الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث والثلاثون: ساسانيون وبيزنطيون
حدث تطور خطير في الشرق الأدنى بعد الميلاد؛ فقد زالت حكومة "البارثيين""الفرث""البرث" The Parthians، في حوالي سنة "226ب. م."، وحلت محلها حكومة عرفت بحكومة "الساسانيين". وهي حكومة نبعت من ثورة على الحكومة السابقة، تولى كبرها ملوك أقوياء أظهروا حزمًا وشدة جعلت الروم يهابونهم، ويرون أنهم مكافئون لهم في القوة، ولم يكن الروم ينظرون إلى "الفرث" بهذه النظرة من قبل1.
وحدث تطور مشابه في إمبراطورية "روما"، فقد انقسمت الإمبراطورية إلى قسمين، وصارت "القسطنطينية" عاصمة للجزء الشرقي، الذي كون الإمبراطورية "البيزنطية"، وذلك في سنة "330م"، وتولت هذه الإمبراطورية إرث النزاع مع الفرس، النزاع الموروث من الإسكندر، وأصبحت بحكم وجودها في بلاد الشأم وفي مصر على اتصال بالعرب في البر وفي البحر.
وكان لا بد للساسانيين والبيزنطيين من التعامل مع العرب، ومن استرضائهم، ووضع حساب لهم. فقد كانت لكل من الإمبراطوريتين حدود واسعة طويلة معهم كما كان في كل من الإمبراطوريتين قبائل ذات شأن نازلة في أرضها في مناطق
1 J. B. Bury، History Of The Later Roman Empire، Vol.، I، P.90
وسيكون رمزه: Bury
حساسة هي حافات الحدود. وأما البادية: بادية الشأم التي تملأ الهلال الخصيب، فقد كانت مملوءة بقبائل عربية تعرف عند الروم باسم Saracens و Scenites، وتعني الكلمة الأخيرة سكان الخيام، أو أهل الخيام، وهي كما قال أحد المؤرخين "الكلاسيكيين" في تنقل مستمر وحركة دائمة من مكان إلى مكان1؛ إذا وجدت أرضًا خصبة عاشت عليها، وإلا كسبت معيشتها بالغزو، تغير على أرض الفرس أو الروم، فإذا جابهتها قوة، تقهقرت إلى البادية حيث يعسر على غير الأعراب ولوجها لتأديبهم. ولهذا لم يكن أمام الحكومات الكبيرة إلا استرضاء تلك القبائل؛ لصيانة حدودها وللاستفادة منها في إلقاء الرعب في قلوب الأعداء والخصوم2.
وسلك البيزنطيون السياسة التي سلكها حكام "روما" من قبلهم، وهي سياسة التقرب إلى سادة "أكسوم"، وعقد اتفاقيات ود وصداقة معهم؛ لضمان مصالحهم وللضغط على حكام السواحل العربية المقابلة لهم، لجلبهم إلى جانبهم ولمنعهم من التحرش بسفنهم وبتجارهم الذين كانوا يرتادون البحار إلى الهند والسواحل الإفريقية ويقيمون في مواضع من السواحل والجزر على شكل جاليات، كما هي الحال في جزيرة "سقطرى". وقد نجحت سياستهم هذه نجاحًا أدى إلى غزو الجيش لليمن بتحريض من الروم فيما بعد.
وسلكوا سياسة حكام "روما" أيضا في تقوية حدود بلاد الشأم وضمان سلامتها من غارات الأعراب أو الفرس عليها، ببناء سلسلة من الاستحكامات في البوادي وفي مفارق الطرق المؤدية إلى تلك البلاد، وبتقوية "خطة ديوقليطيان" Diocletian الدفاعية الشهيرة التي وضعها، بالدفاع عن الحدود من مصر إلى نهاية الفرات، وفي جملتها تحصين مدينة "تدمر" قلب الدفاع، والمواقع العسكرية الأخرى المقامة في البادية؛ لتكون الموانع الأولى للأعراب من مهاجمة بلاد الشأم، والرادع الذي يردعهم عن التفكير في الغزو3.
وفي جملة ما اتخذه البيزنطيون من وسائل التأثير في الشرقيين، وفي جملتهم
1 Ammianus Marcellinus، Rerum Gestarum، Bk.، Xiv، 4، I
2 Bury، I، P.95
3 John Malalas، Xii، P.308، Bury، I، P.96، Arabien، S. 23
العرب، نشر النصرانية، الديانة التي قبلوها ودانوا بها، واتخذوها ديانة رسمية للدولة. وفي نشر النصرانية تقوية لنفوذهم، وسند لسياستهم في نزاعهم مع الساسانيين؛ ولهذا نراهم يشجعون إرسال البعثات التبشيرية والإرساليات الدينية إلى إفريقيا وإلى بلاد العرب وإلى الهند، وينفقون بسخاء لبناء الكنائس في تلك الأرضين، يرسلون الخشب النفيس اللازم للبناء، و"الفسيفساء" التي امتازوا بصنعها، والعمال الروم المهرة في البناء؛ ليبنوا كنائس فخمة جميلة تبهر العيون، وتقر الأفئدة، وتؤثر في العقول، فتجلب إليها الناس وتستهويهم، وهناك يتلقاهم المبشرون الذين أوفدوا للتبشير، بتلقينهم النصرانية والإخلاص لإخوانهم في الدين، وفي طليعتهم الروم بالطبع، وفي ذلك كسب سياسي عظيم. وبذلك صارت "الكنائس" دورًا لعبادة الله، ودورًا للتبشير السياسي والثقافي، ومركزًا من مراكز الاستعلامات والتبادل الثقافي في مصطلح هذا الزمن.
وتمكنت النصرانية من كسب بعض العرب، فجرَّتهم إليها. جذبت إليها القبائل الساكنة على حدود الأرياف والأطراف، أي: سكان المناطق الحساسة الدقيقة بالنسبة إلى الخطط السياسية والعسكرية للساسانيين وللبيزنطيين على حد سواء. وقد كان من سوء المصادفات أن النصرانية كانت قد تجزأت إلى شِيَعٍ، وأن غالبية النصارى العرب تمذهبت بمذهب يخالف مذهب الروم، ولكنها كانت تشعر على كل حال أنها مع الروم على دين واحد؛ ولهذا لم يحفل ساسة "القسطنطينية" كثيرًا بموضوع اختلاف المذهب، وإن تألموا من وجوده وظهوره، فساعدوا نصارى اليمن ونصارى الأماكن الأخرى من جزيرة العرب على اختلافهم عنهم، وعملوا في الوقت نفسه على نشر مذهبهم بين العرب؛ ليتمكنوا بذلك من إيجاد محيط ثقافي سياسي يؤيد البيزنطيين.
وعني الساسانيون بتقوية حدودهم مع البادية كما فعل البيزنطيون، وكما فعل "الفرث" وغيرهم ممن حكم قبلهم، وسعوا في استرضاء سادات القبائل وأصحاب السلطان من حكام البوادي، وبنوا "المسالح" في المشارف المؤدية إلى أرياف العراق لحمايتها من الغزو، ولتقوم بتأديب الأعراب ومراقبة حركاتهم وتجمعاتهم؛ لتكون الحكومة على علم بما يريدون فعله، ووضعوا في الخليج سفنًا لحماية سفنهم من التحرش بها، ولحماية حدودهم الجنوبية الواقعة على الخليج من التعرض للغزو، وأقام "أردشير الأول""225-241م" عدة موانئ بحرية ونهرية لهذا الغرض.
وتقابل هذه "المسالح" ما يقال له "المناظر" في عربيتنا، بالنسبة إلى حماية بلاد الشأم. فقد كان اليونان والرومان ثم البيزنطيون قد أقاموا خطوطًا Limes من التحصينات أسكنوا بها حاميات ألقوا عليها مهمة الدفاع عن الحدود، وهي تتكون من قلاع Castella ومن حصون "أبراج" Burgi ومن Centenaria و Turres. وخطوط التحصينات هذه، هي "المناظر" عند العرب و"المسالح" بالنسبة لخطوط دفاع الفرس، وواجبها حماية ما يليها من تحصينات أخرى وحاميات أقيمت على "الخنادق" في الإمبراطورية الساسانية، أو ما يقال له Fossatum عند الروم، فهي الخطوط الأولى من خطوط الدفاع. أما الذين يقومون بحراستها وبالدفاع عنها، فإنهم لا يتقاضون أجرًا، أي: رواتب على عملهم؛ لأنهم Limitanei كما يقال لهم في اليونانية، ومعاشهم مما يزرعونه بأنفسهم، أو يدفع لهم من غلات الفلاحين الذين يعفون من دفع ما عليهم من استحقاق للدولة، أي ما نسميه بضرائب Capitatio. وينتخب هؤلاء من السكان المحليين؛ ليكون من السهل عليهم السكن في هذه المواضع البعيدة، وعليهم مشرفون من الفرس أو الروم لتوجيههم ولقيادتهم في أثناء وقوع غزو أو تحرش قبائل بهذه الخطوط1.
وشجع الساسانيون مذهب "نسطور" مع أنهم كانوا مجوسًا، ولم يكونوا نصارى. شجعوه؛ لأنه مذهب يعارض مذهب الروم، فانتشر في العراق وفي إيران وفي سائر الأرضين الخاضعة للحكم الساساني، ودخل في هذا المذهب أكثر النصارى العرب في العراق. ومن يدري، فلعلهم أسهموا من طرف خفي في توسيع الشقة بين هذا المذهب ومذهب الروم، ولإلقاء العداوة بين هؤلاء النصارى والروم.
كانت بادية الشأم ميدانًا للقبائل، تتصارع فيه كيف تشاء، تبرز فيه قبيلة ثم ينطفئ اسمها، لتظهر قبيلة أخرى. ولم يكن ذلك ليهم الدول الكبرى، ما دام ذلك الصراع في مواضع بعيدة عن حدودها، فإذا بلغ الحد، اضطرت تلك الدول إلى الوقوف بحزم وصرامة أمامه، إذا كانت تملك الحزم والقوة.
1 DIE ARABER، II، S. 350، ALTHEIM – STIEHL، FINANYGESCHICHTE DER SPATANTIKE، 31. FF.، 117،. F.، 162، F
ولصعوبة قيام جيوشها النظامية بتعقب القبائل المغيرة وملاحقتها في البادية، عمدت إلى استرضاء سادات القبائل الكبيرة ذات العدد الكبير، بالهدايا والمنح المالية المغرية وبالامتيازات وبالألقاب للقيام بحراسة الحدود ومراقبتها، وبتعقب القبائل التي قد تتجاسر فتغزو الحدود، منتهزة مواطن الضعف والثغرات. فالتجأ الساسانيون إلى عرب "الحيرة"، والتجأ البيزنطيون إلى الضجاعمة وإلى أهل تدمر والغساسنة فيما بعد؛ للقيام بهذه المهمة.
