الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني والثلاثون: إمارات عربية شمالية
لقد استغلت القبائل العربية الضعف الذي ظهر على الحكومة السلوقية، فأخذت تزحف نحو الشمال وتهدد المدن القريبة من البوادي وتحاول الاستيلاء عليها. وقد استولت فعلًا على بعضها وكونت حكومات يمكن أن نطلق عليها مصطلح "مشيخة" أو إمارة بحسب مصطلحاتنا السياسية في الزمن الحاضر. وهي حكومات توقفت حياتها على كفاية من كونها وأقام أسسها، وعلى كفاية من خلف المؤسسين لها من أشخاص. ولذلك كان عمرها قصيرًا في الغالب، وكان حجمها يتوسع أو يتقلص بسرعة؛ لأن قوة الحكومات بقوة الحكام، فإذا كان الحاكم ذا شخصية قوية وإرادة وحزم وذكاء، أغار على جيرانه وهاجم حدود الدول الكبرى، وأصابها بأضرار تضطرها إلى الاعتراف به رئيسًا على قبيلته وعلى الأعراب الخاضعين لسلطانه، ويبقى على مكانته هذه ما دام قويا، فإذا خارت قواه، أو ظهر منافس له أقوى منه، ولا سيما إذا كان منافسه قد جاء حديثًا من البادية بدم نشيط، ومعه قوم أقوياء أصحاب عدد، زعزع عن محله المرموق، وصار الأمر لغيره، وهكذا.
ويجب ألا ينصرف الذهن إلى أن هذه القبائل كانت قد جاءت إلى بادية الشأم في هذا الزمن أو قبله بقليل، فقد سبق أن تحدثت عن وجود الأعراب في هذه البادية قبل هذا العهد بزمان. وقد رأينا كيف حارب الآشوريون الأعراب، ولم يكن أولئك الأعراب الذين كانوا قد كونوا "إمارات" لهم في البادية من أبناء
الساعة بالطبع، بل لا بد أن يكونوا قد هبطوا بها قبل حروبهم مع الآشوريين بزمان لا يعرف مقداره إلا الله، ولا بد أن يكون اتصال عرب جزيرة العرب بهذه البادية اتصالًا قديمًا، فالبادية والهلال الخصيب امتداد لأرض جزيرة العرب والهجرة بين هذه المواضع قديمة قدم ظهور هذه المواضع إلى الوجود.
لم يكن أمام أعراب جزيرة العرب من مخرج حينما تجف أرضهم ويقضي الجفاف على البساط الأخضر الذي يفرشه الغيث في بعض السنين على سطح الأرض مدة غير طويلة، إلا الهجرة إلى أماكن يجدون فيها الخضرة والماء؛ ليحافظوا بهما على حياتهم وحياة ماشيتهم، وإلا تعرضوا للهلاك. والخضرة والخصب لا يكونان إلا حيث يكون الجو الطيب والماء الغزير، وهما متوافران في الهلال الخصيب وفي أطراف جزيرة العرب في الجنوب؛ حيث تسعف أبخرة البحر العربي والمحيط تلك الأرضين فتغذيها بالرطوبة وبالأمطار؛ لذلك كانت الهجرات إلى مثل هذه الأرضين دائمة مستمرة.
ويجد أعراب نجد في البادية وفي الهلال الخصيب ملاذهم الوحيد في الخلاص من خطر الفناء جوعًا، فيتجهون بحكم غريزة المحافظة على الحياة نحوهما، غير مبالين بما سيلاقون من صعوبات، وأية صعوبات تواجه الإنسان أعظم من تحمل الموت جوعًا ويبطء.
كانت كل قبيلة من هذه القبائل تضرب خيامها في المواضع التي ترى فيها العشب والماء والمغنم، في البادية أو عند الحضر. فإذا وجدت للحضر حكومة قوية احترمتهم، وإن وجدت فيهم ضعفًا، هزئت بهم، واستولت على ما عندهم، وأخذت ترعى في أرضهم، ثم هي لا تقبل بكل ذلك، بل كانت تفرض عليهم "إتاوة" يؤدونها لهم، مقابل حمايتهم من اعتداء الأعراب الآخرين عليهم. وبذلك تمكن سادات القبائل من فرض سلطانهم على بعض المدن كحمص والرُّها والحضر، وغيرها من المدن التي حكمتها أُسَر عربية، في رأي بعض الباحثين1.
وقد وقف الأعراب وقفة تربُّص وتأهُّب من الحكومات القوية المهيمنة على الهلال الخصيب، كانوا يراقبون ويدرسون بذكائهم وبخبرتهم السياسية أوضاعها،
1 العرب في سورية قبل الإسلام، تأليف رينه ديسو، تعريب: عبد الحميد الدواخلي، من منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، الجمهورية العربية المتحدة "ص4".
فإذا أحسوا فيها ضعفًا بادروا إلى استغلاله قبل فوات الأوان. وللأعراب في هذا الباب حاسة غريبة ذات قدرة كبيرة في إدراك مواطن الضعف عند الحضر وعند الحكومات؛ فإذا تيقنوا بقوة شم حاستهم من وجود ضعف عند الحضر أو عند حكومة ما، ووجدوا أن في إمكانهم استغلاله في صالحهم جاءوا إلى من وجدوا فيه ضعفًا بشروط تتناسب مع ضعف مركزه، وبطلبات يملونها عليه، قد تكون طلب زيادة "الإتاوات" أي: الجُعَالات السنوية التي تدفع لهم، وقد تكون السماح لهم بالزحف نحو أرض الحضر والتوسع في الأرضين الخصبة ذات الكلأ والماء، وقد تكون طلبًا بالاعتراف بسيادتهم على ما استولوا عليه وعلى أعراب البادية، وما إلى ذلك من شروط، قد تزيد فيها إن وجدت ممن تتفاوض معهم تساهلًا وقد تتساهل إن وجدت منهم شدة وعجرفة وقوة، مع اللجوء إلى الحيل السياسية وذلك بالاتصال سرًّا مع الجانب الثاني المعادي للانضمام إليه، وتأييده بحصولهم على شروط أحسن، وعلى ربح أعلى وأكثر مما يعطيهم أصحابهم الذين هم على اتفاق معهم. وسنجد فيما بعد أمثلة على أمثال هذه المفاوضات السياسية السرية تجري مع الفرس، وأحيانًا مع الرومان أو الروم.
وقد علَّمت الطبيعة حكومات العراق وبلاد الشأم دروسًا في كيفية التعامل والتفاهم مع الأعراب. علمتهم أن القوة ضرورية معهم، وأن الصرامة لازمة تجاههم؛ لكبح جماحهم والحد من غلواء غزوهم للحدود وللحواضر، وأن التساهل معهم معناه في نظر الأعراب وجود ضعف في تلك الحكومات، وأن معنى ذلك طلب المزيد. ولذلك أقاموا مراكز محصنة على حواشي الصحارى، أقاموا فيها حاميات قوية ذات بأس ولها علم بالبادية وبمعاركها ودروبها، ومعها ما تحتاج إليه من "الميرة" والماء. وبنوا فيها "أهراء" أي: مخازن تخزن فيها الأطعمة لتوزيعها على الأعراب عند الحاجة للسيطرة عليهم بهذا الأسلوب، كما خزنوا فيها كميات من المياه في "صهاريج" تحت الأرض، وحفروا بها الآبار للشرب، ولتموين الأعراب بها أيضا عند انحباس المطر وحلول مواسم الجفاف. وضعوا كل ذلك في حصون محصنة، ليس في استطاعة الأعراب الدنو منها أو اقتحامها؛ لأن عليها أبراجًا وفي أسوارها الحصينة العالية منافذ يرمي منها الرماة سهامًا تخرج منها بسرعة كأنها شياطين، تُخيف ابن البادية، فتجعله يتحرج من الدنو من تلك الحصون.
ونجد اليوم في العراق وفي بلاد الشأم آثار بعض تلك الحصون التي أقامها حكام العراق وحكام بلاد الشأم لصد غارات الأعراب عن أرض الحضر، ولتوجيههم الوجهة التي يريدونها، حصون منعزلة نائية كأنها جزر صغيرة برزت في محيط من الرمال والأتربة، بعيدة عن مواطن الحضارة، عند أصحابها على إقامتها في هذه المواضع؛ لتكون خطوط دفاع أمامية تحول بين أبناء البادية وبين الدنو من مواطن الحضر، وتشغل الأعراب بالقتال حتى تأتي النجدات العسكرية فتصطدم بهم إن تمكنوا من اختراق تلك الخطوط.
