الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه كالمرتد، ولم يرثه ورثتُه المسلمون كما لا يرثون من المرتد، فقد ثبت بهذه الأدلة أنه لم يخرج منه أصل الإيمان، بل خرج كمال الإيمان، ولم يفارقه كمالُ الإيمان أيضًا بالكلية بل وقف فوق رأسه حتى يعود إليه بعد فراغه من ذلك الفعل القبيح، وهذا مثل قوله:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" ومثله قوله: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا"، ومثلُ هذا كثير.
* * *
فصل في الوَسْوَسةِ
(فصل في الوسوسة)
مِنَ الصَّحَاحِ:
44 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله تَجاوَزَ عنْ أُمَّتي ما وَسوستْ به صُدورُهَا ما لمْ تعمَلْ به أو تتكلَّم".
قوله: "تجاوز": أي عفا وغفر "عن أمتي": احترازٌ عن غير أمته عليه السلام من الأمم.
وسوس يوسوس وسوسة: إذا خطر وظهر في القلب خاطر قبيح، فما يظهر بالقلب من الخواطر الدنيَّة المذمومة يسمَّى وسوسة، وما كان من الخواطر المَرْضِية الحسنة يسمى إلهامًا.
الضمير في "صدورها" راجعٌ إلى (أمتي)، "ما لم تعمل"، (ما) للدوام.
يعني: ما جرى في خاطر الإنسان من قصد المعاصي لا يؤاخذه الله تعالى به إن لم يفعله ولم يقله، فإذا فعله أو تلفظ به أُخذ به.
اعلم أن الوسوسة ضروريةٌ واختيارية:
فالضرورية: ما يجري في القلب من الخواطر ابتداءً من غير أن يقدر الإنسان على دفعه، فهذا معفوٌّ عن أمة محمد عليه السلام وعن جميع الأمم؛ لأن الله تعالى قال:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، (الوسع): الطاقة والقدرة.
والاختيارية: الدوام والإصرار على ما يجري في الخاطر بأن يردِّد ما يجري في القلب من الخواطر، ويقصد أن يعمل به ويتلذَّذ منه، بأن يجري في قلبه حب امرأة ويدوم على ذلك الحب، ويقصد الوصول إلى تلك المرأة، أو يجري في قلبه قتل مَن يحرم قتله، أو يعزم على سرقةٍ أو شربِ خمر، وما أشبه ذلك من المعاصي، فهذا النوع اختياريٌّ، لأن الإصرار بما يجري في الخاطر والعزمَ على العمل به باختياره فهذا النوع هو الذي عفا الله عنه من هذه الأمة دون سائر الأمم، تشريفًا وتكريمًا لنبينا عليه السلام وأمته.
اعلم أن اعتقاد الكفر والبدعة والشرك وظن السوء في حق المسلمين، فإذا ظهر في قلبه شيء من هذه الأشياء وتركه وندم عليه لم يؤخذ به، وإن أصر على شيء من هذه الأشياء يكون مأخوذًا به.
* * *
45 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءَ ناسٌ منْ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فسألُوه: إنَّا نجدُ في أنفُسِنَا ما يتعاظَمُ أحدُنَا أنْ يتكلَّمَ بِهِ، قال:"أَوَقَدْ وجدتُمُوهُ؟ "، قالوا: نعم، قال:"ذاكَ صريحُ الإِيمانِ".
قوله: "جاء أناس"؛ أي: جماعة فسألوه: "إنا نجد في أنفسنا"؛ أي: إنَّا نجد في قلوبنا أشياء قبيحةً دنية؛ أي: يجري في قلوبنا: من خلق الله؟ وكيف هو؟ ومِن أيِّ شيء هو؟ وما أشبه ذلك ممَّا نعلم أنه قبيحٌ لا يليق بنا أن نعتقده؛ لأنَّا نعلم أن الله قديم خالق الأشياء، وليس بمخلوقٍ وليس بجوهرٍ ولا عَرَضٍ
حتى يكون من شيء، أو يصفه ويعلم كيفيته أحدٌ، فما حكم جريان هذه الأشياء في خواطرنا؟
تعاظَمَ زيدًا هذا الأمر؛ أي: عَظُمَ وشقَّ عليه، فـ (زيدًا) مفعول، و (هذا الأمر) فاعلٌ، وتعاظم زيدٌ عَمرًا؛ أي: وجده عظيمًا، وكلا المعنيين ها هنا حسنٌ، وإذا قرأتَ "أحدنا" برفع الدال، يكون (أحدنا) هو الفاعل، و"أن يتكلم به" هو المفعول؛ أي: يجد أحدُنا التكلُّم به عظيمًا؛ أي: ذنبًا عظيمًا، وإذا قرأتَ (أحدَنا) بنصب الدال يكون (أحدنا) مفعولًا، و (أن يتكلم) به فاعل؛ أي: يعظم ويشقُّ التكلُّم به على أحدنا من غاية قبحه ورداءته، هذا جائزٌ من حيث المعنى، ولكن المسموع والمرويَّ:(أحدُنا) برفع الدال.
"قال: أوقد وجدتموه؟ ": أي: قال لهم رسول الله عليه السلام: أوقد وجدتم ذلك الخاطر قبيحًا، وعلمتم أنه مذمومٌ وأنه غير مَرْضيٍّ لله تعالى؟ الهمزة في (أوقد) للاستفهام.
