المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - باب الكبائر وعلامات النفاق - المفاتيح في شرح المصابيح - جـ ١

[مظهر الدين الزيداني]

الفصل: ‌2 - باب الكبائر وعلامات النفاق

32 -

وعن أنس رضي الله عنه قال: قلَّما خَطَبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلَاّ قال: "لا إيمانَ لمنْ لا أَمانةَ له، ولا دينَ لمنْ لا عَهْدَ لهُ".

قوله: "قلما"، (ما) في (قلما) مصدرية؛ أي: قلَّ خطبةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا، ومعنى الخطبة: الوعظ والتذكير.

قوله: "لا إيمان لمن لا أمانة له"؛ أي: لا إيمان كاملًا لمَن لم يكن له أمانةٌ؛ يعني: من كان في نفسه خيانةٌ يخون في مال أحدٍ أو نفسه أو أهله إيمانهُ ناقص، وكذلك السارق والغاصب وأصحاب المعاصي.

كذلك تأويل: "لا دين لمن لا عهد له" أي: لا دينَ كاملَ لمَن لا عهد له؛ يعني: مَن جرى بينه وبين أحدٍ عهدٌ وميثاقٌ، ثم غدر ونقض العهد من غير عذر شرعيٍّ، فدينه ناقص، فإن كان له عذرٌ شرعيٌّ في نقض العهد، مثل أن عهد الإمام مع أهل الحرب من الكفار، ثم رأى المصلحة في نقض العهد، جاز أن ينقض العهد.

وأنس بن مالك جدُّه: النضر بن ضَمْضَم بن زيد بن حرام.

* * *

‌2 - باب الكبائر وعلامات النِّفاق

(باب الكبائر وعلامات النفاق)

الكبائر: جمع كبيرة، وهي السيئة العظيمة التي إثمها كبير وعقوبة فاعلها عظيمةٌ بالنسبة إلى ذنبٍ ليس بكبيرة، ويأتي بحثُ الكبائر في أثناء هذا الباب إن شاء الله تعالى.

ص: 133

33 -

قال عبد الله بن مَسْعود رضي الله عنه: قال رجلٌ: يا رسولَ الله! أيُّ الذنبِ أكبرُ عند الله؟ قال: "أنْ تدعُوَ لله ندًّا وهو خلَقكَ"، قال: ثمَّ أيُّ؟ قال: "ثم أنْ تقتُلَ ولدكَ خشيةَ أنْ يَطعمَ معكَ"، قال: ثم أيٌّ؟ قال: "ثم أنْ تُزانيَ حَلِيلَةَ جارِكَ"، فأنْزلَ الله تَصْدِيقَها:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} الآية.

قوله: "أي الذنب أكبر؟ "، (الذنب): الفعل الذي يستحق فاعلهُ المَلامةَ والتعذيب، ويطلق على الكفر وعلى غير الكفر من المعاصي؛ لأن فاعل الكفر والعصيان يستحقُّ التعذيب، و (أي) في (أي الذنب أكبر) للاستفهام.

قوله عليه السلام: "أن تدعو لله ندًا وهو خلقك"، (الند): المِثْل، والواو في (وهو خلقك) للحال؛ يعني: أكبر الذنب الشركُ بالله، وهو أن تعدل لله شريكًا وتعبد أحدًا غير الله مع علمك بأنه لم يخلقك أحدٌ غير الله ولم يقدر أحد على أن يخلق شيئًا، ولم يرزقك ولم يدفع عنك المرض والسوء والفقر والجوع والعطش غير الله، ولم يعطك الأعضاء الصحيحة والمال والقوة وغير ذلك من أنواع النعم غير الله، بل لله الإنعامُ عليك ما لا تقدر على عدِّه من النعم، وليس لصنمٍ ووثنٍ نعمةٌ، فلا شك أن عبادة أحدٍ مع الله تعالى - مع أنه لا يستحقُّ الألوهية - وعبادةَ غيرِ الله كفرٌ، والكفر أكبر الذنوب؛ لأنه لا يخلِّص صاحبه من النار أبدًا، وصاحبُ المعاصي غيرِ الكفر يخلص من النار وإن طال مكثه في النار.

قوله: "ثم أيٌّ": التنوين في (أي) عوضٌ عن المضاف إليه، وأصله: ثم أيُّ شيء من الذنوب أكبر بعد الكفر؟ فقال رسول الله عليه السلام: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" يعني: لا خلاف في أن أكبر الذنوب بعد الكفر قتلُ نفسٍ مسلمةٍ بغير الحق.

ص: 134

قوله: خشية أن يطعم معك؛ يعني: قتلُ الولد أكبرُ من سائر الذنوب، وقتلُه من خوف أن يطعم طعامك أيضًا ذنبٌ؛ لأنك لا ترى الرزق من الله تعالى؛ لأنك لو رأيت أن الرازق هو الله يرزق كلَّ واحد، لم تقتل ولدك.

"ثم أي"؛ أي: قال الرجل: ثم أيُّ الذنب أكبر بعد القتل؟ قال رسول الله عليه السلام: "أن تزاني حليلة جارك".