وقد علمت الطبيعة حكام العراق وحكام بلاد الشأم أن القوة وحدها لا تكفي في ضبط الأعراب وتوجيههم الوجهة التي يريدونها، علمتم أن جيوشهم النظامية لا تستطيع أبدًا أن تتعقب فلول الأعراب التي تتراجع بسرعة لا تبلغها عادة الجيوش النظامية في الوصول إلى البادية حصن الأعراب الحصين. وعلمتهم أيضا أن جيوشهم متى توغلت في البادية فإن احتمالات اندحارها واندثارها تزيد عندئذٍ على احتمالات الانتصار؛ فالأعرابي هو ابن البادية، وهو أخبر بها من الحضر، وهو يعرف مواضع "الإكسير" فيها "إكسير الحياة" وهو الماء. لقد خبر آبارها، وخزن الماء في مواضع احتفرها وجعلها سرية فلا يقف عليها إلا خُزَّانها؛ لهذا فإن من الحماقة محاربة الأعراب في ديارهم، وإن من الخير مداهنتهم واسترضاءهم، وذلك بالاتفاق مع سادات القبائل الأقوياء أصحاب الشخصيات والمواهب، على دفع هبات مالية سنوية لهم ترضيهم، في مقابل ضبط الحدود وحمايتها من خطر مهاجمة الأعراب لها وغاراتهم عليها، مهما كان أصل أولئك الأعراب، وفي مقابل الاشتراك مع أولئك الحكام المتحالفين معهم في حروبهم لأعدائهم، إما بتقديم الخدمات الضرورية اللازمة لهم في الحروب، مثل تقديم الجمال لهم لحمل الجنود والأثقال والماء وكل ما يحتاج إليه الجيش في عبوره إلى البوادي.
وتقرن الجعالات السنوية بهدايا وألطاف يقدمها الحكام إلى سادات الأعراب، وبألقاب مشرفة تبهج النفوس الضعيفة لاستوائهم إلى جانبهم، وبدعوات توجه إليهم في المناسبات لزيارة أولئك الحكام والنزول في ضيافتهم، فتخلع عليهم الخلع التي تستهويهم وتجعلهم إلى جانب أولئك الحكام.
ولأجل الوقوف على حركات الأعراب وسكناتهم، ولمراقبة أعمال سادات القبائل، وضعت الحكومات مندوبين عنها في مضارب أولئك السادات، يتنسمون
الأخبار ويبعثون بها إلى الحكام، وقد كانوا في الوقت نفسه بمنزلة المستشارين لهم. وقد يقرنون ذلك بوضع حاميات قوية معهم للدفاع عن أولئك السادات إن جابههم خطر، أو للضغط عليهم ولردعهم في حالة تفكيرهم بنقض حلفهم مع تلك الحكومات. وقد عُرف هؤلاء المستشارون أو "المندوبون الساميون" في عرفنا السياسي في الزمن الحاضر بـ"قيبو" في اللغة الآشورية، وكانوا يرسلونهم إلى مضارب سادات القبال لتوجيههم الوجهة التي يريدها ملوك آشور، وللتجسس عليهم وإرسال أخبارهم إلى أولئك الملوك حتى يكونوا على بيِّنة من أمرهم، ويتخذوا ما يرون من قرارات تجاههم1.
ولم يكن من العسير على حكام العراق وحكام بلاد الشأم، استبدال سيد قبيلة بسيد قبيلة آخر، إذا ما وجدوا في سيد القبيلة المحالف لهم صدا عنهم أو ميلا إلى عدوهم، أو نزعة إلى الاستئثار بالحكم لنفسه والاستقلال.
فالبادية أرض مكشوفة، وأبوابها مفتوحة لا تمنع أحدًا من دخولها، فإذا جاء سيد قبيلة طامعًا في مركز وأرض وكلأ وماء، ووجد في عدده وعدته قوة، نافس من نزل قبله، وطمع في ملكه وتقرب إلى الحكام ليحلوه محله، وليأخذ مكانه. وإذا وجد أولئك الحكام في القادم شخصية قوية وأنه أقوى من السابق؛ لأنه ظهر عليه بعدد من معه وبقوة شخصيته، وأن السيد القديم لم يظل ذا نفع كبير لهم، فلا يهمهم عندئذ إزاحته عن مكانه، وإحلال الجديد محله. وكل ما يطلبه الحكام هو ضمان مصالحهم، ومن يتعهد بحماية مصالحهم صار حليفهم وصديقهم كائنًا من كان. وهكذا البشر في كل مكان وزمان من أية أمة كانوا.
لقد سيطرت القبائل العربية على شواطئ الفرات وهيمنت عليها في أيام السلوقيين. ونجد ساداتها وقد نصبوا أنفسهم عمالًا "فيلاركا" على تلك الشواطئ منذ منتصف القرن الثاني قبل الميلاد وبعده، وتدل أسماء أولئك العمال على أن أصحابها كانوا من أصل عربي، وأن الأسر التي كونوها هي أسر عربية. وكلما كانت أسماء الملوك الأولين لهذه الأسر أسماء عربية، كانت أكثر دلالةً على أصل أصحابها العربي. فقد جرت العادة أن الملوك المتأخرين يتأثرون بتيارات زمانهم الاجتماعية وبرسومه وعاداته، فيتخذون ألقابًا وأسماء يونانية أو سريانية أو فارسية، تظهرهم وكأنهم من أصل يوناني أو سرياني أو فارسي، على حين هم من أصل عربي،
1 Musil، Deserta، P.477
ولهذا كانت لأسماء مؤسسي الأسر أهمية كبيرة في إثبات أصل الأسرة1.
وقد استغل الأعراب أهمية الطرق البرية التي تمر بالبوادي، وهي شرايين التجارة العالمية بالنسبة لذلك الوقت، فتحكموا في مسالكها، واستغلوا أهمية الماء بالنسبة للقوافل والجيوش، فلم يكن في وسع جيش قطع البادية من غير ماء، وأخذوا يعاملون المعسكرين: المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي وهو المعسكر الروماني وفقًا لحاجتهما إلى هذه الطرق والماء، ويفرضون على المعسكرين شروطًا تتناسب مع مواقفهما العسكرية ومع الأحوال السائدة بالنسبة لتلك الأيام، وصاروا يجبرون كل معسكر من المعسكرين على تقديم أحسن الترضيات لهم؛ لتقديم خدماتهم له، والانضمام إليه ضد المعسكر الشحيح البخيل.
ومن هذه الإمارات: إمارة الحضر، وإمارة "الرُّها" Edessa، وإمارة "الرستن - حمص" Arethusa – Emesa وإمارة "سنجار" Singara، وحكومة تدمر، ثم حكومة الغساسنة في بلاد الشأم، وحكومة المناذرة في العراق.
ويلاحظ أن بعض هذه الحكومات تكونت في مدن كانت قديمة عامرة، سكانها من غير العرب، ومع ذلك صارت مقرًّا لأسر حاكمة عربية، باستيلاء تلك الأسر عليها وبإخضاعها لحكمها واتخاذها مقامًا لهم، فصار الحكم عليها في أيدي تلك الأسر. أما المحكومون فهم السكان الأصليون، وغالبهم من غير العرب، ولسانهم هو لسان بني إرم في الغالب.
وهناك إمارات تكونت على أطراف الحضارة، وفي مواضع الماء والكلأ في البادية، أو في مواضع غير بعيدة عن حدود الحاضرة من العراق وبلاد الشأم، وخاصة في العُقَد التي تتصل بها طرق القوافل، ويعود الفضل في تكونها وظهورها إلى هذه الأمور المذكورة، ولا سيما موضعها من خطوط سير القوافل، حيث يتقاضى سادات تلك المواضع "إتاوات" عن التجارة التي تمر بها، وعن التجارة التي تحمل إليها لبيعها في أسواقها، فيتجمع لهم دخل لا بأس به من هذه الجباية التي قد ترتفع أحيانًا حتى تصل إلى درجات التعسف بالتجار. ويكون سادات هذه المواضع أصحاب حظ عظيم؛ إذ كانت مواضعهم عصبًا ضروريًّا رئيسيًّا في تجارة البادية، بحيث لا تجد القوافل الكبيرة المحملة بالتجارة النفيسة بدًّا
1 Die Araber، I، S. 313
من المرور منها، فإن دخلهم يكون حينئذٍ كبيرًا، يحملهم على التوسع والطموح، وعلى السيطرة على الآخرين بقدر الإمكان.
