المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوحي والإنسان: قراءة تاريخية: - الوحي والإنسان - قراءة معرفية

[محمد السيد الجليند]

الفصل: ‌الوحي والإنسان: قراءة تاريخية:

‌الوحي والإنسان: قراءة تاريخية:

إن قضية العقل والدين وتصور العلاقة بينهما ليست وليدة هذا العصر، ولا هي من خصوصياته، كما أنها ليست وليدة عصر معين ولا من خصوصيات أمة بعينها. إنها تضرب بجذورها في أعماق التاريخ من يوم أن دبّ الإنسان على ظهر الأرض.

نعم، إنها ليست من خصوصيات أمة دون أمة، ولا من خصوصيات حضارة دون حضارة، إنها إرث مشترك بين بني الإنسان منذ وعى الإنسان وجوده، وقد تأخذ العلاقة بين الدين والعقل شكل حوار هادئ أحيانا، وقد تأخذ شكل صراع عنيف أحيانا أخرى، وبالتالي فلا بد أن تختلف لغة التعبير عن هذه العلاقة من أمة إلى أخرى، ومن مستوى ثقافي إلى مستوى ثقافي آخر في داخل الحضارة المعينة حسب قرب هذه اللغة من منطق الفطرة السليمة أو بعدها عنها، فإن من مقاصد خطاب الوحي الديني التوجه إلى الفطرة السليمة التي تتجلى أنوارها في مظهر العقل وتجلياته المعرفية، فإن العقل في أسمى تجلياته نور من نور الفطرة ومظهر من مظاهرها، كاشفا عنها وعن سلامتها واستعدادها لتقبل ما هو صحيح من

ص: 10

المعارف والعلوم ورفض كل ما هو زائف منها، كما ينبئ العقل في الكثير من أحواله عن العلل والأمراض التي تعتري هذه الفطرة فتحجبها عن تقبل الحق ومعاندته ورفضه بل محاربته، وهذا أمر معروف في تاريخ العلاقة بين الوحي والإنسان على طول التاريخ.

إن جذور هذه العلاقة تمتد في أعماق التاريخ لترتبط بأبي البشرية آدم عليه السلام حيث يسجل لنا القرآن الكريم بداية هذه العلاقة في حوار هادئ بين الوحي والإنسان، فحين أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس امتنع، وقال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} فكيف أسجد له وأنا أشرف منه؟ مدعيا شرفه على آدم؛ لأن النار عنده أشرف من الطين، وبالقياس العقلي عند إبليس لا يجوز أن يسجد الأشرف للأدنى. والقصة معروفة بتكرار ذكرها في القرآن الكريم، ثم أمر الله آدم وزوجته أن يسكنا الجنة، وحذرهما من إغواء الشيطان لهما وقال لهما:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} .

وقال لهما: إن حال مقامكما في الجنة لا يعتريكما جوع ولا عراء ولا ظمأ {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} ثم أباح لهما الأكل من الجنة حيث شاء إلا شجرة واحدة نهاهما عن الأكل منها وقال لهما: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين} . وكرر القرآن الكريم تحذيره لآدم من متابعة الشيطان

ص: 11

وأعوانه فقال تعالى: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ} [طه: 117] .

ويسجل القرآن الكريم حالة من حالات الضعف البشري أمام إغواء الشيطان لآدم وزوجه، فزين لهما الشيطان الأكل من الشجرة وقال لهما:{وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ، فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} فأكل آدم من الشجرة، وعصى بذلك الأمر الإلهي كما قال تعالى:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} ثم تاب آدم من ذنبه، فتاب الله عليه:{قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . وكما سجل القرآن الكريم معصية آدم وذنبه سجل أيضا توبته من ذنبه وندمه على ما اقترف، وأن الله تقبل منه توبته واصطفاه، قال تعالى:{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] .

والقرآن الكريم يقصّ علينا هذه القصة في أسلوب تربوي تعليمي ليبين لنا حالة النفس البشرية وما يعتريها من حالات الضعف في كثير من الأحيان أمام المغريات وأمام إغواء الشيطان ووسوسته، وأن ذلك لا يجوز أن يكون مدخلا إلى حالة من اليأس أو القنوط من رحمة الله، وأن باب التوبة مفتوح أمام المذنبين.

