوز أن يُشهد بالجنة بلا عذابٍ لأحدٍ بعينه إلا مَن ثبت كونُهُ من أهل الجنة بالنص، كأصحاب الشجرة الذين نزل فيهم:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، وزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وهؤلاء أصحاب الشجرة رضوان الله عليهم أجمعين.

ص: 97

وكذلك مَن شهد النبيُّ له بالجنة نحن نشهد له أيضًا بالجنة، وأما غيرهم من المسلمين فلا نشهد لواحدٍ بعينه أنه من أهل الجنة بلا عذابٍ، بل نقول: المسلمون من أهل الجنة على الإطلاق، ولكن لا نعيِّن واحدًا، بل أمرُ كلِّ واحدٍ في مشيئة الله تعالى: إن شاء أدخله الجنة بشفاعة الشفيع بلا عذاب، وإن شاء غفر له بلا شفاعةِ شفيعٍ، وإن شاء عذَّبه بقَدْرِ ذنوبه، وعاقبةُ كل واحدٍ من المسلمين الجنة، ولم يخلَّد مسلم في النار وإن كان له ذنبٌ عظيم، ولم يخلَّد في النار إلا بسبب الكفر.

قوله: "فبايعناه على ذلك"؛ يعني: لمَّا قال لنا رسول الله عليه السلام من قوله: (بايعوني) إلى ها هنا بايعناه إلى ما قال، وقبلنا منه هذه الأشياء.

وجَدُّ (عبادة بن الصامت) قيس بن أصرم، وعبادةُ أنصاريٌّ.

* * *

17 -

وعن أبي سعيد الخُدريِّ رضي الله عنه أنه قال: خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أَضْحَى - أو: فِطْرٍ - إلى المُصلَّى، فمرَّ على النِّساءِ فقال:"يا معشرَ النِّساءِ! تصدَّقْنَ، فإني أُريتُكنَّ أكثرَ أهلِ النارِ"، فقُلْنَ: وبمَ يا رسولَ الله؟ قال: "تُكثِرْنَ اللَّعْنَ، وتكفُرْنَ العَشيرَ، ما رأيتُ مِنْ ناقِصاتِ عقلٍ ودِينٍ أذْهبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازِم مِنْ إحداكنَّ"، قُلن: وما نُقصانُ دينِنا وعَقْلنَا يا رسولَ الله؟ قال: "أليسَ شهادةُ المرأةِ مثلَ نصْفِ شهادةِ الرجل؟ "، قُلن: بلى، قال:"فذلك من نُقصان عَقْلِها"، قال:"أليسَ إذا حاضَتْ لم تُصَلِّ، ولم تَصُمْ؟ "، قُلن: بلى، قال:"فذلك من نُقصانِ دينِها".

قوله: "في أضحى أو فطر

" إلى آخره، (أو) ها هنا للشك، يعني شكَّ الراوي أن رسول الله عليه السلام خرج في عيد الأضحى أو في عيد الفطر.

ص: 98

"إلى المصلى فمر على النساء"، (مر) يقدَّر بعلى وبالباء، يقال: مررتُ عليه، ومررتُ به.

يعني صلى رسول الله عليه السلام صلاة العيد وخلفه الرجال، والنساءُ واقفاتٌ في البعد، فلما فرغ رسول الله عليه السلام من الصلاة خطب الرجال ووعظهم، ولم تسمع النساء خطبة رسول الله عليه السلام لبُعدهن من موضع رسول الله عليه السلام، فلما فرغ رسول الله عليه السلام من خطبة الرجال أتى النساء ووقف عندهن ووعظهنَّ، ومِن وعظه إياهن قولُه عليه السلام:"يا معشر النساء تصدقن فإني أُريتكن أكثر أهل النار"، (المعشر): الجماعة، (تصدقن): أمُر مخاطبةِ جماعةٍ من النساء، مِنْ تَصدَّق: إذا أعطى الصدقة.

(أريتكن)، (أُري): إذا أُعلم وأُخبر، وله ثلاثةُ مفاعيل، و (النساء) في (أُريتُ) هو المفعولُ الأول أُقيم مُقامَ الفاعل، و (كنَّ) المفعولُ الثاني، و (أكثرَ أهل النار) هو المفعول الثالث يعني: أُخبرت وأُعلمت بأنكنَّ أكثر أهل النار، يعني: النساء أكثر دخولاً في النار من الرجال، ويأتي بعد هذا علَّةُ كثرة دخولهن في النار.

واعلم أن قوله عليه السلام: (أريتكن أكثر أهل النار) يريد أنه أراه الله تعالى جهنم ليلة أُسري به، ورأى أكثر أهلها النساءَ، فقال بعض أصحابه: بم يا رسول الله؟ قال: "بكفرهن"، قيل: يكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنْتَ إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قط".

"فقلن: وبم يا رسول الله؟ "، (وبم) أصله: وبما، (ما) للاستفهام، وإذا دخل حرف الجر على الاستفهام يجوز حذفُ ألفها فحذف ألفها ها هنا، والباء باء السببية؛ يعني: قالت النساء: بأيَّ سببٍ نكون أكثر أهل النار؟

ص: 99

فقال رسول الله عليه السلام: "تُكثرن اللعن" وأصل اللعن: الإبعاد من الخير، ويستعمل في الشتم والكلامِ القبيح لأحد، يعني: عادتُكنَّ كثرةُ الشتم وإيذاء الناس باللسان.

قوله: "وتكفرن العشير"، كفر يكفر كفرانًا: إذا جحد وأنكر النعمة وتَرَكَ أداءَ شكرها.

(العشير): المُعاشر، وهو المخالط، والعشرة: اسم من المعاشرة، وهي المخالطة، والمراد بـ (العشير) هنا: الزوج؛ يعني: تكفرن حقَّ أزواجكن ولا تؤدِّينَ حقَّ إنعامهم عليكن، ومَن لم يشكر الناس لم يشكر الله، ومن لم يشكر الله تعالى يستحقُّ العذاب.

قوله: "أذهبَ لِلُبَّ الرجل الحازم"، (أذهبَ): أفعلُ التفضيل من (ذَهَب)، ولكن معناه: أذهبَ؛ لأنه صار متعدِّيًا باللام في قوله: (لِلُب): فمعناه حينئذ: أكثر إذهابًا.

(اللب): العقل.

(الحازم): اسمُ فاعلٍ من حَزَم يَحْزِم - بفتح العين في الماضي وكسرِها في الغابر - حزمًا: إذا شدَّ الشيء وضبط أمره واحتاط فيه، ويستعمل في كامل العقل وصاحب الاحتياط في الأمر.

يعني: كلُّ واحدةٍ منكن عقلُها ناقصٌ وتزيلُ عقل الرجل الكاملِ العقلِ، وإذهابُهن عقولَ الرجال بأن يعشق الرجل بامرأةٍ ويغلب عليه عشقُها حتى ينقص عقلُه، وربما يزول عقله ويصير مجنونًا، وربما تُغضبه بالتماسِ شيءٍ منه أو بترك الأدب أو بمنازعةٍ، حتى يزول أو يقلَّ عقلُه من الغضب.

"وما نقصان ديننا وعقلنا" اعلم أن العقل في الشرع عبارةٌ عن معنًى في الشخص يعقله؛ أي: يمنعه عن الهلاك والخسران في الآخرة، فمَن كان ذا

ص: 100

تجربةٍ في أمور الدنيا واحتياطٍ فيها، ويعرف النفع والضرَّ ودقائقَ الحساب وما أشبه ذلك، ولم ينته عمَّا هو سببُ هلاكه وخسرانه في الآخرة، فليس بعاقلٍ في الحقيقة؛ لأن الاحتراز عمَّا هو سبب الهلاك في الدنيا بالنسبة إلى ما هو سببُ الهلاك في الآخرة شيءٌ قليل، فمَن احترز عن هلاك الدنيا ولم يحترز عن هلاك الآخرة فهو كمَن يحترز عن أن يقع في حفرةٍ قعرُها قَدْرَ ذراعٍ مثلًا، ولا يحترز عن أن يلقي نفسه في بئرٍ قعرُه ألفُ ذراعٍ، فلا يَحكُم بكون هذا الرجل عاقلًا أحدٌ.

فإذا عرفت هذا فاعلم أن المراد بالعقل في هذا الحديث هو العقلُ الديني؛ لأنه عليه السلام علَّل نقصان عقلهن بجعل امرأتين في الشهادة كرجلٍ واحد، والشهادةُ شيءٌ شرعيٌّ وهي عبادةٌ؛ يعني: مَن كان عقله الدينيُّ أكثرَ تكون تقواه أكثر، وإذا كان تقواه أكثر يكون أحفظَ وأوعى للشهادة؛ لأنَّ شهادة الزور تكون سبب الهلاك والخسران في الآخرة، ويحترزُ العاقل عن مثل هذا، ولمَّا كان عقل النساء أقلَّ جعل الشرع امرأتين بمنزلة رجلٍ في الشهادة.

ويحتمل أن تكون علةُ جعل امرأتين بمنزلة رجلٍ واحدٍ في الشهادة؛ لأن النسيان عليهن أكثر من الرجال، وإلى هذا أشار قوله تعالى:{فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282](ممَّن ترضون)؛ أي: من العدول والصُّلحاء (أن تضل)؛ أي: أن تنسى إحداهما الشهادة، فتذكرها المرأة الأخرى الشهادة.

قوله: "أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم"؛ أي: أليس الحكم أن المرأة تترك الصلاة في أيام حيضها ونفاسها، والرجلُ لا يترك الصلاة، ومَن يترك الصلاة في بعض الأيام يكون دينه أنقصَ من الذي لا يترك الصلاة.