وكما كانت القوافل التجارية والطرق البرية رحمة للمستوطنات الصحراوية التي نشأت وتكونت عند عقد العصب الحساس لهذه الطرق، كذلك صارت تلك الطرق نقمة على تلك المستوطنات؛ إذ طالما قضت عليها وحكمت عليها بالموت، فقد يجد التجار وأصحاب القوافل طرقًا أسهل وأقصر في قطعهم للبادية، أو معاملة أطيب من سيد قبيلة منافس أو حماية عسكرية أقوى، فيتحولون عن تلك الطرق المسلوكة إلى طرق أخرى، فتموت بذلك المستوطنات المقامة عليها، ويضطر أهلها إلى تركها إلى مواطن جديدة. وقد كان لاستخدام الطرق المائية من طرق نهرية وبحرية، أثر كبير في إماتة الطرق البرية أو في منافستها، كذلك كان للطرق البرية ولا سيما الطرق العسكرية الممهدة التي أقامها الرومان والروم في بلاد الشأم، أو الفرس في العراق أثر كبير في القضاء على المستوطنات التي نشأت في البوادي؛ إذ فضل التجار السير في هذه الطرق المأمونة التي لا يتحكم فيها سادات القبائل في مقدراتهم، ولا يدفعون ضرائب مرور عن الأرضين على تلك الطرق الموحشة المقفرة المملوءة بالمخاطر والتي يتحكم فيها أبناء البادية في مقدرات التجار، فيفرضون عليهم ضرائب مرور من أرضهم كما يشاءون من غير تقدير لما سيجر ذلك عليهم وعلى التجار من أضرار. وبذلك أعان أبناء البادية بأنفسهم على إماتة مستوطناتهم في بعض الأحيان.
ويظهر من "جغرافية""سترابو" أن أرض الجزيرة ومنطقة الفرات والبادية المتصلة ببلاد الشأم، كانت في حكم سادات قبائل، يحكمون وكأنهم "عمال" فيلارك" Phylarchus. وكان بعض هؤلاء يحكمون أرضين صغيرة، وحكمهم حكم "مشايخ القبائل" في عرف هذا اليوم: يشتغل أتباعهم بالرعي، وبعضهم يشتغلون بالزراعة، وآخرون بالتجارة. وكان قسم منهم أعرابًا يتنقلون في البادية، ومنهم أشباه أعراب، ولا سيما أولئك القاطنين على ساحل العقبة، أي خليج "أيلة" وقد استغل هؤلاء الأعراب طبيعة أرضهم، فكانوا يجبون "العشر" من التجار، أو يشتغلون هم أنفسهم بالاتجار أو يقومون بنقل التجارة لحساب غيرهم من التجار1.
1 Die Araber، I، S. 270
وقد كان الأعراب هم الوحيدين الذين في استطاعتهم حماية الطرق البرية الممتدة بين العالم المتحضر القديم: العراق وبلاد الشأم، فهم وحدهم سادة البوادي، وفي أيديهم "إكسير الحياة" الماء؛ لهم آبار أو عيون، و"صهاريج" سرية يخزنون فيها الماء. ولهم مخازن احتياطية مملوءة بهذه المادة الثمينة الضرورية للحياة، يملئونها من أماكن قد تكون بعيدة عنهم، ثم يحملونها معهم حيث ذهبوا، وإلى منازلهم. وهي قِرَبٌ كبيرة يصنعونها من الجلد، تمونهم بالماء، وتمون القوافل المارة بهم بما يحتاجون إليه وبما يكفيهم للتنقل من منزل إلى منزل آخر. وقد أطلق اليونان على أكثر هؤلاء اسم Scentitae = Skenitai، بمعنى الساكنين في الخيام؛ لأن "السكينة"Skenai = Skynai معناها الخيمة والبيت، وهي تقابل لفظة "سكوت""سكوث" Sukkot في العبرانية، التي تعني الخيمة والبيت أيضًا1.
والـ"سكينيتة" Skenitai، هم كما قلت أهل الخيام، الخيام المصنوعة خاصة من شعر المعز2، وهم أعراب يقطنون البادية وطرفي العراق والشأم، تمتد منازلهم في بلاد الشأم حتى تبلغ الخط الممتد بين Europus و Thapascus في الشمال على رأي "بلينيوس"3، وتمتد في الغرب حتى تبلغ حدود Apamea على رأي "سترابون". أما حدود مجالات هؤلاء الأعراب من الشرق، فتمتد من أعالي الفرات حتى تبلغ ملتقاه بدجلة في الجنوب على رأي "سترابون" كذلك4. ويفصلهم النهر عن منازل قبيلة "أتالي" Athali في كورة5 Characene.
وذكر "سترابو" أن سادات "سكان الخيام" كانوا يجبون الضرائب من التجار في أثناء مرورهم بمناطق نفوذهم، وكان بعضهم يشتط عليهم فيتقاضى منهم ضرائب عالية، ولا سيما أولئك الذين ينزلون على ضفتي النهر، فتجنب التجار المرور بمناطقهم، ومنهم من كان يتساهل فيعاملهم بلطف ورعاية6. وذكر أيضا أن الرومان وسادات الأعراب كانوا يسيطرون على الجانب الغربي للفرات
1 Die Araber، I، S. 272، W. Gesenius، Hebr. Und Aram. Handworterbuch، "1921"، S. 542
2 Paulys – Wissowa، Zweite Reihe، Funfter Halbband، "1927"، P.513
3 Pliny، Vi، 21
4 Strabo، Xvi، 2
5 Paulys – Wissowa، Zweite Reihe، Funfter Halbband، "1927" 513
6 Strabo، Xvi، I، 27
حتى إقليم بابل، وأن فريقًا من سادات القبائل كانوا يشايعون الرومان، وفريقًا آخر كان يشايع الفرس، وأن الذين كانوا يسكنون على مقربة من النهر كانوا أقل ميلا وتوددا إلى الرومان من الذين كانوا يقيمون على مقربة من العربية السعيدة1.
وبلغت منازل الـ"السكينيتة" سكان الخيام حدود مملكة "حدياب"2 Adiabene والجبال في العراق على رأي "سترابو"3. ويذكر "سترابو" أن من هؤلاء رعاة، وأن منهم متلصصين، يغزون وينهبون، ويتنقلون من مكان إلى مكان حيث يكون المرعى، أو تتوافر الغنائم والأموال4، وأن طريق بابل و"سلوقية" إلى الشأم الذي يسلكه التجار يمر في أرض جماعة من هؤلاء الأعراب يعرفون بـMalli في أيامه، لهم البادية يتحكمون فيها كيفما يشاءون5.
ولا نجد في كتاب "سترابو" شيئًا يتعلق بأصل "السكينيتة"، سكان الخيام، وبالزمن الذي ظهرت فيه هذه التسمية. وقد ذكر أن من مواطنهم مدينة اسمها Skenai، وهي معروفة عندهم، تقوم على "قناة" على حدود أرض "بابل"، وعلى بعد ثمانية عشر "شوينوى" Schoinoi من مدينة "سلوقية"، كما ذكر أنهم يسمون الآن باسم آخر، هو:"ملوي" Malioi "مالي"6 Malli.
وقد ذهب الباحثون مذاهب عدة في تعيين موضع مدينة Skenai، إن جاز التعبير عنها بلفظة "مدينة"؛ فذهب بعضهم إلى أنها "عُكْبَرا"، وذهب بعض آخر إلى أنها "الحيرة"، فالحيرة بمعنى المخيم والمعسكر، وهو معنى قريب من معنى لفظة Skenai. وذهب آخرون إلى أنها "مسكين" أو "مسجين"، وهو موضع يقع شمال بغداد، أو "بيت مشكنة". ولكلٍّ رأيٌ ودليلٌ في اختياره لذلك المكان7.
ويظهر من وصف "سترابو" لأحوال "سكان الخيام"، أي: الأعراب، أنهم كانوا كثرة، وقبائل تنتقل مع الماء والكلأ. أما الـMalioi، فإنهم كان منهم
1 Strabo، Xvi، I، 28
2 Paulys، Zweite Reih، Funter Halbband، "1927"، 514، Strabo، Xvi، I، 27
3 Strabo، Xvi، I، 26
4 Strabo، Xvi، I، 26
5 Paulys، Zweite Reihe، Funfter Halbband، 1927، 514، Strabo، Xvi، I، 27
6 Die Araber، I، S. 271، Strabo، 16، 748، Xvi، 26، Paulys، Zweite Reihe، Funfter Halbband، 1927، S. 513
7 Die Araber، I، S. 272، Ed. Sachau، Die Chronik Von Arabela، 1915، 62
أشباه مستقرين، وآخرون مستقرون تكاد منازلهم تكون ثابتة، ولهم نظام يمكن أن نسميه نظام حكومة، ويدير شئونهم سادات منهم، يشرفون على أعرابهم ويرعون طرق القوافل التي تمر بأرضهم؛ لأنها تأتي لهم بفوائد كبيرة1.