(الحليلة): المرأة، يعني: الزنا ذنبٌ كبيرٌ وخاصةً مع مَن سكن جوارك والتجأ بأمانتك وثبت بينك وبينه حق الجوار، وقد قال رسول الله عليه السلام في حديث آخر:"ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيورِّثه" فالزنا بزوجة جاره يكون زنًا، وإبطالُ حق الجوار والخيانةُ معه يكون أقبحَ، وإذا كان الذنب أقبحَ يكون الإثم أعظم.

قوله: "فأنزل الله تصديقها" - الضمير راجع إلى هذه المسألة، أو الأحكام، أو الواقعة وما أشبه ذلك، (التصديق): جعلُ أحدٍ صادقًا، أو جعلُ حديثٍ صادقًا - قولَه تعالى:" {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} ": الواو في (والذين) للعطف على قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] ومعنى (لا يدعون): لا يعبدون إلهًا غير الله، وهذه الآية نزلت عند سؤال هذا الرجل رسولَ الله عليه السلام عن هذا الحديث.

وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} تصديقُ قول رسول الله عليه السلام في جواب الرجل: (أن تدعو لله ندًا)،

قوله: " {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} "، (النفس التي حرم الله): نفس المسلم والذمي والمعاهد، وقوله:(إلا بالحق) يعني: إلا أن يأذن الله في قتله، ومَن أذن الله في قتلهم أربعة:

أحدهم: غير الذمي والمعاهد من الكفار.

ص: 135

والثاني: الزاني المحصن.

والثالث: مَن قتل مَن يَحْرمُ قتله، فيجب عليه القصاص.

والرابع: قطاع الطريق، فيطلبهم الإمام ويحاربهم، فإن لم يقدر على أخذهم وإبعادهم إلا بالقتل فيقتلهم، جاز وإن لم يقتلوا أحدًا ولم يأخذوا المال، أما إذا أخذهم فانظر فإن كانوا أخذوا المال ولم يقتلوا أحدًا قُطعتْ من كلِّ واحدٍ اليد اليمنى والرجلُ اليسرى، وإن أخذوا المال وقتلوا أحدًا قُتلوا وصُلِّبوا، وإن قتلوا أحدًا ولم يأخذوا المال قُتلوا ولم يصلَّبوا، وإن لم يأخذوا المال ولم يقتلوا أحدًا عزِّروا، وكذلك مَن قصد أحدًا أن يأخذ ماله أو ليقتله أو ليمد اليد على زوجته وعوراته، جاز له أن يدفعه وليبدأ في الدفع بالأسهل، فإن لم يُدفع إلا بالقتل فقتله لا شيء عليه.

قوله: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} : تصديقٌ لقوله عليه السلام: "أن تقتل ولدك".

قوله: " {وَلَا يَزْنُونَ} " هذا تصديقُ قوله عليه السلام: "أن تزاني".

قوله "الآية" هذا قول المصنف، وتمام الآية:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68 - 69]، (ذلك) إشارةٌ إلى ما تقدم من الكفر والقتل والزنا، (يلق أثامًا) أصله: يَلْقىَ، فسقطت الياء للجزم لأنه جواب الشرط، و (الأثام) بفتح الهمزة: جزاء (الإثم) بكسر الهمزة؛ يعني: من يفعل هذه الذنوب يرى جزاءها يوم القيامة.

وقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} أي: يزاد له العذاب على عذاب الدنيا، أو على عذابِ ذنبِ غيرِ هذه الذنوب أكبر.

وذكر في أكثر التفاسير أن معنى {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} أي: لا ينقطع عنهم العذاب لحظة.

ص: 136

وقوله: {وَيَخْلُدْ فِيهِ} الخلود في حق الكافر متحقِّقٌ، وأما في حق المسلم لا يتحقق خلوده في النار لسبب الذنوب، بل معنى الخلود في حقه: اللبثُ الطويل، وقوله:(فيه) الضمير راجع إلى (العذاب).

وقوله: {مُهَانًا} منصوب على الحال، والمهان: الذليل.

وكنية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أبو عبد الرحمن، واسم جده: عاقل بن حبيب، وقيل: الحارث بن شمخ.

* * *

34 -

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكبائرُ: الإِشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدَيْنِ، وقتْلُ النَّفْسِ، واليمينُ الغَمُوسُ"، رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

وفي رواية أنَسٍ: "وشَهادةُ الزُّورِ" بدل: "اليَمينُ الغَمُوسُ".

قوله: "الكبائر: الإشراك بالله"، و (الإشراك): جعلُ أحدٍ شريكًا بأحد، والمراد ها هنا: اتخاذ إلهٍ غيرِ الله. "العقوق": مخالفة مَن حقُّه واجبٌ، "الوالدين": الأب والأم، و"عقوق الوالدين": عصيان أمرهما وتركُ خدمتهما، فكلُّ أمرٍ يأمر به الأب أو الأم الولدَ واجبٌ على الولد الإتيانُ بذلك الأمر إن لم يكن فيه إثمٌ، مثل أن يأمر الأب أو الأم الولد بالسرقة أو قتلِ أحدٍ أو شتمه وما أشبه ذلك، فلا يجوز الإتيان بهذا الأمر؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ويجب على الولد خدمةُ الوالدين بقَدْر ما يُطيق، ويجب عليه نفقتهما وكسوتهما إن كانا فقيرين، إن كان يقدر على نفقتهما وكسوتهما.