قوله عليه السلام: "ذلك صريح الإيمان"، (ذلك) إشارةٌ إلى مصدرٍ مقدرٍ، وهو: وجدان قبح ذلك الخاطر، ويحتمل أن يكون المصدر المقدَّر هو التعاظم؛ أي: تعاظُمُكم التكلُّمَ بذلك الخاطرِ من غاية قبحه هو صريحُ الإيمان.
(الصريح): الخالص.
يعني: مَن جرى في قلبه خاطرٌ قبيحٌ وعلم قبحَه، وترك ذلك الخاطر وأنكره، لا إثم عليه؛ لأن إنكاره ذلك الخاطر وعِلْمَه أنه قبيحٌ لا يكون إلا من إيمانٍ خالص، لأن الكافر يصر على ما في قلبه من تشبيه الله تعالى بالمخلوقات ويعتقدُه حسنًا.
46 -
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأْتي الشَّيطانُ أحدَكُمْ فيقول: مَنْ خلقَ كذا؟ من خلَق كذا؟ حتى يقول: مَنْ خلَقَ رَبَّك؟ فإذا بلغَهُ فليَسْتَعِذْ بالله، وَلْيَنْتَهِ".
قوله: "يأتي الشيطان أحدكم"؛ أي: يوسوس في قلبه، ويقول له: مَن خلق السماء؟ ومَن خلق الأرض؟ ومَن خلق الإنس؟ وعلى هذا يسأله حتى يبلغ إلى أن يقول: من خلق الله، وغرضُه أن يوقع الرجل في الغلط والكفر، لأن الرجل لو فكَّر في كون الله تعالى مخلوقًا، ويعتقده، يكفر به، ولو فكَّر فيه ولم يعتقد كونَه مخلوقًا فلا يكفر، ولكن ربما يحصل في قلبه شكٌّ وتعجُّبٌ في كيفية كونه تعالى غير مخلوق، فيتسلط عليه الشيطان ويوسوس في قلبه إلى أن يوقعه في الكفر، والطريق أن يَسُدَّ الرجل ويغلقَ باب الوسوسة في هذا على وجه قلبه، ويطرد الشيطان بالتعوُّذ بالله من الشيطان الرجيم.
قوله: "فإذا بلغه": الضمير راجع إلى مصدرٍ مقدر، والتقدير: فإذا بلغ، قوله:"من خلق ربك" فليستعذ بالله، "ولينته"، (الانتهاء): ترك الشيء، يعني فليقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وليترك التفكُّر والشروع في هذه الوسوسة، وإن لم يقدر أن يزيل التفكر في هذه الوسوسة بالتعوذ فليَقُمْ عن مجلسه ذلك، وليشتغل بشيءٍ آخر، من تلاوة القرآن والحكايات وغير ذلك.
* * *
47 -
وقال: "لا يزالُ الناسُ يتَساءَلونَ حتى يُقالَ: هذا خَلَقَ الله الخلْقَ، فمَنْ خلَقَ الله؟ فمنْ وجدَ مِنْ ذلكَ شيئًا فليقُلْ: آمنتُ بالله ورُسُلِهِ"، رواهما أبو هريرة رضي الله عنه.
قوله: "لا يزال الناس يتساءلون": التساؤل: جريان السؤال بين اثنين أو
أكثر، يعني: أبدًا يسأل بعض الناس بعضًا، ويجري بينهما السؤال في كلِّ نوعٍ، حتى يبلغ سؤالهم إلى أن يقال.
وقوله: "هذا خلق الله الخلق" يحتمل وجوهًا:
أحدها: أن يكون (هذا) مفعولًا، وعطفُ بيانه محذوفٌ وهو: القول، والتقدير: حتى يقال هذا القولَ: (خلق الله الخلق، فمَن خلق الله؟) فـ (هذا) القول مفعولُ (حتى يقال) أُقيم مقام الفاعل، و (خلق الله الخلق) مفعول (هذا القول).
والوجه الثاني: أن (هذا) مبتدأ، وما هو عطفُ بيانه محذوفٌ؛ أي: هذا الشيءُ أو هذا القولُ الذي أنه (خَلَق الله الخلق) معلومٌ مشهور، فـ (خلق الله الخلق) خبرُ (أنه)، و (أنه) مع خبره صلة (الذي)، و (الذي) مع صلته صفة (القول)، و (القول) مع صفته عطفُ بيانِ (هذا)، و (هذا) مع عطف بيانه مبتدأٌ وخبره (معلوم أو مشهور)، يعني: حتى يقول الناس: معلومٌ مشهورٌ عندنا أن الله خلق الأشياء، ولكن لا نعلم مَن خلق الله، فيسأل بعضهم بعضًا أن يخبره:"فمن خلق الله".
قوله: "فمن وجد من ذلك شيئًا"؛ يعني: فمَن سمع هذا السؤال من أحدٍ فليعلم أن سائل هذا السؤال شيطان، فليدفعه عن نفسه بالزجر والتعوذ، وبأيِّ طريقٍ يقدر عليه، وإن وجد هذا السؤال في قلبه فليعلم أنه وسوسة الشيطان فليخرجْه عن قلبه.