واعلم أن الدِّين عبارةٌ عن جميع خصال الخير والانتهاءِ عن جميع المناهي،

ص: 101

فمَن كان خيره أكثر يكون دينه أكمل، ومَن كان خيره أقلَّ يكون دينه أنقص، ولم يختلف أحد أن الدين يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.

بل اختلف الشافعي وأبو حنيفة رحمة الله عليهما في أنَّ الإيمان: هل يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، أم لا؟.

فقال الشافعي: يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وإنما قال هذا لأن الإيمان عنده عبارةٌ عن جميع شعب البضع والسبعين المذكورة.

وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يزيد الإيمان بالطاعة ولا ينقص بالمعصية، وإنما قال هذا لأن الإيمان عنده عبارةٌ عن التصديق بالجَنان والإقرارِ باللسان، وأما الشعبُ فهي من حقوق الإيمان عنده لا من الإيمان.

قوله عليه السلام: "فذلك من نقصان عقلها" والكاف في (ذلك) ها هنا ليس للخطاب؛ لأنه لو كان للخطاب لقال: فذلكنَّ، لأن المخاطَبات في هذا الحديث جماعة، والكافُ في (ذاك) و (ذلك) قد تكون للخطاب وقد تكون لغير الخطاب؛ لأن الرجل إذا أراد أن يشير إلى غائبٍ من غير أن يخاطب أحدًا فلا يمكنه الإشارة إلى الغائب بدون الكاف في (ذاك وذلك) وأشباهِهما من (تيك وتلك وأولئك)، وهذا الكافُ ليس كالكاف في (رأيتك) في الخطاب؛ لأنك تقدر أن تقلب الكاف في (رأيتك) هاءً فينقلب (1) الكلام من المخاطبة إلى المغايبة، فتقول: رأيته، ولا تقدر أن تقول: ذاه أو ذاها، بدل: ذاك، فقد عُلم أن هذا اللفظ وضع مع الكاف؛ لأنك لا تقدر أن تشير إلى غائب بدون الكاف، فـ (ذلك) في هذا الحديث إشارةٌ إلى الحكم؛ أي: الحكم الذي شهادةُ المرأة جُعلت مثلَ نصفِ شهادة الرجل لأجل نقصان عقلها.

(1) في "ت": "فينقل".

ص: 102

واسم أبي سعيد: سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الله بن ثعلبة الخُدْريُّ الأنصاري.

* * *

18 -

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: كذَّبني ابن آدمَ، ولم يكنْ له ذلك، وشَتمني، ولمْ يكنْ له ذلك، فأمَّا تكذيبُهُ إيَّايَ فقوله: لن يُعبدَني كما بدأَني، وليسَ أولُ الخلق بأهونَ عليَّ من إعادتهِ، وأما شَتْمُهُ إيايَ فقوله: اتَّخذَ الله ولدًا، وأنا الأَحدُ الصَّمدُ، لم ألِدْ ولم أُولَد، ولم يَكُنْ لي كُفُوًا أحدٌ".

وفي رواية: "فسُبحاني أن أتَّخذَ صاحبةً أو ولدًا"، رواه ابن عباس رضي الله عنهما.

قوله: "كذبني ابن آدم

" إلخ؛ أي: خالفَ في القول والاعتقاد ما قلت وأرسلتُ به رسلي من الأخبار بإحياء الخلق بعد الموت للحساب والجزاء.

"ولم يكن له ذلك"؛ أي: ولم يكن ذلك التكذيب حقًا وصدقًا وصوابًا له، بل كان خطأً وعصيانًا منه؛ لأن الله تعالى أنعم أنواع الأنعام والفضل على العباد، فتكذيبُ العباد ربهَّم وخالقهم ووليَّ نعمِهم وحافظَهم من الآفات يكون على غاية القبح، بل لو خالف عبدٌ سيدَه من المخلوقات أو خادمٌ مخدومَه يكون ذلك قبيحًا على غاية القبح عند الناس، فكيف لا تكون مخالفةُ العبد الرب قبيحًا.

"الشتم" رمي أحدٍ أحدًا بكلام قبيح.

قوله: "لن يعيدني"؛ يعني: مَن قال: لن يُحييني بعد موتي كما خلقني.

وقوله: "وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته"، (الخلق) ها هنا بمعنى المخلوق، والتقدير: ليس أولُ خَلْقِ الخلق؛ أي: خَلْقِ المخلوق، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مُقامه، فالخلق الأول المحذوفُ مصدرٌ، والثاني

ص: 103

بمعنى المخلوق، والباء في (بأهون) زائدةٌ للتأكيد، ومعنى (أهون) أسهل، من (هان يهون هونًا): إذا سهل الأمر.

و (الإعادة) مصدرُ أعاد يُعيد: إذا ردَّ شيئًا إلى أوله، والضمير في (إعادته) يرجع إلى (الخلق)؛ يعني: ليس أولُ الخلق أسهلَ من إعادته، بل الإعادةُ أسهل من أول الخلق، فإذا كنتُ قادرًا على خَلْقِ الخَلْقِ من غيرِ أن كان منهم أثرٌ ومثالٌ، فكيف لا أكون قادرًا على خلقهم بعد أن يكون منهم أثرٌ من العظام أو اللحم أو ترابهم، فقال تعالى حجة عليهم:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [الحج: 5] الآية.

والمراد بـ (أهون): هين، أو أراد: أهون عندكم وفيما بينكم.

قوله: "اتخذ الله ولدًا": أراد به ما قالت اليهود والنصارى في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، وقول بعض الكفار: الملائكة بناتُ الله، وقولِ بعضهم: الأصنام بناتُ الله.

والمراد بقوله: "كذبني ابن آدم وشتمني" هم الكفار؛ لأن المسلمين لا يقولون مثلَ هذا.

والواو في قوله: "وأنا الأحد الصمد" واوُ الحال.

(الأحد): هو المتفرَّدُ بالصفات؛ يعني: صفة القِدَم، والبقاءِ، والتنزُّهِ عن المكان والزمان والاحتياجِ إلى الزوج والشريك والعونِ، وغير ذلك من صفاتِ الله تعالى، هو تعالى متفردٌ بها، ولم يكن لغيره شيءٌ من هذه الصفات.

(الصمد): هو السيد الذي ليس فوقه أحد بحيث يَصْمُدُه كلُّ أحدٍ؛ أي: يقصده لقضاء الحوائج.

يعني: المخلوقاتُ يحتاجون إليه ويقصدونه للتعبُّد وقضاءِ حوائجهم، وهو لا يحتاج إلى أحدكم.

ص: 104

قوله: "لم ألد" أصله: أَوْلِد؛ من وَلَد يَلِد، فحُذفت الواو؛ يعني: لم ألد ولدًا قط لأني منزَّهٌ ومقدَّسٌ عن الاحتياج إلى الزوج والولد.

"ولم أولد" الهمزة لنفس المتكلَّم، وهو مضارعٌ مجهولٌ؛ يعني: ليس لي أبٌ ولا أم؛ لأنه لو كان لي أبٌ وأمٌّ لكنت خَلْقًا مثلكم، وإذا كنت خلقًا مثلكم لم يكن لي قدرةٌ على الخلق، والإيجادِ والإفناء، وإيصالِ الرزق إلى كلِّ مرزوق، والعلمِ بالسرِّ والعلانية، وغيرِ ذلك من صفاتي.

"الكفؤ": الشَّبْه والمِثْل، والتقدير: ولم يكن أحدٌ كفوًا لي؛ أي: ليس لي شبهٌ ومثلٌ، فقال تعالى حجة عليهم:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} الآية [الأنعام: 101]. "وفي رواية

" إلى آخره، يعني: روَىَ هذا الحديثَ بعض الرواة وقال بعد قوله: (فقوله: اتخذ الله ولدًا): "فسبحاني أن أتخذ صاحبةً أو ولدًا"، (فسبحاني)؛ أي: تنزيهًا وتطهيرًا وتعظيمًا لي عن صفات المخلوقات، ولفظة (سبحان الله) اسمٌ أقيم مقام المصدر، ويكون أبدًا منصوبًا، وهو مضاف، تقول: سبحان الله، وسبحانك يا الله، وسبحانه وتعالى، وما أشبه ذلك، وتقدير (سبحان الله): نسبح الله تسبيحًا، ثم حُذف الفعل والمصدر وأُقيم (سبحان) مقام المصدر وأضيف إلى الله تعالى، فقالوا: سبحان الله، وكذلك التقدير في: سبحانك، وسبحانهُ وتعالى.

والتقدير في (سبحاني): أنزَّه وأُبْعِدُ نفسي عن صفات المخلوقات، ومعنى التنزيه: الإبعاد والتطهير.

(الصاحبة): الزوجة.

فإن قيل: هذه الأحاديثُ وغيرها مما حكاه النبي عليه السلام عن الله تعالى ينبغي أن يكون كلامَ الله، وإذا كان كلام الله فأيُّ فرق بينه وبين القرآن؟.

ص: 105

قلنا: القرآن هو اللفظ الذي أنزله جبريل عليه السلام عن الله تعالى إلى نبيِّنا عليه السلام، وأمره أن يقرأه على هذا اللفظ ويَحْفَظَ ويعلِّمَ أمته، فقال تعالى:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] يعني: إذا أنزلنا عليك القرآن وقرأه جبريل عليك فاحفظ لفظه واقرأه وعلِّمه الناس واعمل بأحكامه، والقرآن هو الذي يُعجز جميع المخلوقات عن أن يأتوا بشيء مثله، فقال تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. (الظهير): العون.

وأما الأحاديث التي حكاها النبي عليه السلام عن الله تعالى فليست بألفاظٍ أمر الله تعالى نبيه أن يحفظها ويقرأها، بل يحتمل أن يخبره الله تعالى بهذه المعاني ليلةَ المعراج، أو في المنام، أو بطريق الإلهام وغير ذلك، فأخبر النبيُّ عليه السلام أمته بهذه المعاني بعبارةِ نفسه وألفاظه عليه السلام.