"واليمين الغموس": هو أن يحلف الرجل على الماضي متعمِّدًا بالكذب، بان يقول: والله ما فعلت كذا، وهو يعلم أنه فعله، أو يقول: والله فعلت كذا وهو يعلم أنه ما فعله.

ص: 137

وقيل: (اليمين الغموس): أن يحلف الرجل كاذبًا ليذهب بمال أحدٍ يدَّعي عليه صاحبه.

والكفارة واجبةٌ على حالفها عند الشافعي، وفي رواية عن أحمد بن حنبل، ولا كفارة عليه عند أبي حنيفة ومالكٍ، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وسمَّى هذا اليمين غموسًا؛ لأنه يغمس صاحبه في النار، أو في الكفارة، أو في الإثم، ومعنى (يغمس): يُدْخل.

فإن قيل: قوله عليه السلام: "الكبائر: الإشراك" يدل على أن الكبائر منحصرةٌ في هذه الأربعة؛ لأنَّ الألف واللام للاستغراق في هذا الكلام، وجاءت الكبائر أكثر من هذه في الحديث؟

قلت: بيان الكبائر كبيان سائر أحكام الشرع، وبيانُ أحكام الشرع لم تكن مذكورةً في حديثٍ ولا آيةٍ واحدة من القرآن، بل جاءت متفرقةً كي لا يَثقُلَ على الناس حفظُها والعملُ بها، فكذلك الذنوب والمحرَّمات، وقد جاء بيانُها من رسول الله عليه السلام أو من القرآن متعاقبًا متفرِّقًا على حسب السؤال والحاجة.

وأما الألف واللام لا يلزم أن يكون لاستغراق الجنس، وقد جاء لمعانٍ كثيرة.

واختلف في الكبائر في أنه: كم عددها؟

روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: كلُّ ذنبٍ يأتي بعده في جزائه لعنةٌ أو غضب أو عذاب أو نارٌ فهي كبيرةٌ، نحو قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23]، (يرمون)؛ أي: يقذفون المحصنات العفائف الغافلات عمَّا قُذفن به من الزنا، والقذفُ كبيرةٌ؛ لأنه ذكر في جزائه اللعنة، وكذلك كلُّ ذنبٍ يأتي بعده تهديد.

وقيل: الكبائر سبعٌ، وهي المذكورة في الحديث الذي يأتي بعد هذا.

ص: 138

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لأَنْ تكون الكبائر سبع مئةٍ أقربُ من أن تكون سبعةً، إلا أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرةَ مع الإصرار.

وقال بعض الفقهاء: الكبائر ثمانية عشر ذنبًا هي: الشرك، والقتل المحرَّم، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشهادة الزور، والسَّحر، وأكلُ مال اليتيم، وأكل الربا، وقذفُ المحصنات، والفرارُ من الزحف؛ أي: من الكفار، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر، والمقامرة - يعني اللعب بالنرد وما أشبه ذلك من أنواع القمار -، وقطع الرَّحِم، والأمن من عذاب الله تعالى، واليأس من رحمة الله تعالى، وإيذاء المسلمين بأخذ أموالهم، والشتم، والغيبة، وغير ذلك، واختلف في الكبائر اختلافٌ كثير يطول ذكره.

وقوله في هذا الحديث: في رواية أنس رضي الله عنه: "وشهادة الزور" بدلَ "اليمين الغموس" - وهو نصبٌ على الظرف - يعني: روى أنس هذا الحديث كما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص، إلا أن حديث عبد الله:"الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس"، وحديثَ أنس:"الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور".

* * *

35 -

وقال: "اجتنِبُوا السَّبْعَ المُوبقات: الشِّركُ بالله، والسِّحرُ، وقَتلُ النَّفسِ التي حَرَّمَ الله إلَاّ بالحقّ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليتيم، والتَّولِّي يومَ الزَّحفِ، وقذْفُ المُحصناتِ المُؤمناتِ الغافِلاتِ"، رواه أبو هريرة.

قوله: "اجتنبوا"؛ أي: احترزوا وابعُدوا عن فعل ذنوبٍ سبعة؛ لأنها مهلكةٌ لفاعلها ومدخلةٌ له النار.

و"الموبقات": جمع موبقة وهي المهلكة، من (أوبق): إذا أهلك، و (وبق)

ص: 139

بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر و (بوقًا): إذا هلك.

قوله: "والتولي يوم الزحف"، (التولي): الإعراض عن الحرب والفرار منه.

(الزحف): الجيش الذين يزحفون إلى العدو؛ أي: يمشون.

يعني: الفرارُ من الكفار إذا كان بإزاء كلِّ مسلمٍ كافران من الكبائر، وإن كان بإزاء كلِّ مسلمٍ أكثر من كافرين يجوز الفرار.

قوله: "قذف المحصنات الغافلات المؤمنات"، (القذف): نسبة أحد إلى الزنا، (المحصنات): جمع محصَنةٍ، و (المحصنة) بفتح الصاد وكسرها كلاهما جائز، وكلاهما من (أَحْصَنَ): إذا حفظ، فالمحصَنة - بفتح الصاد - مفعولة؛ أي: التي أحصنها الله تعالى؛ أي: حفظها الله من الزنا، والمحصِنة: - بكسر الصاد - اسم فاعِلة؛ أي: التي أَحصَنت - أي: حفظت - فرجها من الزنا.

