الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني: الهدايا المنهي الموظف عن قبولها، وقد يباح بذلها له:
من الهدايا للموظفين ما ينهى الموظف عن قبولها. أما باذلها له فقد يعذر في بذلها؛ لأنه يبذلها للموظف إما إكرامًا له أو حياء منه على ما قام به من عمل تجاهه، أو استعطافًا؛ ليقوم له بحقه أو دفع ظلم عنه، لا سيما إذا رأى من الموظف تبرمًا أو تقاعسًا في ذلك وخشي الضرر بالتبليغ عنه. ولم أر في كلام الفقهاء ما يدل على تحريم بذلها لسبب ذلك، بل قال الماوردي: «أن يهدي إليه من يشكره على جميل كان منه
…
وعليه ردها، ولا يجوز له قبولها
…
ولا يحرم بذلها على المهدي» (1) بخلاف قبول الموظف لها، فإنهم نصوا على نهيه عن قبولها، وأنه إذا قبلها، يردها على باذلها، أو يجعلها في بيت المال، أو يكافئ المهدي بمثلها، وستأتي كيفية تصرف الموظف فيما يهدى إليه.
والهدايا المنهي عن قبولها للموظفين وقد يباح بذلها من المهدين، خمس:
الهدية الأولى: الهدية للموظف من غير الأعلى منه في عمله
(1) الحاوي الكبير 16/ 284.
كرئيسه، وغير من لا يُقبل له حكمه لو كان قاضيًا كوالده زوجه، وله حاجة مباحة تتعلق بوظيفته، وبذلها له قبل إنها حاجته، سواء أكان ممن يهدي للموظف قبل توليته الوظيفة أم لا.
هذه الهدية: يحرم على الموظف قبولها؛ لأنها كالرشوة بالنسبة له (1)؛ لوجود تهمة الرشوة بها؛ لبذلها ممن يتهم بها، ولتقدمها على قضاء حاجة المهدي، وللتهمة فيها باستعطاف الموظف على فعله واجبًا عليه، سواء أكان الموظف متبرعًا أم برزق (2)؛:
قال الغزالي عن أقسام عموم الهدية: «الخامس: أن يطلب التقرب إلى قلبه وتحصيل محبته، لا لمحبته ولا للأنس به من حيث إنه أنس فقط، بل ليتوصل بجاهه إلى أغراض له
…
فإن كان جاهه بولاية تولاها: من قضاء أو عمل أو ولاية صدقة أو جباية مال أو غيره من الأعمال السلطانية
…
وكان لولا تلك الولاية لكان لا يهدي إليه، فهذه رشوة عرضت في معرض
(1) الهداية وفتح القدير 7/ 271 والشرح الكبير 4/ 140 ونهاية المحتاج 8/ 243 والمغني 14/ 59.
(2)
الهداية وفتح القدير 7/ 371 والحاوي الكبير 16/ 284 ومغني المحتاج 4/ 392، والمغني 14/ 59.
الهدية
…
فهذا مما اتفقوا على أن الكراهة فيه شديدة، واختلفوا في كونه حرامًا، والمعنى فيه متعارض؛ فإنه دائر بين الهدية المحضة، وبين الرشوة المبذولة في مقابل جاه محض في غرض معين. وإذا تعارضت المشابهة القياسية، وعضدت الأخبار والآثار أحدهما، تعين الميل إليه. وقد دلت الأخبار على تشديد الأمر في ذلك» (1)، ثم ذكر بعض ما ورد في تحذير الشارع الحكيم من هدايا العمال، والتي منها: عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه (2) قال: «استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللُّتبية (3) فلما جاء حاسبه. قال: هذا مالكم، وهذا هدية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقًا» ثم خطبنا: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد:
(1) إحياء علوم الدين 2/ 153، 154.
(2)
عبد الرحمن بن سعد، صحابي مشهور رضي الله عنه اختلف في اسمه كثيرًا، شهد أحدًا وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، توفي في خلافة معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما. الإصابة في معرفة الصحابة 11/ 89.