ومن الإمارات التي يرجع كثير من الباحثين أصول حكامها إلى أصول عربية: الحضر Hetra، و"إمارة حمص" Emesa و"إمارة الرها" Edessa، والرصافة، وتدمر، وإمارات أخرى. وهي إمارات لا يمكن أن نقول: إن ثقافتها كانت ثقافة عربية، وإن غالب سكانها كانوا من العرب، ولكننا نستطيع أن نقول: إن العرب كانوا يتحكمون فيها، وإن هنالك أدلة تزداد يومًا بعد يوم، تزيد في الاعتقاد بأن العنصر العربي كان قويًّا فيها، وأن سكانها كانوا عربًا، ولكنهم تأثروا بالمحيط الذي عاشوا فيه، فتثقفوا على عادة تلك الأيام بثقافة بني إرم، واتخذوا من لسان بني إرم لسانًا لهم في الكتابة، ومن قلم بني إرم قلمًا لهم يكتبون به، ويعبرون عن إحساسهم وشعورهم وعلمهم به.
أما "الحضر"، فهي اليوم آثار شاخصة في البرية بوادي الثرثار جنوب غربي الموصل، على بعد "140" كيلومترًا منها. ولعلماء الآثار آراء في أصل التسمية، فمنهم من ذهب إلى أنها من أصل إرمي، ومنهم من ذهب إلى أنها من أصل عبراني إرمي، ومنهم من رجح أنها من أصل عربي، بمعنى "الحيرة" أي:"العسكر"، وقد عرف بـ"أترا" Atra و Atrai في اليونانية، وبـ"هترا" Hatra في اللاتينية2. وهي "حطرا" في الكتابات التي عُثر عليها في الحضر3.
ويرى "هرتسفلد" E. Herzfeld أن القبائل العربية هي التي أسست هذه المدينة، أسستها في القرن الأول قبل الميلاد حصنًا منيعًا أقام ساداتها فيه مستفيدين من الخلاف الذي كان بين الفرث واليونان، حيث استغلوه بذكاء وحنكة، فحصلوا على أموال من الجانبين، لما لموضعهم من الشأن العسكري والسياسي والاقتصادي. وكانوا كلما ازداد مالهم وبرزت أهميتهم، ازدادت المدينة توسعًا وبهاء وعمرانًا، حتى صارت
1 Die Araber، I، S. 274
2 Brockelmann، Lexi، Syriacum، 1928، 228، Levy – Goldschmid Worterbuch Uber Die Talmudim Und Midraschim، Bd.، 2، 1922، 40a، Die Araber، I، S. 275
3 Die Araber، I، S. 275، Ii، S. 225
مدينة كبيرة ذات شأن، سكنتها جاليات أجنبية أيضا، أنجزت، وتولت الوساطة في البيع والشراء، ونقل تجارة آسية إلى تجار أوروبا، وتجارة أوروبا وحاصلاتها إلى تجار آسية1.
وقد قوَّت الكتابات الإرمية التي عثر عليها في "الحضر" سنة "1951م" رأي "هرتسفلد"، القائل بأن الذين أسسوا هذه المدينة هم قبائل عربية؛ وذلك لورود أسماء عربية فيها مع أسماء إيرانية وإرمية. وقد وجد أن نسبة الأسماء العربية تزيد على نسبة الأسماء العربية في كتابات مدينة "تدمر"، وهي مكتوبة بلغة "بني إرم" كذلك، وهذا مما يدل على وجود جالية عربية قوية في الحضر2. ولكن ذلك لا يعني في الزمن الحاضر أن غالب السكان كانوا عربًا.
وقد نُعت رئيس معبد الحضر الكبير بـ"سادن العرب"، على غرار تلقيب ملوك الحضر أنفسهم بـ"ملوك العرب"3. واسم هذا السادن، هو "أفرهط"، وقد قال عن نفسه: "رب ي تا دي عرب"، أي: "أفرهط سادن العرب"، وذكر مترجم النص أن المألوف في كتابات الحضر أنها لا تنسب الكاهن إلى عبدة الإله أي: المتعبدين، ولكن تنسبهم إلى الآلهة، بأن يكتب "سادن الإله
…
"، لا "سادن عبدة الإله
…
"، كما هو في هذا النص، ويرى مترجمه أن "أفرهط" قد خالف المألوف، وخالف عادة القوم، تقليدًا لما فعله الملك "سنطروق" ملك الحضر من تلقيب نفسه بـ"ملك العرب"4 "ملك الأعراب".
وقد عثرت مديرية الآثار العامة في العراق على نص وسمته بـ"79" من النصوص التي عثر عليها في الحضر، جاء فيه اسم المدينة "الحضر" لأول مرة، فلم يسبق ورود هذا الاسم في نصوص سابقة. وقد ورد على هذا الشكل:"حطرا"، على نحو ما ينطق به في لغة "بني إرم"5، كما وردت فيه جملة:
1 E. Herzfeld، Hatra، In Zdmg.، 68، 1914، 663، U. Kahrstedt، Artabanss، Iii، 67، Die Araber، I، S.، 275، Th. Noldeke، Geschichte Der Perser Und Araber، 1879، 33، F. Altheim، Die Krise Der Alten Welt، I، 1943، 132، 206
2 Die Araber، I، S. 276.
3 مجلة سومر، المجلد الحادي والعشرون، 1965، "كتابات الحضر"، لفؤاد سفر، "ص22".
4 سومر، العدد المذكور "النص رقم 223""ص38".
5 راجع السطر 14، وهو السطر الأخير من النص المذكور، مجلة سومر، السنة "1961"، المجلد السابع عشر، الجزء الأول والثاني، "ص12، 15، 17".
"وبالحظوظ العائدة إلى العرب"1، وهي جملة ذات دلالة مهمة بالطبع؛ لأنها تشير إلى العرب ووجودهم في هذه المنطقة، كما ذكر فيه "عربايا""عربواو"2، ولاسم إقليم "عربايا" شأن كبير؛ لأنه نسبة إلى العرب، وفيه تقع مدينة الحضر.
أما أسماء ملوك الحضر، فهي أسماء غير عربية النجار، يظهر على بعضها أنها إيرانية، وعلى بعض آخر أنها إرمية، غير أن علينا أن نفكر في أن التسميات لا يمكن أن تكون أدلة يستدل بها على أصل الناس. فقد كانت العادة تقليد الأجانب ومحاكاتهم في اختيار أسمائهم، ولا سيما عند الحكام والملوك، فقد كانوا يختارون لهم في كثير من الأحيان أسماءً أو ألقابًا من الدول القوية التي تتحكم في شئونهم والتي لها سلطان عليهم. فقد لقب جماعة من ملوك "اليطوريين" أنفسهم بـ"بطلميوس" ولقب نفر منهم أنفسهم بـ"ليسنياس" Lysanias وبـ"فيلبيون" Philippion، وهي من التسميات اليونانية، مع أن اليطوريين ليسوا يونانيين3. كذلك نجد اللحيانيين يقلدون اليونان، فيلقبون أنفسهم بـ"بطلميوس"، مع أنهم عرب، وهكذا قُلْ عن أهل "الرها" و"تدمر" وأمثالهم فإنهم هم وملوكهم قد قلدوا اليونان في أسمائهم وفي اتخاذ ألقاب يونانية لهم، وهم مع ذلك ليسوا من اليونان؛ ولهذا لا نستطيع أن نحكم على أصل الإنسان استنادًا إلى الألقاب والأسماء. وينطبق هذا الرأي على ملوك الحضر أيضًا، فإن "سنطروق" وهي تسمية إيرانية فرثية، لا يمكن أن تقوم دليلًا على أن أصله من الفرث4.
ويلاحظ أن كثيرًا من كتابات الحضر، لا يكتفى فيها بذكر اسم الشخص واسم أبيه، وإنما يذكر فيها اسم جده أيضا، واسم والد جده أحيانا، وقد عثر على كتابة ورد فيها اسم ستة أجداد. ونجد هذه الطريقة في الكتابات الصفوية كذلك، وقد استدل "إينو ليتمان" E. Littmann من طريقة تدوين الصفويين لأنسابهم على هذه الصورة على أنهم عرب؛ لأن العرب يعتنون بالنسب أكثر من عناية غيرهم به، فيذكرون أسماء الآباء والأجداد. ولذهاب بعض أهل الحضر هذا المذهب في تدوين أنسابهم، رأى بعض الباحثين أن أصحاب هذه الكتابات
1 العدد المذكور "سطر 10" من النص.
2 العدد المذكور "سطر 14".
3 Die Araber، I، S. 278
4 Die Araber، I، S. 280
هم من أصل عربي1.
وما زال تأريخ الحضر غامضًا ناقصًا، فيه فجوات واسعة، لم تملأ حتى الآن. ويرى الذين عنوا بدراسة تأريخها أنها تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، وربما امتد تأريخها إلى ما قبل ذلك. وأما ازدهارها، فقد كان في أيام "الفرث" Parthians، وهم "الإشكاليون" و"ملوك الطوائف" في الكتب العربية. وقد عاركت "الرومان" و"الساسانيين"، وتعرضت للخراب والدمار في أيام "سابور" المعروف بـ"سابور الجنود" في الكتب العربية، وذلك سنة "241" للميلاد. ولم تتمكن بعد هذا الحادث من استعادة نشاطها وقوتها، فذكر أن جيشًا رومانيًّا مر بها سنة "363" للميلاد، فوجدها خرابًا2.