ص: 12

كما بين لنا من جانب آخر سنة من سنن الله في كونه تتحكم هذه السنة في مسار علاقة الإنسان بوحي السماء، وتتمثل هذه السنة في أصل طبيعة النفس البشرية ومن لوازمها "الضعف" أمام المغريات، الضعف أمام المثيرات، وأن أكبر عامل نعالج به هذه الحالة هو الاستعانة عليها بالله، ومتابعة هداه، والقرآن الكريم حين سجل لنا قصة آدم قد ختمها بهذه النهاية التي تتضمن هذا القانون العام الذي يحكم علاقة الإنسان بالله، قال تعالى:{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 123-127] .

وقال تعالى في موضع آخر: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] . وتكرر ذلك في القرآن في مواضع أخرى.

ولا نريد الخوض في تفاصيل هذه القضية أو التعرض لإرادة الله في ذلك، وما الحكمة من الأمر بالسجود لآدم وامتناع إبليس عن السجود، أو الأكل من الشجرة والخروج من الجنة؛ فإن ذلك له

ص: 13

مواضع أخرى، ولكن نود أن نسجل هنا بعض الملاحظات التي تعتبر دروسا لا بد أن نعيها من سرد هذه القصة وغيرها في القرآن الكريم، ومن أهمها:

1-

أن الذنب أو المعصية لا ينبغي أن تكون مدعاة لليأس من رحمة الله حتى وإن تكررت المعصية؛ فإن باب التوبة مفتوح أمام المذنبين، ولا ييأس مؤمن من رحمة الله أبدًا.

2-

أن من لوازم النفس البشرية وخصائصها الضعف أمام المغريات وأمام عوامل الإثارة للغضب، وأن عاصمها من ذلك هو اللجوء إلى الله والالتزام بهديه.

3-

أن موقف آدم من أوامر الوحي هنا لم يكن معارضة له ولا تنكرا، وإنما كان مخالفة للأمر باتباع هوى النفس واستجابة لإغواء الشيطان له. فالمعصية هنا ليست رفضا للأمر الإلهي بدعوى أن الأمر الإلهي يعارض برهانا عقليا أو قياسا منطقيا، وإنما كانت ذنبا اعترف به آدم وتاب منه وتاب الله عليه، فاصطفاه واجتباه وعلمه هذا القانون العام:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124] .

ولا بد من التأكيد هنا على هذا المعنى الذي من أجله عصى آدم الأمر الإلهي، إنه متابعة هوى النفس وليس معارضة للوحي ولا تنكرا له ولا رفضا ولا معاندة له.

ص: 14

ونحن نعلم أن في هذه القصة بُعدا كونيا تتعلق به إرادة الحق سبحانه، فإن الأكل من الشجرة والهبوط إلى الأرض والخروج من الجنة كلها أمور ترتبت على أمر كوني إرادة الحق سبحانه من وقوع هذه المعصية لكي يهبط آدم إلى الأرض، ويعمرها كما قال سبحانه:{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 24، 25] وهذه القضية الكونية ليست مجال حديثًنا الآن، ولكن الذي ننبه إليه أن هذه المعصية كانت تسجيلا لحالات الضعف البشري أمام إغواء الشيطان، ولم تتضمن تنكرا ولا رفضا لأوامر الوحي.

وإذا تتبعنا مسيرة الوحي خلال تتابعه على الأنبياء والمُرسلين، وحاولنا التعرف على أسباب معاندة الأمم لأنبيائهم فلا نجد لديهم حجة مقبولة في منطق العقل، وإنما نشأت معاندتهم للوحي إما لأن الوحي يطالبهم بالتخلي عما ألفوه وورثوه عن الآباء من عادات وتقاليد موروثة وعقائد مألوفة، وإما متابعة للهوى وتحصيلا لرغائب النفوس وتحصيلا لشهواتها.

ومن المعلوم أن نفوس بني آدم متباينة وأهواءها متعارضة ومتنوعة ولكل عصر أهواؤه ورغباته، ولكل بيئة اجتماعية أهواؤها ورغباتها التي تنعكس في سلوكها وعاداتها وتقاليدها وفي علاقات الأفراد والجماعات بعضهم مع بعض، وهذا ما أكده القرآن الكريم في

ص: 15

قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] . وهذا أيضا قد أكده الواقع الاجتماعي للأمم والشعوب.