ولم تكن مهمة حفظ الحدود مهمة سهلة هينة، حتى على أهل البادية أنفسهم، فمنطق القبائل: إن القبيلة إذا كانت قوية ذات بأس، وشعرت بقوتها، جاز لها أن تطلب لنفسها ما تشاء وأن تغزو من تشاء كائنًا من كان. وطالما صار من توكل إليه حراسة الحدود نفسه هدفًا للغزو؛ لأنه لم يطعم الغازين، ولم يقدم لهم ما يرضيهم من ترضيات وأعطيات، أو لأن الغازين رأوا في قرارة أنفسهم أنهم أحق بحماية الحدود من الذين يقومون بحمايتها في هذا الزمن؛ ولهذا يرون وجوب انتزاعها منهم بالقوة، كما انتزعها هؤلاء القائمون بالحماية ممن سلفهم؛ فلا يكون أمام الدول الكبرى غير الموافقة والتسليم، ودفع الجعالات التي كانوا يدفعونها إلى الحرس القديم، وإلى الحرس الجدد الذين أظهروا قوة فاقت قوة القدماء في ميدان التنافس والقتال، وما الذي يهم الدول الكبرى في مثل هذه المواقف غير حماية الحدود.
ومع رغبة الدول الكبرى في التعامل جهد الإمكان مع أصحابهم القدماء الذين اطمأنوا إليهم، فأوكلوا لهم حراسة حدودهم، وكانوا يهددون ذلك الحرس بجعل حراستهم إلى خصومهم ومنافسيهم إذا ما شعروا بسوء نيتهم أو طمعهم أو إلحافهم في زيادة الجعالات، أو بضعف أو تهاون في الدفاع عن الحدود وفي إنزال القصاص بالمغيرين. وقد يوكلون الحراسة في الحالات الشاذة إلى قوادهم الأشداء؛ لتعقب المغيرين، وإنزال ضربات شديدة بهم، إلى أن يتفقوا مع حارس جديد أو أن يتفق أهل الحارس القديم على اختيار شخص جديد كما في حالات وفاة أحد رؤساء آل نصر أو آل غسان.
وليس من الصعب بالطبع على حماة الحدود إدراك الأدوار الخطيرة التي يقومون بها، والخدمات الكبيرة التي كانوا يؤدونها للدولة التي يتولون حماية حدودها وضبطها من غارات الأعراب عليها؛ ولهذا صاروا يتحينون الفرص السانحة والظروف
المواتية لإرغام الدولة على رفع جعالاتهم ولزيادة امتيازاتهم، وإلا أضربوا عن الحراسة، وأثاروا الأعراب عليهم، وهاجموا هم أنفسهم تلك الحدود حتى تجاب مطالبهم أو يسترضوا، وعندئذٍ يقبلون بالعودة إلى عملهم. وفي تواريخ المناذرة والغساسنة، أمثلة عديدة من أمثلة خروج أمراء هاتين الحكومتين على الساسانيين والبيزنطيين؛ لعدم تلبية مطالبهم في زيادة الجعالات وفي الحصول على امتيازات جديدة تزيد على امتيازاتهم السابقة الممنوحة لهم.
وكان من نتائج العداء الموروث بين الساسانيين والبيزنطيين أن انتقلت عدواه إلى العرب أيضا، فصار أناس منهم مع الفرس، وآخرون مع الروم، وبين العربين عداوة وبغضاء، مع أنهما من جنس واحد وكلاهما غريب عن الساسانيين والبيزنطيين. وقد تجسمت هذه العداوة في غزو عرب الحيرة للغساسنة، وفي غزو الغساسنة لأهل الحيرة، حتى في الأيام التي لم يكن فيها قتال بين الفرس والروم؛ مما أدى أحيانًا إلى تكدير صفو السلم الذي كان بين البيزنطيين والساسانيين، وتجسمت في شعر المدح والهجاء الذي نجده في حق آل نصر أو آل لخم، من الشعراء الذين وجدوا في هذه البغضاء متسعًا لهم ومفرجًا في الرزق؛ فصار بعضهم يساوم في أجور المدح وفي أجور الذم.
وقد انتهت حدود الأرضين التي خضعت لحكم البيزنطيين أو سلطانهم عند حدود "المقاطعة العربية" الجنوبية، فلم تتجاوزها إلى ظهور الإسلام. ولعل محاولة "أبرهة" الاستيلاء على "مكة" كانت خطة سياسية عسكرية من خطط البيزنطيين، كانت ترمي إلى الاستيلاء على الشقة التي بقيت تفصل بين الروم والحكم الحبشي في اليمن، فيبسط بذلك البيزنطيون سلطانهم السياسي على العربية الغربية كلها، وعلى قسم كبير من العربية الجنوبية، ومن يدري، فلعلهم كانوا يبغون من بعد ذلك احتلال العربية الجنوبية كلها، لغرض سيطرتهم على أهم جزء من خطوط الملاحة البحرية العالمية المؤدية إلى الهند والسواحل الإفريقية.
أما فيما عدا ذلك من جزيرة العرب، فلم يكن للبيزنطيين سلطان سياسي أو تدخل فعلي؛ ولهذا انفردت فعالياتهم السياسية والعسكرية مع العرب النازلين في الأرضين التي خضعت لحكمهم ولسلطانهم، ومع عرب بادية الشأم وعرب العراق.
ولا نعلم أن ملوك الروم كانوا يرسلون قوافل تجارية خاصة بهم؛ لتتاجر مع جزيرة العرب، أو أن حكام مقاطعاتهم في بلاد الشأم كانوا يتاجرون باسم حكومتهم أو بأسمائهم مع بلاد العرب. وكل ما نعرفه هو أن التجار العرب كانوا هم الذين يرسلون القوافل إلى بلاد الشأم، فكانت إذا دخلت مناطق الحدود، تؤدي ضرائب المرور و"المكس" إلى رجال "مصلحة الضرائب" التابعين للروم؛ وعندئذٍ يسمح لهم أن يذهبوا إلى الأسواق لبيع ما يحملونه وشراء ما يحتاجون إليه. وكانت "بصرى" حاضرة "المقاطعة العربية"، هي السوق الرئيسية للتجار العرب، ومنتهى قوافلهم في الغالب، فكانت علاقة أهل الحجاز، ولا سيما أهل مكة، بالروم علاقة اقتصادية. وعلى هذه العلاقة كانت تتوقف العلاقات السياسية في غالب الأحيان؛ فقد كان الروم يزيدون الضرائب أحيانًا، ويتعسفون في الجباية، فيتضرر بذلك التجار العرب، فكانوا يشتكون ويراجعون حكام المقاطعات، وقد يرفعون إلى كبار القادة والحكام التماسًا، أو يرسلون إلى عاهل القسطنطينية رسلًا، كما تقول بعض روايات أهل الأخبار؛ للتوسل برفع هذه المظالم عنهم ولتخفيض الضرائب، وتنتهي مثل هذه الشكايات بترضيات يراد بها أن تكون ترضيات سياسية، لتوجيه عرب الحجاز ضد الفرس، أو لفتح المجال لتجار الروم بالمرور من الحجاز إلى الجنوب، أو للضغط على التجار لمنع القبائل من التجاوز على حدود الروم، إلى ما شاكل ذلك من أمور.
أما ملوك الساسانيين، فقد كانوا يتاجرون مع العرب، يشترون منهم ويبيعونهم ويرسلون القوافل بأسمائهم إلى العربية الجنوبية؛ لبيع ما تحمله في أسواقها، ولشراء سلع العربية الجنوبية يحملونها إلى أسواق العراق. وقد كانوا يوكلون حراستها إلى جماعة يختارونها من سادات القبائل المهيبين المعروفين، بُجْعلٍ يدفعونه لها، وسأتحدث عن ذلك فيما بعد. ولا أستبعد أن يكون بين تلك القوافل، قوافل حملت ما كان يرسله الأكاسرة إلى عمالهم في اليمن بعد استيلائهم عليها من مؤن وبضائع؛ لتعود بما يفضل من الجباية التي يجبيها مرازبتهم على اليمن، لتكون حصتهم وحصة الخزينة من مال اليمن.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أن جماعة من أهل مكة قد تخصصت بالاتجار مع العراق، وقد كان لها تعامل مع كسرى وربما مع كبار رجال دولته أيضًا من أولئك الذين اقتدوا بملوكهم في الاشتغال بالتجارة وبالنزول إلى الأسواق. فإنا
نجد أناسًا من كبار تجار مكة كانوا يفدون على المدائن، ويتصلون بديوان كسرى، ويتعاملون هناك بيعًا وشراءً، وكانت لهم دالة على ملك المدائن، وربما كان يساعدهم هو نفسه في مال القوافل، أو يُجعَل له نصيب من الأرباح.
أما حدود الدولة الساسانية مع البلاد العربية، فلم تكن ثابتة، بل كانت تتبدل وتتغير بحسب الظروف والأحوال. فقد كانت تتوسع أحيانا، وتتراجع وتتقلص أحيانا أخرى، وكان الساسانيون يتقدمون نحو الجنوب في اتجاه "العروض" وبقية الأقسام الشرقية من جزيرة العرب حين تكون لهم قوة بحرية كافية، وكانوا ينسحبون منها حين تضعف هذه القوة، وحين تلهيهم الأحداث الداخلية وحروبهم مع الروم عن التفكير في الجنوب. وقد كان العرب في عهد الساسانيين وقبله قد استوطنوا السواحل الجنوبية من إيران، وهيمنوا عليها، وكان لقبائلهم أثر خطير هناك، ولا سيما قبل أن تكون الدولة الساسانية، إذ وجدوا في انشغال الدولة إذ ذاك في المنازعات الداخلية فرصة ملائمة لهم، فبسطوا سلطانهم على مناطقهم مثل "كرمان" Karmania وغيرها1؛ ولهذا كان أول ما فعله مؤسس الدولة الساسانية "أردشير الأول""224-240م"، "225-241م""226-241م" أن حارب عرب هذه الأرضين ليخضعهم إلى حكمه، في جملة سياسته التي قررها، وهي القضاء على الإقطاع وعلى الإمارات التي تعددت في هذا العهد نتيجة ضعف الحكومة.
فورد أن "أردشير" سار بعد أن تغلب على خصومه في إيران، لقتال ملك "الأهواز"، فغلبه في معركة حاسمة، واستولى على ولايته، ثم سار نحو "ميسان"، وكان حاكمها عربيًّا، فاستولى عليها2، وبذلك خضع له العرب الساكنون في المناطق الجنوبية من بلاد إيران.
وذكر "حمزة الأصفهاني" أن "أردشير" ابتنى مدينة بالبحرين سماها "بتن أردشير"، "وإنما سماها بتن أردشير؛ لأنه بنى سورها على جثث أهلها، لأنهم فارقوا طاعته، وعصوا أمره، فجعل سافًا من السور لبنًا، وسافًا جثثًا؛ فلذلك
1 Die Araber، I، S. 38
2 أرثر كريستينسن، تعريب يحيى الخشاب والدكتور عبد الوهاب عزام، إيران، القاهرة 1957م "ص75".
سماها أردشير"1. ويفهم من هذه الرواية الفارسية التي لا تخلو من الخيال أن أردشير كان قد استولى على البحرين. وقد ورد أن "أردشير" كان قد أنشأ عدة موانئ على الأنهار وعلى البحار2، بعد أن قضى على مقاومة القبائل العربية النازلة في المناطق الجنوبية من إيران، وعندئذٍ صار من الميسور له ركوب البحر والاستيلاء على البحرين وعلى الأرضين العربية الأخرى من جزيرة العرب. ولهذا نص بعض الكتبة "الكلاسيك" على أن ساحل عمان Oman كان تابعًا للفرس يومئذ، أي: لحكم "أردشير"3.