ومن ملوك الحضر، الملك "سنطروق"، وقد ورد اسمه في طائفة من الكتابات، ويظهر أنه كان مؤسس سلالة ملكية من السلالات التي حكمت هذه المدينة. وقد عرف أبوه باسم "نصرو مرى""نصر"3، ولعله كان أول من ملك الحضر. ويظهر أن أباه لم يكن ملكًا، ولكن كان كاهنًا، وقد ورد اسمه في نص رقم برقم "77" للميلاد. ومعنى هذا أن الملك "سنطروق" كان يحكم في النصف الثاني من القرن الأول للميلاد، ولا يستبعد أن يكون قد حكم قبل هذا العهد. ويعد هذا النص من أقدم النصوص المؤرخة التي عُثر عليها في هذه المدينة4.
وقد عثر على كتابات أخرى، ورد فيها:"سنطروق ملك بن نصرو مريا"5. ولورود جملة "ملك العرب" بعد اسم الملك شأن كبير بالطبع؛ لأنها توضح علاقة هذا الملك بالعرب بكل جلاء.
وقد أمكن الحصول في هذا اليوم على أسماء عدد من حكام الحضر، منهم:"أورودس""ورود"، وكان يلقب بلقب "مريا"، أي:"السيد"
1 Die Araber، I، S. 280
2 مجلة سومر، المجلد الثامن، الجزء الأول "1952""ص39 وما بعدها".
3 لعله "نصرو مديا".
4 مجلة سومر، "1961م" المجلد السابع عشر، الجزء الأول والثاني "ص22 وما بعدها".
5 سومر، العدد المذكور "ص22"، حاشية "3".
و"الرئيس"، و"نصرو""نصر"، وقد لقب بلقب "مريا" كذلك. وهو ابن "نشرى هبة""نشرى هاب"1، ووالد الملك "سنطرق""سنطروق" الموسوم بـ"الأول". ثم "ولجس""ولجش""ولوجس"، وقد لقب بـ"مريا" أي:"الرئيس" في أحد النصوص، وبلقب "ملكا ذي عرب"، أي:"ملك العرب""ملك الأعراب"2 في نص آخر. مما يدل على أنه عاف لقب "مريا"، أي: السيد أو الرئيس، الذي لقب به في أول عهده بالحكم وهو لقب أسلافه، واستبدله بلقب "ملك"، وهو أضخم من لقب "مريا" بالطبع.
وقد عثر على تمثال كتبت على قاعدته جملة: "تمثال ولجش ملك العرب"، وقد أقام ذلك التمثال وأمر بتسطير الكتابة "جرم اللات بن حيي"3.
ثم الملك "سنطرق""سنطروق" الأول، وهو ابن "نصرو""نصر""نصر ومريا"، وقد لقب بـ"ملكا دي عرب"، أي "ملك الأعراب"4 وقد كان حكمه في النصف الثاني من القرن الأول بعد الميلاد "77 = 78م"5.
ثم الملك "عبد سميا" الملقب بلقب "ملكا ذي عرب""ملكا دي عرب"، وهو والد الملك "سنطرق""سنطروق" الثاني6.
والملك "سنطرق""سنطروق" الثاني، وهو ابن الملك "عبد سميا"، وهو والد ملك آخر اسمه "عبد سميا" كذلك7، وملك آخر اسمه "معنا" "معنى" أي:"معن" في عربيتنا8.
ولعل "تراجان""98-117م" الإمبراطور الروماني ذا المطامع الواسعة في الشرق الأدنى، كان قد فكر في الاستيلاء على الحضر في عهد "سنطرق""سنطروق" أو أيام "عبد سميا". إذ عثر على منار في طريق سنجار دوّن عليه اسمه، يشير إلى وصوله إلى هذه المواضع من العراق. ولكن الرومان لم
1 النص رقم 194، Die Araber، IV، S. 266
2 النصوص: 140، 193، Die Araber، IV، S. 266
3 Nr. 193، Die Araber، IV، S. 260
4 النص 194، و196، و197، و199.
5 Die Araber، IV، S. 266
6 النص 195.
7 النص 28، و36، و195، Die Araber، IV، S. 267
8 راجع النص في: Die Araber، II، S. 249، 267
يتمكنوا من الاستيلاء على الحضر، وبعد أن حاصروها مدة، تراجعوا عنها؛ لأنهم وجدوا صعوبة في فتحها، وعادوا إلى "أنطاكية"1.
وقد ورد في النص "139" اسم "نشرى هب"، وهو ابن "نوهرا"، وهو ابن "سنطرق""سنطروق"، الملقب بلقب "ملكا" أي:"الملك"2.
ويظن أن حكم "أثل ملكا"، أي: الملك "أثل""أثال" أو "أثال الملك" بتعبير أصح، والذي ورد اسمه في النصوص، دون أن يذكر اسم والده، كان يحكم الحضر في منتصف القرن الثاني للميلاد، أو في النصف الثاني منه، وهو ملك لا نعرف صلته بالملوك المتقدمين3.
وأما "برسميا"، فقد كان من معاصري "سبتيميوس سفيروس" Septimius Severus الذي كان حكمه في حوالي السنة "193" إلى السنة "211" بعد الميلاد4، وكان من خصومه المزعجين. فقد صبر بجنوده ودافع معهم عن أسوار مدينته حتى أكرهه على فك الحصار عن الحضر وعن التراجع عنها، بسبب العطش الذي أثر في جيشه، على حين كان الماء كثيرًا في المدينة مخزونًا عندهم. وبسبب المقاومة العنيفة التي أظهرها الفرسان العرب، وإلقاء أهل الحضر قنابل النفط على جيوش الرومان ومقاومتهم مقاومة عنيدة حملت الرومان على التراجع عن المدينة وفك الحصار عنها5.
ولما ظهرت الدولة الساسانية كانت الحضر على صلات طيبة بالرومان، وكانت تلعب دورًا خطيرًا في عالم التجارة لموقعها المهم بالنسبة لطرق القوافل لذلك الوقت، فتحرش بها الساسانيون وغزوها، ثم دمروها في الأخير، وكان سبب ذلك هو أن "أردشير" الأول، مؤسس الدولة الساسانية ومهدم كيان الدولة الأشكانية دولة الفرث، لما انتصر على دولة الفرث، حارت الدويلات الصغيرة، وفي جملتها حكومة الحضر، في أمرها، وظنت أن النصر سيكون للفرث، فوقفت موقف الحذر من الساسانيين، ورأى ملك الحضر "الضيزن" أن من الأصلح له
1 Dilleman، Haute Mesop.، 129
2 سومر 1961، Die Araber، Iv، S. 259، A. Caquot 258
3 Die Araber، Iv، S. 267
4 Die Araber، Iv، S. 267
5 Dio Cassius، Lxxvi، 2.3، Lxxvi، 9.4، Ii، 12، Herodian، Iii، 9، 12، Fr. Stark، Rome On The Eupfrates، Pp.255.
أن ينضم إلى الرومان الذين كانوا قد توجهوا نحو الشرق، واستولوا على "ميديا"، وأن يهاجم الفرس، فهاجمهم وتغلب عليهم في معركة "شهر زور" كما تذكر الموارد العربية، وأسر بنتًا من بنات ملك الفرس1، وكان ذلك في حوالي السنة "232" للميلاد تقريبا. فسار "سابور" الأول، وهو "سابور الجنود"، وهو ابن الملك "أردشير الأول"، إلى الحضر يريد الانتقام من "الضيزن"، فتحصن "الضيزن"، وأناخ "سابور" على حصنه أربع سنين، من غير أن يتمكن من فتحها، ثم إن ابنة للضيزن اسمها "النضيرة" رأت "سابور" فوقعت في حبه، فراسلته وأرشدته إلى طريقة يتمكن بها من إحداث ثغرة في سور المدينة ففتحها، واستولى عليها وقتل أباها، وأباد أهل المدينة، وأخذ "سابور" النضيرة فأعرس بها بعين التمر، ثم تذكر خيانتها "فأمر رجلًا فركب فرسًا جموحًا، ثم عصب غدائرها بذنبه، ثم استركضها فقطعها قطعًا"2.
وقد تعرض "الطبري" لمدينة الحضر، فقال: "وكان بحيال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها: الحضر، وكان بها رجل من الجرامقة، يقال له: الساطرون، وهو الذي يقول فيه أبو داود الإيادي:
وأرى الموت قد تدلى من الحضـ
…
ـر على رب أهله الساطرون
والعرب تسميه الضيزن، وقيل: إن الضيزن من أهل باجرمي.