فهناك أصحاب النفوس الفرعونية الذين لا يرضون من الغير إلا الخضوع المُطلق، والاستسلام التام، فلا يرى أتباعه إلا ما يرى هو ولا يحسنون إلا ما جعله لهم حسنا ولا يقبحون إلا ما يراه هو قبيحا، رافعا شعار السياسة الفرعونية {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر: 29] .

وهناك أنماط من البشر يحبون المال حبا جما بحيث يكون جمع المال، واكتنازه من أي طريق كان هدفا مقصودا لهم وغاية منشودة، بحيث يصير المال هو إلههم ومعبودهم.

وهناك نمط من البشر وصفه القرآن الكريم بأنه: {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} .

وهناك من يطغى أن رآه استغنى، وهناك

وهناك. وكل هذه النماذج البشرية إذا جاءها الوحي بما يعارض أهواءها رفعت شعار الرفض والمعارضة، فإذا أضفت إلى هذه النماذج ما تجده في نفوس بني آدم من حب التعصب للجنس أو اللون أو المذهب والقبيلة أدركت الصعوبات التي واجهها الأنبياء من أصحاب هذه الأهواء. فإن شأن أهل الأهواء في كل عصر معارضة أصحاب المبادئ

ص: 16

ومعاندتهم، فضلا عن معارضتهم لأوامر الوحي ونواهيه مع الأنبياء والمُرسلين، ومن المفيد أن نسجل هنا في هذه العجالة بعض المُلاحظات التي تستوقف الباحث في تاريخ العلاقة بين الوحي والإنسان:

1-

المُلاحظة الأولى:

إن الأنماط البشرية التي عارضت الأنبياء والمُرسلين فيما مضى هي نفس النماذج البشرية التي عارضت مبادئ الإصلاح ورفضت الدعوات الإصلاحية في العصور التالية على يد ورثة الأنبياء من الدعاة والمصلحين. وهؤلاء المعارضون للوحي صنفان من الناس:

أ- أهل الأهواء وأصحاب العصبيات المختلفة.

ب- أصحاب الملك والسلطان في كل عصر.

أ- ولقد ساق القرآن الكريم أمثلة ونماذج من الصنف الأول الذين آثروا اتباع الهوى والتعصب له، على دعوة الحق والانصياع لما جاء به الوحي، وحين تستقرئ ما قصه القرآن عن هذه النماذج وعن الأسباب التي عارضوا الرسل من أجلها تجد بينهم شبه اتفاق على هذه الأسباب التي جسدها القرآن في متابعة الآباء وتقليدهم.

قال تعالى حاكيا عن قوم هود: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ، قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ

ص: 17

كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ، أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 65-69] .

فرفعوا لواء المُعارضة في وجه هذه الدعوة الصادقة، وقالوا لنبي الله هود:{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70] .

وكذلك كان موقف أهل مدين من نبي الله شعيب، قال تعالى:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 84-86] . فماذا كان موقفهم من هذه الدعوة الإصلاحية؟ لقد رفعوا لواء المُعاندة والمُعارضة: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] .

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] .

ص: 18

وكذلك فعل أهل ثمود مع نبي الله صالح، قال تعالى:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ، قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: 61، 62] .

وكذلك فعل بنو إسرائيل مع نبي الله موسى، قال تعالى:{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ بِآياتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ، قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ، قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس: 75-78] .

وهكذا تكررت هذه المواقف من نبي إلى نبي، ومن أمة إلى أمة، ونجد السبب واحدا، إنه الإلف والتعود والتعصب لما ورثوه عن جيل الآباء والأجداد، من عادات وعقائد وقعوا أسرى لها دون أن يتساءلوا حولها ليعرفوا موقعها من الصواب والخطأ، والحق والباطل.

وإنما كفاهم أنها مواريث الآباء ومُقدسات الأجداد، وكان موقفهم من دعوة الرسل هو الرفض والمُعاندة. وقالوا لرسلهم:

ص: 19

{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [إبراهيم: 10] .

وقالوا لنبي الله شعيب: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} .

وقالوا: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف: 88-90] .