وذكر الطبري أن "أردشير" بنى بالبحرين مدينة سماها "فنياذ أردشير" وقال: إنها مدينة "الخط"4.
ويفهم من تأريخ "الطبري" أن "عمرو بن عدي"، وهو أول ملك من ملوك الحيرة، كان "مستبدًّا بأمره، يغزو المغازي، ويصيب الغنائم، وتفد عليه الوفود دهره الأول، لا يدين لملوك الطوائف بالعراق، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس"5، ولم يشرح "الطبري" صلته بـ"أردشير". ولكن الذي يتعمق في دراسة معنى هذه العبارة يخرج منها بأن أردشير فرض سلطانه عليه، وأنه أطاعه، فلم يعد يغزو المغازي، ويصيب الغنائم كما كان يفعل أيام ملوك الطوائف.
أما "سابور الأول""241-272م"6، وهو ابن الملك "أردشير" مؤسس الدولة الساسانية، فقد ذكر أنه تلقن درسا مهما في السلوك من "أذينة" ملك تدمر، إذ يقولون: إنه لما تمكن من القيصر "فالريان""فالريانوس"7 Valerian وأسره وانتصر على جيشه انتصارًا كبيرًا، تملكه الغرور والعجب،
1 تأريخ سني ملوك الأرض والأنبياء "ص34".
2 العرب والملاحة "ص91".
3 Die Araber، I. S. 37، 41، 56، 61، 109، 343
4 الطبري "2/ 41"، "طبعة دار المعارف بمصر".
5 الطبري "1/ 627""دار المعارف".
6 "240-272م"، في بعض المراجع،
Ency.، Vol.، 4، P.178، Die Araber، II، S. 67.
7 "أولارينوس"، مختصر تأريخ الدول، لابن العبري "ص128""بيروت 1890".
وصار يشعر أنه ملك الدنيا، فلما أرسل إليه "أذينة" رسالة مع هدايا تحملها قافلة كبيرة من الجمال، وصلت إليه في أثناء عودته منتصرًا، تملكه العجب من تجاسر "أذينة" على مخاطبته بلهجة ليس فيها كثير من التعظيم والتفخيم والاحترام، وهو "ملك الملوك" و"أذينة" رئيس موضع في البادية، فأخذته العزة وأمر برمي هداياه في "الفرات" قائلًا:"ومن هو أذينة Odenathus هذا؟ ومن أي أرض هو حتى يوجه هذه الرسالة إلى سيده؟ فليأتِ حالًا إذا أراد أن يخفف من العقاب الذي سينزل به، وليسجد أمامي بعد أن توثق يداه إلى ظهره! ". فلما سمع "أذينة" بهذه الإهانة، جمع ما عنده من قوة، وأسرع فباغت الساسانيين مباغتة أفزعتهم، فوقع الرعب فيهم، حتى تركوا له أكثر ما حصلوا عليه من غنائم من حربهم مع الرومان، وفقدوا بعض زوجات الملك، إذ وقعن أسرى في أيدي قوات "أذينة". ولم يكتفِ ملك "تدمر" بهذا الانتقام، بل أسرع في سنة "263م" فهاجم الجزيرة، فانتصر على "سابور"، ثم حاصر عاصمته "طيفسون"1.
وقد استمر الساسانيون في محاربة "أذينة" رجاء التغلب عليه والانتقام منه إلى سنة "265م" من غير جدوى، إذ قتل "أذينة" دون أن يتمكن "سابور" من أخذ الثأر منه2.
ولما تغير الزمن، واتبعت "الزباء" سياسة معادية للرومان، وحاصرها "أورليان" Aurelian، اتصلت بالساسانيين رجاء الحصول منهم على مساعدة عسكرية؛ لتتخلص بها منهم، إلا أن الملك "بهرام" لم ينجدها؛ فسقطت أسيرة في أيدي الرومان سنة "272م"، وأخذ نجم المدينة المهمة التي اتخذها "هادريان" Hadrian قاعدة عسكرية لحماية حدود بلاد الشأم من المغيرين، في الأفول منذ ذلك الحين. وكان تقاعس "بهرام" عن مساعدة "الزباء" من ضعف سياسة ذلك الملك، الذي لم يكن ذا همة في إدارة الملك3.
1 Sir Percy Sykes، A History Of Persia، Vol.، I. P.402.
2 أرثر كريستينسن، إيران في عهد الساسانيين "ص213 فما بعدها"، Ency.، Vol.، 4، P.312، Pauly-Wissowa، 2، II، Reihe، I، 2328، 2331
3 إيران في عهد الساسانيين "ص215"، Sykes، History Of Persia، Vol.، I، P.207
ولا نعلم شيئًا يذكر بعدئذ عن صلات الفرس الساسانيين بالعرب منذ عهد "بهرام الأول" إلى عهد "سابور الثاني""310-379م"، فالموارد صامتة لا تتحدث عنها بأي حديث، إلى عهد هذا الملك، وإنما هي تتحدث عن غارات قاسية أغارها هذا الملك على العرب في المنطقة العربية من إيران وفي الخليج العربي وفي العراق.
ويحدثنا "المسعودي"، أن "سابور بن هرمز" المعروف بـ"سابور ذي الأكتاف""310-379م"، كان قد أوقع في العرب موقعة عظيمة؛ وذلك لأن القبائل العربية وفي طليعتها قبيلة "إياد"، كانت قد غلبت على سواد العراق، وأطبقت على البلاد؛ ولذلك قيل لها "طبق" في أيام ملكها "الحارث بن الأغر الإيادي"، وكانت تصيف بالجزيرة وتشتو بالعراق، فلما كبر "سابور" وأخذ أمور الملك بيده من مستشاريه ووزرائه، إذ جاء الملك إليه بوفاة أبيه وكان في بطن أمه، أراد الانتقام من إياد، وإخضاعها للساسانيين كما كانت من قبل، فأرسل سراياه نحوها، وكان في حبسه رجل من إياد اسمه "لقيط"، سمع بعزم سابور فأرسل إليها شعرًا ينذرها به، ولكنها لم تحفل بإنذاره، ففاجأتها جيوشه، وأوقعت بهم، فما أفلت منهم إلا نفر لحقوا بأرض الروم، وخلع بعد ذلك أكتاف العرب، فسمي سابور ذا الأكتاف1.
ويفهم من البيت الأول من شعر لقيط، وهو قوله:
سلام في الصحيفة من لقيط
…
على من في الجزيرة من إياد2
أن إياد كانت قد استبدت في أرض الجزيرة وعصت الفرس هناك، وكانت قد استوطنت منذ أمد فيها؛ ولذلك حذرها "كسرى".
وإذا كان هذا البيت الذي نسب إلى "علي بن أبي طالب":
لقريب من الهلاك كما أهـ
…
ـلك سابور بالسواد إيادا
1 مروج الذهب "1/ 215 وما بعدها".
2 الأغاني "20/ 24"، الآمدي، المؤتلف "ص175".
حقًّا وصحيحًا، فإن قوله هذا يكون أقدم مورد جاء فيه خبر إيقاع "سابور" بإياد1.
وفي خبر "المسعودي" وَهْمٌ وتسرعٌ؛ فإن الذي حارب إياد وأنزل بهم خسائر فادحة، لم يكن "سابور ذا الأكتاف"، بل كان "كسرى أنو شروان"، أو "كسرى بن هرمز"، وإن "كسرى" هذا أرسل جيشًا ضدهم، وضعه بقيادة "مالك بن حارثة" ومعه قوم من "بكر بن وائل" فأرسل عندئذ "لقيط" إليهم إنذاره فلم يحفلوا به، فوقعت بهم خسائر كبيرة في "الحرجية"، وفر قسم كبير منهم إلى بلاد الشأم2.
وينسب بعض الرواة الشعر المذكور إلى "عمرو بن جدي"، ويرجع جماعة من الرواة أيام "لقيط بن معمر" إلى أيام "كسرى أنو شروان""الأول". وفي القولين دلالة على أن الأبيات الشعرية التحذيرية لا يمكن أن تكون قد أرسلت في أيام "سابور" المذكور، بل في أيام ملك آخر حكم بعده بسنين3.
وفي رواية أخرى أن "سابور" سار في البلاد حتى أتى بلاد البحرين، وفيها يومئذ بنو تميم، فأمعن في قتلهم، ففر من قدر منهم على الفرار، فأراد اللحاق بهم، ولكن "عمرو بن تميم بن مر" وهو سيد تميم يومئذ، وكان قد بلغ ما بلغ، تحدث إليه حديثًا لطيفًا أقنعه بالكف عمن بقي، فتركهم وشأنهم4.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أن السبب الذي دعا بـ"سابور" إلى الفتك بالعرب، هو أن القبائل العربية كانت قد توغلت في جنوب إيران، وصار لها سلطان كبير هناك، وتزايد عددها، ثم صارت تتدخل في الأمور الداخلية للدولة الساسانية. فلما أخذ الأمور بيديه، بدأ يضرب هذه القبائل؛ للقضاء على سلطانها ثم قطع البحر، فورد "الخط"، فقتل من بلاد البحرين خلقًا كبيرًا، وأفشى القتل في "هَجَر"، وكان بها ناس من أعراب تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، ثم عطف على بلاد عبد القيس فأباد أهلها، إلا من هرب منهم فلحق
1 ENCY.، VOL.، 4، P.315
2 ENCY.، II، P.565
3 DIE ARABER، III، S. III
4 مروج الذهب "1/ 217".
بالرمال، ثم أتى اليمامة فقتل بها كثيرًا أيضًا، وسار على خطة طمّ المياه وردم الآبار؛ ليحرم الناس الانتفاع بها، ثم سار حتى بلغ قرب "المدينة"، فقتل من وجد هناك من العرب، وأسر. ثم عطف نحو بلاد بكر وتغلب فيما بين مملكة فارس و"مناظر الروم" بأرض الشأم، ففعل بها ما فعله في الأرضين الأخرى، وأسكن من كان من بني تغلب من البحرين "دارين" واسمها "هيج" و"الخط"، ومن كان من عبد القيس وطوائف من بني تميم "هجر"، ومن كان من بكر بن وائل "كرمان" وهم الذين يدعون "بكر بن أبان"، ومن كان من بني حنظلة بـ"الرميلة" من بلاد الأهواز1.
فحملة "سابور" على البحرين وساحل الخليج، إنما هي جزء من الحملة العسكرية التي وضعها ذلك الملك للقضاء على نفوذ القبائل العربية التي كانت قد سكنت السواحل الجنوبية من إيران، وأقامت بها قبل أيامه بزمن. والظاهر أنها انتهزت فرصة ضعف الدولة الساسانية، وتناحر الرؤساء ورجال الجيش على السلطة فأخذت تزحف نحو الشمال وتقوي سلطانها في الأرضين الجنوبية من المملكة، فلما انتقل الحكم إلى "سابور" وكان من سياسته إعادة السلطة المركزية للدولة والقضاء على الإقطاعيين وعلى منازعي الحكومة، حمل على عرب إيران حملة شديدة عنيفة حتى أخضعهم، ثم نزل نحو الجنوب فعبرت جيوشه إلى جزر البحرين والسواحل العربية المقابلة؛ فأوقع بالعرب وآذاهم على نحو ما نجد وصفه في كتب أهل الأخبار.