أراد بـ (الغافلات): اللاتي يغفلن ويبعدن عما قُذفن به من الزنا.

قوله: "المؤمنات": احترازٌ عن قذف الكافرات، فإن قذف الكافرات ليس من الكبائر، فإن كانت الكافرة ذميةً فلا يجوز قذفها، ولكن يكون قذفها من الصغائر؛ لأنه ليس موجبًا للحدِّ.

يعني: قذف البريات من الزنا من الكبائر.

والفرق بين الحرة والأمة ثابت في الحد، فإن الواجب في قذف الحرة المسلمة الحدُّ، وهو ثمانون جلدةً إن كان القاذف حرًا أو حرةً، وأربعون إن كان القاذف عبدًا أو أمةً، وفي قذف الأمة المسلمة التعزيرُ دون الحد، والتعزير يتعلق باجتهاد الإمام ولا يبلغ عشرين جلدةً.

وإذا كان المقذوف رجلًا يكون القذف أيضًا من الكبائر ويجب الحد أيضًا.

ص: 140

والفرق بين الحر والعبد كالفرق بين الحرة والأمة.

* * *

36 -

وقال: "لا يَزني الزَّاني حينَ يَزني وهو مُؤمنٌ، ولا يَشْربُ الخَمرَ حينَ يشربُ وهو مؤمنٌ، ولا يَسرِقُ حينَ يَسرِقُ وهو مؤمنٌ، ولا ينتهبُ نُهبةً يَرفعُ الناسُ إليهِ فيها أبصارَهم حينَ يَنتهبُها وهو مؤمنٌ، ولا يَغُلُّ أحدُكُمْ حينَ يَغُلُّ وهو مؤمنٌ، فإياكُمْ وإياكُمْ"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.

قوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" هذا وأشباهه لنفي الكمال؛ أي: لا يكون كاملًا في الإيمان حالةَ كونه زانيًا، والواو في (وهو مؤمن) للحال.

ويحتمل أن يكون اللفظ لفظَ الخبر ومعناه النهي، وقد اختار هذا التأويلَ - أعني التأويل الذي يكون بمعنى النهي - بعضُ العلماء، والتأويل الأول أولى؛ لأنَّا لو قلنا: إن معناه النهي، يبقى قوله:(حين يزني) بلا فائدةٍ، وكذلك قوله:(وهو مؤمن) يبقى على هذا التأويل بلا فائدة؛ لأن الزنا منهيٌّ عنه في جميع الأديان وليس مختصًا بالمؤمنين.

قوله: "ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن".

انتَهَب ونَهَب - بفتح العين في الماضي والغابر - نَهْبًا: إذا غار على أحد وأخذ ماله قهرًا.

(النَّهبة) بفتح النون: المصدر، نحو: خربة، و (النُّهبة) بضم النون: المال الذي انتهبه الجيش.

(يرفع الناس إليه)؛ أي: إلى الرجل الذي ينتهب، (فيها)؛ أي: في تلك النهبة، (أبصارهم) مفعول (يرفع الناس).

ص: 141

يعني: أخذُ الرجل مال قومٍ قهرًا وظلمًا وهم ينظرون إليه ويتضرعون ويبكون ولا يقدرون على دفعه فهذا ظلمٌ عظيمٌ لا يليق بحال المؤمن، وتأويل قوله:(وهو مؤمن) أي: وهو مؤمنٌ كاملٌ، وقد ذكرناه

"غل" - بفتح العين في الماضي وضمِّها في الغابر - غلولًا: إذا سرق شيئًا من الغنيمة أو خان في أمانة.

(إياك): كلمة التحذير، إياك وأن تفعل كذا؛ أي: أحذِّرك وأنهاك أن تفعل كذا، ومفعول قوله:(فإياكم) محذوف؛ أي: فإياكم فعلَ هذه الأشياء المذكورة في هذا الحديث؛ يعني: أحذركم وأنهاكم عن فعل هذه الأشياء.

قوله: "وإياكم" تكرار للتأكيد والمبالغة في التحذير والتخويف.

* * *

37 -

وفي رواية ابن عبَّاس رضي الله عنهما: "ولا يقتُلُ حينَ يقتُلُ وهو مؤمنٌ".

وفي رواية ابن عباس: "ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن" يعني: يروي هذا الحديثَ ابن عباس كما يرويه أبو هريرة، إلا أن ابن عباس يزيد قوله:(ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن) يعني: ولا يقتل أحدٌ أحدًا ظلمًا حين يقتل وهو مؤمن.

* * *

38 -

وقال: "آيةُ المُنافق ثلاثٌ وإنْ صامَ وصلَّى وزعمَ أنَّهُ مسلمٌ: إذا حدَّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا ائْتُمِنَ خانَ"، رواه أبو هريرة رضي الله عنه.

قوله: "آية المنافق ثلاث"، (الآية): العلامة، (المنافق): الذي يُظهر الإسلام ويخفي الكفر.