وقالوا لرسلهم: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13] . إنها نفس القضية تتكرر مع جميع الأنبياء؛ التشبث بالمواريث والتقاليد والتعصب لها، ومحاربة كل دعوة إصلاحية جديدة تحمل معها رياح التغيير والإقلاع عن هذه المواريث.

ب- أما النمط الثاني من المُعارضين للوحي فهم أصحاب الملك والسلطان والرياسات الموجودون في فئات كثيرة من أبناء المُجتمعات البشرية، خاصة أصحاب النزعة الفرعونية منهم، الذين يسوسون رعاياهم تحت شعار:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} وهؤلاء تجدهم في كل عصر، وفي كل طبقة اجتماعية مُعينة، وتجدهم بين أصحاب الحرف كما تجدهم في طبقة المُشتغلين بالعلم، ولكن أشدهم وطأة وأكثرهم بطشا أصحاب السلطان السياسي من الحُكام المستبدين بشعوبهم، والذين لا يرضيهم من الشعوب إلا أن يكونوا قطيعا من الغنم حتى وإن أوردهم ساستهم

ص: 20

موارد الهلاك والدمار، فلا يرضى السلطان إلا بالخضوع المُطلق، فلا يسمع بين الناس إلا صوته ولا يقبل أن يسأل عما يفعل وهم يسألون. إنه المنطق الفرعوني الذي يتكرر على مدار التاريخ، وغالبًا ما يدور في فلك أصحاب النفوذ في كل مجتمع طبقة من الذيول والأتباع أو المريدين المحبين، يجعلون همهم الأكبر تلمس مواطن رضى رئيسهم، فيكونون حيث يريد وحيث يحب ويهوى، ويتنافسون في أن يزينوا له سوء عمله ليراه حسنًا ويراه الأتباع مقبولًا، وهؤلاء موجودون في كل فئة من فئات المجتمع، ووجودهم حول السلطان الأكبر أكثر وخطرهم على الرعية أشد قسوة من خطر السلطان نفسه؛ لأنهم ينطلقون في البلاد يعيثون فيها فسادا باسم السلطان وفي حمايته، وكم قاست الشعوب وذاقت مرارة الظلم والقهر من بطش هؤلاء الأتباع، ومع كثرة هؤلاء واشتداد قسوتهم يزداد إحساس الشعوب بالقهر والظلم، ومن المعلوم أن نفوس بني آدم متنوعة ومواقفهم متباينة، فإذا وجدت شخصًا في أمة يعارض هذا اللون من السياسة الفرعونية، فإنك تجد بجانبه الجمهور الأعظم من الناس يؤثرون الصمت، ويفضلون الفوز بإحدى الحسنيين، وهي السلامة من بطش السلطان، وربما ينضم إلى قافلة "المريدين" والمسبحين باسمه.

ص: 21

ولقد وجدنا القرآن الكريم يقص علينا سلوك هذا النمط من الناس مجسدا في سيرة فرعون مع نبي الله موسى، وكيف زين له أتباعه سوء عمله فرآه حسنا، فادعى الألوهية، وقال لقومه: ما علمت لكم من إله غيري، وقال لهم: أنا ربكم الأعلى.

وحين يقص القرآن علينا هذه المواقف المتعددة، فإنه يختمها ببيان العواقب الوخيمة التي آلت إليها مصائر هذه الأمم الماضية؛ لنأخذ منها العبرة ونعي دروس التاريخ، فقال سبحانه في حق قوم نوح:

{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} [يونس: 73] .

وقال في سورة الشعراء: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 119-121] .

وقال في حق قوم عاد: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ، فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 71، 72] .

ص: 22

وقال في سورة الحاقة: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، َهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 6-8] .

وقال في الشعراء: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 139] .

وقال في حق قوم ثمود: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 75-78] . وقال في سورة الحاقة: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة: 5] .

وقال في حق قوم لوط: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ، فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 82-84] .

وقال في سورة العنكبوت: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ، إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ

ص: 23

الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 33-35] .

وقال في سورة الشعراء: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 170-174] .

وقال سبحانه وتعالى عن مصير هؤلاء جميعًا: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] . وتأمل معي هذه الخاتمة في كل موقف: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً} ، أو قوله:{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أو {عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} أو {عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} وهذه كلها تنبيهات وإشارات لكي تعي الأمة الإسلامية الدروس، وتأخذ العبرة من التاريخ.