وزعم هشام بن الكلبي أنه من العرب من قُضاعة، وأنه الضيزن بن معاوية بن العبيد بن الأجرام بن عمرو بن النخع بن سليح بن حُلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، وأن أمه من تزيد بن حلوان اسمها جيهلة، وأنه إنما كان يعرف بأمه. وزعم أنه ملك أرض الجزيرة، وكان معه من بني عبيد بن الأجرام وقبائل قضاعة ما لا يحصى، وأن ملكه كان قد بلغ الشأم، وأنه تطرف من بعض السواد في غيبة كان غابها إلى ناحية خراسان سابور بن أردشير. فلما قدم من غيبته، أخبر بما كان منه، فقال: ذلك من فعل الضيزن، عمرو بن إلة بن الجُدَي بن الدهاء بن جشم بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة
…
فلما
1 مجلة سومر، المجلد الثامن "1952م"، الجزء الأول، "ص43".
2 الطبري "2/ 49 وما بعدها"، نهاية الأرب "1/ 381 وما بعدها"، Die Araber، III، S. 108
أخبر سابور بما كان منه، شخص إليه حتى أناخ على حصنه، وتحصن الضيزن في الحصن، فزعم ابن الكلبي أنه أقام سابور على حصنه أربع سنين، لا يقدر على هدمه ولا على الوصول إلى الضيزن1. ثم ذكر قصة ابنة الضيزن مع سابور وخيانتها لأبيها وكيف كان مصيرها.
ويذكر "الطبري" في روايته التي يرفعها إلى "ابن الكلبي"، أن سابور أباد أفناء قضاعة الذين كانوا مع الضيزن، فلم يبقَ منهم باقٍ، وأصيبت قبائل من بني حلوان، فانقرضوا ودرجوا. ثم ذكر في ذلك شعرًا نسبه إلى "عمرو بن إلة"، وكان مع الضيزن2.
وروى "ابن خلدون" أن الملك بالحضر كان لبني العبيد بن الأبرص بن عمرو بن أشجع بن سليح، وكان آخرهم "الضيزن بن معاوية بن العبيد" المعروف بالساطرون3. وذكر "البكري" أن "سابور ذا الأكتاف" لما أغار على الحيرة وهزم أهلها، سار معظمهم إلى الحضر، يقودهم "الضيزن بن معاوية التنوخي" فنزلوا به، وهو بناء بناه الساطرون الجرمقاني، فأقاموا به مع الزباء، فكانوا رجالها وولاة أمرها. فلما قتلها "عمرو بن عدي" استولوا على الملك حتى غلبتهم غسان، وقد فرق البكري بين الضيزن والساطرون4.
وقد ورد في أثناء القصص المروي عن الضيزن والحضر شعرٌ نسبوا بعضه إلى "أبي دواد الإيادي"، وبعضه إلى "الأعشى ميمون بن قيس"، وبعضًا آخر إلى "عمرو بن إلة" وبعضًا إلى "عدي بن زيد العبادي"5. ونجد في شعر الأعشى، خبر حصار "شاهبور الجنود" حولين للحضر، وذكر "عدي بن زيد العبادي" في شعره أن صاحب الحضر شاد حصنه بالمرمر، وجلله كلسًا، وللطير في ذراه وكور. ثم باد ملكه، فصار بابه مهجورًا، بعد أن كانت دجلة تُجبَى له والخابور6. وهو من هذا الشعر الحزين الذي يغلب عليه طابع الموعظة
1 الطبري "2/ 47 وما بعدها""دار المعارف"، أيضًا "الضيزن بن جلهمة أحد الأحلاف"، البلدان "3/ 290"، في الأغاني "جبهلة"، الأغاني "2/ 140".
2 الطبري "2/ 49".
3 ابن خلدون "2/ 249".
4 معجم ما استعجم "ص17""طبعة وستنفلد"، المشرق: السنة الخامسة عشرة، الجزء 7، تموز 1912، ص516، Ency.، II، P.207
5 الطبري "2/ 47 وما بعدها"، نهاية الأرب "1/ 381 وما بعدها".
6 الطبري "2/ 50".
واحتقار الدنيا وازدرائها، وهو طابع أغلب الشعر المنسوب إلى الشاعر البائس.
والساطرون، هو "سنطروق" في كتابات الحضر، حرّف فصار الساطرون عند أهل الأخبار1. وهو لفظ إيراني الأصل، انتقل من اللسان الإيراني إلى لغة بني إرم فصار "سنطروق"، وصير "سنتروسس" في اللغة الإغريقية. وقد عرف بهذا الاسم أحد الملوك الفرث "الأشكانيين""سنة 76 أو 75 حتى 70 أو 69ق. م."2.
وإذا أخذنا برواية "الطبري" من أن "الساطرون" كان من الجرامقة، فمعنى ذلك أنه كان من "بني إرم"، أي: من الآراميين، وهم سكان "جرمقايا""جرمقاية" الواقعة شرق دجلة جنوب "الزاب" الصغير، وقد عُرفوا بالجرامقة نسبة إلى هذه الأرض3. وإذا أخذنا بروايته أيضا من أن الساطرون كان يعرف بالضيزن، وأن "الضيزن" هو من أهل "باجرمي"4، فإن في الرواية الثانية تأييدًا للرواية الأولى من أن الساطرون كان من بني إرم، ولم يكن من العرب5.
غير أن "ابن الكلبي" يقول: إنه من العرب وإنه من قضاعة من جهة الأب، وإنه من "تزيد" من جهة الأم، وإنه ملك أرض الجزيرة، وإن ملكه بلغ الشأم، وكان معه من "بني عبيد بن الأجرام" وقبائل قضاعة، وإنه انتهز فرصة غياب "سابور بن أردشير" إلى ناحية خراسان، وتطرف في بعض ناحية السواد، فلما قدم "سابور" من غيبته أخبر بما كان منه، فشخص إليه حتى أناخ على حصنه أربع سنين في رواية "ابن الكلبي"، وحولين كما جاء في شعر "الأعشى"6.
وقد أنكر "نولدكة" رواية "ابن الكلبي" بشأن حصار "سابور" للحضر، وقد كانت الحضر قد فتحت في عهد "أردشير" الأول، وذلك قبل وفاته في
1 Ency.، Ii، P.207، Herzfeld، In Zdmg.، Ixviii، Noldeke، Gesch. Der Perser Und Araber، S. 33
2 مجلة سومر، "1952م"، المجلد الثامن، الجزء الأول، "ص40"، Die Araber، IV، S. 267
3 Die Araber، III، S. 13، IV، S. 108
4 الطبري "2/ 47""دار المعارف".
5 Die Araber، III، S. 108
6 الطبري "2/ 47".
سنة "241" للميلاد. وكان ابتداء حكم "سابور" الأول سنة "241"؛ لذلك رأى "نولدكة" وغيره أن قصة "الضيزن" لا علاقة لها بهذا "السابور"، بل بملك آخر من ملوك الساسانيين، وأن "الضيزن" المذكور كان رئيسًا من رؤساء قبائل عربية متنفذة، كانت تغير من "الجزيرة" ومن الغرب على أرض السواد1.
ورجحوا كون "سابور" -أهل الأخبار- هو "سابور" الثاني الذي حكم من سنة "309" حتى سنة "379" للميلاد. وقد عرف هذا الملك بغزوه للعرب، وهو صاحب "الأنبار" و"خندق سابور" الذي حفره لحماية الأرض الخصبة المأهولة من هجمات الأعراب. وقد كان هذا الملك قد غزا "خراسان" وغزا أرض بكر وتغلب التي تقع بين الروم والفرس "المناظر"، حيث كانت تنزل قضاعة أيضا2.
وقد رأى بعض الباحثين أن تعبير "سابور الجنود""شاهبور الجنود" الوارد في شعر "الأعشى" و"عمرو بن إلة" تعبير يشير إلى أن "سابور" المذكور لم يكن ملكًا، بل كان قائدًا من قادة الجيش، وأن هذا التعبير هو ترجمة لمصطلح "أصبهبذ" Spahbad الذي يعني "صاحب الجيش"، وأن المقصود به رجل اسمه "شابور""سابور" وكان بدرجة "أصبهبذ""أسبهبذ" على "الري"، وذلك في أيام "قباذ" الأول "448-531م". وأما "الضيزن"، فهو عامل من العمال العرب من سادات القبائل، قد يكون "طيزانيس" الذي كان في أيام "قباذ"، الذي يجوز أن يكون صاحب المدينة المسماة "طيزن آباد" و"مرج الضيازن" على الفرات3.
ومن القبائل التي ورد اسمها في كتابات الحضر، قبيلة عرفت بـ"بني تيمو"4 "بني تيم". وهي قبيلة قد تكون لها صلة بقبيلة ورد اسمها في كتابات عُثر عليها في وادي حوران بالعراق، وفي كتابات عُثر عليها في تدمر. ويظهر أنها
1 Die Araber، III، S. 109
2 الطبري "2/ 55 فما بعدها""ذكر ملك سابور ذي الأكتاف".