(3)
عبد الله بن اللتبية - بضم اللام - بن ثعلبة، صحابي رضي الله عنه منسوب إلى بني لُتب من الأسد - بفتح الهمزة وإسكان السين - ويقال: الأزد. تهذيب الأسماء واللغات 2/ 301 والإصابة في معرفة الصحابة 6/ 202.
فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله.
فيأتي فيقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه؛ حتى تأتيه هديته إن كان صادقًا، والله لا يأخذ أحدكم منها شيئًا بغير حقه، إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر» ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه وقال:«اللهم هل بلغت» بصر عيني وسمع أذني» (1).
وعن عدي بن عميرة رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من استعملناه على عمل فكتمنا مخيطًا فما فوقه، كان غلولاً يأتي به يوم القيامة» قال: فقام رجل أسود، من الأنصار كأني أنظر إليه، فقال: يا رسول الله، اقبل عني عملك. قال:«وما لك؟» قال: سمعتك تقول كذا وكذا. قال: «وأنا أقوله الآن: من استعملناه منكم على عمل فليجيء بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ، وما نهي عنه انتهى» (2).
(1) البخاري: 6979 ومسلم: 1832 واللفظ له. والرغاء: صوت البعير، والخوار: صوت البقر، واليُعار بضم الياء: صوت المعز. فقه اللغة ص218، 220 ومختار الصحاح 249 والمصباح المنير ص232.
(2)
مسلم: 1833.
وقال ابن الهماك: «وتعليل النبي صلى الله عليه وسلم دليل على تحريم الهدية التي سببها الولاية» (2).
ولأن الأصل في الموظف: أنه يقوم بما يجب عليه للآخرين بجهة عمله، أو بما يجب عليه لصالحها. وهذا لا يجيز له أخذ الهدية عليه (3) كما لا يجوز له بالإجماع أنه يأخذ مالاً على صلاته وصيامه وإيمانه؛ لوجوبها عليه (4) والموظف يعمل في جهة عمله مقابل عوض، وائتمنته على عمله، فعليه الصبر في أدائه بأمانة وإخلاص، ولا يحل له الإخلال بما اؤتمن عليه؛ بحجة
(1) إحياء علوم الدين 2/ 154.
(2)
فتح القدير 7/ 272.
(3)
المصدر نفسه، والأم 2/ 58 ومعالم السنن 3/ 8.
(4)
الذخيرة 10/ 79 والحاوي الكبير 16/ 283.
قلة راتبه، أو كثرة عمله؛ فإنه داخل باتفاق عليهما مع جهة العمل. ولا يحل له أخذ عمولة ممن ينفذ عملاً لجهة عمله مقابل ترشيحه له إن كان الترشيح من طبيعة عمله، أو لكونه يعمل في هذه الجهة؛ فإن قبوله لذلك مخالف لمقتضى عقد عمله مع جهته؛ ولذا في المملكة العربية السعودية نص المرسوم الملكي الكريم رقم 43 في 29/ 11/1377هـ بالحظر على الموظف من أخذه الرشوة والهدايا والإكراميات، واستغلال عقود المزايدات والمناقصات لمصلحة شخصية. ورتب على متجاوز ذلك عقوبة السجن بما لا يزيد على ثلاث سنين، أو غرامة لا تزيد على عشرين ألف ريال، مع رد كل مبلغ أخذه الموظف في ذلك (1) وقد أمر الله تعالى بالوفاء في العقود فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
ثم إن كان العمل الذي يأخذ الموظف عليه هدية باطلاً، فالهدية عليه حرام، وإن كان العمل حقًا، فلا يجوز توقيفه عليها؛ لا سيما إن كان للموظف رزق في بيت المال (2).
(1) مجموعة الأنظمة المتعلقة باختصاصات هيئة الرقابة والتحقيق ص309 ونظام الخدمة المدنية ص40 المادة 12.
(2)
الأم 2/ 58 ومغني المحتاج 4/ 392.
فإن أبى هذا الموظف إلا أخذه الهدية على عمله؛ لسبب قلة راتبه أو كثرة عمله، أو بقصد أنها عمولة له، فليطلب الإقالة عن عمله؛ فإنها خير له من أخذه ذلك؛ لأنه محرم وهو من الخيانة؛ والله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]. وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استعملناه على عمل، فرزقناه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول» (1).
