الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإسلام مجاملة لأهله، وأن يبيّتوا الكيد والخداع للمسلمين.
وقد قبل النبي (ص) من الناس ظواهرهم، وترك بواطنهم الى الله.
ولكن الأحداث كانت تعرّف المسلمين بهؤلاء المنافقين، فإذا وقع المسلمون في شدة أو انهزموا في معركة، تجرّأ هؤلاء المنافقون على تجريحهم والتشهير بهم جهارا نهارا. وإذا أنعم الله على المؤمنين بالنصر، اختبأ المنافقون في جحورهم، وغيّروا طريقتهم، وانتقلوا من باب المواجهة إلى الكيد والدّسّ في الخفاء.
وكان اليهود في المدينة يكوّنون جبهة قوية، وقد ساندوا المنافقين وشجّعوهم، وكوّن الطرفان جبهة متّحدة لمناوأة الإسلام والمسلمين.
وكان عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم المنافقين بالمدينة، وكان من وجهاء الأنصار، وكان قومه ينظمون له الخرز ليتوّجوه ملكا عليهم. فلمّا جاء الإسلام للمدينة، وتعاظمت قوّة المسلمين يوما بعد آخر، وأصبح النبيّ الأمين صاحب الكلمة النافذة، والأمر المطاع، اشتدّ حقد عبد الله بن أبيّ لضياع الملك من بين يديه، وكوّن جبهة للنفاق تشيع السوء والفتنة، وتدبّر الكيد والأذى للمسلمين.
وشاء الله، سبحانه، أن يمتحن المسلمين بوجود اليهود في المدينة، وبوجود المنافقين فترة طويلة صاحبت نشوء الدعوة بالمدينة. ولم يشأ الله، جل جلاله، أن يعرّف النبي (ص) بأسمائهم إلّا في آخر حياته، وقد أخفى النبي (ص) أسماءهم عن الناس، وأعلم واحدا فقط من الصحابة بها، هو النعمان بن مقرن، ليظلّ أمرهم مستورا.
وكان بعضهم ينكشف أمره من سلوكه وفعله، وقوله، وقسمات وجهه، وتعبيراتها. قال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30)[محمد] .
قصة نزول السورة
في كثير من كتب التفسير والسيرة:
أن هذه السورة نزلت في أعقاب غزوة بني المصطلق، وقد انتصر فيها المسلمون، وغنموا غنائم كثيرة، وقد وقعت في شعبان من السنة الخامسة للهجرة (ديسمبر 626 م) . وبعد
المعركة ازدحم على الماء رجلان أحدهما أجير لعمر بن الخطاب، وهو «جهجاه بن سعيد» ، والثاني حليف بني عون بن الخزرج، وهو سنان الجهني وتضاربا. فقال جهجاه يا للمهاجرين، وقال سنان يا للأنصار، فاجتمع عليهما المتسرعون من المهاجرين والأنصار حتى كادوا يقتتلون، وأوشكت أن تقوم الفتنة بين المهاجرين والأنصار. فلمّا سمع رسول الله (ص) الصراخ، خرج مسرعا يقول:«ما بال دعوى الجاهلية» ؟ فأخبروه الخبر، فصاح غاضبا:«دعوا هذه الكلمة، فإنّها فتنة» وأدرك الفريقين، فهدّأ من ثورتهما، وكلّم المضروب حتّى أسقط حقّه وبذلك سكنت الفتنة، وتصافي الفريقان.
ولكن عبد الله بن أبيّ عزّ عليه أن تنطفئ هذه الشرارة قبل أن تحدث حريقا بين المسلمين، وأن تموت هذه الفتنة قبل أن تذهب بما في صفوف المسلمين من وحدة وائتلاف، فأخذ يهيّج من معه من الأنصار، ويثير ضغينتهم ضدّ المهاجرين، وجعل يقول في أصحابه:
«والله ما رأيت كاليوم مذلّة. لقد نافرونا وكاثرونا في بلدنا، وأنكروا منّتنا، والله ما عدنا وجلايب قريش هذه إلّا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك.. «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ» يقصد بالأعز نفسه، وبالأذلّ رسول الله (ص) .
ثم أقبل ابن أبيّ على من حضره من قومه يلومهم ويعنّفهم فقال: «هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم في بلادكم، وأنزلتموهم منازلكم، وآسيتموهم في أموالكم حتّى استغنوا.
أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم. ثمّ لم ترضوا ما فعلتم حتّى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا، فقتلتم دونهم، فأيتمتم أولادكم وقللتم وكثروا، فلا تنفقوا على من حوله حتّى ينفضّوا» .
وكان في القوم زيد بن أرقم، وهو يومئذ غلام لم يبلغ الحلم، أو قد بلغ حديثا، فنقل كلام ابن أبيّ إلى الرسول (ص) ، فتغيّر وجه رسول الله (ص) ، وتأثّر من معه من المهاجرين والأنصار، وشاع في الجيش ما قاله ابن أبيّ، حتّى ما كان للناس حديث غيره، وقال عمر للنبيّ (ص) :
يا رسول الله مر بلالا فليقتله، وهنا
ظهر النبيّ (ص) - كدأبه- بمظهر القائد المحنّك والحكيم البعيد النظر، إذ التفت إلى عمر وقال:«فكيف إذا تحدّث النّاس أنّ محمّدا يقتل أصحابه» ؟ ولكنه قدّر في الوقت نفسه أنه إذا لم يتّخذ خطة حازمة فقد يستفحل الأمر. لذلك أمر أن يؤذّن في الناس بالرحيل، في ساعة لم يكن يرتحل فيها المسلمون.
وترامى الى ابن أبيّ ما بلغ النبيّ (ص) عنه، فأسرع الى حضرته ينفي ما نسب إليه ويحلف بالله ما قاله ولا تكلّم به، ولم يغيّر ذلك من قرار النبيّ بالرحيل.
قال ابن اسحق: «فلمّا استقلّ رسول الله (ص) وسار، لقيه أسيد بن الحضير، فحيّاه بتحية النبوّة وسلم عليه، ثمّ قال: يا نبيّ الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال رسول الله (ص) : أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: وأيّ صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبيّ. قال وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ. قال أسيد: فأنت يا رسول الله، والله، تخرجه منها إن شئت، هو، والله، الذليل وأنت العزيز، في عزّ من الرحمن ومنعة المسلمين. قال أسيد:
يا رسول الله ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.
ثمّ مشى رسول الله (ص) بالناس يومهم ذاك حتّى أمسى، وليلتهم حتّى أصبح، وصدر يومهم ذاك حتّى آذتهم الشمس ثمّ نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياما. وإنّما فعل ذلك رسول الله ليشغل الناس عن كلام عبد الله بن أبيّ.
ونزلت سورة (المنافقون) في ابن أبيّ، ومن كان على مثل أمره. ولمّا نزلت السورة قال رسول الله (ص) : يا غلام، إنّ الله قد صدّقك وكذّب المنافقين.
ولما ظهر كذب عبد الله بن أبيّ، قيل له: قد نزلت فيك آي شداد، فاذهب الى رسول الله يستغفر لك، فلوى رأسه وقال: أمرتموني أن أؤمن فأمنت، وأمرتموني أن أزكّي مالي فزكّيت، وما بقي إلّا أن أسجد لمحمد، فنزل فيه قوله تعالى: