الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرض والخطاب كلّه ومن ثمّ تبرز شخصية خاصة للسورة حادّة الملامح، متنوّعة في أساليب الخطاب، متنقّلة من قسم إلى خبر إلى استفهام إلى أمر، فذلك كلام الله، ومن أحسن من الله حديثا؟
مع آيات السورة
[الآيات 1- 7] : يقسم الله تعالى بطوائف الملائكة، يرسلهنّ بالمعروف والإحسان، وأوامره الكريمة، فيعصفن عصف الرياح مسرعات وينشرن شرائعه في الأرض، فيفرقن بها بين الحقّ والباطل، ويلقين إلى أنبيائه ذكرا يريد تبليغهم إيّاه، عذرا للمحقّين، ونذرا للمبطلين يقسم بهذه الملائكة على أن ما توعدون من مجيء القيامة واقع لا محالة.
وقيل إن القسم في هذه الآيات بالرّياح، وآثارها في الكون، ونشرها السحاب في الأفق.
وقيل إن القسم في الآيات الثلاث الأولى بالرياح متتابعة كعرف الفرس، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) الشديدة المهلكة، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) التي تنشر المطر، فأقسم سبحانه بالرياح النافعة والضارة.
والقسم في الآيات [4- 6] بالملائكة: فإنها تنزل بأمر الله على الرسل، تفرق بين الحق والباطل، وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق وإنذار.
ولعل من إعجاز القرآن أنّ الآية تشير إلى معنى وتحتمل معنى، وتستتبع معنى آخر ولعل هذا التجهيل والخلاف في مفهوم الآية مقصود لله سبحانه، ليكون أثرها أقوى في النفس.
وقد ذكر ابن جرير الطبري تفسير هذه الآيات، وعند تفسير وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) بيّن أن بعض المفسّرين قال هي الرياح، وبعضهم قال: هي المطر، وبعضهم قال: هي الملائكة.
ثم عقّب الطبري بقوله: «وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره أقسم بالناشرات نشرا، ولم يخصّص شيئا من ذلك دون شيء، فالرياح تنشر السحاب، والمطر ينشر الأرض، والملائكة تنشر الكتب، ولا دلالة من وجه يجب التسليم له، على أن المراد من ذلك بعض دون بعض، فدل ذلك
على أن المراد بالآية كل ما كان ناشرا» «1» .
[الآيات 8- 15] : يوم تطمس النجوم فيذهب نورها، وتفرج السماء أي تشقّ، وتنسف الجبال فهي هباء.
وإلى جانب هذا الهول في مشاهد الكون، تعرض السورة أمرا مؤجّلا، هو موعد الرسل لعرض حصيلة الدعوة والشهادة على الأمم، والقضاء والفصل بين كل رسول وقومه، يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة/ 109] . وفي هذا اليوم عذاب وخزي لمن كذّب بالله ورسله وكتبه، وبكلّ ما ورد على ألسنة أنبيائه وأخبروا به.
[الآيات 16- 19] : تجول هذه الآيات في مصارع الأوّلين والآخرين، وفي ضربة واحدة تكشف مصارع الأوّلين، من قوم نوح ومن بعدهم، وتتكشّف مصارع الآخرين، ومن لفّ لفّهم. وعلى مد البصر تتبدّى المصارع والأشلاء، فهي سنّة الله التي لا تتبدّل، من سيادة الصالحين، وهلاك المجرمين. وفي الآخرة هلاك وعذاب شديد للمكذّبين. [الآيات 20- 24] : هذه الآيات جولة في الإنشاء والإحياء، مع التقدير والتدبير، فهي تصف خلق الإنسان من نطفة مراقة، تستقرّ في حرز مكين وهو الرّحم، حتى تصير جنينا مكتملا فَقَدَرْنا وقت ولادته فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [الآية 23] ، نحن، على التدبير وإحكام الصنعة. وفي الآخرة عذاب شديد للمكذّبين بآيات الله وقدرته وحكمته.
[الآيات 25- 28] : وهذه الآيات جولة في خصائص الأرض، وتقدير الله فيها لحياة البشر، وإيداعها الخصائص الميسرة لهذه الحياة: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25)«2» تحتضن بنيها وتجمعهم أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) ، وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ [الآية 27] ثابتات سامقات، تتجمّع على قممها السحب، وتنحدر عنها مساقط الماء العذب، أفيكون هذا إلّا عن قدرة وتقدير، وحكمة وتدبير؟ .. أفبعد هذا يكذّب المكذّبون؟ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) .
[الآيات 29- 34] : تنتقل الآيات في وصف مشهد من مشاهد القيامة، والكفّار ينطلقون بعد طول احتباس إلى
(1) . تفسير الطبري 29/ 142 مطبعة بولاق، الطبعة الأولى، 1329 هـ.
(2)
. الكفات: ما يكفت أي يضمّ ويجمع.