ومن الأمور اللافتة للنظر حقا أن هذين النمطين؛ أهل الأهواء، وأصحاب السلطان تكررت مواقفهم مع الأنبياء قديما وتنكرت مواقفهم مع ورثة الأنبياء في العصور التالية، وكما أشرنا سابقا فإن كل نفس فيها ما في نفس فرعون من حب العلو في الأرض وحب الرياسة والاستكبار، فإذا وجدت من يزين لها ما تهوى، وإذا وجدت

ص: 24

من يعينها على تحصيل ما تحب وترغب، فإنها تسارع في ذلك وتوالي وتعادي على ذلك، خاصة إذا وجدت بين بني قومها من هو مؤهل للقيام بهذا الدور -وما أكثرهم في كل فئة- وعرفت كيف تستعين بهم على تحصيل رغائبها وتحقيق أحلامها، وكلما ازداد هؤلاء الأتباع تزلفا وتزيينا لها ازداد إحساسها بالفرعونية، وصدق الله العظيم:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} وعند ذلك تتحول هذه الجوقة من الأتباع إلى بؤرة لصناعة الفراعين الذين يسوسون الرعية حسب هواهم، وهذا أمر موجود في كل العصور يحسه كل من {أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} قد يختلف الأسلوب، قد تتغير المناهج حسب طبيعة العصر وظروف المجتمع والبيئة، وقد تغلف هذه الأساليب في مصطلحات وعبارات اجتماعية رنانة. لكن تظل الأهداف والمقاصد واحدة وهي سياسة الأتباع بمبدأ فرعون {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} .

2-

الملاحظة الثانية:

إذا تتبعنا أحوال الأنبياء والمرسلين مع أقوامهم، سوف نجد اتفاقا بين المعارضين للوحي في كل أمة على وصف الرسل بصفات معينة.

فقد وصفوا الرسل بالسحر تارة، وبالجنون تارة أخرى، أو بالسفاهة والبحث عن الزعامة.

كما اتفقوا على وصف أتباع الأنبياء واتهامهم بأنهم سفهاء القوم، وأراذل الناس، تكرر ذلك كثيرا مع أنبياء الله وأتباعهم. قال

ص: 25

تعالى حاكيا قوم نوح: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27] .

وقالوا لنبي الله صالح: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 153-158] .

وقالوا لنبي الله شعيب: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 185-190] .

وقالوا لنبي الله هود: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [هود: 53، 54] .

وكذلك كان موقف فرعون، وقومه من نبي الله موسى عليه السلام: {قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ

ص: 26

مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 34، 35] .

وقال فرعون للملأ حوله: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} وقال لموسى: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} والقصة تكرر ذكرها في القرآن كثيرا؛ ليستفيد منها فراعين التاريخ في كل العصور، ويعوا الدرس والعبرة، ويقفوا على سنن الله في كونه فقد يمهل الله الظالم، وقد يملي له، ولكنه أبدا لا يهمله.

وإذا أتينا إلى موقف مشركي مكة من خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم نجد نفس الاتهام ونفس الصفات السابقة تتكرر على ألسنة المشركين، فهو صلى الله عليه وسلم عندهم: ساحر والقرآن سحر يؤثر، وإما شاعر، أو مجنون، أو طالب زعامة ورياسة.

فلقد اجتمعت قريش؛ كبراؤها ووجهاؤها وحاولوا أن يثنوا الرسول عن أداء وظيفته الرسالية وقالوا ما توهموه في رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كنت تريد مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه "مسا من الجنون" بحثنا لك عمن يبرئك منه، إنها نفس الاتهامات الموجهة إلى الرسل من قبل. والذي يقرأ ما نزل في مكة من آيات القرآن الكريم يعرف تماما ما واجه الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه

ص: 27

الافتراءات والأكاذيب، ولقد لفت القرآن نظرنا إلى هذه الاتهامات، وكيف أنها تتكرر من رسول إلى رسول، ومن أمة إلى أمة، وكأنها ميراث مشترك بين معارضي الأنبياء. قال تعالى:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 52-55] .