وقد كان نزوح العرب إلى إيران عن طريق البحر، حيث زحف أهل ساحل الخليج من الخط والبحرين وكاظمة وعمان، إلى السواحل المقابلة: السواحل الجنوبية من أرض الفرس. كما نزحوا إليها من مملكة "ميسان" Mesene، فتوغلوا شرقا إلى "عيلام" Elam، أي:"خوزستان" ثم الأقسام الجنوبية من فارس. ويفهم مما كتبه "كورتيوس روفوس" Curtius Rufus، الذي عاش في العشرات الأولى من القرن الثالث للميلاد، أن العرب كانوا إذ ذاك في "كرمان" وفي "فارس"2. ولا بد وأن يكون وجودهم في هذه الأماكن قبل هذا العهد
1 الطبري "2/ 67"، "2/ 57"، "دار المعارف".
2 Curtius Rufus، I، 36-39، Die Araber، II، S. 345، 349
بأمد طويل. وذلك مما يؤيد ما جاء في تأريخ "الطبري" وغيره من وجود العرب في إيران قبل قيام حكومة الساسانيين.
وقد أنشأ "سابور" أسطولًا قويًّا في الخليج العربي؛ ليحافظ على حدود إمبراطوريته، وعلى التجارة في هذا الماء، مع مساهمة أهل الخليج العرب أنفسهم في ركوب البحر وفي نقل التجارة ما بين الهند وسيلان وجزيرة العرب والعراق. ويظهر من روايات أهل الأخبار أن "سابور" نفسه كان في الأسطول الذي وصل إلى البحرين للانتقام من العرب الذين كانوا يهاجمون سواحل حكومته الجنوبية المطلة على الخليج1.
وفي رواية أخرى نقلها "الطبري" من مورد آخر غير مورد ابن الكلبي: أن سابور، بعد أن أثخن في العرب وأجلاهم عن النواحي التي صاروا إليها، مما قرب من نواحي فارس والبحرين واليمامة، استصلح العرب، وأسكن بعض قبائل تغلب وعبد القيس وبكر بن وائل كرمان وتوّج والأهواز2، وقد كان ذلك بعد حربه مع الروم. والظاهر أن الأوضاع السياسية اضطرته إلى استصلاح العرب، بعد أن تبينت له صعوبة الاستمرار في سياسة العنف والقوة إلى أمد غير معلوم، وبعد ما وجد من خطر في الاستهانة بشأن القبائل، ولا يستبعد أن يكون للدرس الذي تعلمه من "أذينة" نصيب في هذا التبدل الذي أدخله على سياسته.
ويتبين من وصف "الطبري" لحملات "سابور" على العرب، أنها كانت حملات واسعة، شملت أرضين بعيدة. بدأت بمن نزل أرض فارس من العرب ممن أناخ على "أبر شهر وسواحل أردشير خرة وأسياف فارس"، ثم السواحل المقابلة لإيران من بلاد العرب، ثم امتدت نحو الغرب حتى بلغت "المدينة"، ثم منها نحو بلاد بكر وتغلب، فيما بين مسالح الساسانيين و"مناظز" الروم، أي: إنه حارب قبائل بادية السماوة. وهي حملات إن صح أنها وقعت فعلًا، فلا بد وأن تكون قد نجحت وتمت بقبائل عربية مؤيدة لـ"سابور"، إذ يصعب
1 العرب والملاحة "ص91"، SYKES، HISTORY OF PERSIA، P.412
2 الطبري "2/ 69 وما بعدها"، "2/ 61"، "دار المعارف".
تصور قيام الفرس وحدهم وبدون مساعدة باجتياز البوادي الشاسعة المنهكة لملاحقة العرب، وهم سادة البادية. ولم يكن في وسع الفرس، مهما بلغ جيشهم من التدريب والتنظيم، تحمل العطش وحرارة البادية وجوها القاسي الصارم.
وفي رواية المؤرخ "أميانوس" Ammianus عن حروب "سابور""شابور" الثاني تأييد لرواية "الطبري" عن تلك الحروب وتوثيق لأكثرها. وقد وقعت تلك الحروب في أرض أغلب سكانها من عشائر قضاعة1.
ولضمان الحدود من غارات الأعراب عليها، قوّى "سابور""المسالح"، بأن وضع بها حاميات عسكرية قوية؛ لمنع الأعراب من التعرض بالحدود، كما أقام خندقا عرف بـ"خندق سابور" ليحول بين الأعراب والدنو من الحضر. وقد أباح لرجال الحاميات التي وضعت على الخندق، إقامة الأبنية وزرع الأرض واستثناهم من دفع الخراج2.
وقام "سابور" بعمليات واسعة لإجلاء القبائل من منازلها إلى منازل أخرى جديدة؛ تأديبًا لها، وضمانًا لعدم قيامها بغارات على الحدود. وهي سياسة قديمة معروفة، استعملتها الحكومات في تأديب القبائل؛ فكان الآشوريون يجلون القبائل من مواطنها إلى مواطن جديدة، قد تكون بعيدة عن منازل القبيلة القديمة. وقد أجلى "سابور" بعض عشائر "تغلب" إلى البحرين، حيث أنزلو "دارين" وهي "هيج"، وأسكن عشائر أخرى "الخط"، ونقل بعض عشائر "بكر وائل" إلى "كرمان" و"أبان"، حيث عرفوا بـ"بكر أبان"، ونقل "بني حنظلة" إلى "الرملية" من "الأهواز""خوزستان". ويرى "نولدكة" احتمال كون "الرملية" موضع "قرية الرمل"، الواقع على مسيرة يوم واحد عن "شوشتر"، ونقل قومًا من "عبد القيس" وتميم إلى "هجر"3.
وفي جملة ما وضعه "سابور" من خطط لحفظ "السواد" وحفظ الحدود، إقامة "أنابير" أي: مخازن في المواضع المهمة؛ لخزن الأسلحة والأطعمة لتوزيعها
1 AMMIANUS، 16، 9، 3-4، DIE ARABER، III، S. 110، AULTHEIM-STIEHL،
FINANZGESCHICHTE DER SPATANTIKE، "1957"، S. 35، 38
2 DIE ARABER، II، S. 349
3 DIE ARABER، II، S. 351
على حاميات "المسالح" وعلى الأعراب عند الحاجة. ومن هذه المواضع: "الأنبار" و"عكبرا"، وقد وضعت كلها تحت حماية عسكرية قوية. كذلك عهد إلى "آل نصر" مهمة حماية الحدود، بضبط العشائر والسيطرة عليها، بأن جعلهم يقومون بدور الشرطة المسئولة عن حماية الحدود1.
ولا أستبعد احتمال تقليد "سابور" للرومان في خططهم العسكرية التي كانوا وضعوها لحماية حدودهم في بلاد الشأم وفي إفريقية من غزو القبائل. فقد كانوا قد حموا حدودهم بسلسلة من التحصينات ضمت Castella و Burgi و Centenaria، وخطوطًا دفاعية حصينة أقيمت في مؤخرة التحصينات الأمامية عرفت بـFossatum. و"المسالح" التي أقامها الفرس أمام "الخندق" أو أمام الخطوط الدفاعية المحصنة هي محاكاة لخطط الرومان، وتقابل ما يقال له Limitanei في اللاتينية2.
ولما تحرش "سابور" سنة "337م" بحدود الروم، كلف العرب الهجوم على حدودهم أيضا وغزوها3. والظاهر أن هؤلاء العرب كانوا من العرب المحالفين له، ولعلهم عرب الحيرة. وقد وقع هذا الغزو في أيام "قسطنطين" Constantine ملك الروم.
ونجد في الروايات الأعجمية تأييدًا للرواية العربية القائلة باسترضاء "سابور" للعرب؛ للاستفادة منهم في محاربة الروم وفي الوقوف أمامهم. إذ ورد في الأخبار اليهودية أنه أثناء الحروب الفارسية الرومية الطويلة التي امتدت من سنة "338" حتى سنة "363" للميلاد، استدعى "سابور" قبائل عربية عديدة، وأسكنها في مواضع متعددة من العراق؛ وذلك لتساعده في حربه مع الروم4.
وفي رواية في تأريخ الطبري: أن "لليانوس" ملك الروم حارب "سابور"، فضم إلى جيشه من كان في مملكته من العرب، أي: عرب الروم، "وانتهزت
1 DIE ARABER، II، S. 352
2 DIE ARABER، II، S. 350
3 SYKES، HISTORY OF PERSIA، I، P.413
4 THE BABYLONIAN TALMUD، SEDER NEZIKIN، II، P.735، V. FUNK، DIE JUDEN IN BABYLONIAN، II، 41
العرب بذلك السبب الفرصة من الانتقام من "سابور" وما كان من قتله العرب، واجتمع في عسكر "لليانوس" من العرب مائة ألف وسبعون ألف مقاتل، فوجههم مع رجل من بطارقة الروم بعثه على مقدمته، يسمى "يوسانوس". أما من بقي في عسكر "لليانوس" من العرب، فقد سألوه أن يأذن لهم في محاربة "سابور"، فأجابهم إلى ما سألوه، فزحفوا إلى "سابور" فقاتلوه، ففضُّوا جمعه، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهرب "سابور" فيمن بقي من جنده، واحتوى "لليانوس" على مدينة "طيسفون" محلة سابور. وظفر ببيوت أموال سابور وخزائنه فيها"1. عندئذ استنجد سابور بقواده فلما وصل إليه العون، استخلص طيسفون، ثم تصالح بعد مقتل "لليانوس" مع "يوسانوس" الذي انتخبه الجيش ملكًا على أثر قتل "لليانوس".2
وقصد "الطبري" بـ"لليانوس" الإمبراطور "جوليان""بوليان" Julian، فقد تقدم هذا بجيوشه سنة "363م"، نحو الدولة الساسانية فاكتسح حدودها، وهرب الفرس من أمامه، حتى بلغت جيوشه "طيسفون" عاصمة الساسانيين، إلا أنه لم يلحق ضربة شديدة قاصمة بـ"سابور"، بل ترك عاصمته، وتراجع حيث لاقى مصيره في المعركة في أثناء رجوعه إلى بلاده، فانتخب "يوسانوس"، وهو"جوفيان" Jovian في لغة الروم، خلفًا له3.
وقد ورد في بعض الروايات أن "لليانوس""يوليان" Julian قيصر الروم، كان متعجرفًا متغطرسًا فلما كلف جماعة من العرب Saracen أن ينضموا إلى جيشه، لمحاربة الفرس، وافقوا على ذلك وحاربوا معه، إلا أنهم لما طالبوه بعطاياهم وبهدايا، أجابهم جوابًا غليظًا:"الإمبراطور الشجاع المقدام عنده الحديد، لا الذهب"، فتركوه وانقلبوا عليه، وألحقوا به خسائر كبيرة4.
ويذكر المؤرخ "أميانوس مرسيللينوس" Ammianus Marcellinus: أن "يوليان" Julian لما بلغ "الفرات" ليلحق بالأسطول الذي بناه في هذا النهر
1 الطبري "2/ 68"، اليعقوبي "1/ 131".
2 الطبري "2/ 68 وما بعدها".
