الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابه من وراء ظهره، ويلقى الهلاك والسعير (وذلك في الآيات 6- 15) .
والمقطع الثالث يعرض مشاهد الكون، في صورة تأخذ بالألباب (وذلك في الآيات 16- 19) .
والمقطع الرابع يتعجّب من حال هؤلاء الذين يعرضون عن الإيمان، ويهدّدهم بالجزاء العادل (وذلك في الآيات 20- 25) .
وهذه اللمسات المتعدّدة تطوف بالقلب البشريّ، وتنتقل بالنفس خلال مشاهد الآخرة والدنيا، والحساب والجزاء، في آيات قصيرة وحيّز محدود، ممّا لا يمكن لبشر أن يفعله ولكنّه القرآن الذي يسّره الله للذّكر، وأنزله لهداية العالمين.
مع آيات السورة
[الآيات 1- 5] : يصف الله سبحانه وتعالى ما يحدث من الأهوال يوم القيامة عند خراب الدنيا، فيذكر سبحانه أن السماء تنشقّ وتصبح ذات فروج وفتحات، وتنقاد هذه السموات لأمر ربّها وتخضع لتأثير قدرته، حينما يريد انشقاقها، فهي أشبه بالمطيع الذي يذعن لأمر سيده والأرض تسوّى وتبسط باندكاك جبالها وتخرج ما فيها من الموتى حتى لا يبقى بداخلها شيء وتنقاد كذلك لأمر ربها، وتخضع لتأثير قدرته، لأنها في قبضة القدرة الإلهية، تصرّفها في الفناء، كما صرفتها في الابتداء. وجواب «إذا» التي صدّرت بها السورة محذوف، وتقدير الكلام، والله أعلم: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) ترون جزاء ما عملتم من خير أو شر.
وخلاصة ذلك: وصف أحوال يوم القيامة، وفيه تبدّل الأرض غير الأرض، والسماوات غير السماوات ويبرز الناس للحساب، على ما قدّموا في حياتهم من عمل وعلينا أن نؤمن بذلك كله، ونكل علم حقيقته، ومعرفة كنهه الى الله تعالى.
[الآيات 6- 15] : يا أيّها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحا تحمل عبئك، وتجهد جهدك، وتشقّ طريقك لتصل في النهاية إلى ربّك فإليه المرجع وإليه المآب، بعد الكدّ والكدح والجهاد، وفي يوم البعث ينكشف الالتباس، ويعرف كل عامل ما جرّ إليه عمله، والناس حينئذ صنفان:
1-
الذي يعرض عليه سجلّ
أعماله، ويتناول كتابه بيمينه، فإنه يحاسب أيسر الحساب، إذ تعرض عليه أعماله فيعرف بطاعته وبمعاصيه، ثم يثاب على ما كان منها طاعة، ويتجاوز له عما كان منها معصية.
عن عائشة (رض) قالت: «سمعت رسول الله (ص) يقول في بعض صلاته: «اللهم حاسبني حسابا يسيرا» فلمّا انصرف قلت: يا رسول الله، وما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك» » .
فهذا هو الحساب اليسير الذي يلقاه من يؤتى كتابه بيمينه، ثم ينجو وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وأهله هم الناجون الذين سبقوه الى الجنة.
2-
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) ، والذي ألفناه في تعبيرات القرآن من قبل هو كتاب اليمين، وكتاب الشمال، فهذه صورة جديدة:
صورة إعطاء الكتاب من وراء الظهر، وليس يمتنع أن يكون الذي يعطى كتابه بشماله، يعطاه كذلك من وراء ظهره، فهي هيئة الكاره المكره، الخزيان من المواجهة. والذي نخلص اليه، أنّ إيتاء الكتاب باليمين، أو باليسار أو من وراء الظهر، تصوير لحال المطّلع على أعماله في ذلك اليوم، فمن الناس من إذا كشف له عمله ابتهج واستبشر، وتناول كتابه بيمينه ومنهم من إذا انكشفت له سوابق أعماله عبس وبسر، وأعرض عنها وأدبر، وتمنّى لو لم تكشف له، وتناولها باليسار أو من وراء الظهر، وحينئذ يدعو ووا ثبوراه، أي يا هلاك أقبل، فإنّي لا أريد أن أبقى حيّا.
ولا يفعل الإنسان ذلك، إلّا إذا كان في شدّة التعاسة والشقاء، كما يقول المتنبي:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
…
وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
وتناول الكافر لكتابه بشماله أو من وراء ظهره علامة على سخط الله عليه، وهو يدعو على نفسه بالهلاك والويل، ويدخل نار جهنم التي سعّرت وأوقدت، ليحترق بنارها لأنه كان في الدنيا بين عشيرته من الكافرين، لاهيا في شهواته، منقادا لأهوائه، لا يخطر الموت على باله، ولا البعث،
(1) . رواه الإمام أحمد بإسناده عن عبد الله بن الزبير عن عائشة، وهو صحيح على شرط مسلم، لم يخرجه.
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) إلى ربه، ولن يرجع إلى بارئه ولو ظن الرجعة في نهاية المطاف، لقدّم بعض العمل، وادّخر شيئا للحساب.
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) : أي بلى ليحورنّ وليرجعن إلى ربّه، وليحاسبنّه على عمله، فهو سبحانه كان مطّلعا على أمره، محيطا بحقيقته، عالما بحركاته وخطواته.
وتصوّر الآيات هذا التعيس، وهو مسرور بين أهله في حياة الدنيا القصيرة ولكنّه في الآخرة حزين يتمنّى الموت والهلاك، تقابلها صورة ذلك السعيد المؤمن، وهو ينقلب إلى أهله مسرورا، في حياة الآخرة المديدة، لقاء ما قدّم من سعي حميد، وعمل صالح.
وتعود الآيات إلى لمحات من الكون، تجمع بين الخشوع الساكن، والجلال المرهوب:
[الآيات 16- 19] : فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) والشفق هو الوقت الخاشع المرهوب بعد الغروب، وبعد الغروب تأخذ النفس روعة ساكنة عميقة، ويحسّ القلب معنى الوداع، وما فيه من أسى صامت، وشجّى عميق، كما يحس رهبة الليل القادم، ووحشة الظلام الزاحف، ويلفّه في النهاية خشوع، وخوف خفيّ، وسكون.
وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) : هو الليل وما جمع وما حمل من الظلام والنجوم، أو ما عمل فيه من التهجّد، أو ما جمع من مخلوقات كانت منتشرة بالنهار، فإذا جنّها الليل أوت إلى مأواها.
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) : أي اكتمل واستدار وصار بدرا، وهو مشهد رائع للقمر في ليالي اكتماله، يفيض على الأرض بنوره الحالم الخاشع، الموحي بالصمت الجليل.
يقسم القرآن الكريم بهذه الأشياء التي إذا تدبّر الإنسان أمرها، استدلّ بجلالها وعظمة شأنها على قدرة مبدعها.
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) : أي لتلاقن أيها الناس أمورا بعد أمور، وأحوالا بعد أحوال من الموت والبعث والحشر، إلى أن تصيروا إلى ربّكم وهناك تلقون جزاء أعمالكم.
[الآيات 20- 25] : فلماذا لا