قوله: "فليقل آمنت بالله ورسله"؛ يعني: آمنت بما قال الله تعالى ورسله، وصدَّقت الله ورسله بما قالوا، وقد قال الله تعالى في وصف (1) نفسه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا
(1) في "ت": "وصفه".
أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] والنصُّ واردٌ بأن الله تعالى خالق الأشياء غيرُ مخلوقٍ، وهو قديمٌ أبدي ليس له شريكٌ ولا نظير، وغيرُ ذلك من الأوصاف التي تفرَّد بها الله تعالى وأُورد في القرآن والأحاديث، فآمنت بما قال الله تعالى ورسولُهُ، ولم أقل: إن الله خلقه أحدٌ، أو موصوفٌ بصفةٍ من أوصاف المخلوقات، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
* * *
48 -
وقال: "ما مِنْكُمْ مِنْ أحدٍ إلَاّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قرينُهُ مِنَ الجِنَّ"، قالوا: وإيَّاكَ يا رسولَ الله! قال: "وإيَّايَ، إلَاّ أنَّ الله أَعَانَنِي عليه فأَسْلَم، فلا يأْمُرُني إلَاّ بخيْرٍ"، رواه ابن مسعود.
قوله: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه"، (القرين): الصاحب.
"الجن": اسمٌ لمن يستتر ويختفي عن عيون الناس من الجن المعروف والشياطين والملائكة، والمراد بالجن ها هنا الشياطين، وهم أولاد إبليس، ولم يُولد ولدٌ من بني آدم إلا وُلد له ولدٌ يوكله على ذلك المولود من بني آدم، هكذا ذكر في التفسير.
وذكر في بعض التفاسير في قوله: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} أن أولاد إبليس تخرج من دبره.
يعني: كلُّ إنسان يصحبه شيطانٌ يوسوسه ويأمره بالشر، ويشترك في هذا جميع البشر من الأنبياء وغيرهم حتى سيد الرسل محمد عليه السلام.
قوله: "أعانني عليه فأسلم": روي (فأسلم) برفع الميم وفتحها، فالرفع على أنه فعلٌ مضارع، والهمزة للمتكلَّم، من سَلِمَ يَسْلَمُ سلامةً: إذا خلص من المكروه، يعني: أعانني الله تعالى فغلبتُ عليه وصار مقهورًا عاجزًا، فسَلِمْتُ من شره.
واختار قومٌ هذه الرواية؛ لأن (أسلمَ) بفتح الميم، يكون ماضيًا من الإسلام، والشيطان لا يقبل الإسلام؛ لأن الشياطين كلها مجبولةٌ على الكفر فلا يقبلون الإسلام.
وقولُ هؤلاء ليس بقويٍّ؛ لأن قوله: "فلا يأمرني إلا بخير" يدل على إسلامه؛ لأنه لو لم يُسْلِمْ فكيف يأمره بالخير؟
بل المختار والأصح روايةُ مَن يرويه: (أسلمَ) بفتح الميم، وإذا كان مفتوح الميم فله معنيان:
أحدهما: (أَسلَمَ) الذي هو ضد كفر، والثاني (أسلمَ) بمعنى: انقاد وأطاع، وكِلَا المعنيين مستقيمٌ هنا؛ لأن الله تعالى قادر على أن يرزق هذا الشيطان الإسلام ببركة نبينا عليه السلام، فإنه نبي الرحمة، والهادي من الضلالة.
وإن قلنا: معنى (أسلم): انقادَ، فمستقيمٌ أيضًا؛ لأنه لا عجب أن يصير شيطانه منقادًا أو مطيعًا له وعاجزًا عن أن يأمره بشرٍّ، فإن الله تعالى قد أعطاه من المعجزة والكرامة ما لا يُحصى، فيكون هذا كرامةً له، كما أخبر عليه السلام في حديثٍ آخر أنه أخذ (1) شيطانًا وأراد أن يربطه على عمود من عُمُد المسجد، ثم ذكَّره دعوة أخيه سليمان عليه السلام فخلَاّه، ويأتي شرحُ هذا الحديث في موضعه إن شاء الله تعالى.
* * *
49 -
وقال: "إنَّ الشَّيطانَ يجري مِنَ الإِنسانِ مَجْرَى الدَّمِ".
"وقال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم"، (مجرى): مصدرٌ ميميٌّ أو مكانٌ، من جرى يجري جريانًا، يعني: إن كيد الشيطان ووساوسه
(1) في "ش": "أمسك".
تجري في الإنسان حيث يجري فيه الدم، يعني في جميع عروقه وظواهره وبواطنه، هذا إذا كان معنى (مجرى الدم): مكانَ الدم، وأما إذا كان معناه المصدر، فيكون معناه: إن كيد الشيطان ووساوسه تجري في الإنسان جريانًا مثل جريان الدم فيه، يعني: كما يجري الدم في أعضاء الإنسان وليس له إحساسٌ بجريانه، فكذلك يجري وسواس الشيطان في أعضاء الإنسان، وليس له إحساسٌ وعلمٌ بذلك، وجريانُ الشيطان في الإنسان شيءٌ (1) أعطاه الله تعالى الشيطان لشيئين:
أحدهما: لجزائه على الطاعات التي كان عَمِلَها، فأعطاه أجر عمله في الدنيا بتحصيل مطلوبه، وهو وسوسة الإنسان.