ومَن أظهر الأعمال الصالحة بين الناس ويفعل في الخلوة الأفعال القبيحة، أو

ص: 142

يُظهر محبةً باللسان ويكون في قلبه في الخلوة على خلاف محبته، سمي ذلك الشخص منافقًا وكان مسلمًا، ولكن الفرق بين هذا المنافق وبين الذي تقدم ذكره ظاهرٌ؛ لأن هذا المنافق مذنبٌ عاصٍ وذلك المنافق كافرٌ.

والواو في "وإن صام" للمبالغة.

"زعم": أي: ادَّعى؛ يعني مَن به هذه الخصال الثلاث فهو منافق وإن كان يصوم ويصلي ويدعي "أنه مسلم"، فإن كانت هذه الخصال في منافق يُظهر الإسلام ويعتقد الكفر فهو منافقٌ خالص لا شك فيه، ويخلد في النار، ولا ينفعه صومُه ولا صلاته يوم القيامة.

وإن كانت هذه الخصال في مسلم: فإن كان يعتقد استحلالَها، فهو كافرٌ ما دام على هذه الاعتقاد، وأما إذا اعتقد تحريم هذه الخصائل ويفعلُها، فهو مسلمٌ مذنبٌ، وهو في الفعل منافق لا في الاعتقاد والإيمان، وعلَّةُ تشبيهه بالمنافق: أنَّا قد قلنا أن المنافق هو الذي يُظهر بخلاف ما يُبطن ويُسِرُّ، وهذا المسلم يعتقد الإيمان وحقيقةَ الإسلام، وهو يفعلُ أفعال المسلمين من الصوم والصلاة وغيرها من العبادات عن الاعتقاد والإيمان، ولكن يفعل في بعض الأزمان ما يخالف أمر الشرع، فمِن أجل هذه المخالفة سمِّي منافقًا، وشبِّه بالمنافقين في الفعل لا في الاعتقاد والإيمان.

قوله: "وإذا اؤتمن خان": على بناء ماضٍ مجهولٍ، إذا جُعل أمينًا ووُضع عنده أمانة.

* * *

39 -

وقال: "أربعٌ مَنْ كُنَّ فيهِ كان مُنافِقًا خالصًا، ومَنْ كانتْ فيهِ خَصْلةٌ مِنهنَّ كانتْ فيهِ خَصلة مِنَ النفاقِ حتى يدَعَها: إذا ائتُمِنَ خانَ، وإذا حدَّثَ كذبَ، وإذا عاهدَ غدرَ، وإذا خاصم فجَرَ"، رواه عبد الله بن عمْرو رضي الله عنهما -

ص: 143

قوله: "أربع من كن فيه"؛ أي: أربعُ خصالٍ مَن اجتمعت هذه الخصال فيه "كان منافقًا خالصًا"؛ يعني: مَن كان فيه هذه الخصال عن اعتقادِ استحلالها فهو منافقٌ كالمنافق الذي يُظهر الإسلام ويخفي الكفر في قلبه، ومَن كانت هذه الخصال أو بعضُها لا عن اعتقادِ استحلالها بل يعتقد تحريمها، فلا يكون منافقًا كالمنافق الذي يخفي الكفر، بل يكون مسلمًا مذنبًا، ولكنه يشبَّه بالمنافقين في الأفعال، وإنما احتجنا إلى هذا التأويل لأنَّا علمنا من أصول الدين أن المؤمن لا يصير كافرًا بفعل الذنوبُ وبالمُداومة على فعل الذنوب إذا اعتقد تحريمها، وإن اجتمعت فيه جميع الذنوب، وإن دام على الذنوب في جميع عمره.

"حتى يدعها": أي: حتى يتركها، وَدَعَ يَدَعُ وَدْعًا: إذا ترك.

قوله: "وإذا عاهد غدر"؛ أي: إذا جرى بينه وبين أحد عهدٌ وأمانٌ وميثاقٌ نقَضَ ذلك العهد.

غدر - بفتح العين في الماضي، وكسرها في الغابر - غدرًا: إذا ترك الوفاء بالعهد.

قوله: "وإذا خاصم فجر"؛ أي: إذا كان بينه وبين أحدٍ مخاصمةٌ وعداوةٌ يشتمه ويقذفه بالكلام القبيح.

وفجر - بفتح العين في الماضي وضمَّها في الغابر - فجورًا: إذا فسق وكذب، وأصل الفجور: الميل من الحق إلى الباطل، والفاجر: المائل.

* * *

40 -

وقال: "مَثَلُ المنافِقِ كمثَلِ الشَّاةِ العائرةِ بينَ الغَنميْنِ، تَعِيرُ إلى هذه مرَّةً، وإلى هذه مرَّةً"، رواه ابن عمر رضي الله عنهما

قوله: "مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين": (الشاة) والغنم كلاهما اسم الجنس للمَعْز والضَّأْن، ويستعمل في الواحد والتثنية والجمع؛ لأن ما هو

ص: 144

اسم الجنس يتناول الواحد والأكثر، والمراد بـ (الشاة) ها هنا الواحد، والمراد بـ (الغنمين): الجماعتان والقطيعتان من الضأن أو المعز.