3 Die Araber، III، S. III
4 سومر، "1965"، المجلد الحادي والعشرون، الجزء الأول والثاني، "ص33"، النص رقم 214.
كانت من القبائل المعروفة في الجزيرة وفي بادية الشأم في القرن الأول قبل الميلاد فما بعده، ويدل اسمها على أنها من القبائل العربية المتنقلة التي انتشرت بطونها في منطقة واسعة في ذلك العهد1.
هذا ما عرفه أهل الأخبار عن الحضر وعن أهل الحضر، فهم على رأيهم من عرب قضاعة نزلوا هذه المواضع في زمن لم يحددوه، وأقاموا هناك.
ولا أظن أن ما أورده "ابن الكلبي" عن الحضر قد جاء به من عنده، فلا بد أن يكون قد أخذه من موارد فارسية أو إرمية، وأغلب ظني أنه أخذ ذلك عن أهل الحيرة، وقد كان لرجال الدين فيها من النصارى علم بالتواريخ، أخذوا علمهم هذا من موارد متعددة، وعنهم نقل ما أورده عن الحضر.
وأما مملكة "الرها" Edessa، وتعرف بـ"أورفة""أُرفة" أيضا، فإن معارفنا عنها من ناحية صلتها بالعرب لا تزال ضئيلة، وهي من مدن الجزيرة العليا. وقد أزهرت قبل الميلاد، وظهرت مثل جملة مدن في هذه المنطقة، منها:"بتنى"، ونصيبين، و"سنكارا" Singara أي:"سنجار"2.
وقد أدخل "بلينيوس""الرها" Edessa و Callirhoe = Carrhoe في جملة مدن "العربية"3، ويقال للرها "أورهة" Orhai = Orrhoe في السريانية، وهي من "ديار مضر" المعروفة باسم Osrhoene = Orrhoene قديمًا4، وهي Orroei في تأريخ "بلينيوس"5، ومن جملة الأرضين الداخلة في العربية6، ومن المدن التي جدد بناءها "سلوقيوس الأول"7 Seleuces. وعرفت أيضا باسم "أنطوخية"، نسبة إلى "أنطيوخس" Antiochus الرابع8.
1 المصدر نفسه، القسم الإنجليزي "ص10".
2 مجلة سومر، "1952م"، المجلد الثامن، الجزء الأول، "ص38".
3 Pliny.، V، XXI، 86، Vol.، II، P.287
4 المشرق: السنة الخامسة عشرة: الجزء 3، آذار 1952 "ص201 وما بعدها"، Ency.، Iii، P.993، Hill، P.Xgiv، Lane، P.263
5 Pliny.، V، Xx، 85، Vi، 25، 129، Vi، Ix. 25، Vol. Ii. P.285، 355، 437
6 Pliny.، V، Xx، 85، Vol. Ii، P.284، 285
7 Eusebius – Hieronumus، Chron.، P.127
8 Pliny.، V، Xx، 86، Ency.، Iii، P.993، Hill، P. Xgiv
وقد تكونت في القرن الثاني قبل الميلاد مملكة في هذه المقاطعة، مقاطعة Osrhoene = Orroei، مملكة عَدَّ الكَتَبَة اليونان والرومان ملوكها من العرب، وعدوا سكانها عربًا كذلك، ويعزو "روستوفتزيف" Rostovtzeff سبب تكونها إلى حالة الفوضى التي ظهرت في "ما بين النهرين" على أثر انحلال دولة السلوقيين واحتلال الفرث "الأشكانيين لها"1. وذكر "بروكوبيوس" أن هذه المقاطعة إنما دُعيت Osroes نسبة إلى ملك اسمه Osroes كان يحكم هذه الأرض في الأيام الغابرة، وكان حليفًا للفرس2.
وقد وجدت أسماء ملوك "الرها" مرتبة ترتيبا زمنيا بحسب حكم الملوك في "حولية الرها" Edessene Chronicle المدونة حوالي سنة "540" بعد الميلاد، وفي حوليه أخرى هي "حولية زقنين" على مقربة من "آمد" المدونة حوالي سنة "775" بعد الميلاد، كما وجدت أسماء بعضهم على نقود ضربت في أيامهم3. ويظهر من دراسة هذه الأسماء أن بينها أسماء عربية نبطية، مثل: "معنو" وهو "معن"، و"بكرو" وهو "بكر"، و"عبدو" وهو "عبد"، و"سهرو" أو "سحرو" أي: "سهر" أو "سحر"، و"أبجر"، و"مزعور" أو "مذعور"، و"وائل"4. وقد استدل بعض الباحثين من تسمي ملوك "الرها" بأسماء عربية، ولا سيما الملوك الأولين منهم، ومن نص "بلينيوس" على أن كورة Osrhoene هي كورة عربية، ومن الوضع السياسي العام في الجزيرة Mesopotamia في القرن الثاني وما بعده قبل الميلاد، إذ كانت القبائل العربية قد توغلت في هذه المنطقة، استدل من كل ذلك على أن أهل الرها وحكامها كانوا من أصل عربي5.
وقد نسب بعض أهل الأخبار بناء "الرها" إلى رجل سموه "الرهاء بن البلندي بن مالك بن دعر""ذعر"، أو إلى "الرهاء بن سبند بن مالك بن
1 Rostovtzeff، The Social، Ii، P.842، Poidebared، Texte، P. X، 72، 94، 129، 138، 148، 198.
2 Procopius، I، Xvii، 24
3 Ency.، Iii، P.994، Hill، P.Xgv، Xgvi
4 Ency.، Iii، P.994
5 Die Araber، I، S. 312
دعر بن حجر بن جزيلة بن لخم"1. وذكر "ياقوت" نقلًا عن "يحيى بن جرير النصراني" أن اسم "الرها" هو "أذاسا" في الرومية، وقد بُنيت في السنة السادسة من موت الإسكندر، بناها الملك "سلوقس"2. وقد أخذ "يحيى بن جرير" قوله هذا من كتب سريانية أو يونانية ولا شك، وقد انتزعها المسلمون في سنة "639م" من أيدي الروم3.
ومن آلهة "الرها"، الإلهان: Azizos = Azizus و Monimos، ويرى "موردتمن" Mordtmann أن اسمي هذين الإلهين ليسا إرميين، ولكنهما عربيان أصليان، وأن أحدهما -وهو Azizus- هو عزيز، والآخر -وهو Monimos- هو عربي كذلك، وهم منعم. ودليله على ذلك ورود اسميهما في الكتابات اليونانية التي عثر عليها في "الكورة العربية" Provincia Arabia، وهما في رأيه من آلهة عرب هذه المنطقة، وإن أضافهما بعض الكتاب إلى السريان الوثنيين، والإله "بعل" و"نبو"4.
وللرها شأن خطير في الأدب السرياني والأدب النصراني وتأريخ النسطورية، وقد أزهرت هذه المدينة خاصة في أواسط القرن الرابع وفي القرن الخامس للميلاد5. وتنسب إلى ملكها "أبجر" Abgar رسالة قيل: إنه بعثها إلى "المسيح"، ومراسلات مع الحواريين الأولين6.
ويراد بـ"كاليرهو" Kallirrhoe = Callirhoe الموضع الذي يعرف اليوم باسم "بركة إبراهيم"7 "نبع خليل الرحمن"8.
وذكر "بلينيوس" أن سكان "الجزيرة" Mesopotamia
1 البلدان "4/ 340"، البكري، معجم "1/ 425""طبعة وستنفلد"، الإصطخري "76"، ابن حوقل "154""ذعر".
2 البلدان "4/ 340".
3 Ency.، III، P.996
4 Mordtmann، Mythologische Miscellen، In Zdmg.، 32، 1878، S. 564، Hill P.Xgv
5 المشرق، السنة الخامسة عشرة، 1912م، الجزء 3 "ص204".
6 Eusebius، The Ecclesiastical History، I، Xiii، "Kirsopp Lake"، "Loeb Classical Library"، Vol.، I، Pp.85
7 Hill، P.Xgv، Buckingham، Travels In Mesopotamia، 1827، I، Iii، E. Sachau، Reise In Syrien Und Mesopotamien، 1883 S. 196
8 المشرق، السنة الخامسة عشرة، 1912م، الجزء 3 "ص201".
Arabes، Qui Praetavi Vocantur عرب، مقرهم Singara، أي سنجار، وهو موضع قديم كان معروفًا في أيام الآشوريين. ويظن أن "تراجان" نزل به في أثناء سيره على الحضر قطيسفون1 Ktesiphon.