3 SYKES، HISTORY OF PERSIA، I، P.422
4 SYKES، HISTORY OF PERSIA، I، P.418
ويسير به لمحاربة الساسانيين ولينقل جيشه إلى حيث يلتقي بالجيش الآخر الزاحف من "دجلة" والطرق البرية، قدمت له قبائل عربية Saracens الطاعة، إلا أن هؤلا أناس لم يكونوا يعرفون هل هم أعداء أم أصدقاء؟ 1 ولذلك صار الروم على حذر شديد منهم؛ خشية الانقلاب عليهم عند الشدائد.
وذكر هذا المؤرخ: أن سادات القبائل قدموا إلى القيصر تاجًا من ذهب؛ ليعبر عن خضوعهم له، ولقبوه بلقب "ملك كل العرب" فقبل الملك منهم التاج واللقب؛ لما في ذلك من أثر معنوي يحدثه في نفوس العرب، وحاربت القبائل التي انضمت إلى الفرس في معارك صغيرة2. فكافأها القيصر على عملها هذا، إلا أنه لم يقدم لها معونات الذهب التي كانت تقدم عادة إلى سادات القبائل؛ فاستاء الرؤساء من ذلك، وانحاز قسم منهم إلى الفرس، وأخذوا يتحرشون بعسكر "يوليانوس"، وألحقوا به خسائر في الأرواح، وباعوا من وقع في أيديهم أسيرًا من الروم، في أسواق النخاسة3.
وكان سبب انضمام تلك القبائل إلى الروم، ما لاقته من شدة "سابور""شابور الثاني" ومن تنكيله بها، فأرادت بانضمامها إلى "يوليانوس" الانتقام من الفرس، وأخذ ثأرها منهم عند سنوح أول فرصة. وقد آذوه فعلًا، مما حمله على تغيير سياسته تجاههم، فأخذ يسترضيهم فعاد إليه من عاد منهم4.
وذكر "أميانوس" أن ممن انضم إلى الفرس من الأعراب Saraceos، سيد قبيلة اسمه "مالك" Malechus، وقد عرف والده بـ5Podosacis. وقد تمكن بمعاونة رجل عربي آخر اسمه:"سورينا" Surena من الفتك بكتيبة من كتائب الروم، وذلك بنصب شرك لها، فوقعت تحت سيوف العرب. وذكر أن "مالكًا"، كان عاملًا "فيلارخا" على قبيلة اسمها Assanitarum، يرى البعض أنهم الغساسنة6.
1 SKYES، I، P.419
2 AMMIANUS، 23، 5، I، 24، I، 10، DIE ARABER، II، S. 324
3 AMMIANUS، 25، 8، I، DIE ARABER، II، S. 325.
4 DIE ARABER، II، S. 325
5 AMMIANUS، 24، 2، 4، DIE ARABER، II، S. 325
6 DIE ARABER، II، S. 325
ويذكر أهل الأخبار أن "سابور" إنما لقب بـ"ذي الأكتاف"؛ لأنه خلع أكتاف العرب1. ويرى "نولدكة" أن هذا التفسير مصنوع، وأن اللقب إنما جاء عند الساسانيين في معنًى آخر لا علاقة له بخلع الأكتاف، بل قُصد به "ذو الأكتاف"، أي: صاحب الأكتاف دلالةً على الشدة والقوة، فهو لقب تمجيد وتقدير. وقد حوله أهل الأخبار إلى معنى آخر، هو المعنى المتقدم لبطش "سابور" بالعرب وإيقاعه القاسي بهم. أما "أرثر كريتنسن"، فيرى أن تفسير أهل الأخبار تفسير صحيح، وهو لا يستبعد خلع "سابور" لأكتاف العرب، فقد كان مثل هذا التعذيب القاسي المؤلم معروفًا في تلك الأيام2.
وذكر "حمزة الأصفهاني" أن التسمية المذكورة إنما جاءته من الجملة الفارسية، وهي "شابور هويه سنبا""وهويه اسم للكتف، وسنبا أي نقاب. قيل له ذلك؛ لأنه لما غزا العرب كان ينقب أكتافهم، فيجمع بين كتفي الرجل منهم بحلقة ويسبيه، فسمته الفرس بهذا الاسم وسمته العرب ذا الأكتاف"3، فالتسمية إذن هي تسمية فارسية. ولا أستبعد أن تكون القصة شرحًا تكلفه القصاصون، لتفسير هذا اللقب، وهناك ألقاب عديدة، فسرت تفسيرا أسطوريا على هذا النحو من المبالغة والتهويل.
وقد نسب إلى "سابور""شابور" هذا بناء الأنبار، ذكر أنه بناها فسميت بـ"فيروز شابور"، وقد صيرها العرب "الأنبار"4. وكانت من المدن التي تغلب عليها العنصر العربي عند ظهور الإسلام، كما نسبوا إليه بناء "عكبرا"5.
ويذكر "المسعودي" أن "سابور بن سابور"، ويريد به "سابور الثالث""383-388م"6، كانت له حروب كثيرة مع إياد بن نزار وغيرها من العرب. ويتبين من بيت شعر نسبه إلى شاعر نعته بأنه:"شاعر إياد" ولم
1 الطبري "2/ 67"، مروج الذهب "1/ 216".
2 إيران في عهد الساسانيين "ص225".
3 حمزة "ص36".
4 "والأنبار: أهراء الطعام، واحدها: نبر، ويجمع: أنابير"، اللسان، مادة "نبر""5/ 190""صادر"، حمزة "34".
5 حمزة "37".
6 أو سنة "387م" في بعض الروايات.
يسمه، أن إيادا استعادت مكانتها، وأصبحت قبابها و"حولها الخيل والنعم" وذلك "على رغم سابور بن سابور"1. ويظهر أن إياد التي كانت قد لحقت بأرض الروم في أيام "سابور ذي الأكتاف" عادت فرجعت إلى العراق وحلت في محلها.
ويذكر "المسعودي" رواية أخرى، خلاصتها أن إياد بعد أن رجعت من أرض الروم، دخلت في جملة "ربيعة" من ولد "بكر بن وائل"، وأن ربيعة كانت قد غلبت على السواد، وشنت الغارات في ملك هذا الملك، فصارت إياد في جملة "ربيعة"2. فإياد وإن عادت إلى العراق، لم تتمكن من أن تستعيد مكانتها، فدخلت في قبائل "ربيعة" التي هي من "بكر وائل"، وهي قبائل كانت قد كسبت سلطانًا ومكانة مستغلة فرصة ضعف هذا الملك، فسادت من ثَمَّ على "إياد".
وقد وقع هذا التطور بعد وفاة "سابور ذي الأكتاف"، وإذا أخذنا برواية "المسعودي" هذه، وجب أن يكون زمانه ما بين سنة "383-388م". ففي خلال هذه المدة كان حكم "سابور الثالث"3.
ولا تتحدث الموارد العربية بشيء يذكر بعد ذلك عن علاقة الساسانيين بالعرب إلى أيام "بهرام جور""بهرام كور""420-438م"، وهو المعروف بـ"بهرام الخامس" عند المؤرخين4. ثم نجدها تعود فتتكلم عن علاقتهم بعرب الحيرة، حيث يحتل الكلام عليهم الجزء الأكبر من صفحات تأريخ العلاقات العربية الساسانية؛ ولهذا السبب وجب البحث في الحيرة وفي علاقاتها بالساسانيين في فصل خاص.
وكان لملك الحيرة فضل في تولي "بهرام" عرش الدولة الساسانية بعد أن قرر الأشراف وأصحاب الجاه والسلطان من رجال الدين والجيش انتزاعه من أولاد
1
على رغم سابور بن سابور أصبحت
…
قباب إياد حولها الخيل والنعم
روج الذهب "1/ 211".
2 مروج "1/ 221".
3 Ency.، Vol.، 4، P.178
4 Ency.، Vol.، 4، P.178، R. Ghrishman، Iran، P.299
"يزدجرد" والده. فقد أمده بجيش أفزع أولئك الأقوياء فوافقوا على أن يمنحه التاج، كما سأتحدث عن ذلك في أثناء كلامي على ملوك الحيرة.
ويذكر "الطبري" أن "بهرام" المذكور كان قد رُبِّيَ تربيةً عربيةً؛ ذلك لأن أباه "يزدجرد""يزدكرد" كان قد أرسله إلى الحيرة لتربيته تربية صحيحة، فأقام في البادية وبين الأعراب حتى شبَّ مثلهم قويا شجاعا مغامرا، ينظم الشعر بالعربية، ويتكلم بها بطلاقة وفصاحة. ويرى بعض المؤرخين المحدثين أن إقامة "بهرام" إنما كانت في قصر الخورنق، ويرون أن بناء هذا القصر كان قد تم قبل ذلك بزمن، ويرون أن إرساله إلى الحيرة، لم يكن على نحو ما زعمته الروايات العربية، وإنما كان نفيًا له في الواقع لخلاف بينه وبين أبيه، ولأن أباه لم يكن يعطف عليه عطفه على ولديه الآخرين1.
وهذا القسم من تأريخ صلات الساسانيين بعرب الحيرة، واضح ومفصل بالقياس إلى القسم المتقدم، وإنه يدل على أنه أخذ من موارد تأريخية منظمة غير ساسانية، وهي موارد دونها أهل الحيرة أنفسهم، وفي مقدمتهم رجال الكنيسة الذين ألفوا تدوين التواريخ، وقد صار رجال الدين النصارى هم رواة التأريخ وحفظته منذ تفشي النصرانية، فمن هذه الموارد نقل "ابن الكلبي" وأضرابه ممن دونوا تأريخ الحيرة.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "كسرى برويز""كسرى أبرويز"، لما انهزم من "بهرام شوبين"، كان فراره على فرس من خيل رجل من طيء، فنجا بفضله، وذكروا أن ذلك الفرس هو "الضبيب"، وهو من خيل العرب المعروفة2.
وذكر "حمزة الأصفهاني" أن من جملة قواد "كسرى أبرويز" القائد "فنابرزين"، وهو "نكهان". وكان "فنابرزين" متوليًا على ما يلي الريف من البادية إلى حد الحيرة إلى حدود البحرين، والعرب تسميه "خنابززين ساسان بن روزبة"3.
1 إيران في عهد الساسانيين "ص260".
2 الاشتقاق "ص117".
3 حمزة "ص91".
وفي أيام "كسرى أنو شروان"، طرد الأحباش من اليمن، إذ أرسل إليها نجدة بقيادة "وهرز"، وبذلك دخل الفرس اليمن، وصاروا على مقربة من الحبش حلفاء الروم. وقد لاقت السياسة البيزنطية بذلك ضربة شديدة عنيفة؛ لأن الفرس بدخولهم اليمن صار في إمكانهم الضغط على التجارة البحرية للروم، وصار في إمكانهم الهيمنة على منفذ البحر الأحمر، البحر الذي تلج منه سفن الروم إلى المحيط الهندي وبالعكس، كما صار في إمكان الفرس الاتصال بعرب الحجاز وعقد اتفاقيات تجارية مع أهل مكة، وهم إذ ذاك من أهم تجار بلاد العرب.
وقد بقي الفرس في اليمن حتى ظهور الإسلام، فأسلم آخر عامل فارسي، وزال ملك الفرس عنها بذلك، كما زالت الدولة التي كان العامل الفارسي يحكم باسمها.
وكانت للفرس قوة في عمان عند ظهور الإسلام، وقد ذكر أن أول من أغار عليهم "نعام بن الحارث" من "عتيك"، وكان من فرسانهم في آخر الجاهلية وأول الإسلام1.