(العائرة): اسم فاعلة من عار يعير عيرًا: إذا نفر وشرد الغنم وغيره، يعني: المنافق لا يستقر بالمسلمين بالكلية ولا بالكافرين، يجيء إلى الكافرين ويقول: إنا منكم، ويجيء إلى المسلمين ويقول: إنا منكم، كما قال الله تعالى في صفتهم:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، (لقوا) أصله: لَقِيوا - بكسر القاف - فنقلت ضمة الياء إلى القاف وحُذفت؛ أي: إذا أبصروا المؤمنين قالوا: نحن المؤمنون، وإذا أبصروا الكفار قالوا: إنا معكم في الحقيقة ولكن نستهزئ بالمؤمنين بقولنا لهم: إنا مؤمنون لندفع عنَّا سيوفهم، والمراد بشياطينهم: رؤساؤهم وكبراؤهم.

وهذا المَثَلُ كمَثَلِ شاةٍ ترى قطيعتين من الغنم، تسير إلى هذه القطيعة تارةً، وإلى الأخرى تارةً، ولا تسكن بواحدة منهما؛ لأنها غريبة ليست منهما.

* * *

من الحسان:

41 -

عن صَفوان بن عسَّالٍ رضي الله عنه قال: قال يهوديٌ لصاحبِهِ: اذْهَبْ بنا إلى هذا النبيِّ، فقال له صاحبهُ: لا تقُل: نبيٌّ، إنَّه لو سمعكَ لكان له أربعة أعيُنٍ، فأَتَيا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن تِسْعِ آياتٍ بيِّناتٍ، فقال لهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لا تُشرِكُوا بالله شيئًا، ولا تَسْرِقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلوا النَّفْسَ التي حرَّمَ الله إلَاّ بالحقَّ، ولا تمشُوا ببريءٍ إلى ذِي سُلطانٍ ليقتُلَهُ، ولا تَسْحَرُوا، ولا تَأْكُلوا الرِّبَا، ولا تَقْذِفُوا مُحصَنَةً، ولا تَوَلَّوْا للفِرار يومَ الزَّحْفِ، وعليكُمْ خاصَّةً اليهود أنْ: {لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} "، قال: فقبَّلًا يديْهِ ورِجْلَيْهِ، وقالا: نشهدُ أنَّكَ نَبيٌّ، قال:"فما يمنعُكُمْ أنْ تتَّبعوني؟ "، قالا: إنَّ داودَ دعا ربَّهُ أنْ لا يزالَ من ذُرِّيَّتهِ نبَيٌّ، وإنَّا

ص: 145

نخافُ إنِ تَبِعْناكَ أنْ تَقْتُلَنَا اليهودُ.

قوله: "اذهب بنا" الباء في (بنا) بمعنى (مع) والمصاحبة؛ أي: كن رفيقي وصاحبي لنأتي إلى محمد ونسأل عنه المسائل.

قوله: "لا تقل نبي"، يعني: لا تقل لمحمد إنه نبي؛ لأنه لو سمع أنَّا نقول له نبيٌّ يفرح باعترافنا بنبوته.

قوله: "إنه لو سمعك": تقديره: إنه لو سمعك أنك تقول له نبي.

قوله: "كان له أربعة أعين" هذا الكلام عبارة عن شدة الفرح والسرور، فإنَّ مَن فَرِح تزيد قوة بصره ويزيد نور بصره، فيكون في كثرة نور البصر من الفرح كمن له أربعة أعين؛ يعني: لو سمع محمدٌ أنك تقول له نبي يزيد سروره باعترافنا بنبوته.

وينبغي أن يكون: كان له أربعُ أعينٍ، بغير هاءٍ لأن العدد من الثلاثة إلى العشرة إذا أضيف إلى مؤنثٍ يكون بغير هاء، والعينُ مؤنثٌ، وهذا اللفظ في "صحيح أبي عيسى" بغير هاء كما هو القياس، وفي نسخ "المصابيح" بالهاء، فلعله سهو من الناسخين.

قوله: "فسألاه عن تسع آيات بينات"، (الآية البينة): العلامة الواضحة، وقد تكون مما يُرى بالعين كعلامة الطريق وغيرها، وقد تكون مما يُرى بالقلب والفِكْر والعقل كالحكم الواضح، والمسألة الواضحة، و (البينات): جمع بينة، وهي الظاهرة.

يعني: سألوا رسول الله عليه السلام عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] أن تلك التسع ما هن؟

اعلم أن (تسع آيات) في قصة موسى عليه السلام جاء في القرآن في موضعين:

ص: 146

أحدهما: في سورة (النمل)، وهو قوله تعالى:{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل: 12]، وهذا بعد قصة عصًا؛ أي اجعل يدك في قميصك لتخرج يدك بيضاء من النور؛ ليكون ذلك معجزةً لك بعد أن جعلنا عصاك حية، وقوله:{مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} : أي لا يكون بياض يدك من البرص بل من النور، {فِي تِسْعِ آيَاتٍ}: أي لتكون العصا واليد من جملة تسع آيات التي بعثناك بها إلى فرعون وقومه، وهذه التسع هي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمَّل، والضفادع، والدم، والسنون، وهو القحط، ونقص ثمراتهم، وهذه التسع معجزات.