وقال عمر بن عبد العزيز: «كانت الهدية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، واليوم رشوة» (3) وروي عن ربيعة (4):
(1) إسناده صحيح، وتقدم.
(2)
معالم السنن 3/ 8.
(3)
البخاري 2/ 235 تعليقًا بصيغة الجزم. وينظر لسبب وروده: فتح الباري 5/ 220، 221.
(4)
لم أقف على المراد به. ولعله ربيعة الرأي؛ فهو المشهور، ابن فروخ التيمي مولاهم المدني، كان صاحب الفتوى بالمدينة، وبه تفقه مالك بن أنس، توفي 136هـ ينظر: تقريب التهذيب 1/ 246، 247 والأعلام 3/ 17.
«الهدية ذريعة الرشوة، وعُلمة الظلمة» (1).
فإن قيل: قال المستورد بن شداد رضي الله عنه (2): سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادمًا، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنًا» قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: أُخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اتخذ غير ذلك فهو غال، أو سارق» (3).
فالجواب ما قاله الخطابي: «هذا يتأول على وجهين:
أحدهما: إنه إنما أباح له اكتساب الخادم والمسكن من عمالته التي هي أجر مثله، وليس له أن يرتفق بشيء سواها.
والوجه الآخر: إن للعامل السكني والخدمة. فإن لم يكن له مسكن وخادم، استؤجر له من يخدمه فيكفيه مهنة مثله، ويكترى له مسكن يسكنه مدة مقامه في عمله» (4).
(1) فتاوى السبكي 1/ 215 ولم أقف عليه في كتب الآثار. وينظر لتشكيل العُلمة: لسان العرب 12/ 419.
(2)
ابن عمرو القرشي، حجازي نزل الكوفة، هو وأبوه صحابيان رضي الله عنهما، توفي 45هـ. تقريب التهذيب 2/ 242.
(3)
أبو داود وسكت عنه: 2944. وسكت عنه المنذري. عون المعبود 8/ 162.
(4)
معالم السنن 3/ 7 وينظر: الحاوي الكبير 16/ 285.
تنبيه:
يلحق بهذه الهدية في التحريم، قبول الموظف استضافته في سفره المار فيه في محل وظيفته عند من له حاجة متعلقة بعمله لم تنته بعد (1)؛ لأنها ذريعة للرشوة.
الهدية الثانية: الهدية للموظف ممن لا حاجة له عند الموظف تتعلق بوظيفته، وكان معتادًا أن يهدي له قبل ترشيحه أو توليته لها؛ لنحو قرابة أو صداقة، لكن زادت هديته بعد الوظيفة فوق ما اعتاده قبلها، ومال المهدي لم يزدد.
تثبت العادة في الهدية، بالمرة الواحدة، ومن المعتادة هدية القريب والصديق الذي استغنى عند إهدائه للموظف وهديته تناسب غناه؛ لأن الظاهر في المانع من إهدائه قبل الوظيفة هو فقره (2) ومن المعتادة أيضًا، زيادة الهدية لزيادة مال المهدي عند إهدائه للموظف، وتناسبها لزيادة ماله. وزيادتها: إما في قدرها كمن يهدي عشرة فأهدى اثني عشر، وإما في صفتها كمن يهدي ثوب قطن، فأهدى ثوب حرير.
(1) الحاوي الكبير 16/ 287.
(2)
فتح القدير 7/ 271، 272 ورد المحتار 5/ 374 ونهاية المحتاج 8/ 243.
فإذا زادت الهدية فوق المعتادة ومال المهدي لم يزدد، فاختلف الفقهاء في قبول الموظف لهذه الهدية، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يكره للموظف قبول الزيادة فقط، وإليه ذهب الحنفية (1).
واستدلوا: إنما كرهت الزيادة عليها؛ خشية كونها بسبب الوظيفة (2).
ولعل عدم تحريم هذه الهدية وزيادتها؛ بوجود التهمة فيها بالرشوة؛ لوجود أصل الهدية المباح قبولها.