ألا ترى أن حكم ألفاظ هذه الأحاديث ليست بمعجزةٍ، بل تشبه ألفاظُها ألفاظَ سائر أحاديث النبي عليه السلام، فإذا كان كذلك فحكمُ هذه الأحاديث حكمُ سائر الأحاديث لرسول الله عليه السلام.

فإن قيل: إذا كانت هذه الأحاديثَ أيضًا أحاديث رسول الله عليه السلام، وكلُّ أحاديثه عليه السلام من قِبَلِ الله تعالى وإلهامِه، فقد قال الله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] يعني لم يتلفَّظ بلفظٍ من القرآن أو الحديث من تلقاء نفسه بل من عنده تعالى، فإذا كان كذلك فِبمَ يُعرف الفرقُ بين الأحاديث التي يرويها عن الله تعالى وبين غيرها من أحاديثه؟.

قلنا: أما الأحاديث التي أضافها إلى الله تعالى مثلَ قوله: "قال الله تعالى: كذبني ابن آدم"، وقوله:"قال الله: يؤذيني ابن آدم"، وما أشبهَ ذلك، فهي الأحاديث التي رواها عن الله تعالى.

ص: 106

وأما الأحاديث التي لم يُضفها إلى الله (1) تعالى كسائر أحاديثه، فليس يرويه عن الله تعالى، وإن كان من عند الله تعالى وحُكْمَ الله تعالى.

* * *

19 -

وقال: "قال الله تعالى: يُؤْذيني ابن آدمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهرُ، أُقَلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.

قوله: "وقال: قال الله تعالى"؛ أي: قال رسول الله: قال الله تعالى: "يؤذني ابن آدم"، (الإيذاء): إيصالُ شيء يكرهه من القول أو الفعل سواءٌ أثَّر فيه أو لم يؤثِّر فيه، وإيذاء بني آدم ربَّهم تعالى لم يؤثِّر فيه ولم يضره بل يضرُّ القائلين، فإذا كان كذلك يكون معنى (يؤذيني ابن آدم): يقول لي ابن آدم ما أكرهه وأُبغضه، ولا يليقُ بحضرتي.

"يسب الدهر" يروى: "بسبِّ الدهرِ" بالباء الجارَّة وبعدها المصدرُ المجرور بالباء، ويُروى:"يسب الدهرَ" على أنه فعلٌ مضارع، و (الدهرَ) منصوبٌ على أنه مفعوله.

و (السب): الشتم، وذُكر معناه في الحديث الذي قبل هذا.

و (الدهر): هو الزمان من أول خَلْقِ الله تعالى العالمَ إلى آخر الدنيا، ويقال: بعض الزمان دهرٌ أيضًا.

"وأنا الدهر" يروى برفع الراء ونصبها:

فإن نُصب يكون ظرفًا مقدَّمًا على الفعل، فيكون التقدير: وأنا أقلب الليل والنهار في الدهر.

وان رُفع يكون (الدهر) مضافًا إليه أُقيم مقام المضاف، والتقدير: وأنا خالق

(1) في "ق": "وما لم يضفه إلى الله".

ص: 107

الدهر، أو مصرَّف الدهر - فحذف (خالق) أو (مصرف) وما أشبه ذلك، وأقيم (الدهر) مقامه - يؤذيني ابن آدم بشتمه الدهر بسبب فقرٍ وقحطٍ ومرضٍ وما أشبه ذلك من مكروهاتٍ تصيبه، وأنا خالقُ الدهر ومقلِّبُ الليلِ والنهار، فما أصابه أصاب مني لا من الدهر؛ لأن الدهر مخلوقٌ ومسخَّرٌ لا يقدر على إيصال نفعٍ وضر، بل النفعُ والضرُّ والغنى والفقر والصحة والمرض والحياة والممات كلُّها بقضائي وقدري، فمَن شتم الدهر فقد شتمني؛ لأنَّ مَن عاب مصنوعًا عاب صانعه.

فإن قيل: هذه الأحاديث تدل على أنه لا يحدث فعلٌ ولا قولٌ ولا نفعٌ ولا ضرٌّ ولا غيرُ ذلك مما يحدث إلا بقضاء الله تعالى وقَدَرِه، وإذا كان كذلك فلمَ يَعيبون الكفار على كفرهم والعصاةَ على عصيانهم؟

قلنا: ليس الأمر كما يُظن، بل ما يجري في العالم قسمان:

أحدهما: ما يجري على شيءٍ ليس له اختيارٌ فيما يصدرُ منه، كمرور الليل والنهار، ونزول المطر، والنفع والضر، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والخسران والبرودة، والريح الطيبة وغير الطيبة، وتحرك الشجر، وغير ذلك مما لا اختيار له، فلا يجوز أن يعيب أحدٌ شيئًا من هذه الأشياء.

والقسم الثاني: ما يصدر ممن له اختيارٌ وكسبٌ، كالجن والإنس وغيرِهم ممَّن له اختيارٌ، فهؤلاء مثابون بخيرٍ يصدر منهم ويعاقبون بشرٍّ يصدر منهم؛ لأن لهم اختيارًا واكتسابًا، فيجوز أن يعيب أحدَ هؤلاء أحدٌ على فعلهم القبيح ومخالفتهم الأنبياء والكتب، إلا أن القضاء والقدر من الله تعالى والفعل من العباد ولهم اختيارٌ، وبحث هذه المسألة طويلٌ ليس هذا موضعه.

* * *

20 -

وقال: "قال الله تعالى: أَنا أغنَى الشُّركاءِ عنِ الشِّرْكِ، مَنْ عمِلَ عَملًا أشركَ فيه معِي غيْري؛ تركتُهُ وشِرْكَهُ"، رواه أبو هُريرة رضي الله عنه.

ص: 108

قوله: "أنا أغنى الشركاء"، (أغنى): أفعل التفضيل.

الشرك والشركة والمشاركة: أن يكون الشيء ملكًا أو حقًا لاثنين أو أكثر، ويقال لكل واحد من المالكين: شريك، وللجمع: شركاء.

يعني: أنا أكثر الشركاء استغناءً، لا حاجة لي إلى شريك، فأفعل التفضيل قد يضاف إلى جمعٍ يكون في المضاف إليهم الشيءُ الذي يكون في المضاف، ولكن يكون في المضاف أكثر، مثل أن تقول: زيدٌ أفضلُ القوم؛ يعني: الفضل في زيدٍ وفي القوم موجودٌ ولكنْ في زيد أكثر، وقد يضاف ولا يكون في المضاف إليهم شيءٌ مما يكون في المضاف، نحو قوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] مع أنه لا خيريةَ ولا حُسنَ لأصحاب النار.

يعني: قد يكون بعض الناس غنيًا عن الشريك، ولكن لم يكن استغناؤه عن الشريك في جميع الأوقات، وقد يكون مستغنيًا في بعض الأوقات ومحتاجًا في بعضها، وأنا غنيٌّ عن الشركاء والضِّدِّ والند والظهير أبدًا؛ لأن الحاجة والعجز والفقر وغيرها من أوصاف المخلوقات لا سبيل لشيء منها إليَّ، فمَن عَمِلَ عملًا لا يكون خالصًا لي - بل عملُه للرياء والسمعة - لا أقبلُ ذلك العمل منه.

قوله: "تركته وشركه": الضمير راجعٌ إلى الذي يعمل، والمراد بـ (شركه): عمله الذي أشرك فيه غيرَ الله تعالى؛ يعني: أجعلُ ذلك الشخصَ وعملَه مردودًا من حضرتي ما دام في الشرك والرياء، وإذا ترك الشرك والرياء وأخلص لي (1) العمل قبِلتُه.

* * *

21 -

وقال: "قال الله تعالى: الكِبرياءُ ردائي، والعظَمةُ إزاري، فمنْ

(1) في "ش": "في".

ص: 109

نازَعَني واحدًا منهما أدخلتُهُ النَّار"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.

قوله: "الكبرياء ردائي"، (الكبرياء): غاية العظمة والترفُّع عن أن ينقاد أحدًا أو يحتاج إلى أحد أو إلى شيء بوجهٍ من الوجوه، وهذه الصفات لا تكون إلا لله تعالى.

(الرداء والإزار) متشابهان، إلا أن الرداء ما يلبس به الرجل رأسه وكتفه وأسفل من ذلك، والإزار: ما يلبس به الرجل من وسطه إلى قدميه.

و (الكبرياء والعظمة) صفتان لله تعالى لا يجوز أن يُوصف مخلوقٌ بواحدٍ منهما، بخلاف الرحيم والكريم، فإنه يقال: فلانٌ كريم ورحيم، وقد قال رسول الله عليه السلام:"الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام".

ومعنى هذا الحديث أن الكبرياء والعظمة لا يستحقُهما غيري، بل هما صفتان مختصتان بي لا يشاركُني فيهما غيري كما لا يشارك أحدٌ الرجلَ في ردائه وإزاره اللَّذَين هما لباسان له.

قوله: "فمن نازعني واحدًا منهما أدخلته النار"، (نازع): إذا جذب أحدٌ شيئًا من واحد وجذب ذلك الواحدُ من صاحبه ذلك الشيء، ويقول كل واحد منهما: هذا ملكي وحقِّي.

يعني: قال الله تعالى: الكبرياء والعظمة حقي، ولا يستحق واحدًا منهما غيري، فمَن ادَّعى الكبرياء أو العظمة فقد خاصمني، ومن خاصمني صار كافرًا، ومن صار كافرًا، أدخلْته النار.

واعلم أن التكبُّر على نوعين:

أحدهما: التكبر على الله تعالى.

ص: 110

والثاني: التكبر على الخلق.