وذكر "الطبري": أن "كسرى أنو شروان" "انصرف نحو عدن، فعسكر ناحية من البحر هناك بين جبلين مما يلي أرض الحبشة، بالسفن العظام والصخور وعمد الحديد والسلاسل. وقتل عظماء البلاد
…
ثم انصرف إلى المدائن، وقد استقام له ما دون هرقلة من بلاد الروم وأرمينية، وما بينه وبين البحرين من ناحية عدن"2. وفرق "كسرى" الولاية والمرتبة بين أربعة أصبهذين، منهم: أصبهذ نيمروز وهي بلاد اليمن3.
وذكر "حمزة" أنه في زمن "كسرى أنو شروان" ولي "أنوش بن حشنشبندة" ناحية من أرض العرب، وبقي عليها بعض أيام هرمز بن كسرى4.
وكان الساسانيون كالبيزنطيين قد اتخذوا "مسالح" لهم على مشارف البوادي والحدود لحماية أملاكهم من الغزو، ولإخبار الحكومة عند دنو العدو وحالة حدوث خطر. وهي أبنية حصينة، وضعوا فيها قوات تحت إمرة أمراء منهم، يقيمون
1 الاشتقاق "2/ 284".
2 الطبري "2/ 103"، "دار المعارف".
3 الطبري "2/ 99"، "دار المعارف".
4 حمزة "ص91".
فيها، واتخذوا فيها مخازن لخزن الأسلحة والأطعمة، وحفروا فيها آبارًا، وصنعوا "كهاريز" تخزن الماء. ولما ظهرت جيوش الإسلام لفتح العراق، كان على هذه المسالح إخبار "طيسفون" بما حدث، والوقوف أمام تلك الجيوش، حتى تجيء جيوشهم فتلتحم بالمسلمين.
وفي جزر البحرين قنوات يظن أنها من عمل الساسانيين، أقاموها للاستفادة من المياه المتدفقة من العيون، وهي أخاديد حفرت في الأرض ثم بطنت بمادة تمنع الماء من التسرب إلى التربة ثم سقفت بصفائح من الحجر، أُهِيلَ عليها التراب لتمنع أشعة الشمس من الوصول إلى الماء فتبخره، وبذلك تقل كمياته. وبين مسافة وأخرى تقدر ما بين عشر وعشرين ياردة توجد منافذ لمرور الهواء منها إلى باطن القناة، وقد بطنت هذه المنافذ بالحجارة، وقد أقيمت جدر عند مخارجها إلى الأرض لتحميها من سقوط الأتربة فيها، ولا تزال بعضها عامرة تجري فيها مياه العيون حتى الآن. وهناك آثار قنوات مشابهة لها تقع في السواحل المقابلة للبحرين من المملكة العربية السعودية تعود إلى هذا العهد أيضا1.
وقد كانت البحرين تخضع لحكم الساسانيين عند ظهور الإسلام، أما حاكمها الفعلي فهو رجل من العرب على دين النصرانية، وعلى مذهب النساطرة. وكان للنساطرة عدة أساقفة في مواضع من الخليج، كما كانت لليهودية وللمجوسية مواضع في بلدان الخليج أيضا، أما غالبية العرب، فعلى الوثنية2.
وقد كانت "الأبُلَّة" من أهم المواضع المهمة في نظر الساسانيين من الوجهة الحربية، وكانت تعد عندهم "فرج أهل السند والهند"3. وكان "فرج الهند" أعظم فروج فارس شأنًا، وصاحبه يحارب العرب في البر، والهند في البحر4، وقد وضعوا هذا الفرج تحت إمرة قواد عسكريين. ولما سمعوا بمجيء خالد بن الوليد من اليمامة، أسرع كسرى فأمر قواده بالاتجاه إلى "الكواظم" وإلى "الحفير" لمقابلته. وقد التقى به "هرمز" بكاظمة، وكان جبارًا، كل العرب عليه مغيظ، وقد كانوا ضربوه مثلًا في الخبث، حتى قالوا: "أخبث من
1 James H. D Delgrave، P.68
2 Belgrave، P.61
3 الطبري "3/ 347".
4 الطبري "3/ 348".
هرمز" و"أكفر من هرمز". فلما التحم العرب والعجم ومن معهم من العرب، قُتل هرمز وفر العجم وأفلت "قباذ" و"أنو شجان"، وكان على مجنبة الفرس. وقد عرفت هذه الوقعة بـ"ذات السلاسل"؛ لاقتران العجم في السلاسل حتى لا يكون لهم أمل في الفرار1.
وفي الحروب الأخرى التي وقعت بين الفرس والمسلمين، توالت الهزائم على العجم على الرغم من كثرة عددهم، ولم يكن الفرس يحاربون وحدهم، بل حارب معهم "عرب الضاحية"، وآخرون2. ففي "وقعة الولجة"، مما يلي "كسكر" من البر، كان يحارب إلى جانب الفرس قوم من العرب من عرب الضاحية، وقد أسر فيها ابن لجابر بن بجير وابن لعبد الأسود، وهلك عدد كبير من "بكر بن وائل" وكانوا نصارى، فغضبت لذلك بقية نصارى بكر بن وائل وغضب نصارى عرب آخرون، فكاتبوا الأعاجم وكاتبتهم الأعاجم، فاجتمعوا إلى موضع "أليس"، وعليهم "عبد الأسود العِجْلي" في نصارى العرب من بني عجل وتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من أهل الحيرة، وكان جابر بن بجير نصرانيًّا، فساند عبد الأسود، فقابلهم "خالد" وجالد العرب أولًا، فسقط "مالك بن قيس"، وهو رأس من رءوسهم، ثم تهاوت صفوف الفرس أمام سيوف خالد، ولم تثبت أمامه3.
ولما قصد خالد للحيرة، وجد قائد الفرس، وهو "الأزاذبة" قد ولى هاربًا، وكان عسكره بين الغَرِيَّيْن والقصر الأبيض، فدخل خالد "الخورنق" وأمر بكل قصر رجلًا من قواده يحاصر أهله ويقاتلهم، فحاصروا "القصر الأبيض" وفيه "إياس بن قبيصة الطائي"، وحاصروا "قصر العدسيين" وفيه "عدي بن عدي" المقتول، وحاصروا "قصر مازن" وفيه "ابن أكال"، وحاصروا "قصر ابن بقيلة"، وفيه عمرو بن عبد المسيح، وكل هؤلاء عرب نصارى. ولكنهم لم يثبتوا أمام المسلمين، وتهاوت قصورهم، وطلبوا الصلح.
وكان أول من طلب الصلح "عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث" وهو بقيلة، وتتابعوا على ذلك، فخلا خالد بأهل كل قصر منهم
1 الطبري "3/ 348" وما بعدها".
2 الطبري "3/ 353 وما بعدها".
3 الطبري "3/ 355 وما بعدها".
دون الآخرين، وبدأ بأصحاب عدي وقال: ويحكم ما أنتم؟ أعرب؟ فما تنقمون من العرب؟ أم عجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟ فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما نقول، أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقت. ثم صالحوه على الجزية1.
وصالح "صلوبا بن نسطونا""صاحب قس الناطف" خالد بن الوليد على "بانقيا" و"بسما" بدفع الجزية له، وقد نقبه خالد على قومه. ولما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد واستقاموا أتته دهاقين "الملطاطين"2، وأتاه "زاذ بن يهيش" دهقان فرات سرايا، و"صلوبا بن بصبهري"، فصالحوه على ما بين الفلالج إلى "هرمز جرد"، ودخل أهل "البهقباذ" الأسفل وأهل "البقباذ" الأوسط والأماكن التابعة للمذكورين في الصلح3 ونزل خالد الحيرة، واستقام له ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد، وأقر المسالح على ثغورهم، ورتب القواد وموظفي الخراج وسائر الأعمال استعدادًا لطرد الفرس4.
وكان أهل الأنبار عربًا، يكتبون بالعربية ويتعلمونها، وكان عليهم حينما بلغها "خالد""شيرزاذ" صاحب "ساباط". ولما وجد الفرس أن من غير الممكن لهم الوقوف أمام المسلمين، تركوا المدينة لخالد، وخرج "شيرزاذ" في جريدة خيل ليلحق بأصحابه، ثم صالح أهل "كُلواذى"5، ثم قصد خالد "عين التمر" وبها يومئذ "مهران بن بهرام جوبين" في جمع عظيم من العجم، و"عقة بن أبي عقة" في جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لافَّهم، فهجم خالد على عقة ومن معه من العرب، فأسره وانهزم عسكره،
1 الطبري "3/ 359 وما بعدها".
2 "ومنه حديث علي -كرم الله وجهه-: فأمرتهم بلزوم هذا الملطاط حتى يأتيهم أمري، يريد به شاطئ الفرات"، اللسان "7/ 408""صادر"، مادة "ملط"، الطبري "3/ 367"، البلدان "1/ 331"، "بيروت 1955م"، البكري، معجم "1/ 222"، "طبعة السقا"، اليعقوبي "1/ 131"، مراصد الاطلاع "1/ 123".
3 الطبري "3/ 368".
4 الطبري "3/ 372 وما بعدها".
5 الطبري "3/ 374 وما بعدها".
ثم سقط الحصن، وانهزم الفرس، وأمر خالد بعقة وكان خفير القوم، فضربت عنقه ثم دعا بعمرو بن الصعق، فضرب عنقه، وانتهى أمر عين التمر1.
وحاول الفرس جمع صفوفهم ثانية، للوقوف أمام خالد واسترداد ما أُخذ منهم. وكان خالد أقام بدومة الجندل، فظن الأعاجم به، وكاتبهم عرب الجزيرة غضبًا لعقة، فخرج "زرمهر" من بغداد ومعه "روزبة"، يريدان الأنبار، واتعدا حصيدًا والخنافس، وانتظرا من كاتبهما من ربيعة، غير أن المسلمين هاجموا الساسانيين بحصيد، فقتل "زرمهر" وقتل "روزبة" وفر من كان معهما إلى "الخنافس" فلما أحس "المهبوذان" بقدوم المسلمين إلى المكان، هرب ومن معه إلى "المُصيخ" وبه الهذيل بن عمران، وخرج "خالد" من "العين" قاصدًا للمصيخ، فأغار على الهذيل ومن معه ومن أوى إليه، فقتلوهم، وأفلت الهذيل في أناس قليل2.
وأخذ "ربيعة بن بجير التغلبي" يجمع الجموع لمحاربة المسلمين غضبًا لعقة، وواعد الفرس والهذيل، فباغت خالد جموع "ربيعة" بالثني، فانتصر عليها وأسر ابنةً له، ثم باغت موضع "الزميل" وكان "الهذيل" قد أوى إليه، ثم باغت موضع "البشر"، وكانت تغلب به، فقتل منهم عددًا كبيرًا، ثم تحرك من البشر إلى "الرُّضاب"، وبها "هلال بن عقة"، فارفضَّ عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد منه، وانقشع عنها هلال3.
ثم قصد خالد "الفراض"، والفراض: تخوم الشأم والعراق والجزيرة، فاغتاظت الروم وحميت، واستعانوا بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب وإياد والنمر، فأمدوهم، ثم عبروا الفرات إلى الجانب الآخر حيث كان جيش خالد فهُزموا، وانتصر المسلمون4.