القول الثاني: تحرم الهدية كلها، واستظهره الدسوقي (3).
واستدلوا: بقياس هذه الهدية على صفقة جمعت حلالاً وحرامًا (4) فإنه يحرم جميعها.
القول الثالث: إن كانت الزيادة في صفة الهدية، حرم الجميع. وإن كانت في قدرها، حرمت الزيادة فقط. وإليه مال
(1) فتح القدير 7/ 272 وينظر: معين الحكام ص19 والمغني 14/ 60.
(2)
ينظر: فتح القدير 7/ 272.
(3)
حاشية الدسوقي 4/ 140.
(4)
المصدر نفسه.
ابن عابدين (1) وهو مذهب الشافعية (2).
واستدلوا: إن الزيادة إذا كانت في الصفة، لم تتميز فلم يمكن فصلها. أما إذا كانت في القدر، فإنه يمكن تميزها فحرمت هي فقط؛ لأنها هي التي فيها التهمة بالرشوة؛ لأن الظاهر أنها بسبب الوظيفة، وهي حق للمسلمين وليس للموظف، فلا يحل له قبول ما أهدي إليه بسببها (3).
الترجيح: الراجح القول الثالث: تحريم الزيادة المتميزة فقط، وتحريم الكل إن لم تتميز الزيادة، وذلك؛ لقوة دليله، وجمعه بين القولين الآخرين.
الهدية الثالثة: الهدية للموظف ممن له حاجة عنده تتعلق بوظيفته، وهو من غير ذي رحمه المحرم، وكان يهدي له قبل توليته الوظيفة، وهديته لم تتغير بزيادة بعد توليته.
اختلف الفقهاء في قبول الموظف لهذه الهدية، على قولين:
(1) رد المحتار 5/ 374.
(2)
رد المحتار 5/ 374 ونهاية المحتاج 8/ 243 وينظر: حاشية الدسوقي 4/ 140 والمغني 14/ 60.
(3)
المنهاج ومغني المحتاج 4/ 392 والحاوي الكبير 16/ 285، 286.
القول الأول: يكره للموظف قبولها، وإليه ذهب الحنفية (1).
ويمكن الاستدلال له: التهمة بالرشوة منتفية هنا؛ لوجود مثل هذه الهدية قبل توليته الوظيفة؛ فظاهر هذه الهدية أنها لاستمرار ما كان قبلها لا لميل في قضاء هذه الحاجة.
القول الثاني: يحرم على الموظف قبول هذه الهدية، وإليه ذهب المالكية (2) والشافعية (3) والحنابلة (4).
واستدلوا: في هذه الهدية ممايلة للمهدي، وذريعة إلى الرشوة في الحكم عن كان الموظف قاضيًا، فيندرج في الذين اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً (5).
الترجيح: لم يظهر لي ترجيح أحد القولين؛ لتكافؤ دليلهما.
(1) فتح القدير 7/ 272.
(2)
الذخيرة 10/ 80.
(3)
الحاوي الكبير 16/ 286.
(4)
ينظر: المغني 14/ 59.
(5)
الذخيرة 10/ 80 والحاوي الكبير 16/ 286 والمغني 14/ 95.
الهدية الرابعة: الهدية للموظف من غير ذي رحمه المحرم، ولم يكن يهدي له قبل توليته الوظيفة، ولا حاجة له عند الموظف تتعلق بوظيفته.
اختلف الفقهاء في قبول الموظف لهذه الهدية، على قولين:
القول الأول: يحرم على الموظف قبولها، وإليه ذهب جمهور المذاهب الأربعة (1).
واستدلوا: التهمة بالرشوة في هذه الهدية موجودة؛ لأن سببها ظاهر، وهو الوظيفة؛ ويخشى حدوث حاجة للمهدي، فتكون وسيلة لاستمالة قلب الموظف (2).
قال ابن قدامة: «ولأن حدوث الهدية عند حدوث الولاية، يدل على أنها من أجلها؛ ليتوسل بها إلى ميل الحاكم معه على خصمه، فلم يجز قبولها منه كالرشوة» (3).