والموضع الثاني: في (بني إسرائيل)، وهو قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ} هي التي سأل اليهوديان رسول الله عليه السلام عنها، وهي أحكامٌ بدليلِ أن رسول الله عليه السلام أجابهما بتسعٍ من أحكام، وبدليلِ أن أبا عيسى أورد هذا الحديث في "صحيحه" على هذا النمط، ثم قال: وفي رواية: فسألا عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ، فلما جاء في بعض الروايات منصوصًا أن اليهوديين سألا رسول الله عليه السلام عن قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وأجابهما رسول الله عليه السلام بتسعٍ هنَّ أحكامٌ، علمنا أنهما لم يسألاه عن التسع التي هي معجزات.

قوله: "لا تشركوا بالله

" إلى آخره، فإن قيل: إن اليهوديين سألا عن تسع آيات، والمذكورُ فيما أجابهما رسول الله عليه السلام عشر، فكيف يكون هذا؟.

قلنا: روى هذا الحديث أبو داود، عن مسدد، عن يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلام، عن صفوان بن عسال، ولم يذكر يحيى:"ولا تقذفوا محصنة"، وذكر أكثر أصحاب شعبة أن شعبة شك في

ص: 147

أنه قال عليه السلام: "ولا تقذفوا محصنة" أو قال: "ولا تولُّوا الفرار يوم الزحف" يعني لم يقل رسول الله عليه السلام كلا اللفظين بل قال أحدهما، وشك شعبة في أنه قال عليه السلام أيهما قال، فإذا كان كذلك فلا يعدُّ من هذين اللفظين إلا أحدهما، فإذا عُدَّ من هذين اللفظين واحدٌ يكون الجواب تسعَ خصالٍ لا عشرة، فعلى هذا كأن النسَّاخين (1) تركوا (أو) من قوله:"أو لا تولوا الفرار".

وروى هذا الحديث أبو عبد الرحمن النَّسائي، وعدَّ عشرة كما في "المصابيح" من غير (أو) فعلى هذا نقول: أجابهما رسول الله عليه السلام بتسعٍ وزاد واحدًا؛ لأن المجيب يجوز له أن يزيد على السؤال شيئًا لزيادة الفائدة، والله أعلم.

قوله عليه السلام: "ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله": الباء في (ببريء) للتعدية، و (السلطان) ها هنا السلطنة والقدرة.

(إلى ذي سلطان)؛ أي: إلى مَن له حكمٌ وسلطنة، يعني: لا تقولوا سوءَ مَن ليس له ذنبٌ عند السلطان، ولا تنسبونه إلى ذنبٍ كي لا يقتله أو يؤذيه.

قوله: "ولا تولوا الفرار يوم الزحف"، (تولوا) بضم التاء: مضارعٌ من (ولى تولية): إذا أدبر وأعرض، (الفرار): نصبٌ على أنه مفعول له؛ أي: للفرار، (يوم الزحف)؛ أي: يوم الحرب مع الأعداء.

قوله عليه السلام: "وعليكم خاصةً اليهودَ أن لا تعتدوا في السبت"، (عليكم) كلمة الإغراء؛ أي: الزموا أو احفظوا هذا الحكم، وهو تركُ الاعتداء في السبت.

و (خاصةً): نصبٌ منوَّنٌ على أنه حال، والخاصة ضدُّ العامة، يعني: ما مضى

(1) في "ق": "فعلى هذا يكون النساخون".

ص: 148

من الأحكام مشترِكٌ فيها جميع الناس، وأما هذا الأخير فخطابٌ لليهود خاصة.

(اليهود): نصبٌ على التفسير؛ أي: أعني اليهود، وجاء في بعض الروايات: يهودُ بالرفع من غير تنوين، ومن غير الألف واللام، وتقديره: يا يهود، فحذف حرف النداء، والمعنى وفرض عليكم يا يهود.

(الاعتداء): مجاوزةُ الحد، و (أن لا تعتدوا) مفعولُ (عليكم)، والمراد بقوله:(لا تعتدوا في السبت): لا تصيدوا السمك في يوم السبت، ولا تُجاوِزوا أمر الله تعالى فيه.

قوله: "فقبلا يديه ورجليه"؛ أي قال الراوي: فقبل اليهوديان يدي رسول الله عليه السلام ورجليه لمَّا أجابهما بما سألاه.

قوله عليه السلام: "فما يمنعكم أن تتبعوني"؛ يعني: أيُّ شيء يمنعكم يا معشر اليهود عن الإسلام، واتِّباعي في هذا الدين؟

"قالا: إن داود دعا ربه أن لا يزال من ذريته"؛ أي: دعا داود النبيُّ عليه السلام أن لا تنقطع النبوة في ذريته إلى يوم القيامة، وإذا دعا داود يكون دعاؤه مستجابًا البتة؛ لأنه لا يردُّ الله تعالى دعاء نبي، فإذا كان كذلك فسيكون نبيٌّ من ذريته وتتبعه اليهود، وربما يكون لهم الغلبة والشوكة، فإن تركنا دينهم واتبعناك تقتلنا اليهود إذا ظهر لهم نبي وقوة.