وكانت صفوف الساسانيين متضعضعة، والخصومات بينهم شديدة فتهاوى ملكهم، وسقطت "طيسفون" عاصمتهم، ثم تهاوت مدنهم في إيران، وزالت الحكومة من الوجود على نحو ما سنراه فيما بعد.
1 الطبري "3/ 376 وما بعدها".
2 الطبري "3/ 379 وما بعدها".
3 الطبري "3/ 382 وما بعدها".
4 الطبري "3/ 383".
وأما صلات "البيزنطيين" بالعرب، فلا نعلم عن بدايتها إلا شيئًا قليلًا؛ لأن الموارد التأريخية لم تهتم بغير الأحداث الكبرى، التي كان لها شأن في تأريخ الروم، فلم تشر إلى العرب إلا في أثناء اشتراكهم اشتراكا جماعيا في جيش البيزنطيين في قتال الساسانيين أو في جيش الفرس إبان قتال البيزنطيين. وأما القبائل العربية وغاراتها على حدود بلاد الشأم، فلم تتعرض لها؛ لأنها لم يكن لها شأن، فهي حوادث اعتيادية محلية، ثم أنها إذا تطرقت إلى المهم منها تطرقت إليه بإيجاز؛ ولهذا حرمنا الوقوف على صلات العرب بالبيزنطيين بصورة مفصلة، وعلى أخبار الإمارات العربية التي حكمت في البادية الملاصقة لبلاد الشأم وفي بلاد الشأم، ما بين ظهور دولة البيزنطيين وبزوغ نجم آل غسان.
لقد كابد الساسانيون والبيزنطيون من القبائل العربية عنتًا شديدًا مثل ما كابده المتقدمون عليهم منهم. فقد كانت تراقب الفرص لتهاجم الحدود أو الجيوش النظامية في أثناء انتقالها إلى ساحات القتال أو اشتغالها في القتال، أو في أثناء تراجعها أو هزيمتها، فتوقع بها وتكبدها خسائر، وتربك وضعها، ثم إنها كانت تنتقل من موضع إلى موضع، من الأرضين الخاضعة لسلطان البيزنطيين إلى الأرضين التابعة للساسانيين وبالعكس، وقد تثور وتهاجم القرى في دولة، فإذا عقبتها، هاجرت إلى الدولة الأخرى المعادية لها؛ ولهذا السبب وجد الساسانيون والبيزنطيون أن من مصلحتهما عقد اتفاقية تحرم انتقال الأعراب من أرض إحدى الحكومتين إلى أرض الحكومة الأخرى من غير ترخيص وتخويل، وذلك في أيام السلم بالطبع1.
لقد أخذت الدولة البيزنطية الأرضين التي كانت خاضعة لروما، وصارت تديرها من "القسطنطينية"، وتعين حكامها وترسل الجيوش إليها، وتطبق عليها القوانين التي تصدرها "القسطنطينية". بقي الحال على هذا المنوال إلى أن طرد البيزنطيون عن بلاد الشأم بظهور الإسلام، وإرساله الجيوش إلى تلك البلاد لنشر دين الله فيها. فذهب الحكم البيزنطي عنها، وبقي الأثر الثقافي أمدًا يهيمن على البلاد المفتوحة.
وقد كانت بصرى من أهم المدن التي يرد إليها عرب الحجاز للاتجار، وكانت
1 Musii، Hegaz، P.306
آخر مكان يصل إليه تجار أهل مكة في الغالب في الشمال. يقيمون فيه، يبيعون ويشترون ويدفعون للروم العشور، وهي الضرائب المتعارف عليها إذ ذاك، ثم يعودون إلى ديارهم، ومعهم ما اشتروه من تجارات بلاد الشأم، من طرف مصنوع في هذه البلاد، أو مستورد إليها من بلاد الروم ومن أوروبا، ومن سلع حية هي الرقيق الذي يباع في سوق بصرى، وقد استورد إليها من مختلف الأنحاء.
وتعرف بصرى بـBostra عند الرومان واليونان1، ولأهميتها الحربية والسياسية والتجارية كان يقيم بها حاكم روماني، ثم حكمها حكام من اليونان بعد انتقالها إلى حكم اليونان، كما وضعوا بها حاميات بيزنطية؛ وذلك لقربها من الأعراب وللدفاع عن الحدود المهددة بهجوم أبناء البادية عليها. وقد أُصيبت بخسائر جسيمة ونزل بها خراب شديد على أثر مهاجمة الفرس لبلاد الشأم واستيلائهم عليها، فتهدم قسم كبير من أبنيتها، كما تهدم قسم من أبنية "أذرعات" وذلك سنة "613م"2.
و"بصرى" هي الآن قرية مهملة من قرى حوران، ولا تزال بها بقية قائمة من آثار، وقد ورد ذكرها في سيرة الرسول، حيث كان قد نزل بها مع عمه "أبي طالب" حينما قدمها عمه للاتجار. وذكر أن "بحيرا" الراهب الذي يرد اسمه في كتب السير، كان من رهبان بصرى، وقد كان يقيم في دير هناك.
وكانت "غزة" من المواضع الأخرى المهمة عند أهل مكة ويثرب؛ لأنها كانت المورد الأخير لتجار هاتين المدينتين على البحر الأبيض. وكانت من المواضع التابعة للروم، ترد إليها السفن الواردة من بلاد الروم وموانئ إيطالية ومصر ولبنان، فتفرغ ما لديها من تجارة ويشتري أصحابها ما يجدون في غزة من أموال؛ ولهذا صارت فرضة مهمة لتجار أهل الحجاز.
ومن سادات القبائل الذين انتقلوا من أرض كانت خاضعة للساسانيين إلى أرض كانت تابعة للبيزنطيين، سيد قبيلة ذكره "ملخوس الفيلادلفي" Malchus
1 Hastings، P.102
2 دائرة المعارف الإسلامية "الترجمة العربية"، "3/ 672".
Philadelphus في تأريخه، وسماه "امرأ القيس" Amorkesos = Amerkesos وقال: إنه كان يقيم في الأصل في الأرضين الخاضعة لسلطان الفرس، ثم ارتحل عنها ونزل في أرضين قريبة من حدود الفرس، وأخذ يغزو منها حدود الساسانيين والعرب Saracens المقيمين في الأرضين الخاضعة للروم. وتوغل في "المقاطعة العربية" حتى بلغ البحر الأحمر، واستولى على جزيرة "إيوتابا" Iotaba Jotaba، وهي جزيرة مهمة كان الروم قد اتخذوها مركزًا لجمع الضرائب من المراكب الآتية من المناطق الحارة أو الذاهبة إليها، فتصيب الحكومة أرباحا عظيمة جدا. فلما استولى على تلك الجزيرة، طرد الجباة الروم، وصار يجبيها لنفسه، فاغتنى. كذلك حصل على ثروة عظيمة من غنائم غزوه للمواضع المجاورة لهذه الجزيرة والواقعة في العربية الحجرية وأعالي الحجاز والأرضين الخاضعة لسلطان الساسانيين.
وأراد "امرؤ القيس"، بعد أن بلغ من السلطان مبلغه، الاتصال بالروم، والتحالف معهم، والاعتراف به عاملًا رسميًّا أي: Phylarch أو Satrap على العرب الذين خضعوا له وعلى العرب المعترفين بسلطان الروم عليهم في "المقاطعة العربية"، فأوفد رجلًا من رجال الدين اسمه "بطرس" إلى "القسطنطينية" يعرض رغبته هذه على القيصر "ليو". فلما قابل هذا رجال البلاط، أظهر لهم أنه يريد الدخول في النصرانية، فأظهر القيصر "ليو" رغبته في مقابلة "امرئ القيس" للتحادث معه. فقصده "امرؤ القيس"، فاستقبله استقبالًا حسنًا، وعامله معاملة طيبة، وأجلسه على مائدته، ومنحه لقب Patrician، وجالس رجال مجلس "السنات" Senate، فأدى ذلك إلى استياء الروم من سياسة القيصر هذه مع رجل مشرك، ولكنه بين لهم أنه يريد تنصيره بذلك، وإخضاعه لسلطانه. ولما قرر العودة أعطاه القيصر صورة ثمينة وهدايا نفيسة، وحث رجال مجلس الدولة أن يمنحوه هدايا سخية، ثم منحه درجة "عامل" Phylarch على الجزيرة وعلى جميع ما استولى عليه وعلى أرضين أخرى جديدة لم يكن قد أخذها من قبل، إلا أن الروم لم يرتاحوا من هذه المعاملة، وانزعجوا من إسراف القيصر
في إكرامه ومنحه تلك الأرضين، ولا سيما تلك الجزيرة التي استرجعوها بعد ذلك بمدة ليست طويلة، وفي مدة حكم القيصر "أنستاس""أنسطاس""أنسطاسيوس"1 Anastasius.
ولما كان القيصر "ليو" Leo "لاون""اليون"، قد حكم من سنة "457م" حتى سنة "474م"2، فيكون اعتراف "ليو" بحكم "امرئ القيس"، ومنحه لقب "فيلارخ""فيلارك" قد وقع في أثناء هذه المدة.
ويظهر من تأريخ "ثيوفانس" أن هذه الجزيرة كانت في سنة "490م" في أيدي الروم، استولى عليها حاكمهم Dux على فلسطين بعد قتال شديد3. ويدل خبر هذا المؤرخ على أن الروم انتزعوا هذه الجزيرة من "امرئ القيس" أو من خلفائه بعد مدة ليست طويلة من استيلاء "امرئ القيس" عليها، ولعلهم استولوا عليها بعد وفاة هذا العامل على أثر نزاع نشب بين أولاده وورثته، أضعف مركز الإمارة، فانتهز الروم هذه الفرصة، وانتزعوا ما تمكنوا من انتزاعه من أملاك.
وإذا كانت هذه الجزيرة، قد كانت في جملة أملاك الروم في سنة "490م" كما يدعي "ثيوفانس" ذلك، وجب أن تكون استعادة حاكم فلسطين لها في أيام القيصر "زينو""زينون" Zeno الذي ولي الحكم من سنة "474" حتى سنة "491". أما سنة "491م" فقد انتقل فيها الحكم إلى القيصر "أنسطاس"4.
وكان "امرؤ القيس" المذكور سيد قبيلة سماها المؤرخ "ملخوس الفيلادلفي""نكليان""نخليان" Nokalian. ويظهر أن هذا الاسم هو "النخيلة"5، موضع معروف قرب "الكوفة" على سمت الشأم، وهو موضع ينطبق عليه ما ذكره "ملخوس" من أنه كان في أرض في سلطان الفرس6.
1 MALCHUS OF PHILADELPHIA، IN FRAGMENTA HISTORICORUM GRAECORUM، VOL.، 4، PARIS، 1951، PP.112، MUSIL، HEGAZ، P.308، BURY، HISTORY OF THE LATER ROMAN EMPIRE، LONDON، 1931، VOL.، I، P.8، 95، SOCRATES، IV، 36، SOZOMEN، VI، 38
2 RUNCIMAN، BYZANTINE CIVILISATION، LONDON، 1959، P.301
3 THEOPHANES، CHRONOGRAPHIA، P.121، MUSIL، HEGAZ، P.307
4 RUNCIMAN، BYZANTINE CIVILISATION، P.301
5 البلدان "8/ 276 وما بعدها".