والثاني: لإظهار رحمته وقدرته ومغفرته وغضبه بإدخال الشيطان ومَن يتبعه النار وإدخالِ مَن خالفه الجنة، وإظهارِ رحمته بأن يعفو ويغفر لمَن تبع الشيطان ثم تاب واستغفر الله
روت هذا الحديث أمُّ المؤمنين صفيةُ رضي الله عنها.
* * *
50 -
وقال: "ما مِنْ بني آدَمَ [مِنْ] مَوْلُودٍ إلَاّ يَمسُّهُ الشيطانُ حين يولد، فيَستهلُّ صارخًا من مسَّ الشيطانِ، غيرَ مريمَ وابنها"، رواه أبو هريرة.
قوله: "ما من بني آدم مولود" تقديره: ما مولود من بني آدم "يمسه الشيطان"؛ أي: يوسوسُه، ويوقعُ في صدره الغفلةَ وحبَّ الأشياء، وغيرَ ذلك مما يكون من اتِّباع الشيطان، ويريد أن يجعله مطيعًا منقادًا لنفسه، فيجد الطفل من تلك الوسوسة شيئًا لم يأنس به، ولم يكن معتادًا له قبل ذلك، فيتأذى منه
(1) في "ش": "شيء عظيم".
كما يتأذى الإنسان من الضرب وغيره، فيصيح ويرفع صوته بالبكاء، وليس معنى المسِّ هنا مسَّ البشرة بالضرب، ومسَّ اليد وغير ذلك؛ لأن الشيطان لا يمسُّ بشرة الكبير بالضرب وغيره، بل ليس له سبيل إلى الإنسان سوى الوسوسة، فكذلك الصغير.
"استهل": إذا بكى الصبي، "صارخًا" نصبٌ على الحال؛ أي: في حال كونه صارخًا؛ أي: رافعًا صوته، وصرخ - بفتح العين في الماضي وضمِّها في الغابر - صراخًا: إذا رفع صوته.
قوله: "غير مريم وابنها": يعني يمسُّ الشيطان كلَّ مولودِ وقتَ ولادته من الأنبياء وغيرهم، إلا مريم وعيسى عليهما السلام، فإن الله تعالى حفظهما من مسِّ الشيطان؛ لقبول دعاء حَنَّةَ أمِّ مريم حيث قالت:{وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36](1)، ولبيانِ كذب ما قالت اليهود في حق مريم من نسبتها إلى الزنا، لأن الله تعالى لمَّا حفظها من مسِّ الشيطان وقتَ الولادة - مع أنه لم يَخلص منه أحدٌ - فكيف لم يحفظها من الزنا؟
فإن قيل: ينبغي من هذا أن يكون عيسى أفضل من نبينا عليهما السلام لأنه لم يمسَّه الشيطان حين ولد، وقد مسَّ نبيَّنا عليه السلام حين ولد - بمفهوم الحديث؛ لأنه لم يستثن من بني آدم غير مريم وابنها.
قلنا: تفرُّدُ عيسى بهذه الفضيلة لا يدل على كونه أفضل من نبينا عليه السلام؛ لأن لنبينا فضائلَ ومعجزاتٍ كثيرةً لم تكن لعيسى ولا لغيره من الأنبياء، فلا يلزم أن يكون في الفاضل جميعَ خصال المفضول، بل يجوز أن يكون في
(1) جاء على هامش "ق" ما نصه: "قوله: لقبول دعاء حنة أم مريم، فيه أن دعاء حنة لمريم كان بعد ولادتها، وتمكُّنُ الشيطان من مسِّها كان قبل الولادة، فبقي الإشكال على حاله".
المفضول شيءٌ لم يكن في الفاضل، ألا ترى أنه كان لعيسى عليه السلام معجزةَ إحياء الموتى وخَلْقِ هيئة الطير من الطين، وينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، ولم يكن ذلك لنبيٍّ غيره، وكان لموسى عليه السلام العصاة واليدُ البيضاء، وفَلْقُ البحر، وغيرُ ذلك من المعجزات، وكذلك كلُّ نبيًّ اختص بصفةٍ أو معجزة، وهذا لا يدلُّ على التفضيل، بل لا يجوز التفضيل بين الأنبياء عليهم السلام إلا بإذن الشرع، وقد اجتمعت الأمة على فضل نبينا عليه السلام على غيره؛ للآيات والمعجزات الدالة على كونه أفضل من غيره.
* * *
51 -
وقال: "صِياحُ المولودِ حينَ يقَعُ نَزْغةٌ مِنَ الشَّيطانِ"، رواه أبو هريرة.
قوله: "صياح المولود"، (الصياح): الصيحة، وهي التصويت ورفع الصوت.
"يقع"؛ أي: يسقط وينفصل من أمه، و (يقع) أصله: يَوْقَعُ، فحذفت الواو.
"نزغة"؛ أي: وسوسة.
ومعنى هذا الحديث كمعنى الحديث الذي قبله.