فالتكبُّر على الله كفرٌ، وهو أن لا يطيعه ولا يقبلَ أمره، فمَن ترك أمرًا من أوامره أو أتى منهيًا من مناهيه على اعتقادِ الاستخفاف بالله تعالى وجحودِ أمره فهو كافرٌ، وأما مَن ترك أمرًا لا على سبيل الجحود، بل اعتقد كونه حقًا، فهو عاصٍ وليس بكافرٍ.

وأما التكبر على الخلق، وهو أن يكون الخلق في خاطره حقيرًا ويعتقدَ فضلًا لنفسه على الناس، فهذا أيضًا عصيانٌ وليس بكفرٍ إن لم يكن فيه استخفافٌ للشرع، فإن كان فيه استخفاف للشرع، مثل أن يَحْقِرَ نبيًا من الأنبياء أو مَلَكًا من الملائكة، أو حقر العلماء عن اعتقادِ عدمِ عزة العلم وحُرمته، فهو كافر.

* * *

22 -

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أَحَدٌ أصبَرُ على أذًى يسمعه مِنَ الله تعالى، يَدَّعونَ له الولَد، ثم يُعافيهم ويرزُقهم"، رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه.

قوله: "ما أحدٌ أصبرَ على أذى

" إلى آخره، (أصبر): أفعل التفضيل من الصبر، وهو حبسُ النفس ومنعُها عمَّا تشتهيه وإمساكُ النفس وحبسها عن الجزع.

والصبر في صفة الله تعالى معناه: تأخير إرسال العذاب على مستحقِّي العذاب على أذًى يسمعه؛ أي: على كلام الكفار القبيح.

قوله: "يدَّعون له الولد": هذا شرحُ (أذًى)؛ يعني: يقول لي الكفار: إن لله الولد، ومَن قال مثلَ هذا فهو يستحق أن يعجَّل له العذاب في الدنيا، فالله تعالى لا يعجَّل تعذيبه بل يرزقه العافية من العذاب في الدنيا ويرزقُه المالَ وأنواع النعم، وهذه الصفةُ ليست لأحد من المخلوقات؛ لأن المخلوق إذا آذاه أحد

ص: 111

لا يعطيه العطاءَ بل يُوْصِلُ بقَدْرِ ما يقدِرُ عليه من أنواع العذاب والضرر.

(عافاه الله تعالى)؛ أي: أعطاه الله العافية، وهي أن يدفع الله عنه ما يكره، ومعنى (يعافيهم) هنا: أنه تعالى يدفع عنهم البلاء والضرر في الدنيا.

* * *

23 -

وعن مُعاذ رضي الله عنه قال: كنت رِدْفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على حمارٍ، ليس بيني وبينه إلَاّ مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ، فقال:"يا معاذُ! هلْ تدري ما حقُّ الله على عبادِه؟ وما حقُّ العِبادِ على الله؟ "، قلتُ: الله ورسولهُ أعلم، قال:"فإنَّ حَقَّ الله على العباد أنْ يعبُدُوهُ، ولا يُشْرِكُوا به شيئًا، وحقُّ العبادِ على الله أنْ لا يُعذِّبَ مَنْ لا يُشركُ بهِ شيئًا"، فقلت: يا رسول الله، أفلا أُبَشِّرُ به الناسَ؟ قال:"لا، فَيتَّكِلُوا".

قوله: "كنت ردت النبي عليه السلام"، (الردف): بكسر الراء وسكون الدال: إذا ركب خلف الراكب من الفرس وغيره، وكلُّ شيء يتبع شيئًا فهو رِدْفُه؛ يعني: كنت راكبًا خلف رسول الله عليه السلام "على حمار".

وقوله: (كنت ردف النبي عليه السلام على حمار) يدل على أشياء:

أحدها: جواز ركوب اثنين على دابةٍ واحدة، وقد جاء في الحديث أنه ركب اثنان مع النبي على بعيرٍ واحد.

والثاني: أن ركوب الحمار سنةٌ؛ لموافقة رسول الله عليه السلام، ولأنه أقرب إلى التواضع.

والثالث: أن عرق الحمار طاهرٌ، وما على ظهره من الغبار معفوٌّ عنه؛ لأن الغالب وصولُ بعض أعضاء رسول الله عليه السلام ومعاذ أو بعضِ ثيابهما إلى الحمار.

والرابع: أن صدر ظهر الدابة أولى بالأشرف والأفضل؛ لأن النبي عليه

ص: 112

السلام كان جالسًا على صدر ظهر ذلك الحمار ومعاذ خلفه.

والخامس: بيان منزلة معاذ وعزَّته عند النبي عليه السلام.

وفي بعض الروايات بعد قوله: (على حمار): وليس بيني وبينه إلا مُؤْخرةُ الرحل، وكذلك في بعض نسخ "المصابيح".

"المؤخرة": بسكون الهمزة بعد الميم: آخر الرحل، وهي الخشباتُ التي تكون على آخر الرحل ليستند ويتكأ عليها الراكب.

"الحق": نقيض الباطل، و (الحق): الموافقة، و (الحق): النصيب والملك، يقال: هذا الفرس حقي؛ أي: مِلكي، و (الحقُّ)، الواجب، يقال: في ذمتي حقُّ الله تعالى؛ أي: في ذمتي لازمُ فريضة الله تعالى، و (الحق): الجدير واللائق، والحقيق مثلُه.

والمراد ها هنا بقوله: "ما حق الله تعالى على عباده"؛ أي: ما يجب لله على عباده؟ و (ما) استفهامية.

وقوله: "وما حق العباد على الله"؛ أي: أيُّ شيء حقيقٌ وجديرٌ ولائقٌ أن يفعل الله تعالى بعباده إذا أطاعوه ولم يشركوا به شيئًا؟

قوله: "فإن حق الله تعالى على العباد أن يعبدوه

" إلى آخره، يعني: الواجبُ لله تعالى على عباده أن يعبدوه وحده من غير أن يعبدوا غيره، ومن غير أن تكون عبادتهم للرياء؛ لأن الله تعالى هو الخالق الرزاق النافع الدافع عن عباده الآفاتِ والمؤذياتِ، ليلًا ونهارًا، سرًا وعلانيةً، وهو يشفيهم إذا مرضوا، ويسقيهم إذا عطشوا، ويُطعمهم إذا جاعوا، ويكسوهم إذا صاروا عُراةً، وله تعالى عليهم أنواعُ النعم الجسيمةِ والألطافِ العميمة، فإذا كان كذلك وجب عليهم أن يوحِّدوه ويُخْلِصوا له الطاعةَ، هذا حقُ الله تعالى على عباده.

وأما حق العباد على الله: فاعلم أن أهل السنة اتفقوا على أنه لا يجب

ص: 113

على الله شيء، بل ما يعطي عباده من الرزق والثواب على الطاعة تفضُّلٌ منه، وقوله تعالى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] معناه: ألزم على نفسه تفضُّلًا ولطفًا أنه لا يُضيع أجر المحسنين، ويقبلُ طاعة المطيعين، ويقبل توبةَ العاصين، وكلُّ إنعامٍ وفضلٍ منه على عباده تفضُّلٌ ورحمةٌ منه عليهم، فإن الكريم إذا كان عادتُهُ الإنعامَ والفضل على مَن ليس يخدمه، فإذا خدمه أحدٌ يرى جزاءَ عمله كالواجب عليه.

فإذا علمت هذا فاعلم أن معنى "حق العباد على الله تعالى أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا": بشرط الإتيان بأوامره والانتهاءِ عن مناهيه، فإنَّ كل ذلك من عبادته، ولا ينبغي أن يعتقد أحد أن مَن قال: لا إله إلا الله، ولم يتخذ إلهًا سواه، فقد وجبت له الجنة وخرج عن أن يستحق العذاب، فإن هذا الاعتقاد ناقضٌ لكثيرٍ من آيات القرآن وللأحاديث الواردة في تهديد الظالمين والعصاة، ويتضمَّن هذا الاعتقاد إراقةَ دماءِ المسلمين وإذهابَ أموالهم، ومدَّ الأيدي على النساء الأجنبيات، والشتم والغيبة والبهتان في حق المسلمين، ولأنه إذا اعتقد أنه نجا من العذاب بقول: لا إله إلا الله، فلا يخاف ولا يحترز عن هذه الأشياء، ولا يدل هذا الحديث على هذا؛ لأنه قال عليه السلام:(فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا).

قوله عليه السلام: (وحق العباد على الله أن لا يعذِّب مَن لا يشرك به) تقديره: أن لا يعذَّب مَن يعبده ولا يشركُ به، فقد قيَّد ترك العذاب بالعبادة.

والعبادة: الإتيانُ بالأوامر والانتهاءُ عن المناهي (1).

"فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس قال: لا فيتكلوا"، (التبشير): إيصالُ خبرٍ وحديث إلى أحدٍ يظهر أثرٌ من ذلك الخبر على بشرته، وقد يكون

(1) في "ش": "النواهي".

ص: 114

سرورًا، وقد يكون حزنًا، وقد جاء القرآن بهما في قوله تعالى:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25] الآية فهذه بشارةٌ فيها السرور، وقوله تعالى:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 138] فهذه بشارةٌ فيها الحزن.

(يتكل) أصله: يَوْتَكِل؛ لأنه مضارعٌ من الافتعال، من وَكَل يَكِلُ: إذا فوَّض الأمر إلى أحد، واتكل: إذا اعتمد واتكأ بأحد أو بشيء، واتكل أصله: اوتكل، قلبت الواو تاء وأدغمت التاء في التاء.

يعني: قال معاذ: يا رسول الله! أفتأذنُ لي أن أخبر الناس بأن لهم حقًّا على الله تعالى، وأن لا يعذب الله من لا يشرك به شيئًا؟ قال: لا، فإنهم لو سمعوا هذه البشارة لاعتمدوا عليها وتركوا الاجتهاد في العبادة.