هذا معنى قولهم: (إن داود دعا ربه)، وهذا كذبٌ منهم، وافتراءٌ على داود عليه السلام؛ لأن داود عليه السلام لم يَدْعُ بهذا الدعاء، ولا يجوز لأحد أن يعتقد في داود هذا الدعاء؛ لأن داود قرأ في التوراة والزبور نَعْتَ محمد رسول الله عليه السلام أنه خاتم النبيين، وأنه ينسخ جميع الأديان والكتب، فإذا أخبر الله تعالى داود بنعت رسول الله عليه السلام على هذه الصفة فكيف يدعو على خلافِ ما أخبره الله تعالى من شأن محمد عليه السلام؟

ص: 149

ولم يَصِرِ اليهوديان مسلمين بقولهما: "نشهد أنك نبي" لأنهما لم يقولا هذا اللفظ عن الاعتقاد أنه نبيٌّ إلى كافة الخلق، بل اعتقدا أنه نبي العرب فقط، والدليل على أنهما لم يعتقداه نبيَّ كافة الخلق أنهما لم يتَّبعاه في أحكام الإسلام، بدليل قوله عليه السلام:(فما يمنعكم أن تتبعوني)، وهذا الخطاب لهما ولغيرهما من اليهود، وكذلك قولهما:"وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود" يدلُّ على أنهما لم يتَّبعا رسول الله عليه السلام في أحكام الإسلام.

واسم جدِّ صفوان: ربض بن زاهر المرادي.

* * *

42 -

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ من أصلِ الإيمانِ: الكفُّ عمَّنْ قال: لا إله إلَاّ الله، لا تُكفِّرْهُ بذنبٍ، ولا تُخرجْه من الإسلامِ بعمَلٍ، والجهادُ ماضٍ مُذْ بعثَني الله إلى أن يُقاتِلَ آخرُ أُمتي الدجَّالَ، لا يُبطلهُ جوْرُ جائرٍ، ولا عَدلُ عادلٍ، والإِيمانُ بالأَقْدارِ".

قوله: "ثلاثٌ من أصل الإيمان"؛ أي: ثلاثُ خصال من أصل الإيمان، أحدها:"الكف عمن قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله" لا يجوز إيذاؤه بالقتل وأخذِ المال وغيرِ ذلك؛ لأنه مسلم.

قوله: "لا تكفره" فيه روايتان: التاء وجزمُ الراء، والنونُ ورفعُ الراء، ومعنى التكفير: نسبةُ أحدٍ إلى الكفر، وكذلك:"تخرجه" جاء بالتاء والجزم، وبالنون والرفع، يعني: لا يصير كافرًا بعد الإقرار بكلمتي الشهادة بأن يذنب ذنوبًا سوى الكفر.

قوله: "والجهاد ماض"؛ يعني: الخصلة الثانية: اعتقاد كون الجهاد ماضيًا؛ أي: باقيًا، والتقدير [في] قوله:"مذ بعثني الله": مذ فرض الجهاد وأُمرت بالجهاد إلى خروج الدجال يكون الجهاد باقيًا، وبعد قتل الدجال

ص: 150

لا يكون الجهاد باقيًا، لأن بعد الدجال يكون خروج يأجوج ومأجوج ولا يقدر أحد أن يقاتلهم، وبعد هلاكهم لم يبق في الدنيا كافر ما دام عيسى عليه السلام في الأرض حيًا، فإذا مات يكفر بعض المسلمين، وحينئذ لا يقدر أحد على القتال، بل يموت المسلمون كلُّهم عن قريب بريح طيبة وبقي الكفار.

قوله: "لا يبطله جور جائر"؛ يعني لا يجوز ترك الجهاد بأن يكون الإمام ظالمًا، بل يجب على الناس موافقة الإمام في الجهاد وإن كان ظالمًا؛ لقوله عليه السلام:"الجهاد واجب عليكم مع كلِّ أميرٍ بَرًا كان أو فاجرًا".

قوله: "ولا عدل عادل"؛ يعني: لو كان الإمام عادلًا بحيث يحصل سكون المؤمنين وتَقْوِيْتهم وغناؤهم ولم يفتقروا إلى الغنيمة، فلا يجوز مع هذا ترك الجهاد.

قوله: "والإيمان بالأقدار"؛ يعني: الخصلة الثالثة الإيمان بأن كلَّ ما يجري في العالم فهو بقضاء الله تعالى وقدره.

* * *

43 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا زنى العبدُ خرج منه الإيمانُ، فكان فوقَ رأسِهِ كالظُّلَّةِ، فإذا خرج منْ ذلكَ العمَلِ رجعَ إليهَ الإِيمانُ".

قوله: "كالظلة"، (الظلة): أول سحابةٍ تظهر ويكون لها ظل، قيل في شرح هذا الحديث: إن هذا زجرٌ ووعيدٌ للزاني وتقبيحُ فعله، يعني: الزنا من فعل الكفار، فإذا فعله المسلم فقد شابَهَ الكفار في هذا الفعل، ولم يُرِدْ به حقيقة خروج الإيمان منه، بدليل أنه لو قتله أحدٌ في تلك الحالة يجب عليه القصاص، ولو كان الإيمان منه خارجًا في وقت الزنا لَمَا وجب على قاتله القصاص، وبدليل أنه لو مات في تلك الحالة صلِّي عليه، ولو خرج منه الإيمان لم يصلَّ

ص: 151