* * *
52 -
وقال: "إنَّ إبْلِيْسَ يضَعُ عرْشَهُ على الماءَ، ثم يبعثُ سَراياهُ يفتِنُونَ النَّاسَ، فأَدناهُمْ منه منزلةً أعظمُهُمْ فِتْنةً، يجيءُ أحدُهُمْ فيقولُ: فعلتُ كذا وكذا، فيقولُ: ما صنعْتَ شيئًا، قال: ثم يجيءُ أحدُهُمْ فيقولُ: ما تركتُهُ حتى فرَّقْتُ بينَهُ وبينَ امرأَتِهِ، فيُدْنِيهِ منه ويقولُ: نِعْمَ أنتَ؟ "، قال الأعمشُ:
أُراهُ قال: "فيلتزِمُهُ".
قوله: "يضع عرشه على الماء"، (العرش): سرير الملك.
"السرايا": جمع سرية، وهي الجيش.
"يفتنون الناس"؛ أي: يُضلُّون الناسَ ويأمرونهم بالمعاصي.
"فأدناهم": أي: أقربهم "منه"؛ أي: من إبليس "منزلةً"؛ أي: قربةً ودرجةً وعزةً، وهو منصوبٌ على التمييز.
يعني: يضع إبليس سريره على وجه ماء البحر، ويبعث الشياطين ويأمرهم بإضلال الناس وحَمْلِهم على المعاصي، فمَن كان منهم أشدَّ إضلالًا للناس فهو عند إبليس أعز وأكرم، ووضعُ العرش على الماء إشارة إلى العظمة والقدرة على الماء؛ يعني: يشير إلى أن لي القدرة على البحر والبر، فيذهب كل شيطان إلى أمرٍ من المعاصي، فيأمر أحدهم الناس بشرب الخمر، ويأمر أحدهم الناس بالسرقة، والآخر بالزنا، والآخر يُوقِع الخصومة والعداوة بين الزوج والزوجة حتى يطلِّقها، وكذلك جميع المعاصي.
"فيجيء" إليه أحدهم ويقول: أمرتُ الناس بشرب الخمر، فيقول له: ما فعلت شيئًا، يعني: أريد ذنبًا عظيمًا، وكذلك يجيء كلُّ واحد ويقول: أنا أمرت الناس بكذا وكذا من المعاصي، فيقول: ليس لهذا عندي قَدْرٌ، حتى يجيء أحدهم فيقول: أوقعت بين الزوج والزوجة الفتنةَ والخصومة والعداوة حتى طلَّقها.
"فيدنيه"؛ أي: يقرِّبه إبليس إلى نفسه "ويقول: نعم أنت" وما قصَّرتَ في أمري.
"قال الأعمش" وهو من أصحاب الحديث "أراه"؛ أي: أظن أن رسول الله عليه السلام قال: "فيلتزمه" ذلك الشيطان؛ أي: يعانقه ويعزِّزه من غاية حبه
التفريق بين الزوج والزوجة، وإنما يحبُّ التفريق بينهما لأن النكاح شيءٌ عقده الشرع، فيحب هو حَلَّ ما عقده الشرع وإزالتَه؛ لمخالفة الشرع، ولحبه الزنا وحصول أولاد الزنا.
* * *
53 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الشَّيطانَ قد أَيِسَ من أنْ يعبُدَهُ المُصلُّونَ في جزيرةِ العَرَبِ، ولكنْ في التَّحريشِ بينهُم"، رواهما جابرٌ رضي الله عنه.
قوله: "المصلون"؛ أي: المسلمون.
"الجزيرة": اسم كلِّ أرضٍ حولها الماء، وهي فَعيلة بمعنى مفعولة؛ أي: أرض جزر عنها الماء؛ أي: ذهب ونقص حتى بقيت يابسةً بلا ماء، وسِّميت جزيرة العرب بهذا الاسم لأنها أرضٌ أكثر جوانبها البحر، وأضيفت إلى العرب لأنها مسكن العرب.
وقال أبو عبيدة: جزيرة العرب هي ما بين حفر أبي موسى الأشعري إلى أقصى اليمن في الطول، وفي العرض ما بين رمل تَبْرِين إلى منقطع السَّماوة، والسماوةُ اسمُ باديةِ في طريق الشام.
وقيل: ما وقع في جوانبه بحر نحو البصرة والدجلة والفرات وعُمان وعدن، وبحر الشام، والنيل، والعراق وبحرين، وجانب آخر منها متصلٌ بالبرية التي فيها الرمال بحيث لا تكون فيها عمارةٌ ولا يسكنها أحد.
قوله: "في التحريش بينهم"، (التحريش): الإغراء بين الناس أو الكلاب، يعني أَيِسَ إبليس من أن يرتدَّ أهل جزيرة العرب بعد الإسلام إلى الكفر، وليس له سبيل إلى ردهم إلى الكفر؛ لأن الإسلام قد ثبت في قلوبهم، ولكنْ أبدًا يوقع الفتنة والعداوة بينهم، ويأمرهم بالخصومة وقتل بعضهم بعضًا.
فإن قيل: قد ارتد جماعةٌ من جزيرة العرب إلى الكفر، فكيف يكون وجه استقامة هذا الحديث؟.