فإن قيل: إذا لم يأذن رسول الله عليه السلام لمعاذٍ أن يخبر الناس بهذا الحديث، فكيف أخبر به الناس؟

قلنا: علمُ معاذٍ رضي الله عنه أن النبي عليه السلام نهاه عن الإخبار بهذا الحديث لأجل أن لا يعتمد بعضُ الناس على هذا الحديث، ويتركوا العمل، وهذا يكون في بدء الإسلام، أما إذا صار الرجل صاحبَ ذوقٍ من الإسلام، وغَلَبَ على قلبه حقيقةُ الإيمان، وعلم أن عبادة الله تعالى تزيد له من الله تعالى قربًا، فكيف يترك مثلُ هذا الرجل العبادةَ بمثل ذلك الحديث؟ فإذًا علم معاذُ بن جبل أن الإسلام قوي، وحرص الصحابة على العبادة أشد، فحينئذٍ أخبرهم.

وجدُّ معاذٍ: عمرو بن أوس بن عائذ، وكنية معاذ: أبو عبد الرحمن، وهو أنصاري.

* * *

24 -

وقال: "ما مِنْ أحدٍ يشهدُ أنْ لا إله إلَاّ الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله،

ص: 115

صِدْقًا مِنْ قلبهِ، إلَاّ حرَّمهُ الله على النَّارِ"، رواه مُعاذٌ.

قوله: "إلا حرَّمه الله على النار": اعلم أن رسول الله قال هذا الحديث في أول الإسلام، في وقتٍ لم يجب شيءٌ من الأركان، ومَن قال في ذلك الوقت كلمتي الشهادة ومات في ذلك الوقت حرَّمه الله تعالى على النار؛ لأنه أتى بما وجب عليه ولم يترك شيئًا من الأركان؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت شيءٌ من الأركان واجبًا، وأما بعد وجوب الأركان من الصلاة وغيرها لم يكن قوله كلمتي الشهادة كافيًا في الخلاص من النار، بل يجب عليه الإتيان بجميع الواجبات، والانتهاءُ عن جميع المناهي.

ويحتمل أن يريد رسول الله عليه السلام بهذا الحديث أن كل كافر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ومات عن قريبٍ قبل أن يتمكن من الإتيان بفرضٍ آخر، حرَّمه الله تعالى على النار؛ لأنه مات في الحال قبل أن يقدر على أداء فرضٍ آخر، وإذا قلنا: المراد هذا بهذا الحديث، فيكون في جميع الأوقات والأزمان هكذا الحكم، ولم يكن مخصوصًا بأول الإسلام على هذا الاحتمال.

وقوله: "صدقًا من قلبه": احترازٌ عن النفاق؛ لأن كلمتي الشهادة لا تنفعان المنافق يوم القيامة؛ لأنه لم يقلهما صدقًا من قلبه.

واعلم أنه حيث جاء في الحديث اسمُ معاذٍ مطلقًا من غير أن يذكر اسمُ أبيه فهو معاذ بن جبل رضي الله عنه.

* * *

25 -

وعن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: أَتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبٌ أبيضُ وهو نائمٌ، ثم أتيتهُ وقد استيقظَ، فقال:"ما مِنْ عبدٍ قال: لا إله إلا الله، ثمَّ ماتَ على ذلك، إلَاّ دخلَ الجنَّة"، قلتُ: وإنْ زَنى، وإن سَرق؟ قال: "وإنْ زَنى وإنْ

ص: 116

سَرق"، قلت: وإنْ زَنى وإن سَرق؟ قال: "وإنْ زَنى وإنْ سَرق"، قلت: وإنْ زَنى وإن سرق؟ قال: "وإنْ زَنى وإنْ سَرق، على رَغْم أنْفِ أبي ذر"، وكان أبو ذر إذا حدَّث بهذا الحديث قال: وإن رَغِمَ أَنْفُ أبي ذَرٍّ.

قوله: "وعليه ثوبٌ أبيض" فائدته: أنَّ لبس الثوب الأبيض سنَّةٌ؛ لأنه لبسه رسول الله عليه السلام، وأيضًا فيه إثباتُ حصول علم أبي ذر رضي الله عنه على كون النبي نائمًا؛ يعني لم يقل أبو ذر رضي الله عنه هذا عن ظنًّ أو قول أحدٍ بل رآه بعينه.

وقوله: "ثم أتيته وقد استيقظ"؛ أي: فلمَّا رأيته نائمًا رجعتُ، ثم أتيته بعد زمان وقد استيقظ؛ أي: فلما أتيته ثانيًا وجدتُه منتهيًا من النوم.

وقوله عليه السلام: "ما من عبد قال لا إله إلا الله" تقديره: قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لأن قول لا إله إلا الله بلا إقرارٍ بمحمدٍ رسول الله لا ينفع بعد أن يبعث الله تعالى محمدًا رسول الله بالرسالة على الخلق.

قوله: "ثم مات على ذلك": إشارةٌ إلى الثبات على الإيمان إلى الموت، احترازًا عمَّن يرتد عن دينه ومات على الارتداد، فإنه إذا مات على الارتداد لا ينفعه إيمانه في الزمان الماضي.

وقوله: "دخل الجنة": إشارة إلى أن عاقبته دخولُ الجنة وإن كان له ذنوبٌ كثيرة أو ترك من الأركان شيئًا، إلا أنَّ مَن كان هذه صفته فأمرُه إلى الله: إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة بلا عذاب، وإن شاء عذَّبه بقَدْرِ ذنوبه ثم أدخله الجنة بفضله.

وقول أبي ذر رضي الله عنه: "وإن زنى، وإن سرق؟ " تسمَّى هذه الواوُ: واوَ المبالغة، وتعجب أبي ذر من هذا الحديث إنما كان لأجل أن الزنى والسرقة وغيرهما من الذنوب موجبةٌ للعقوبة، فكيف يدخل الجنة مع استحقاق العقوبة؟ ولم يَدْرِ أن المذنب تكون عاقبته الجنةَ - إمَّا قبل العذاب بأن عفا الله عنه، وإما

ص: 117

بعد العذاب - حتى بيَّن له رسول الله عليه السلام بقوله: "وإن زنى وإن سرق".

وتكرار أبي ذر لفظةَ: (وإن زنا وإن سرق؟) ليس عنادًا وإنكارًا منه قولَ رسول الله عليه السلام، بل ظنَّ أنه لو كرر لأجابه رسول الله عليه السلام بجوابٍ آخر فيجد فائدةً أخرى، فلمَّا كرَّر ثلاثَ مرات فلم يتغير جوابُ النبي عليه السلام، سكت واستسلم.

وقوله عليه السلام: "وإن رغِم أنف أبي ذر"، (رَغِم) بكسر الغين في الماضي وفتحِها في الغابر (رَغْمًا ورُغْمًا): إذا وصل الأنفُ إلى التراب، وهو عبارةٌ عن الإذلال، يقال: فعلتُ هذا على رغمِ فلان؛ أي: على خلاف مراده، ولأجل مَذلَّته، والمراد ها هنا: وإن كره أبو ذرٍّ ذلك؛ يعني: أتبخل يا أبا ذر برحمة الله تعالى؟ فرحمةُ الله واسعةٌ على خلقه وإن كرهْتَ يا أبا ذر، فقد قال الله تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 53].

ففرح أبو ذر بهذا، وعدَّ قول النبي عليه السلام له:(وإن رغِم أنف أبي ذر) شرفًا وكرامةً، فكان إذا حدَّث بهذا الحديث قال تفاخرًا:(وإن رغم أنف أبي ذر).

واسم أبي ذر: جُنْدُب بن السَّكَن، وقيل: جندب بن جُنَادةَ الغفاري.

* * *

26 -

وعن عُبادة بن الصَّامت رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"من شهدَ أنْ لا إله إلَاّ الله وحدهُ لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، وأنَّ عيسى عبدُ الله ورسولُه وابن أمَتِه وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه، والجنةَ حقٌّ، والنارَ حقٌّ = أدخلَهُ الله الجنةَ على ما كانَ منَ العمل".

قوله: "وأن عيسى عبد الله ورسوله": احترازٌ عمَّا قالت النصارى: إن عيسى

ص: 118

ابن الله، وقال بعضهم: إن عيسى شريكُ الله، وقال بعضهم: الله هو عيسى ظهر في هذه الصورة، وكلُّ ذلك كفرٌ، بل ليعتقد الناس أن عيسى عبد الله ورسوله.

"وابن أمته"؛ أي: أمُّ عيسى ابن مريم أَمَةُ الله تعالى كسائر النساء، إلا أن لها شرفًا وفضلًا على سائر النساء.

وقوله: "وكلمته": سمِّي عيسى كلمةَ الله؛ لأنه حَصَلَ من كلمةٍ واحدةٍ وهو أمره تعالى: (كن)، فلما أمر الله لصورة عيسى:(كن)، فكان من غيرِ واسطةِ أبٍ، والتقدير: عيسى الموجود بكلمةٍ.

وقيل: سمَّي كلمةَ الله لأنه كان يتكلم في المهد، وزمانُ المهد ليس زمانًا يتكلم فيه الصبي، فإذا تكلَّم يكون ذلك معجزةً وإنطاقًا من الله تعالى إياه بما تكلم.

وقيل غيرُ هذا ويطولُ ذكره.

"ألقاها إلى مريم"؛ أي: ألقى الكلمة - يعني صورة عيسى عليه السلام في رحم مريم من غير أبٍ.

"وروح منه": (الروح) عيسى عليه السلام، و (منه): أي: من الله؛ يعني: عيسى روحٌ مخلوقٌ كسائر المخلوقات، إلا أن له شرفَ النبوة، وإنما قال:(روح منه)؛ لأنه حصل بأمر من الله لا بواسطةِ أبٍ.

وقيل: سمِّي عيسى روحًا؛ لأنه تحصلُ الروحُ في الأجساد الميتة بدعائه.