العذاب الذي كانوا يكذّبون به في الدنيا.
إنّه انطلاق خير منه الارتهان والاحتباس، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) ، وهو دخان جهنّم يتشعّب لعظمه ثلاث شعب، وتمتدّ ألسنته إلى أقسام ثلاثة، بعضها أشد من بعض، ولكنه ظلّ خير منه الوهج لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) ، إنه ظلّ خانق حارّ لافح، وتسميته بالظّلّ من باب التهكّم والسخرية، فهو لا يظلّ من حرّ ذلك اليوم، ولا يقي من لهب جهنّم «1» .
إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) أي أن هذه النار يتطاير منها شرر متفرّق في جهات كثيرة، كأنه القصر عظما وارتفاعا، وكأنه الجمال الصفر لونا وكثرة وتتابعا وسرعة حركة وفي اللحظة التي يستغرق فيها الحس بهذا الهول، يجيء التعقيب المعهود: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) .
[الآيات 35- 37] : هذا يوم لا يتكلّمون فيه بحجّة نافعة تنقذهم ممّا هم فيه، ولو كانت لهم حجّة لما عذّبوا هذا العذاب، ولا يؤذن لهم بالاعتذار ولا يقبل منهم، فالهلاك لمن كذّب بعذاب يوم القيامة.
«وقد سئل ابن عبّاس رضي الله عنهما عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)[الزمر]، فقال:
في ذلك اليوم مواقف، في بعضها يختصمون، وفي بعضها لا ينطقون، أو لا ينطقون بما ينفعهم فجعل نطقهم كلا نطق» «2» والعرب تقول لمن ذكر ما لا يفيد: ما قلت شيئا.
[الآيات 38- 40] : هذا يوم الفصل
(1) . في الشعر العربي:
والمستجير بعمرو عند كربته
…
كالمستجير من الرمضاء بالنار
والرمضاء هي الرمل الساخن من شدة الحر، أي من قصد عمرا وهو في كربة فلن يجد ما يخفف عنه، بل سيجد ما يزيده ألما، وينقله إلى ما هو أشدّ، كمن ينتقل من حرارة الرمال إلى حرارة النار. وكذلك الكفّار ينتقلون من حرارة المحشر، إلى ظل خانق لا يحمي من الحر ولا يقي من النار، وهو ظلّ مؤلم لا مريح.
(2)
. تفسير النسفي 4/ 242، 243.
لا يوم الاعتذار، وقد جمعناكم والأوّلين أجمعين، فإن كان لكم تدبير فدبّروه، وإن كانت لكم حيلة في دفع العذاب عنكم فاحتالوا لتخليص أنفسكم من العذاب. وفي هذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا، وإظهار لعجزهم وقصورهم حينئذ، فهم في صمت كظيم، وتأنيب أليم.
والويل الشديد في ذلك اليوم للمكذّبين بالبعث والجزاء.
[الآيات 41- 45] : إنّ المتّقين في ظلال حقيقية، هي ظلال الأشجار على شواطئ الأنهار، فلا يصيبهم حرّ ولا قرّ، ويتمتّعون بما تشتهيه أنفسهم من الفواكه والمآكل الطيّبة. ومع التكريم الحسي يلقون ألوان التكريم المعنوي، فيقال لهم على مرأى ومسمع من الجموع: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) : جزاء بما عملتم في الدنيا من طاعة ربكم، واجتهدتم في ما يقرّبكم من رضوانه، فهل جزاء الإحسان في الدنيا إلّا الإحسان في الجنة؟.
وبمثل هذا الجزاء نجزي كل الذين يحسنون في أعمالهم وأقوالهم، وشأنهم الإحسان، ويقابل هذا النعيم الويل للمكذّبين.
[الآيتان 46- 47] : كلوا وتمتعوا قليلا في هذه الدار بقيّة أعماركم، وهي قليلة المدى إذا قيست بالآخرة، وهناك ستحرمون، وتعذّبون طويلا: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) .
[الآيات 48- 50] : وإذا قيل لهؤلاء المكذّبين اعبدوا الله وأطيعوه، لا يستجيبون ولا يمتثلون، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) بأوامر الله ونواهيه، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) : أي إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل على تجلّيها ووضوحها، فبأيّ كلام بعد هذا يصدّقون؟ والذي لا يؤمن بهذا الحديث الذي يهزّ الرواسي، وبهذه الهزّات التي تزلزل الجبال، لا يؤمن بحديث بعده أبدا، إنّما هو الشقاء والتعاسة والمصير البائس، والويل المدّخر لهذا الشقيّ المتعوس.
إن هذه السورة ببنائها التعبيري، وإيقاعها المتناسب، ومشاهدها العنيفة، ولذعها الحاد، حملة لا يثبت لها كيان، ولا يتماسك أمامها إنسان فسبحان الذي نزّل القرآن وأودعه ذلك السلطان.