قلنا: لم يقل رسول الله عليه السلام إنهم لم يرتدوا إلى الكفر، بل قد أيس الشيطان أن يرتد أهل جزيرة العرب إلى الكفر، فيجوز أن ييأس إبليس عن ارتدادهم، ويرتد بعضهم بعد ذلك؛ لأن إبليس لا يعلم ما يحدث في المستقبل، ويحتمل أن يريد رسول الله عليه السلام بهذا الحديث حكمَ أكثر؛ لأن مَن ارتد منهم قليلٌ، والحكم للكثير، ويحتمل أن يريد بالمصلين: الدائمين على الصلاة عن اعتقادٍ صادقٍ ونيةٍ خالصة، ومَن ارتد من أهل جزيرة العرب لم يكن بهذه الصفة.
فإن قيل: لمَ خَصَّ رسول الله عليه السلام جزيرة العرب بأنَّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلُّون، مع أن المسلمين الثابتين على الإسلام المخلصين في الطاعات كثيرةٌ في سائر البلاد؟
قلنا: لأن الإسلام لم يصل في زمن رسول الله عليه السلام إلى بلدٍ آخر غيرِ جزيرة العرب.
و"جابر" اسم أبيه: عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي.
* * *
من الحِسَان:
54 -
عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جاءَهُ رجلٌ فقال: إنَّي أُحَدِّثُ نفْسي بالشيء، لأَنْ أكون حُمَمَةً أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ أتكلَّمَ بِهِ، قال:"الحمدُ لله الذي رَدَّ أمرَهُ إلى الوَسْوَسة".
قوله: "أحدِّثُ نفسي"، (أحدث): فعلٌ فاعلُه فيه مضمرٌ؛ أي: أنا،
و (نفسي) مفعوله.
"الحممة" بضم الحاء: الفحم، يعني يجري في قلبي من الأشياء لأَن احترقت وصرت فحمًا أحبُّ إليَّ من أن أتلفظ بما يجري في قلبي من الوسواس، من غاية قبحه، وهذا مِثْلُ ما تقدم من الأحاديث، نحو قوله: مَن خلق الله؟ ونحو وسوسة الشيطان في القلب بأن يطلب الرجلُ معرفةَ كيفية الله، وأنه محتاجٌ إلى المكان أو الطعام، وغير ذلك، فهذا الوسواس من فعل الشيطان، فكان هذا الرجل يجري في خاطره شيءٌ من هذا الوسواس من فعل الشيطان، فخاف أن يكون له بذلك إثم، فقال له رسول الله عليه السلام:"الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة"، الضمير في (أمره) راجعٌ إلى الشيطان، يعني: كان الشيطان يأمر الناس بالكفر قبل هذا أو عبادةِ الأوثان، وأما الآن لا يقدر أن يأمر المسلمين بالكفر، فلا سبيل له إليهم سوى الوسوسة، ولا باس بالوسوسة إذا علم الرجل أنه قبيح، ويندم عليه ويتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم.
* * *
55 -
وقال: "إنَّ للشيطان لَمَّةً بابن آدمَ، وللملَك لَمَّةً، فأمَّا لَمَّةُ الشيطانِ فإيعادٌ بالشرِّ وتكذيبٌ بالحقِّ، وأمَّا لَمَّةُ الملَكِ فإِيعادٌ بالخيرِ وتصديقٌ بالحقِّ، فمنْ وجدَ ذلك فلْيَعْلَمْ أنَّه مِنَ الله، فليحمَدِ الله، ومَنْ وجدَ الأُخرى فليتعوذْ بالله من الشَّيطان"، ثم قرأ:" {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} "، غريب.
قوله: "إن للشيطان لمة"، (اللمة): نزولُ الوسوسة في القلب، وهي من (ألمَّ): إذا نزل.
"إن للشيطان لمة بابن آدم"؛ أي: نزولًا في قلبه ووسوسةً.
"وللملك لمة"؛ أي: وإن للملك نزولًا في قلب بني آدم أيضًا وإلهامًا.
قوله: "فأما لمة الشيطان فإيعادٌ بالشر وتكذيب بالحق"، (فإيعاد) في كلا الموضعين بهمزةٍ مكسورة بعدها ياءٌ منقوطةٌ تحتها بنقطتين، وهو مصدرُ (أوعد): إذا وَعَدَ أحدًا وَعْدَ شرٍّ، ووَعَد وَعْدًا وعِدَةً: إذا وَعَد وَعْدَ خيرٍ.
وفي أصل اللغة: الوعد يستعمل في الخير والشر، إلا أن المستعمل في الوعد في الخير، وفي الإيعاد في الشر، والوعيد أيضًا يستعمل في وَعْد الشر.
يعني: نزولُ الشيطان في القلب لا يكون إلا ليأمر الرجلَ بالشر، مثل الكفر واعتقاد السوء والفسق، وليامر الرجلَ أن يكذَّب ما هو حقٌّ، ككتب الله تعالى ورسله عليهم السلام، وأحوالِ القبر والحشر، وأحوال القيامة.
"وأما لمة الملك": تكون على عكس ذلك؛ لأن الملك يأمر الرجل بما هو خيرٌ كفعل الصلاة والصوم وأداء الزكاة والصدقات، وغيرِ ذلك من الخيرات، ويأمره بأن يصدق كتب الله ورسله وأحوال القبر والقيامة.