واعلم أن الله تعالى لمَّا أخذ من ظهر آدم عليه السلام ذريته أخرجهم من ظهره مثلَ الذر، وقال لهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] فلمَّا أقروا بكون الله تعالى ربَّهم واعترفوا بأنهم عباد الله، ردَّهم إلى ظهر آدم عليه السلام كما كانوا، إلا روحَ عيسى فإنه ما ردَّه في ظهره بل حفظه إلى أن قدَّر الله تعالى أن تحمل مريم، فأرسل جبريل بروح عيسى عليه السلام إلى مريم، فأخذ جبريل

ص: 119

جيبَ قميص مريم ونفخ فيه بروح عيسى، فحملت مريم بعيسى عليه السلام بأمر الله تعالى هكذا ذكر في "تفسير الوسيط"، و"اللباب" وغيرهما.

وقد قيل فيه أقوالٌ غيرُ هذا، ولكن يطول ذكرها.

قوله "على ما كان من العمل"؛ أي: على أيَّ عملٍ كان ذلك الرجل من الذنوب؛ يعني: إذا كان اعتقاد الرجل صحيحًا حتى يموت، أدخله الجنة وإن كان له ذنوبٌ كثيرة، ولكن قبل العذاب أو بعده، هذا في مشيئة الله تعالى كما قلنا في مواضع كثيرة.

* * *

27 -

وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: أَتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقلت له: ابسُطْ يمينكَ فلأَبايعْكَ، فبسطَ يمينَهُ، فقبضْتُ يدي، فقال:"ما لَكَ يا عمرو؟ "، قلت: أردتُ أنْ أشترطَ، قال:"تشترطُ ماذا؟ "، قلت: أنْ يُغفرَ لي، قال:"أما علمتَ يا عمرو! أنَّ الإِسلامَ يهدِمُ ما كانَ قبلَهُ، وأنَّ الهجرةَ تهدِمُ ما كانَ قبلَها، وأنَّ الحجَّ يهدمُ ما كان قبلَهُ؟ "، فبايعتُه.

قوله: "ابسط يمينك فلأبايعك"؛ أي: امدد يدك اليمنى حتى أضع يدي على يدك وأبايعك على الإسلام.

"فبسط يمينه فقبضت يدي"؛ يعني: فلمَّا بسط يده رسول الله عليه السلام قبضت يدي إلى نفسي ولم أضع يدي على يده عليه السلام، فقال:"ما لك يا عمرو؟ " يعني: قال لي رسول الله: ما لك يا عمرو؟ و (ما) للاستفهام، ومعناه: أيُّ شيء ظهر في خاطرك حتى امتنعت وندمت عن وضع يدك على يدي، وعن المبايعة؟

"قلت: أردت أن أشترط": يعني: أردتُ شرطًا، فإن قبلتَ شرطي

ص: 120

ووفيت بشرطي أسلمت.

"قال: تشترط ماذا؟ ": أي: أيَّ شيء تشترط، (تشترط) فعلٌ مضارع مرفوعٌ فاعلُه فيه مضمرٌ، و (ماذا) مفعولُه، وحقُّ (ماذا) أن يكون مقدَّمًا على (تشترط) لأنه استفهامٌ، إلا أنه حُذف (ماذا) قبل (تشترط) وأُعيد بعده تفسيرًا للمحذوف.

"قلت: أشترط أن يغفر لي ربي" يعني قلت: أشترط أن يغفر لي ذنوبي وكفري إن أسلمت.

"قال: أما علمت يا عمرو! أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ "، (الهدم): تخريبُ البناء؛ يعني: أمَا علمت وأمَا سمعتَ أن الإسلام يزيل ويمحو الكفر والذنوب من الرجل، سواءٌ كان الذنوبُ مظلمةَ إنسانٍ من الدم والمال والقذف والغيبة وغير ذلك، أو كان شيئًا يكون بين العبد وبين الله تعالى من الزنى وشرب الخمر وغير ذلك من كبائر الذنوب، فمَن أسلم فكأنه وُلد من أمه في ذلك الوقت؟؛ يعني: كما أنه لا ذنبَ لطفلٍ صغيرٍ فكذلك لا ذنب لكافرٍ وقتَ إسلامه، هذا بحث الإسلام.

وأما الهجرةُ من مكة إلى المدينة لله تعالى ورسوله قبل فتح مكة، والحجُّ، لا يزيلان ويمحوان حقوق العباد، بل تبقى المَظْلمة في ذمة الرجل وإن هاجر وحجَّ حتى يؤديها إلى أصحابها، أو يستحلَّ منهم.

وأما الذنوب التي تكون بين الرجل وبين الله تعالى، فما كان من الصغائر يزولُ ويعفى بالهجرة والحج قطعًا، وما كان من الكبائر فهو في مشيئة الله تعالى، ولا يجوز القطع بأنها تزولُ وتعفى بالهجرة والحج، بل ترجو أن تعفى بالهجرة والحج ولكن لا تقطع به.

فهذه الأشياء التي قلناها في بحث الإسلام والهجرة والحج متفِقٌ عليها

ص: 121

جميعُ أهل السنة، ومن قال بخلافه فهو إما جاهلٌ أو مبتدع، والله أعلم.

وجدُّ عمرو بن العاص: الوائل بن هاشم بن سُعَيْدَ بن سهم.

* * *

مِنَ الحِسَان:

28 -

عن مُعاذ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسولَ الله! أخبِرني بعملٍ يُدخلُني الجنَّة، ويُباعدُني من النار، قال:"لقد سأَلتَ عن عظيمٍ، وإنَّه ليسيرٌ على مَنْ يسَّره الله عليه: تعبُدُ الله ولا تشركُ بهِ شيئًا، وتقيمُ الصَّلاةَ، وتُؤْتي الزكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحجُّ البيتَ"، ثم قال:"ألا أدلُّكَ على أبوابِ الخير؟ الصَّومُ جُنَّة، والصَّدقةُ تُطفئُ الخطيئةَ كما يُطفئ الماءُ النارَ، وصلاةُ الرجلِ في جوفِ الليلِ"، ثمَّ تلا:" {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} "، ثم قال:"ألا أُخبرك برأْسِ الأمرِ وعَمودِهِ وذِرْوةِ سَنامِهِ؟ "، قلتُ: بلى يا رسولَ الله! قال: "رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعَمودُهُ الصلاةُ، وذِرْوةُ سَنامِهِ الجهادُ"، ثم قال:"ألا أُخبركَ بمِلاكِ ذلك كلِّه؟ "، قلت: بلى يا نبيَّ الله! فأخذَ بلِسانِه وقال: "كُفَّ عليكَ هذا"، فقلتُ: يا نبيَّ الله! إنَّا لَمُؤاخذون بما نتكلَّمُ به؟ قال: "ثكلتْكَ أُمُّك يا مُعاذُ! وهلْ يَكُبُّ الناسَ في النارِ على وجُوهِهِمْ - أو: على مَنَاخِرِهم - إلَاّ حصائدُ أَلْسنتهِمِ؟ ".

قوله: "يدخلني": هذا فعلٌ مضارع مرفوعٌ وفاعلُه فيه مضمَرٌ، وهو ضمير "عملٍ"، والفعل والفاعل والمفعول محلُّها جر؛ لأنها صفةُ "عملٍ"، "ويباعدني من النار"؛ كذلك؛ لأنه معطوفٌ على (يدخلني)، ولا يجوز الجزمُ فيه لأنه لم يُرْوَ، ولأنه لم يستقم معناه؛ لأنه لو جزم يكون جوابًا لأمر، وحينئذ يبقى قوله:(بعمل) غيرَ موصوفِ، والنكرة غيرُ الموصوفة لا تفيد.

ص: 122

"قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسيرٌ على مَن يسر الله تعالى عليه" يعني: قال رسول الله عليه السلام لمعاذ: لقد سألت عن شيءٍ عظيم مُشْكِلٍ فيتعسَّرُ الجواب، ولكنه "يسير"؛ أي: سهل "على من يسره الله تعالى عليه" الجواب؛ أي: سهَّل الله تعالى عليه الجواب.

وإنما قال رسول الله عليه السلام: (سألت عن عظيم) لأن معرفة العمل الذي يدخل الرجلَ الجنةَ مِن عِلْم الغيب، وعلمُ الغيب لا يعلمه أحدٌ إلا الله تعالى ومَن علَّمه الله تعالى، كقوله تعالى:{فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27].

قوله: "تعبد الله" يتناول الإتيانَ بجميع أوامر الله تعالى، والانتهاءَ عن جميع مناهيه؛ لأن العبادة معناها: الطاعة والإتيانُ بجميع الأوامر، وكذا الانتهاءُ عن جميع المناهي، والمقصود ها هنا بقوله:(تعبد الله): توحيد الله تعالى والإقرارُ بكون الله واحدًا لا شريك له في ملكه وألوهيته، وكل مَن سواه وسوى أسمائه وصفاته مخلوقٌ؛ يعني: الإتيان بهذه الأركان الخمسة - أعني الإقرار بوحدانية الله تعالى وإقام الصلاة وما بعده - هو العمل الذي يدخل الرجل الجنة، وقد ذكرنا قبل هذا عفو الذنوب بمشيئة الله تعالى.

قوله: "ألا أدلك" الهمزة في (ألا) للاستفهام، و (لا) للنفي، وتقديره: ثم قال: ألا أدلك "على أبواب الخير؟ " فقلت: بلى يا رسول الله، فلعله كان: قلت بلى، موجودًا هنا فنسيه الرواة؛ لأنه قال معاذٌ بعد هذا في هذا الحديث موضعين: قلت: بلى يا رسول الله.