ومن الأمور اللافتة للانتباه أن هذه الدعاوى تتكرر -هي هي- مع ورثة الأنبياء فيما بعد. فالمصلحون في كل عصر متهمون إما بالجنون، أو بحب الزعامة والبحث عنها، أو بالتطرف والخروج عن المألوف للأمة، وفي العصر الحاضر ظهرت أوصاف مثل عصرية، حداثية. فهم بين ظلامي متخلف، أو أصولي رجعي.

ومما لا يحتاج إلى تكرار هنا أن الذين يحملون إثم المعارضة للوحي في عصرنا هم نفس النماذج التاريخية فيما مضى، هم أهل الأهواء، وأصحاب السلطان في كل فئة. وعليك أن تدور بناظريك وتتأمل ما يجري حولك من حوار، وإن شئت فقل: صراع ثقافي بين فئات المجتمع في كل عصر وبين حملة الوحي؛ لتعرف أن هذه النماذج ليس معها إلا أتباع الهوى تحت أي اسم كان، وتحت أي شعار رفعوه {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} ، {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} .

ص: 28

إن قصة الصراع بين الحق والباطل قديمة جديدة معا، إنها تتجدد في كل عصر؛ لأنها سنة من سنن الله في كونه، إنها سنة التدافع بين الحق والباطل، وهذه القضية ترتبط بالوجود الإنساني نفسه، ومن طلب نهاية لها فقد طلب المستحيل ما دام الإنسان حيا متحركا على ظهر الأرض. ولقد لفت القرآن نظرنا إلى هذه الحقيقة الكونية في قوله تعالى:{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40، 41] .

وهذا شأن كل تجمع بشري، أن يظهر فيه من الخلافات والصراعات ما يعبر بالضرورة عن اختلاف أهواء الناس وتعارض مقاصدهم وغاياتهم، وفي بوتقة هذا الصراع يبتلي الله أهل الحق بأهل الباطل؛ ليتم تمحيص الناس وابتلاؤهم بعضهم ببعض، ليميز الله بين أهل العزائم والإرادات الصادقة، وأهل الأهواء والإرادات الفاسدة. قال تعالى:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] .

ص: 29

وقال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3] وكما قال سبحانه: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11] .

ويرشدنا القرآن الكريم إلى أمر مهم له أثره في تثبيت قلب المؤمن ما دام مستمسكا بحبل الله المتين، ذلك أن الكثرة في أهل الباطل ليست دليلا ولا برهانا على أنهم طلاب حق، حتى وإن كان صوتهم عاليا أو أصحاب قوة وسلطان، وأن القلة في أصحاب الحق ليست دليلا على أنهم طلاب باطل. فالقرآن الكريم يضع أمامنا حقيقة على جانب كبير من الأهمية في بعث الاطمئنان والسكينة لدى أهل الحق وإن كانوا قلة. قال تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] وقال سبحانه: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] . من هنا نعلم أن طلاب الحق في كل عصر قلة إذا قيسوا بأهل الأهواء؛ لأن طلب الحق فضلا من الاستمساك به يحتاج إلى مجاهدة النفس وترويضها على ذلك، فقد يكون الحق خلاف هواها، وقد يكون الحق معارضا لرغباتها ومضادا لمصالح الإنسان الدنيوية. عند ذلك تحتاج النفوس إلى ترويض ومجاهدة لا يقدر عليها إلا أصحاب العزيمة القوية، والإرادة الصادقة، ولا بد في ذلك من الاستعانة بالله كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ

ص: 30

جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وكما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم:"اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا"، وقوله:"اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا أقل من ذلك".

3-

الملاحظة الثالثة:

يلاحظ المرء المتابع لسيرة الأنبياء وجدال المشركين لهم أن القضايا التي كانت مثار الشبهات والشكوك واحدة، بحيث لا نجد نبيا إلا قد ابتلي بمن عارضه في هذه القضايا، وهي:

1-

قضية الألولهية، ووجود الله ووحدانيته.

2-

قضية النبوة.

3-

قضية البعث.

1-

أما قضية الألوهية، فإننا نجد أنماطا متنوعة من البشر تنوعت مواقفهم من الإيمان بوجود الله ووحدانيته.

فمن هؤلاء من أنكر وجود الله كلية وقالوا: ليس هناك إله معبود ولا رب خالق، كالدهريين الذين قالوا:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} وكالطبيعيين القائلين بأن الطبيعة هي الخالق أو أن الأشياء وجدت هكذا بطبعها، وهم أقرب الطوائف إلى الدهريين.

