الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول أهداف سورة «الانفطار»
«1»
سورة «الانفطار» سورة مكية، وآياتها 19، نزلت بعد «النازعات» . وقد بدأت سورة «الانفطار» ، مثل سورة «التكوير» ، بالحديث عن أهوال القيامة، لكنّها تحدثت عنها بأسلوب مختصر، وإيقاع هادئ عميق، ويمكن تقسيم السورة الى ثلاث فقرات:
الفقرة الأولى من بداية السورة إلى الآية الخامسة: وتتحدّث عن انفطار السماء، وانتثار الكواكب، وتفجير البحار، وبعثرة القبور كحالات مصاحبة لعلم كل نفس بما قدّمت وأخّرت، في ذلك اليوم الخطير.
والفقرة الثانية من الآية 6 إلى الآية 8: وتبدأ بلمسة العتاب المبطّنة بالوعيد، لهذا الإنسان الذي يتلقّى من ربّه فيوض النعمة في ذاته وخلقته، ولكنّه لا يعرف للنعمة حقّها، لا يعرف لربّه قدره، ولا يشكره على الفضل والنعمة والكرامة.
والفقرة الثالثة من الآية 9 إلى الآية 19: تقرّر علة هذا الجحود والنكران، فهي التكذيب بالدين، أي بالحساب، وعن هذا التكذيب ينشأ كل سوء وكل جحود ومن ثمّ تؤكد هذا الحساب توكيدا، وتؤكّد عاقبته وجزاءه المحتوم، وتصوّر ضخامة يوم الحساب وهوله، وتجرّد النفوس من كل حول فيه، وتفرّد الله سبحانه بأمره الجليل.
مع آيات السورة
تبدأ السورة بتصوير نهاية العالم
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.
واختلال نظامه، وانفراط عقده، ويتمثّل ذلك في أمرين علويين وأمرين سفليين. أمّا الأمران العلويان، فهما انفطار السماء وانتثار الكواكب وأمّا الأمران السفليان، فهما تفجير البحار وبعثرة القبور.
[الآية 1] : إذا انشقت السماء وتغيّر نظامها، فلم يبق نظام الكواكب على ما نرى، وهذا عند خراب العالم بأسره، قال تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26)[الفرقان] .
[الآية 2] : وفي هذا اليوم تتساقط الكواكب وتتفرّق وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) ، أي تساقطت متفرّقة، والكواكب تجري الآن في أفلاكها بسرعات هائلة، وهي ممسكة في داخل مداراتها لا تتعدّاها، فإذا انشقّت السماء تبع ذلك سقوط الكواكب وانتثارها، وذهابها في الفضاء بددا، كما تذهب الذرّة التي تنفلت من عقالها.
[الآية 3] : وفي هذا اليوم تزول الحواجز بين البحار، فيختلط العذاب بالملح، وتغمر البحار اليابسة، وتطغى على الأنهار، كما يحتمل أن يكون تفجيرها تحويل مائها إلى عنصريه:
الأوكسجين والهيدروجين.
[الآية 4] : وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) أي أثيرت وقلب أعلاها أسفلها، وباطنها ظاهرها، ليخرج من فيها من الموتى أحياء للحساب والجزاء.
[الآية 5] : عند حدوث كل هذه الظواهر، تعلم كل نفس ما قدّمت من الطاعات، وما أخّرت من الميراث.
[الآيات 6- 8] : يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) أي شيء خدعك حتّى ضيّعت ما أوجب عليك ربّك، وصرت تقصّر في حقّه، وتتهاون في أمره، ويسوء أدبك في جانبه، وهو ربّك الكريم الذي أغدق عليك من كرمه وفضله وبرّه، فخلقك سويّا، معتدل القامة، متناسب الخلق، من غير تفاوت فيه، «فلم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا إحدى العينين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود» » .
فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) أي
(1) . تفسير النسفي 4/ 253 [.....]
.
ركّبك في صورة هي من أعجب الصور وأتقنها وأحكمها، وقد كان قادرا أن يركّبك في أيّ صورة أخرى يشاؤها، فاختار لك هذه الصورة السويّة المعتدلة الجميلة.
وإنّ الإنسان لمخلوق جميل التكوين، سويّ الخلقة، معتدل التصميم وإنّ عجائب الإبداع في خلقه، لأضخم من إدراكه هو، وأعجب من كل ما يراه حوله وأنّ الجمال والاعتدال ليظهر في تكوينه الجسدي، وفي تكوينه العقلي، وفي تكوينه الروحي سواء، وهي تتناسق في كيانه بجمال واستواء.
وهناك مؤلّفات كاملة في وصف كمال التكوين الإنساني العضوي، ودقّته وإحكامه وتؤكّد جلال القدرة المبدعة، التي أبدعت خلق الإنسان في أحسن تقويم، ويسّرت خلقه من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة، ثمّ سوّته خلقا كاملا فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون/ 14] .