وقوله عليه السلام في تفسير أبواب الخير: الصوم والصدقة والصلاة في جوف الليل، جَعَل هذه الأشياءَ أبوابَ الخير؛ لأن الصوم شديدٌ على النفس، وكذا إخراج المال في الصدقة، وكذا الصلاة في جوف الليل، فمَن اعتاد هذه

ص: 123

العبادات يسهُل عليه كلُّ خير، ويأتي منه كلُّ خير؛ لأن المشقة في دخول الدار يكون بفتح الباب المغلق، فإذا فتح الرجل الباب يسهل دخول الدار، فكذلك هذه العبادات الثلاث متعسِّرة شديدةٌ على النفس، فإذا اعتادت النفس بها اعتادت بجمع العبادات.

وقوله: "الصوم جنة" بضم الجيم وتشديد النون: الشيء الذي يجنُّ؛ أي: يَستر الرجلَ عن سهام العدو، وسمِّي الصومُ جنةً؛ لأن الصوم مانعٌ للرجل عن الأكل والشرب وقضاء الشهوة والشتم والغيبة والكذب والبهتان، وهذه الأشياء من حظوظ النفس، ومنعُ حظوظ النفس منع النار عنه؛ يعني: كما أن الصوم مَنَعَ الرجل عن حظوظ نفسه مَنَعَ النار عنه أيضًا يوم القيامة؛ لتكون راحةُ دفع النار في مقابَلةِ ما فات عنه من راحة الأكل والشرب في الدنيا بسبب الصوم.

قوله: "الصدقة تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار"، (الصدقة) ها هنا هي صدقةُ التطوع لا الصدقة التي بمعنى الزكاة؛ لأن الزكاة قد ذكرت قبل هذا.

(الخطيئة): الذنب؛ يعني: الصدقة تمحو وتُزيل الذنوب كما تطفئ الماء النار، وهذا مثل قوله عليه السلام لأبي ذر رضي الله عنه:"اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحُها"، ومثلُ هذا قوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].

(الإطفاء): إخماد النار.

فإن قيل: كيف تزيل الحسنة السيئةَ؟.

قلنا: لا تخلو السيئة: إما أن تكون بين العبد وبين الله تعالى، أو بين العبد وبين إنسان كالمظلمة:

فإن كانت بين الرجل وبين الله تعالى فإن الرجل إذا عمل سيئةً يَغضب الربُّ عليه، وإذا عمل حسنةً يرضى عنه الربُّ جل جلاله، والرضا والغضبُ لا يجتمعان في قضية واحدة، بل إذا رضي الله تعالى عن العبد يترك غضبه ويعفو عن سيئاته؛

ص: 124

لأن رحمته تعالى سبقت غضبه.

وإن كانت السيئة بين العبد وبين الإنسان فإنه إذا عمل حسنةً تَدفع تلك الحسنة إلى خصمه عوضًا من مظلمةٍ يومَ القيامة، وتسقط المظلمةُ عن رقبته، فإذا كان كذلك فقد أزالت الحسنة مظلمة خصمه عنه.

"وصلاة الرجل في جوف الليل" - أي: في وسط الليل - لها فضيلةٌ كثيرةٌ يأتي ذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.

قوله: "ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} " يعني قال معاذ: قرأ رسول الله عليه السلام: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17] يعني: للمصلِّين فضيلةٌ ودرجةٌ رفيعة، ومن جملتها أنهم استحقُّوا بسبب صلاة الليل أن يمدحهم الله تعالى في كتابه القديم في قوله:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} الآية.

{تَتَجَافَى} : فعلٌ مضارعٌ، ومعناه: تتباعد وتتفارق جنوبهم عن مواضع نومهم وفُرشهم، ويتركون لذة النوم، ويقومون ويتوضؤون ويصلون في جوف الليل ويَدْعون ربَّهم ويتضرعون إليه من خوف عذابه والطمع في مرضاته ولقائه وحبه.

{الْمَضَاجِعِ} : جمع مَضْجَع بفتح الجيم، وهو موضع الضجع وهو النوم.

قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} : يعني لا يبخلون بما آتيناهم من الأموال، بل يؤتون الزكاة ويعطون الصدقة ويضيفون الأضياف.

{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} (أخفي): فعل ماضٍ مجهول، من أخفى إخفاء: إذا ستر شيئًا.

{مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (القرة): التفريجُ والإنعام، و (الأعين): جمع العين، و (قرة العين) معناه: جَعْلُ العين بصيرًا، والمراد به حيث استعمل هذا اللفظ إيصالُ

ص: 125

الفرح إلى أحدٍ والإنعامُ عليه.

يعني قال الله تعالى: أعددت وهيَّأْت لعبادي الصالحين في الجنة من الحُور والقصور والغلمان وأنواع الثمار والأطعمة ما لم يعلم قَدْرَه أحدٌ ولا يَقْدِرُ على وصفه لسان.

وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني: جعلتُ هذه الأشياء إليهم للجزاء بما كانوا يعملون في الدنيا من الأعمال الصالحة.

قوله: "وذروة سنامه"، (الذروة) بكسر الذال وضمها: أعلى الشيء، وذروة الجبل: أعلاه.

(السنام) بفتح السين: ما ارتفع من ظهر الجمل والبعير، وهو من سَنِم - بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر - سَنَمًا: إذا ارتفع الشيء.

والمراد بـ (الإسلام) في قوله: "رأس الأمر الإسلام": كلمتا الشهادة، وأراد بـ (الأمر) ها هنا؛ أمر الدين؛ يعني ما لم يُقرَّ العبد بكلمتي الشهادة لم يكن له من الدين شيءٌ أصلًا، وإذا أقرَّ بكلمتي الشهادة حصل له أصلُ الدين، إلا أنه ليس له قوةٌ وكمال، كالبيت الذي ليس له عمود، فإذا صلَّى وداوم على الصلاة قَوِيَ دينُه، ولكن لم تكن له رفعةٌ وكمال، فإذا جاهد حصل لدينه الرفعة.

فإن قيل: لمَ لمْ يذكر الزكاة والصوم والحج مع أن النبي عليه السلام حدَّث بهذا الحديث؟.

قلنا: له جوابان:

أحدهما: أنه عليه السلام ذكر الأركان الخمسة في أول هذا الحديث، وأعاد ها هنا ذكرَ ما هو الأقوى منها وهي الشهادةُ والصلاةُ تعظيمًا لشأنهما؛ لأنهما مكرَّران في كل يومٍ وليلة مرارًا كثيرة، بخلاف الزكاة والصوم فإنهما واجبان في كلِّ سنةٍ مرةً واحدة، وبخلاف الحج فإنه واجبٌ في جميع عمر

ص: 126

الرجل مرةً واحدة، وزاد الجهادَ وبيَّن أن به رفعةُ الدين؛ لتكون هذه الفضيلة في بعض الأحوال محرِّضًا للناس على الجهاد.

والجواب الثاني: أن المجاهد قلما يترك الزكاة والصوم والحج؛ لأن الجهاد فضيلةٌ في بعض الأحوال وفرضُ كفاية في بعض الأحوال، ومَن أتى بالجهاد الذي هو فضيلة أو فرضُ كفاية فكيف يترك الزكاة والصوم والحج مع أن كلَّ واحد من هذه الأشياء فرضُ عينٍ؟ ولأن الجهاد أشقُّ على النفس من هذه الأشياء، ومَن أتى بما هو الأشق فكيف يترك بما هو الأخف والأيسر على النفس؟

قوله: "بملاك ذلك"، (الملاك) بكسر الميم: ما به إحكامُ الشيء وتقوِيَتهُ وإكماله، من مَلَك - بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر - مَلْكًا بفتح الميم: إذا أَحسن عَجْنَ الدقيق وبالغ فيه، وذلك إشارةٌ إلى ما ذكر من أول الحديث إلى ها هنا من العبادات، يعني: أُخبرك بشيء يَكْمُل ويتمُّ به لك ثوابُ هذه العبادات.

قوله: "فأخذ بلسانه" الباء زائدة، والضمير راجعٌ إلى النبي عليه السلام؛ يعني: أخذ رسول الله عليه السلام لسانَ نفسه وقال لمعاذ: "كفَّ عليك هذا" بضمِّ الكاف وفتح الفاء أمر مخاطب، مِن (كفَّ) بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر (كفًا): إذا منع.

قوله: "عليك هذا"(هذا): إشارة إلى اللسان، والتقدير: كُفَّ اللسان عليك؛ أي: احفظ لسانك من أن يوقع عليك ضررًا وهلاكًا وخسارًا في الدنيا أو في الآخرة؛ يعني: لا تتكلم بكلام يكون لك به إثمٌ.

قوله: "إنا لمؤاخذون بما نتكلم به"، (المؤاخذة): أن يأخذ أحدٌ أحدًا بذنبٍ، والفعل منه (آخَذَ يؤاخِذُ) واسم الفاعل:(مؤاخِذ) بكسر الخاء، والمفعول:(مؤاخَذ) بفتح الخاء، وقوله:(لمؤاخذون) مفعولٌ منه، يعني: هل

ص: 127

يؤاخذنا ربنا تعالى (بما نتكلم به) من الكلام.

قوله: "ثكلتك أمك يا معاذ"، (ثكل) بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر (ثكلًا): إذا فقدت المرأة ولدها؛ أي: فَقَدتْكَ أمك وعَدِمتْك بأن تموت يا معاذ، و (ثكلتك أمك) دعاءٌ على أحدٍ من غير أن يراد وقوعُهُ، بل يقال لتأديب الرجل وتنبيهه من الغفلة وتيقُّظه في الأمر، ومثله كثيرٌ: قاتله الله وما أشبه ذلك.

قوله: "هل يكب الناس"، كب - بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر - كبًا: إذا ألقَى فأسقط أحدًا على وجهه، هذا متعدٍّ، وإذا نقلته إلى باب أَفْعَلَ وقلت: أَكَبَّ زيدٌ، صار لازمًا، ومعناه: سقط على وجهه، وهذا من نوادر اللغة؛ لأن الغالب أن ينقل الفعل اللازم الثلاثيُّ إلى (أَفْعَلَ) حتى يصير متعدِّيًا، نحو: خرج وأخرج.