ص: 31

ومن هؤلاء من قال: إن العالم وجد بالصدفة المحضة، وليست له غاية مقصودة منه ولا حكمة من وجوده، وهؤلاء أصحاب المذهب العبثي الخالص الذي عبر عنه الشاعر الجاهلي قديما بقوله:

أرى المنايا خبط عشواء من تصب تمته

ومن تخطئ بعمر فيهرم

فما هي إلا أرحام تدفع، وقبور تبلع.

أو كما قال الشاعر:

حياة ثم موت ثم بعث

حديث خرافة يا أم عمر

وأصحاب هذه الآراء يتفقون على نفي الحكمة والقصد ونفي الخالق، وهي آراء قديمة تتجدد في كل عصر، وفي كل الأمم، والقائلون بها قلة في كل مجتمع من شذاذ العقول، ومنهم من ينتمي إلى أهل الأديان وضعية كانت هذه الأديان أو سماوية، وهم الصوت الشاذ في الحضارة الإنسانية على امتداد تاريخها؛ لندرتهم وقلة عددهم؛ ولذلك فإن تاريخ الحضارات في كل أمة يحتفظ بأسماء هؤلاء لقلة عددهم، فيذكر اسمه ويصفه بأنه دهري، أو طبيعي، أو ثنوي

إلخ.

أما المتألهون من المفكرين، فلا يدخلون تحت الحصر؛ لأنهم الجمهور الأعظم في كل أمة.

ص: 32

ومن الناس من يؤمن بوجود الخالق، لكنه لا يعبده بل يخص غيره بالعبادة، وقد يعبده مع غيره من الشركاء، كالأصنام، أو الكواكب، أو بعض المخلوقات، فهؤلاء يثبتون وجود الرب الخالق لكنهم أشركوا معه غيره في عبادته، ولم تستوعب عقولهم إخلاص العبادة للخالق وحده، وقالوا لرسله متعجبين:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص: 5-7] وكانت هذه الحجة تتكرر على ألسنة الأمم المختلفة مع رسل الله في كل عصر، وكما كانت دعوة كل الرسل:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] كانت حجة المشركين في كل أمة: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 70] .

ومن اللافت للنظر أيضا أننا لم نجد في تاريخ الرسل من دعا قومه إلى الإيمان بوجود الخالق، وإنما كانت دعوة جميع الرسل هي إخلاص العبادة لله وحده، ذلك أن منكري وجود الخالق كانوا قلة كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، ومن هنا لم يعبأ بهم التاريخ وإنما كانت قضية الرسل الأولى: رفع الشرك في العبودية بحيث لا يعبد إلا الله وحده، واكتفى القرآن الكريم في رده على منكري الخالق بعبارات موجزة لكنها جامعة، فقال لهم: {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ

ص: 33

مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11]، وقوله:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36] .

2-

قضية النبوة:

أما الشبهة الثانية فكانت قضية النبوة، فمن الناس من أنكرها أصلا كالبراهمة وغيرهم، وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، وأدهشهم أن ينزل الوحي على بشر من الناس، وقالوا: أبشر يهدوننا؟

ومنهم من قال بنبوة بعض الأنبياء وأنكر نبوة البعض الآخر، كأهل الكتاب من يهود ونصارى، حيث آمن أهل كل دين بنبيهم وأنكروا نبوة غيره من الرسل، ومن المشركين من فضل أن يكون النبي ملكا رسولا ولا يكون بشرا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وقالوا:{لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} وقالوا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} فرد عليهم القرآن الكريم بقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] .

وبجانب هؤلاء وأولئك كان هناك من أنكر على محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الرسل أن يختصهم الله بالرسالة دون غيرهم من وجهاء القوم وسادات الأمة، وقالوا:{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} ؟

{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ؟

ص: 34

{فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} ؟

فلماذا تتخطى الرسالة وجهاء مكة، وسادتها إلى محمد؟

ولماذا لا يكون الرسول المصطفى من أثرياء القوم ومن كبرائهم، إنها إذن قضية نفسية تحركها عوامل الحقد والحسد على هذا الرسول.