أما Emesa = Homesa = Hemesa أي: حمص، فيشبه تأريخها من أوجه عديدة تأريخ مدينة تدمر؛ فقد حكمتها أسرة عربية، وأزهر تأريخها في الزمن الذي أزهرت فيه حكومات المدن الأخرى التي ظهرت على أثر الضعف الذي حل بالسلوقيين. وتقع في السهل الذي يرويه نهر العاصي Orontes وعلى مسافة ميل منه، وعرفت بـEmesa أيضا عند اليونان والرومان2. وفي أيام "بومبيوس" كانت مدينة Arethusa المجاورة لحمص، وهي "الرستن"، مقر أسرة عربية حاكمة3، وفيها ولد القيصر4 Elagabalus. وبلغت أوج ازدهارها في أيام "سبتيموس سفيروس"Septimius Severus وفي أيام Elagabalus وإسكندر سفيروس Alexander Severus، وكانت أسقفية في عهد البيزنطيين.
وقد استدل بعض الباحثين من صُوَرِ أسماء ملوك حمص على أصلهم العربي؛ فالأسماء Sampsigeramus و Iamblichus = Jamblichus و Azizus و Soemus هي أسماء تحمل طابعًا عربيًّا خالصًا. وهي أسماء ترد في نصوص صفوية، وفي نصوص عربية أخرى أيضا، مما يحملنا على الذهاب إلى أن ملوك حمص هم عرب كذلك5. فالاسم الأول وهو Sampsigeramus يمكن أن يقرأ "شمس جرم"، والاسم Jamblichus يمكن أن يكون "يملك" أو "جميل" أو ما شابه ذلك، والاسم Azizo هو "عزيزو"، أي "عزيز"، وأما الاسم Soemus، فيمكن أن يكون "سخيم" أو "سهيم" أو ما شاكل ذلك.
1 Pliny.، V، Xxi، 86، Vol.، Ii، P.286، Sarre Und Ernest Herzfeld، Archeo. Reise، I، S. 203، Ency.، Iv، P.435، Lane P.263
2 Ency.، Ii، P.309، Berytus، Viii، Fasc.، I، 1943، P.54-55، Pauly Emesa
3 "الرستن بفتح أوله وسكون ثانيه وتاء مثناة من فوق وآخره نون، بليدة قديمة كانت على نهر الميماس، وهذا النهر هو اليوم المعروف بالعاصي الذي يمر قدَّام حماة"، البلدان 4/ 249".
4 Ency.، II، P.309
5 العرب في سوريا قبل الإسلام، تأليف رينه ديسو، تعريب عبد الحميد الدواخلي، "ص11"، R. Dussaud، 10، Die Araber، III، S. 126
وقد كان حكام "حمص" المذكورون كهنة يخدمون هيكل "الشمس"، شأنهم في ذلك شأن سادات القبائل العربية الذين كانوا كهنة يخدمون آلهة القبيلة، ويتحدثون باسمها بين أتباعهم1.
وقد ذكر "أصطيفانوس البيزنطي" أن شيخًا عربيًّا اسمه "مانيكو" Maniko كون مشيخة في Chalcis أي: "قنسرين" من بلاد الشأم2.
وكانت القبائل العربية قد استقرت في هذه المنطقة قبل أيام "أصطيفانوس" بمدة طويلة. وفي "الحيار"، وهي من أعمال قنسرين، اصطدم الغساسنة بالمناذرة في سنة "554" بعد الميلاد؛ فانتصر الغساسنة على خصومهم انتصارًا كبيرًا. ولما استولى الفرس على "قنسرين" وانتزعوها من البيزنطيين، كان للقبائل العربية سلطان واسع في مناطق قنسرين وحلب ومنبج وبالس3.
ويعد "اليطوريون" Ituraean من القبائل العربية البدوية، وهي في التوراة من نسل "إسماعيل"4، وهم من نسل "يطور" بن إسماعيل. وتقع أرضهم بين "اللجاة" Trachonitae والجليل، وتسمى "جدورا"، وتقع في جنوب غربي دمشق، وهي من المناطق التي امتزج فيها العرب ببني إرم5.
وقد توسع اليطوريون فدخلوا لبنان، وسكنوا البقاع Massyas، واستولوا على "بعلبك" Heliopolis، وتوسعوا نحو الغرب حتى هددوا "جبيل" Byblos وبيروت Berytos. وذلك في أيام ملكهم المعروف بـ"بطلميوس" Ptolmaios بن6 Mennaios.
وقد استدل بعض العلماء من حشر التوراة اليطوريين في "الإشماعيليين" ومن اسم Mennaios وهو اسم والد الملك "بطلميوس" الذي عاش في القرن الأول
1 Die Araber، Iii، S.126
2 Rostovtzeff، Vol.، Ii، P.482، Poidebard، Texte، P.42، 207
3 Ency.، Ii، P.1021
4 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 15، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 31، الإصحاح الخامس، الآية 19، قاموس الكتاب المقدس "2/ 513".
5 قاموس الكتاب المقدس "2/ 513"، Paulys، 18 Ter Halbband، 2377-2378.
6 Die Araber.، I، S. 314
قبل الميلاد1، ومن عثورهم على أسماء يطورية في كتابات لاتينية ويونانية تشير إلى أنها أسماء عربية الأصل، استدلوا من هذا كله على أنهم من العرب وإن كانوا قد تأثروا بثقافة بني إرم؛ فقد تأثر بهذه الثقافة أكثر العرب الشماليين2.
ويعلق بعض العلماء أهمية كبيرة على أسماء الأشخاص في إثبات أصولهم. ووجهة نظرهم هذه في الأسماء، هي التي جعلتهم يذهبون إلى أن من ذكرناهم هم عرب في الأصل؛ فإن الطابع الظاهر على أسمائهم هو طابع عربي. وترد تلك الأسماء في الكتابات الصفوية، وأصحابها هم عرب من غير شك، وإن دونوا بقلم نبطي وبلغة نبطية، فالنبط أنفسهم هم عرب، كما أشرت إلى ذلك في مواضع من هذا الكتاب، وكما سأشير إلى ذلك في مواضع تأتي.
إن تدوين أهل الشرق الأدنى لأفكارهم ولما يجول في خاطرهم بلغة بني إرم وقلمهم، جعل من العسير على الباحثين الحكم في أصول الشعوب التي دونت بتلك اللغة، والتي عاشت في الهلال الخصيب. ويدفعنا هذا التدوين إلى وجوب اتخاذ موقف حذر ومتأنٍّ في إبداء آراء قطعية في أصول من ذكرنا، فنظرية الحكم على أصول الناس استنادًا إلى أسمائهم وإن بدت أنها نظرية معقولة مقبولة، لكنها مع ذلك غير علمية؛ فأكثر أسماء المسلمين في هذا اليوم هي أسماء عربية خالصة، ما في ذلك شك، فهل يجوز لنا أن نستنبط من هذه الأسماء بأن حملتها هم من أصل عربي؟ ثم إن علينا أن نتذكر أن أسماء القبائل والأشخاص عند الشعوب السامية هي متقاربة ومتشابهة، وهي واحدة في كثير من الأحايين، بل إن علينا أن نتذكر أن ثقافة تلك الشعوب وآراءها متقاربة، ويعني هذا أن من الواجب علينا ألا نتسرع فنحكم بأن ذلك مأخوذ من هذا الشعب أو من تلك الشعوب، وأن ذلك الشعب أو هذا هو الأصل. فمسألة تشابه الأسماء وتقارنها في النطق، لا يمكن أن تكون في نظري ميزانًا توزن به أصول الناس، وهل يعقل أن يكون الأعاجم المسلمون عربًا؛ لأن أسماءهم عربية، أو أن زنوج الولايات المتحدة هم من أصل أوروبي؛ لأن أسماءهم أوروبية؟.
1 كان يهدد مدينة "دمشق" سنة 83-84 قبل الميلاد، Die Araber، I، S. 314.
2 العرب في سورية قبل الإسلام، رينه ديسو "ص11 وما بعدها"، Die Araber، I، S. 315
ويتصل الحديث عن هذه الإمارات بالحديث عن "تدمر" المدينة المعروفة بـ"بالميرا" Palmyra عند الغربيين الذين ورثوا هذه التسمية من الإغريق واللاتين، وهي "تدمر أمورو" في كتابات "تغلات فلاصر الأول""تغلث فلاسر""تغلت فلاسر"1 في رأي بعض الباحثين2. وسأتكلم عنها بعد حين.
1 "تغلث فلاسر"، قاموس الكتاب المقدس "1/ 288".
2 Ency.، Iii، P.1020، Syria، Revue D.htm'art Oriental Et A'archeologie، Tome Vii، Paris، 1926، P.77، Dhorme، Palmyre Dans Les Textes Assyriens، In Revue Biblique، 1924، Pp.106، Ency.، Brita.، Vol.، 17، P.161، Hommel، In Zdmg.، Xliv، 547