6 BLAU، IN ZDMG.، 22، 1868، S. 578
ولم يذكر "ملخوس الفيلادلفي" أسماء الأرضين التي كانت في حكم "امرئ القيس"، ويرى "موسل" أن هذا الرئيس كان ينزل في بادئ الأمر مع قبيلته في "الوديان" و"الحجيرة" أيام كانت علاقاته بالفرس حسنة. ومن "الحجيرة" هاجر مع قبيلته إلى "دومة الجندل"، ومنها توسع فاستولى على أرضين من "فلسطين الثالثة" Palestina Tertia وهي "العربية الحجرية". ثم استولى على جزيرة Iotaba، وهي على رأيه جزيرة "تاران""تيران"1، وذكر "ياقوت" أن سكانها قوم يعرفون بـ"بني جدان"2.
ولعل هذه الجزيرة هي جزيرة Ainu التي ذكرها "بطلميوس"3، أخذ تسميته هذه من "حنو""حاينو" Hainu "حينو" الاسم الذي كانت تعرف به عند الأنباط4.
وامرؤ القيس هذا، هو مثل واحد من أمثلة عديدة على سادات قبائل راجعوا البيزنطيين لاستمداد العون منهم، وللحصول منهم على اعتراف رسمي بتنصيبهم رؤساء على الأعراب النازلين في ديار خاضعة لسلطانهم أو لمساعدتهم في مقارعة عرب الحيرة أو الفرس.
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال، قالوا: إنهم ذهبوا إلى الروم لهذه الغاية، وبعضهم ممن كان يقيم في أرضين بعيدة عن سلطانهم، والظاهر أن مثل هذا الاعتراف كان يكسب الرئيس قوة، ويمنحه منزلة ومكانة في تلك الأيام، وإن كان الروم على مبعدة من الرئيس وليس لهم حول مادي يقدمونه إليه.
ولا نجد في الموارد اليونانية أسماء من حكم من رؤساء القبائل في بلاد الشأم بصورة منتظمة قبل الغساسنة، إلا أن الإخباريين يذكرون أن الغساسنة لما جاءوا إلى بلاد الشأم من اليمن بعد "انتقاص العرم"، وجدوا "الضجاعمة" قد ملكوا البلاد قبلهم، وهم "آل سليح بن حلوان"، وهم من قضاعة، فقتلوهم وأخذوا مكانهم5. ولا بد أن يكون الضجاعمة قد سُبِقُوا بغيرهم ممن لم يقف أهل الأخبار
1 Musil، Hegaz، P.306
2 البلدان "2/ 352".
3 Ptolemy، VI، 7، 43
4 Musil، Hegaz، P.307
5 حمزة "ص76".
على أسمائهم، فقد كانت القبائل تهاجم إحداها الأخرى، فتأخذ مكانها، ولا يستبعد أن يكون "الضجاعمة" قد انتزعوا السلطان من قبائل أخرى، لم تبلغ أنباؤها أهل الأخبار.
إن حدود الإمبراطورية البيزنطية الجنوبية مع العرب، لم تتغير ولم تتبدل تبدلًَا محسوسًا عما كانت عليه في زمان الرومان، وهي بصورة عامة الحدود الجنوبية للمقاطعة العربية. وكانت لهم الجزر المقابلة للمقاطعة العربية في "خليج القلزم"، وقد اتخذوها مراكز لجباية الضرائب من أصحاب السفن، ولحماية البحر من لصوصه مثل جزيرة Iotba التي تحدثت عنها. ولم يشر أحد من المؤرخين المعاصرين للبيزنطيين إلى تقدم الروم أكثر من ذلك في جزيرة العرب.
وكان للبيزنطيين بعض المرافئ على سواحل البحر الأحمر، منها ميناء "كليزما" Clysma، وهو "القلزم" Qulzum، ويقع على مسافة قليلة من "السويس"، تأتي إليه السفن محملةً ببضائع الهند وبالسلك وبالمواد الأخرى المستوردة من السواحل الإفريقية والعربية الجنوبية. وبه يقيم "الوكيل" Agens In Rebus؛ الوكيل التجاري الذي عليه مراقبة سير السفن والتجارة، ووضع التعليمات لتنظيم التجارة البحرية، وعرف بـLogothete في نهاية القرن الرابع للميلاد1.
وكانت تجارة الحرير، من أهم المواد المطلوبة في أسواق البيزنطيين. وقد كان الساسانيون قد احتكروها تقريبًا، وعبثًا حاول الإمبراطور "جستنيان""يستنيانوس" Justinian تحطيم ذلك الاحتكار، وأخذه من أيديهم بالتوسل إلى "نجاشي" الحبشة؛ لإرسال سفنه إلى "سيلان" ولشراء السلك منها، ومنافسة التجار الفرس الذين كانوا قد سيطروا على تجارة هذه المادة المستوردة من الصين إلى هذه الجزيرة، فكانوا ينقلونها إلى بلادهم، بل إلى "القلزم" و"أيلة" وموانئ أخرى وأسواق تابعة للبيزنطيين، فيربحون من هذه التجارة ربحًا حسنًا2.
وكان القيصر "يوسطنيان""527-567م"3، قد نصب "أبا كرب
1 BURY، II، 318
2 BURY، II، PP.320
3 RUNCIMANN، BYZANTINE CIVILISATION، P.301
ابن جبلة"، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس" "عاملًا"، أي: "فيلاركا" "فيلارخا" Phylarch على عرب "سرسينس" Saracens فلسطين، وكان "أبو كرب" كما يقول "بروكوبيوس"، رجلًا صاحب مواهب وكفاءة، تمكن من حفظ الحدود ومن منع الأعراب من التعرض لها، وكان هو نفسه يحكم قسمًا منهم، كما كان شديدًا على المخالفين له. وذكر أيضًا أنه كان يحكم أرض غابات النخيل جنوب فلسطين، وهي أرض واسعة تمتد مسافات شاسعة في البر ليس بها غير النخيل. وقد قدمها هدية إلى الإمبراطور، فقبلها منه، وعدها من أملاكه، مع أنه كان يعرف جيدا أنها فيافٍ وبادية لا يمكن الاستفادة منها؛ ليس فيها غير النخيل، وليس لهذا النخيل فائدة تذكر. ويجاور عربها عرب آخرون يسمون "معديني" "مديني" Maddeni، هم أتباع لـ"حمير"1 Homeritae.
وهذه الأرض التي حكمها "أبو كرب بن جبلة"، هي الأرض التي حكمها "امرؤ القيس" سابقًا نفسها، أو يظهر أن الروم لم يتمكنوا من ضبطها ومن تعيين حاكم بيزنطي عليها؛ فاضطر إلى الاعتراف بالأمر الواقع، فثبتوا "أبا كرب" في مكانه، واعترفوا به اعترافا رسميا "عاملا" على هذه المنطقة التي تقع في جنوب أرض الغساسنة، وفي الأردن وأعالي الحجاز. ويظهر من ذلك أيضا أن "أبا كرب" كان عاملًا مستقلًّا بشئونه عن الغساسنة؛ ونكون بذلك أمام إمارتين مستقلتين.
وإذن يكون "أبو كرب" من المعاصرين للحارث بن جبلة ملك الغساسنة، وقد كان حكمه قبل السنة "542م" بدليل إرساله رسولًا إلى أبرهة لتهنئته عند ترميمه سد مأرب الذي أنجز في هذه السنة.
إن اسم "أبو كرب بن جبلة" يثير فينا الظن بأن هذا الرجل كان من آل غسان؛ فهذا الاسم هو من الأسماء التي ترد بكثرة عندهم. وقد يحملنا على تصور أنه كان شقيقًا للحارث بن جبلة، غير أني لا أستطيع الجزم بذلك؛ لسكوت الموارد السريانية واليونانية عن التصريح بذلك أو التلميح إليه.
لقد كان من نتائج توثيق الروم صلاتهم بمملكة "أكسوم"، تهديدهم اليمن
1 PROCOPIUS، I، XIX، 8-16، P.180-181، GLASER، MITT.، S. 437، S. 78-79، SEP
بغزوها، إن قاومت مصالحهم وتعرضت لسفنهم ولتجارتهم، وذلك بتحريض الجيش على النزول بها. وقد سبق للأحباش أن استولوا عليها، كما سبق للرومان أن استولوا على بعض مواضع من العربية الجنوبية مثل "عدن" في أيام "كلوديوس""41-54م" أو قبل ذلك بقليل1. ولا يستبعد أن يكون للروم دخل في الغزو الذي قام به الأحباش لليمن والذي بقي من سنة "300" حتى سنة "370ب. م"2. وقد ذكر أن القسطنطينية كانت المحرضة لحكومة الحبشة على غزو اليمن أيضًا في سنة "525م"، وقد امتد حتى سنة "570م" أو "575م"3.
ولما عاد الأحباش إلى اليمن حيث بقوا فيها مدة قصيرة، كَرَّ الفرس عليهم فطردوهم منها في حوالي سنة "575م""595م"، وصارت اليمن من سنة "575م""595م" حتى الفتح الإسلامي مقاطعة تابعة للساسانيين4. وقد أصيبت مصالح البيزنطيين بأضرار بليغة من هذا التحول السياسي العسكري، وأصيبت بضرر بليغ آخر كذلك في أيام "كسرى برويز" "590-628م" الذي هاجم الإمبراطورية البيزنطية واستولى على مصر وفلسطين، وقطع بذلك عنها شرايين التجارة العالمية المهمة. والبيزنطيون وإن استعادوا ما فقدوه في مصر وبلاد الشأم بعد مدة قصيرة، فعاد الساسانيون إلى مواضعهم، إلا أن الحروب المتوالية كانت قد أنهكت الطرفين: البيزنطيين والساسانيين، وأضرت بالوضع الاقتصادي، وجعلت الناس يتذمرون في كل مكان من سوء سياسة الإمبراطوريتين، ويودون التخلص من الفرس واليونان؛ لذلك لم يكن من المستغرب سقوط الأرضين التي كانت خاضعة لهم بسرعة مدهشة في أيدي المسلمين.
ولما وصلت الجيوش الإسلامية بلاد الشأم، رَحَّبَ أهلها بصورة عامة بها. وقد نظر البيزنطيون إلى الإسلام على أنه نوع من أنواع "الآريوسية" Arrianism المنسوبة إلى الكاهن "آريوس" المتوفى سنة "336م"، أو أنه مذهب من المذاهب النصرانية المنشقة عن الكنيسة الرسمية، وقد تعودوا على سماع أخبار وقوع
1 العرب والملاحة "ص79".
2 STUHLMANN، S. 13
3 STUHLMANN، S. 14
4 STUHLMANN، S. 14، PHILLIPS، P.223
الانشقاق في الكنيسة، وظهور مذاهب جديدة1؛ لهذا لا يستغرب ما أظهره أساقفة بلاد الشأم من تساهل في تسليم المدن إلى المسلمين، وما بدر من القبائل العربية المتنصرة من تعاون مع المسلمين في طرد البيزنطيين عن بلاد الشأم2.
1 VASILIEV، A. A. HISTOIRE DE L.htm'EMPIRE BYZANTIN، 279، FR. STARK، ROME، P.388
2 DIEHL AND G. MARCAIS، LE MONDE ORIENTAL، PARIS، 1936، P.104، FR. STARK، ROME، P.388