وتقول مجلة العلوم الإنجليزية: «إنّ يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعيّة الفذة، وإنه من الصعب جدّا، بل من المستحيل أن تبتكر آلة تضارع اليد البشرية، من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكيّف، فحينما تريد قراءة كتاب تتناوله بيدك، ثم تثبته في الوضع الملائم للقراءة، وهذه اليد هي التي تصحح وضعه تلقائيا، وحينما تقلّب إحدى صفحاته تضع أصابعك تحت الورقة، وتضغط عليها بالدرجة التي تقلّبها بها، ثمّ يزول الضغط بقلب الورقة واليد تمسك القلم وتكتب به، وتستعمل كافّة الآلات التي تلزم الإنسان من ملعقة إلى السّكّين، إلى آلة
(1) . في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب 30/ 491.
الكتابة، وتفتح النوافذ وتغلقها، وتحمل كلّ ما يريده الإنسان واليدان تشتملان على سبع وعشرين عظمة، وتسع عشرة مجموعة من العضلات لكل منهما» «1» .
«وجهاز الذوق في الإنسان هو اللسان، ويرجع عمله الى مجموعات من الخلايا الذوقيّة القائمة في حلمات غشائه المخاطي
…
» .
«ويتكوّن الجهاز العصبي الذي يسيطر على الجسم سيطرة تامة من شعيرات دقيقة، تمرّ في كافة أنحاء الجسم، وتتّصل بشعيرات أكبر منها، وهذه بالجهاز المركزي العصبي، فإذا ما تأثّر أيّ جزء في الجسم، نقلت الشعيرات العصبية هذا الإحساس إلى المخ، حيث يمكنه أن يتصرّف..
«ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على أنه عمليّة في معمل كيماوي، وإلى الطعام الذي نأكله على أنه موادّ غفل، فإنّنا
(1) . تفسير في ظلال القرآن نقلا عن كتاب: «الله والعلم الحديث» للأستاذ عبد الرزاق نوفل.
(2)
. تفسير في ظلال القرآن نقلا عن كتاب: «العلم يدعو إلى الإيمان» .
(3)
. تفسير في ظلال القرآن نقلا عن كتاب: «الله والعلم الحديث» .
ندرك توّا أنّه عملية عجيبة، إذ نهضم تقريبا كل شيء يؤكل ما عدا المعدة نفسها» «1» .
وكلّ جهاز من أجهزة الإنسان الأخرى يقال فيه الشيء الكثير، فالإدراك العقلي، واختزان المعلومات، والإدراك الروحي لجلال الله، كلّها تدلّ على سعة عطاء الله وحكمته، وكرمه وفضله على الإنسان.
[الآيات 9- 12] : كلّا: ارتدعوا عن الاغترار بكرم ربّكم لكم. بل تكذّبون بالحساب والمؤاخذة والجزاء، وهذه هي علّة الغرور وعلّة التقصير، وإنّه لموكل بكم ملائكة يحفظونكم، ويسجّلون أقوالكم وأعمالكم، ويحصونها عليكم، وهؤلاء الملائكة كرام فلا تؤذوهم بما ينفّرهم من المعاصي وإنّ الإنسان ليحتشم ويستحي وهو بمحضر الكرام، من أن يسفّ أو يتبذّل، في لفظ، أو كلمة، أو حركة، أو تصرّف فكيف به حينما يشعر أنه في كلّ لحظاته، في حضرة حفظة من الملائكة كرام لا يليق أن يطلعوا منه إلا على كل كريم من الخصال أو الفعال؟. وهؤلاء الملائكة يكتبون كلّ شيء، ولا تخفى عليهم خافية من أعمالكم، فإنهم يعلمون ما تفعلون سرّا أو علنا والملائكة قوى من قوى الخير منهم الحفظة والكتبة، ومنهم من ينزل بالوحي على الرسل وقد أمدهم الله سبحانه بقوّة خاصة، يستطيعون بها إنجاز ما يوكل إليهم من مهام. وليس علينا أن نبحث عن كنه هؤلاء الحفظة، ولا عن كيفيّة كتابتهم لأعمالنا، ويكفي أن يشعر القلب البشريّ أنّه غير متروك سدى، وأنّ عليه حفظة كِراماً كاتِبِينَ (11) يعلمون ما يفعله، ليرتعش ويستيقظ ويتأدّب.
وهذا هو المقصود.
[الآية 13] : إنّ الأبرار صدقوا في إيمانهم بأداء ما فرض عليهم، واجتناب ما نهوا عنه، سيكونون ممتّعين في نعيم الجنة.
وليس البرّ مقصورا على الصلاة والصيام، ولكن البرّ عقيدة صادقة، وسلوك مستقيم، ويتمثل ذلك في القيام بالواجب، ومعاونة المحتاج، والاهتمام بأمر المسلمين، والحرص على نفع
(1) . في ظلال القرآن: نقلا عن كتاب: «الله والعلم الحديث» مع التلخيص والتصرّف.