قوله: "فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله تعالى"؛ يعني: فمَن وجد في نفسه لمةَ الملك، فليعلم أن ذلك فضلٌ من الله عليه، فليحمد الله تعالى على هذه النعمة، فإن لله عليه رحمةً وفضلًا، وإرادة الخير بأن أرسل عليه ملكًا يأمره بالخير ويهديه إلى الحق.
قوله: "ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله تعالى"؛ يعني: فمَن وجد في نفسه لمَّةَ الشيطان، فليتعوذ من وسوسة الشيطان، وليخالفه فيما يأمره من فعل السوء.
قوله: "ثم قرأ"؛ أي: قرأ رسول الله عليه السلام هذه الآية استشهادًا لِمَا قال: " {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} "؛ يعني: الشيطانُ يقول لكم: لا تنفقوا أموالكم في الزكاة والصدقات، فإنكم تصيرون فقراء، " {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} "؛ أي: بالبخل وسائر المعاصي " {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} "؛ يعني: والله
يقول لكم: أنفقوا أموالكم أُعطكم أضعافَ ما تنفقون في الدنيا، وأُعطكم بالآخرة كلَّ حسنةٍ بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعفٍ، " {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} "؛ أي: كثير الفضل والرحمة عليكم في الدنيا والآخرة " {عَلِيمٌ} ": بما تنفقون وتعملون من الخير، فلا يُضيع أعمالكم.
واعلم أن في بعض النسخ "فاتِّعاد بالشر" بالتاء، وكذلك "فاتِّعاد بالخير" وهو افتعالٌ من (وَعَد)، والاتِّعاد يُستعمل في الشر، يقال: اتَّعد القوم؛ أي: وعد بعضهم بعضًا شرًا، والتواعُدُ يستعمل في الخير، يقال: تَواعَدَ القوم: إذا وعد بعضُهم بعضًا خيرًا، (اتَّعد) أيضًا إذا قبل الوعد.
فمَن قرأ: (فإتِّعاد بالشر) في هذا الحديث: أو (فاتِّعاد بالخير)، فقد قرأ: شيئًا لم يكن مرويًا، ولم يكن له معنًى في هذا الموضع؛ لأن (اتَّعد) يكون من اثنين فصاعدًا، لا يقال: اتَّعد زيدٌ عَمْرًا، بل يقال: اتَّعد القومُ، أو: اتَّعد الرجلان؛ أي: وعد بعضهم بعضًا شرًا، وهنا ليس بين اثنين، بل إنما يكَون وعد الشيطان الرجلَ، وليس وعدُ الرجلِ الشيطان، وكذلك وعدُ الملكِ الرجلَ، وليس وعدُ الرجل الملك.
فقد ثبت بما قلنا أنه يتعيَّن هنا: (فإيعاد بالشر) بالياء المنقوطة من تحتها بنقطتين، وكذلك:(فإيعاد بالخير).
فإن قيل: قد قلتم: إن الإيعاد لا يكون إلا بالشر، فينبغي أن لا يكون في لمة الملك إيعادٌ لأن الإيعاد هنا ليس بشر.
قلنا: الإيعاد إذا لم يكن بعده تفسيره يكون بالشر، أما إذا كان بعده تفسيره وهو قوله:(فإيعاد بالخير)، فلا بأس بلفظ الإيعاد، بل الفصاحةُ أن يتلفظ بالإيعاد لازدواج الكلام، فقد تقدم بحثه في الحديث الرابع من هذا.
* * *
56 -
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يزال الناسُ
يتَساءَلون حتَّى يُقال: هذا خَلَقَ الله الخلْقَ، فمَنْ خَلَقَ الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا:{اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، ثمَّ ليَتفُلَ عنْ يسارِهِ ثلاثًا، وليستَعِذْ بالله من الشَّيطان".
قوله: "فقولوا: {اللَّهُ أَحَدٌ} "؛ يعني: قولوا عند هذه الوسوسةِ: الله تعالى ليس مخلوقًا بل هو أحدٌ، و (الأحد) هو الذي لا ثاني له ولا مِثْلَ له في الذات والصفة، والله تعالى لا ثاني له ولا مثلَ له لا في الذات ولا في الصفات.
وسبب نزول هذه السورة في قول قتادة ومقاتلٍ والضحاك أن أناسًا من اليهود جاؤوا إلى رسول الله عليه السلام فقالوا: صِفْ لنا ربك فأخبرنا من أي شيء هو، ومن أي جنس: أمِن ذهبٍ هو أم من نحاسٍ أم من فضة؟ وما يأكل وما يشرب؟ فأنزل الله هذه السورة؛ يعني: قل لهم يا محمد: الله تعالى ليس بجوهرٍ ولا جسمٍ ولا عَرَضٍ، ليس له مكانٌ، ولا حاجةَ له، إلى شيءٍ ولا إلى أحدٍ، بل يحتاج إليه المخلوقاتُ، ولم يلد أحدًا ولم يولد من أحدٍ، ولم يكن له مثلٌ وشبهٌ.
