الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول أهداف سورة «الأعلى»
«1»
سورة الأعلى سورة مكّيّة، آياتها 19 آية، نزلت بعد سورة التكوير. وهي أنشودة سماوية فيها تسبيح بحمد الله، وبيان دلائل قدرته، وإثبات الوحي الإلهي، وتقرير الجزاء في الآخرة، وبيان الوحدة بين الرسالات السماوية، واشتمال الرسالة المحمدية على اليسر والسماحة، وكل واحدة من هذه تحتها موحيات شتّى، ووراءها مجالات بعيدة المدى.
وفي صحيح مسلم: أنّ رسول الله (ص) كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) ، وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1)[الغاشية]، وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما. وفي رواية للإمام أحمد عن الإمام علي كرم الله وجهه: «أن رسول الله (ص) كان يحبّ هذه السورة، سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) .
مع آيات السورة
[الآيات 1- 5] : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) .
التسبيح هو التمجيد والتنزيه، واستحضار معاني الصّفات الحسنى لله، والحياة بين إشعاعاتها وفيوضها، وإشراقاتها ومذاقاتها الوجدانية بالقلب والشعور.
يقول الامام محمد عبده: «واسم الله
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.
هو ما يمكن لأذهاننا أن تتوجّه إليه به، والله يأمرنا بتسبيح هذا الاسم، أي تنزيهه عن أن يكون فيه ما لا يليق به من شبه المخلوقات أو ظهوره في واحد منها بعينه، أو اتّخاذه شريكا أو ولدا أو ما ينحو هذا النحو، فلا نوجه عقولنا إليه إلّا بأنه خالق كل شيء، المحيط علمه بدقائق الموجودات» .
والخطاب في السورة موجّه إلى رسول الله (ص) ، وفيه من التلطّف والإيناس ما يجلّ عن التعبير، وقد كان (ص) ينفّذ هذا الأمر فور صدوره.
وحينما نزل قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)[الواقعة] قال النبي (ص) : اجعلوها في ركوعكم، أي قولوا في الركوع: سبحان ربي العظيم، ولما نزل قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) قال النبي (ص) :
اجعلوها في سجودكم، أي قولوا في السجود: سبحان ربي الأعلى.
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) الذي خلق كلّ شيء فسوّاه وأكمل صنعته، وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه بلا تفاوت ولا اضطراب، كما تراه يظهر لك من خلق السماوات والأرض.
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) أي قدّر لكلّ حيّ ما يصلحه مدة بقائه، وهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع بما فيه منفعة له، ووجه الهرب بما يخشى غائلته.
جاء في كتاب «العلم يدعو إلى الايمان» ما يأتي: «إنّ الطيور لها غريزة العودة إلى الوطن، فعصفور الهزار الذي عشّش ببابك يهاجر جنوبا في الخريف، ولكنّه يعود إلى عشّه في الربيع التالي، وفي شهر سبتمبر تطير أسراب من معظم الطيور إلى الجنوب، وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق أرض البحار، ولكنّها لا تضل طريقها والنحلة تجد خليّتها مهما طمست الريح في هبوبها على الأعشاب والأشجار كل دليل يرى وأنت إذا تركت حصانك العجوز وحده فإنه يلزم الطريق مهما اشتدت ظلمة الليل، وهو يقدر أن يرى ولو في غير وضوح
والبومة تستطيع أن ترى الفأر الدافئ اللطيف، وهو يجري على العشب البارد مهما تكن ظلمة الليل، ونحن نقلب الليل نهارا بإحداث إشعاع في تلك المجموعة التي نسمّيها الضوء» .
«والكلب بما أوتي من أنف فضولي، يستطيع أن يحس الحيوان الذي مرّ» .
إنه الله الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) .
وقد سجل البشر كثيرا من إبداع الخلقة، في عوالم النبات والحشرات والطيور والحيوان، في هذا الوجود المشهود الذي لا نعرف عنه إلا أقلّ القليل، ووراءه عالم الغيب بما فيه من كمال وجلال فسبحان الله الخلاق العظيم.
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) والمرعى كلّ نبات، وما من نبات إلّا وهو صالح لخلق من خلق الله. فهو هنا أشمل ممّا نعهده من مرعى أنعامنا، فالله خلق هذه الأرض، وقدّر فيها أقواتها لكلّ حيّ يدب فوق ظهرها أو يختبئ في جوفها، أو يطير في جوّها، والنبات يتحايل على استخدام وكلاء لمواصلة وجوده، دونما رغبة من جانبهم، كالحشرات التي تحمل اللّقاح من زهرة الى أخرى، والرياح، وكل شيء يطير أو يمشي، ليوزّع بدوره.
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) والغثاء هو الهشيم، أو الهالك البالي، والأحوى:
الذي يميل لونه إلى السواد، فهو سبحانه قد أحكم كل شيء خلقه، ما يبقى وما يفنى.
«فنحن مأمورون أن نعرف الله جل شأنه، بأنه القادر العالم الحكيم، الذي شهدت بصفاته هذه آثاره في خلقه، التي ذكرها في وصف نفسه بقوله:
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) إلخ، وأن لا ندخل في هذه الصفات معنى ممّا لا يليق به، كما أدخل الملحدون الذين اتّخذوا من دونه شركاء أو عرفوه بما يشبه به خلقه وإنّما توجّه إلينا الأمر بتسبيح الاسم، دون تسبيح الذات، ليرشدنا الى أن مبلغ جهدنا، ومنتهى ما تصل إليه عقولنا، أن نعرف الصفات