و (أو) ها هنا للشك، يعني شكَّ في أن رسول الله عليه السلام قال:"على وجوههم، أو" قال: "على مناخرهم".

(المناخر): جمع مَنْخِرٍ بفتح الميم وكسر الخاء، ويجوز فتح الخاء، وهو ثقبة الأنف.

(الحصائد): جمعُ حصيدة، وهي فعيلةٌ بمعنى مفعولة، من (حصد): إذا قطع الزرع، وهذا إضافة اسم المفعول إلى فاعله، كقولك: هذا مضروبُ زيدٍ؛ أي: الذي ضربه زيدٌ، وها هنا (اللسان) فاعلٌ و (الحصائد) بمعنى المحصود؛ أي: محصود اللسان، يعني الكلام الذي تكلم به اللسان، شبَّه ما تكلم به اللسان بالزرع المحصود، أو بالحشيش المقطوع بالمنجل، فكما أن المنجل يقطع الحشيش ولا يتميز بين الرطب واليابس، والجيد والرديء، فكذلك لسانُ بعض الناس يتكلَّم بكلِّ نوعٍ من الكلام القبيح والحسن.

ص: 128

(يكب) بفتح الياء: فعل مضارع معروفٌ، و (الناس) مفعوله، و (الحصائد) فاعلُه؛ يعني: لا يُلقي أحدًا في النار إلا ما يجري على لسانه من الكلام القبيح، من الكفر والقذف والشتم والغيبة والبهتان، والحديث مع المرأة الأجنبية بالشهوة وغيرِ الشهوة.

فإن قيل: قوله عليه السلام: "هل يكب الناس؟ " استفهامٌ بعده كلمةُ (إلا)، والاستفهام إذا كان بعده لفظة (إلا) يكون بمعنى النفي، فيكون معنى هذا الكلام نفيُ دخول النار عمَّن حفظ لسانه عمَّا به إثم، فما تقولون فيمَن حفظ لسانه عن السوء وترك ركنًا من الأركان، أو فعل فعلًا قبيحًا، من غير أن يتكلم باللسان شيئًا قبيحًا، فهل يدخل النار أم لا؟.

قلنا: لم يقل النبي عليه السلام هذا الكلام لنفي دخول النار عمَّن حفظ لسانه عن السوء وإثباتِ دخول النار لمن لم يحفظ لسانه عن السوء ونفي دخول الجنة عنه، بل إنما قال رسول الله عليه السلام هذا الكلام؛ لأن أكثر الناس دخولًا النار يكون بسبب اللسان، وإذا فكرت وجربت الناس لم تجد أحدًا حفظ لسانه عن السوء ويصدر منه شيء يوجب دخوله النار إلا نادرًا، فإذا كان كذلك فيكون حكم رسول الله بهذا الحكم على الأغلب والأكثر.

* * *

29 -

وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أحبَّ لله، وأبغضَ لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكملَ الإِيمانَ"، رواه أبو أُمامة رضي الله عنه.

قوله: "فقد استكمل الإيمان"، (استكمل) بمعنى: كمل، يعني:"من أحب" أحدًا يحبه "لله" لا لحظَّ نفسه، "و" من "أبغض": أحدًا يبغضه "لله" بأن يكون فيه كفر أو معصية وهو لا يقبل النصيحة، ولا يبغض أحدًا لأجل نفسه بأن يؤذيه ذلك الأحد، "وأعطى لله"؛ يعني: يعطي ما يعطيها لرضا الله وطلبِ ثوابه،

ص: 129

ولا يعطي لميل نفسه والرياء، "ومنع لله"؛ يعني: لو منع إعطاء المال إلى أحدٍ، ينبغي أن يمنعه بأمر الله تعالى، بأن يكون ذلك الشخص ممَّن لم يأمر الله تعالى بإعطاء المال إياه، مثل أن لا يجوز صرف الزكاة إلى كافرٍ لخسَّته، ولا إلى بني هاشم وبني عبد المطلب لعزَّتهم، ولا يجوز الوقف على المرتدِّين وقطاع الطريق والكفار المحاربين، ويحرم بيع السلاح من هؤلاء، ويحرم بيع العنب ممن يتخذ الخمر، فإن باع فالبيعُ صحيح.

وبحث هذا الحديث طويلٌ، وبناء التصوُّف على هذا الحديث؛ يعني: مَن حصل فيه هذه الأربعةُ فقد زالت منه الخصال النفسانية، وظهرت فيه الخصال الرحمانية؛ أي: المُرْضيةُ للرحمن، فمن كان بهذه فقد أكمل إيمانه.

واسم أبي أمامة: صُدَي بن عجلان بن وهب الباهلي.

* * *

30 -

وقال: "أَفْضَلُ الأَعمالِ الحُبُّ في الله، والبُغضُ في الله"، رواه أبو ذَرٍّ.

وقال: "أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله" رواه أبو ذر.

بحثُ هذا الحديث ما ذكر في الحديث المتقدم، والتقدير: أفضل الأعمال الحبُّ في طريق الله؛ يعني: حب أوامره وعباده لرضاه.

* * *

31 -

وقال: "المُسلمُ من سَلِمَ المُسلمونَ من لِسانِه ويَدِه، والمُؤمن من أَمِنَه الناسُ على دِمائهم وأَموالهم، والمُجاهد من جاهد نفسَه في طاعة الله، والمُهاجر من هجَر الخَطايا والذنوب"، رواه فَضالة بن عُبيد رضي الله عنه.

وقال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه

ص: 130

الناس على دمائهم وأموالهم، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله تعالى، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب" رواه فَضَالة بن عبيد.

وبحث هذا الحديث مضى في الحديث الرابع من أول هذا الكتاب، إلا أنه ثَمَّ لفظ الحديث:"والمهاجر مَن هَجر ما نهى الله تعالى عنه"، وهنا "من هجر الخطايا والذنوب" ومعناهما واحد.

وأما معنى قوله عليه السلام: "والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم" يقال: أمنتُ زيدًا على هذا الأمر وائتمنته؛ أي: جعلته أمينًا، والأمين: حافظُ الأمانة؛ أي: تارك الخيانة، يعني: المؤمن الكامل هو الذي ظهرت أمانته وعدالته وصدقه بحيث لا يخاف منه الناس بإذهاب مالهم وقتلهم ومدِّ اليد على نسائهم، ومن لم يكن بهذه الصفة فهو مؤمنٌ ناقص.

واختلف العلماء في المسلم والمؤمن، فقال بعضهم: المسلم والمؤمن واحدٌ؛ لقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36]، (فيها) راجع إلى قرى قوم لوط؛ يعني: أخرجنا وأنجينا في قرى قوم لوط لوطًا ومن آمن، به فما وجدنا في تلك القرى غير بيتٍ من المسلمين، و (المسلمين) و (المؤمنين) هنا واحد لأن المراد باللفظين لوطٌ عليه السلام ومَن آمن به، وإنما قال:(من المسلمين) ولم يقل: من المؤمنين، كي لا يتكرر لفظُ المؤمنين.

وقال الآخرون: المؤمن غير المسلم لقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] أنزلت هذه الآية في أعرابٍ من بني أسد ابن خزيمة؛ جاؤوا إلى النبي عليه السلام في سنة قحطٍ وأظهروا الشهادة، وقالوا: آمنا بك بالطوع والرغبة ولم نقاتلك كما قاتلك قبيلة فلان فأعطنا من الصدقة، قالوا هذا القولَ ولم يكن في قلوبهم الإيمان بل كانوا منافقين، فأنزل

ص: 131

الله تعالى فيهم هذه الآية؛ يعني: قلتم كلمة الشهادة ولم توافق قلوبُكم ألسنتَكم، فقد بيَّن أن الإيمان تصديقُ القلب ولم يكن لهم هذا، وبيَّن أن الإسلام الإقرارُ باللسان بكلمتي الشهادة.

والمختار هذا القول، كما أجاب رسول الله عليه السلام جبريلَ عليه السلام في أول هذا الباب، فذكر أن الإيمان تصديقُ القلب واعترافهُ بالإيمان بالله تعالى وملائكتِه

إلى آخر الكلمات، وذكر أن الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة

إلى آخر الكلمات، وقد مر بحثُ الإيمان والإسلام في ذلك الحديث على الاستقصاء.

قوله: "والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله تعالى" يعني: المجاهد ليس مَن قاتل الكفار فقط، بل المجاهدُ مَن حارب نفسه وحملها وأكرهها على طاعة الله تعالى؛ لأن نفس الرجل أشدُّ عداوةً معه من الكفار؛ لأن الكفار أعداؤه ونفسَه عدوُّه، ولكن الكفار أبعد منه ولا يتفق تلاحُقُهم وتَقَابلهم به إلا حينًا بعد حين، وأما نفسُه أبدًا تلازمه وتقاتله وتمنعُه عن الخير والطاعة، ولا شك أن القتال مع العدو الذي يلازم الرجل أهمُّ من القتال مع العدوِّ الذي هو بعيدٌ منه، كما قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]، و (يلونكم): أصله: يليونكم: من (ولي) نُقلت ضمة الياء إلى اللام وحذفت الياء لسكونها وسكون واو الجمع، ومعنى (يلونكم): يقربونكم؛ يعني: ابدؤوا بقتالِ مَن كان بلده أقربَ منكم من الكفار، فإذا فرغتم من الأقرب فقاتلوا الأبعد.

و (فضالة) بفتح الفاء: اسم جد نافذ بن قيس بن صهيب، وكنيةُ فضالة: أبو محمد، وهو الأنصاري.

* * *

ص: 132