قوله عليه السلام: "ثم ليتفل عن يساره ثلاثًا"، (التفل): إسقاطُ البزاق من الفم، يعني: ليُلْقِ البزاق من فمه ثلاثَ مرات، وإلقاءُ البزاق عبارةٌ عن كراهية الرجل الشيء وتقذُّرُه ونفورُ طبعه عنه، كمن وجد جيفةً منتنةً كره ريحها وتفل من نتنها، يعني: ليتفل هذا الرجلُ ثلاثَ مراتٍ ليعلم الشيطانُ أنه كره هذه الوسوسة، ووجده قبيحًا؛ ليفرَّ الشيطان منه، ويعلمَ أنه ليس بمطيعٍ له.
"وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم"؛ أي: ليطلب المعاونة من الله الكريم على دفع الشيطان الرجيم.
* * *
57 -
عن عَمْرو بن الأَحْوَص رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول في حَجَّة الودَاع: "ألا لا يجني جانٍ على نفسِهِ، ألا لا يجني جانٍ على ولدهِ، ولا مَولودٌ على والِدهِ، ألا إنَّ الشيطانَ قَدْ أيسَ أنْ يُعبَدَ في بلادِكُمْ هذِهِ أبدًا، ولكنْ ستكونُ له طاعةٌ فيما تحتَقِرُونَ مِنْ أعمالكُمْ، فسيرضى بهِ".
قوله: "سمعت رسول الله عليه السلام في حجة الوداع" سُمِّي الحج الذي قال فيه رسول الله عليه السلام هذا الحديث بحجة الوداع لأن رسول الله عليه السلام لمَّا خطب الناس في هذه الحجة طفق يودِّع الناس، ويقول للناس:"لعلكم لا تروني بعد عامكم هذا"، فقالت الصحابة حينئذ: هذه حجة الوداع.
قوله: "ألا لا يجني جان على نفسه"، ألا؛ أي: اعلم، يستوي فيه المذكَّر والمؤنَّث، والواحدُ والتثنية والجمع.
(لا يجني) لفظه النفي، ومعناه النهي؛ يعني: لا يجوز أن يجني أحدٌ على نفسه بأن يقتل نفسَه، أو يقطع عضوَ نفسه، ويحتمل أن يكون معناه: أنه لا يقتلْ أحدٌ أحدًا ليُقتل بالقصاص، فيكون حينئذ كمَن قتل نفسَه.
وجاء في بعض الروايات: "ألا لا يجني جانٍ إلا على نفسه"، فمعناه على هذه الرواية أنه لا يؤخَذ ولا يُقتل أحدٌ بفعل أحدٍ.
قوله: "ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولودٌ على والده"؛ يعني: كان عادةُ العرب إذا قتل أحدٌ أحدًا يقتلون مَن وجدوا مِن أقارب القاتل، فقال رسول الله عليه السلام: لا يجوز هذا، بل لا يُقتل والدٌ بأن يَقتل ولده أحدًا، ولا يقتل الولدُ أيضًا بأن يقتل والدُه أحدًا، وإنما ذكر الوالد والمولود ولم يذكر سائر الأقارب؛ لأنه إذا لم يقتل الوالد بجناية الولد على أحد، ولا الولدُ بجناية الوالد على أحد، مع شدة اتحادهما، فأنْ لا يقتل غيرهما بجناية واحدة على أحد - مع
أنه ليس بينهما هذا الاتحاد - أَوْلَى.
قوله: (لا يجني جان على ولده) معناه: لا يؤخذ ولا يقتل ولده بفعله؛ لأنه لو قتل ولده بفعله فكأنه لم يَقتل ولدَه إلا هو.
ويحتمل أن يريد بقوله: (لا يجني جان على ولده، ولا مولودٌ على والده) أنه لا يجوز للوالد أن يقتل أو يجرح ولده، ولا للولد أن يقتل أو يجرح والده ولا يجوز لأحد أن يقول: لي الحكم في ولدي فيجوز لي أن أفعل به ما أشاء، بل هذا الظن خطأٌ؛ لأن الإنسان عباد الله تعالى، فمَن قتل أو جرح أو آذى أحدًا فقد عصى الله تعالى؛ لأنه تصرَّف في ملكه بغير إذنه، ألا ترى: أن مَن قتل مسلمًا بغير حق، فإن كان القتل عمدًا وجب عليه القصاص، وإن كان خطأً وجبت عليه الدية لحق المقتول، ووجبت عليه الكفارة بتحرير رقبة لحق الله تعالى؛ لأنه أزال الروح ممن يعبد الله تعالى، فأمر الله تعالى بتحرير رقبةٍ مؤمنة ليقوم مقام المقتول في عبادة الله تعالى.
ويجيء بحثُ الاقتصاص من الولد بقتل الوالد، وعدم القصاص بقتل الوالد الولد، ووجوب الدية، في (كتاب القصاص).
قوله: "ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد" مضى شرحه في الحديث الذي قبل حسان هذا الفصل.
قوله: "ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به"؛ يعني: لا تطيعونه في الكفر، ولكن تطيعونه في الصغائر من الذنوب، فسيرضى بها الشيطان، ويوسوسكم فيها، ويأمركمُ بها ولا يأمركم بالكفر؛ لأنه يعلم أنكم لا تطيعونه في الكفر.
وأراد بقوله: (فيما تحتقرون)؛ أي: فيما لا تطيعون ولا تعظِّمون قَدْرَه من الذنوب.
فإن قيل: قوله: (فيما تحتقرون) يدل على الصغائر، ونحن نعلم أن