(1) ينظر: الهداية وفتح القدير 7/ 271، 272 ورد المحتار 5/ 374 والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4/ 140 والمنهاج ومغني المحتاج 4/ 392 والمغني 14/ 58، 59.
(2)
بدائع الصنائع 7/ 10 والحاوي الكبير 16/ 287 والمنهاج ومغني المحتاج 4/ 392 والمغني 14/ 59.
(3)
المغني 14/ 59.
وقال الشوكاني: «والظاهر أن الهدايا التي تهدى للقضاة ونحوهم هي نوع من الرشوة؛ لأن المهدي إذا لم يكن معتادًا للإهداء إلى القاضي قبل ولايته، لا يهدي إليه إلا لغرض
…
وأقل الأحوال: أن يكون طالبًا لقربه من الحاكم وتعظيمه ونفوذ كلامه، ولا غرض له بذلك إلا الاستطالة على خصومه أو الأمن من مطالبتهم له فيحتشمه من له حق عليه، ويخافه من لا يخافه قبل ذلك، وهذه الأغراض كلها تئول إلى ما آلت إليه الرشوة. فليحذر الحاكم المتحفظ لدينه، المستعد للوقوف بين يدي ربه، من قبول هدايا من أهدى إليه بعد توليه للقضاء، فإن للإحسان تأثيرًا في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، فربما مالت نفسه إلى المهدى إليه ميلاً يؤثر الميل عن الحق عند عروض المخاصمة بين المهدي وبين غيره، والقاضي لا يشعر بذلك، ويظن أنه لم يخرج عن الصواب؛ بسبب ما قد زرعه الإحسان في قلبه، والرشوة لا تفعل زيادة على هذا» (1).
(1) نيل الأوطار 10/ 261.
القول الثاني: يكره قبولها، وإليه ذهب الصنعاني (1).
ويمكن الاستدلال له: مثل هذه هدية تنفي التهمة بالرشوة، فلم تحرم.
الترجيح: الراجح القول الأول، تحريم قبول هذه الهدية؛ لقوة دليله، ولأن الحاجة للمهدي عند الموظف قد تحدث مستقبلاً، والأحاديث الواردة في النهي عن هدايا العمال عامة.
الهدية الخامسة: الهدية للموظف ممن لم يكن يهدي له قبل توليته الوظيفة، وبذلها للموظف بعد إنهائه حاجته المتعلقة بوظيفته.
اختلف الفقهاء في قبول الموظف هذه الهدية، على قولين:
القول الأول: يكره للموظف قبول هذه الهدية ولا يحرم، وإليه ذهب الحنفية (2).
واستدلوا: هذه الهدية ليست كالرشوة؛ لأنها تبذل بعد إنهاء الحاجة، والرشوة متقدمة عليها (3) وإنما كرهت؛ خوف الشبهة.
(1) سبل السلام 4/ 250 وينظر: حاشية الدسوقي 4/ 140.
(2)
ينظر: فتح القدير 7/ 272 والمغني 14/ 60.
(3)
ينظر: فتح القدير 7/ 272.
القول الثاني: هذه الهدية إن كانت على فعل جميل من الموظف، فإن كان واجبًا عليه، حرم عليه قبولها. أما إن لم يكن واجبًا عليه، أو كانت الهدية لغير سبب منه، كره له قبولها، غلا أن يكافئ عليها بمثلها، وإليه ذهب الشافعية (1).
واستدلوا: الموظف إن كان متبرعًا بفعله الجميل؛ يصير مكتسبًا هذه الهدية بمجاملته، ومعتاضًا على جاهه، وهما بالوظيفة، فلا تحل بهما الهدية - بلا كراهة - وإن كان فعل الجميل مما يجب عليه بوظيفته، ففي الهدية تهمة اعتياضه على أدائه الحق الواجب عليه (2).
الترجيح: الراجح القول الثاني؛ لقوة دليله، ولما فيه من سد ذريعة الاكتساب بالوظيفة، ودرء شبهة التهمة بالرشوة، ولعموم أحاديث النهي عن هدايا العمال.
(1) الحاوي الكبير 16/ 284، 285.
(2)
المصدر نفسه 16/ 283، 284.