ولذلك بدأت الحملات المسعورة ضد الرسل، فهم إما ساحر أو مجنون، أو طالب مال أو باحث عن زعامة

إلخ، وقالوا لرسلهم:{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} ، {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ} ، وقالوا: إن هو إلا رجل منكم يريد أن يتفضل عليكم، وقالوا:{مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} .

لقد غاب عن هؤلاء أن مقياس التفاضل بين الناس في حياتهم الدنيا بين الفقر والغنى ليس دليلا على أفضلية الغني على الفقير، ولا القوي على الضعيف، ولا صاحب السلطان على من لا سلطان له، إن هذا المقياس الأعمى لا علاقة له بقضية الاصطفاء للرسالة. فالله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، ولقد لفت القرآن نظرنا إلى هذه القضية في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ

ص: 35

رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 30-32] . وإذا كان شأن الناس في أمور دنياهم يتفاوت بين الفقر والغنى، فإن شأن الاصطفاء للرسالة له مقاييس أخرى، وهذه الشبهة قديمة تتجدد مع كل رسول، كما تتجدد مع أتباع الرسل والمصلحين والدعاة في كل العصور.

3-

القضية الثالثة:

أما الشبهة الثالثة فتتعلق بالبعث واليوم الآخر، فقد أنكر المعاندون للوحي هذه القضية جملة وتفصيلا، وكان الحوار حولها مع أنبيائه ورسله إحدى محارات العقول، كما كان أحد مثارات الشبه والشكوك، ولقد لخص القرآن موقف المنكرين للبعث في آيات كثيرة جاءت في صيغ متنوعة وبأسلوب استفهامي متعدد، تتفاوت دلالته بين الإنكار والرفض أحيانا، وبين التعجب والدهشة أحيانا أخرى.

فقالوا: {يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} .

وقالوا: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} .

وقالوا: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] .

وليس من قصدنا أن نأتي بتفصيلات حول هذه القضايا الثلاث، وكيف حكاها القرآن على لسان أصحابها أو كيف فندها

ص: 36

وأبطلها وإنما كان المقصد والغاية أن تتعرف على أن مثارات الشبه ومعارضة الأنبياء كانت واحدة وإن اختلف أسلوب التعبير من عصر إلى عصر، ومن رسول إلى رسول. وأرى أن القارئ الكريم قد ثار في نفسه سؤال ضروري قد يطرح هنا: لماذا تقدم لنا هذه الملاحظات وتأتي على ذكر هذه القضايا في مقدمة هذه الدراسة؟

ولكي نوضح للقارئ الكريم غرضنا من ذكر هذه الملاحظات، فإننا نطرح عليه سؤالا آخر: هل اختلفت هذه المشكلات التي أثارها المعاندون للوحي قديما عن المشكلات التي يثيرها المعاندون للوحي في عصرنا الحاضر؟

وهل هناك مشكلات جديدة فيما نقرؤه اليوم تختلف عما قرأناه بالأمس عنها في تاريخ الأنبياء؟ وهل نقرأ جديدا فيما يكتبه المعاندون للوحي في عصرنا الحاضر، أم هي مشكلات قديمة تتجدد مع الإنسان كما قلنا، لاكتها الألسنة قديما وعبثت بها الأقلام والعقول حديثا؟

لعل الإجابة على هذا السؤال توضح الغرض الذي من أجله عانينا المشقة في هذه المقدمة وأتينا على هذه الملاحظات لنضعها أمام القارئ المعاصر؛ ليعرف أن هذه المشكلات التي يثيرها المعارضون للوحي اليوم ليست جديدة على الفكر الإنساني، وأنها قد أثيرت في مواجهة الأنبياء قديما وليس غريبا أن تثار في مواجهة

ص: 37

ورثة الأنبياء في العصور التالية. إنها نفس المشكلات، ونفس القضايا، ونفس الاتهامات التي وجهها المعاندون للأنبياء قديما، هي بعينها التي يوصف بها ورثة الأنبياء فيما بعد.

لقد ظهر في تاريخ الأنبياء من أنكر وجود الله وقال بالدهر أو بالطبيعة أو بالمصادفة. وظهر في عصرنا الحاضر من أنكر وجود الله أو كما سماه بعضهم "بالمطلق" أو المفارق، وقال: إنه غيب والغيب عنده خرافة ينكرها العقل ويأباها الواقع. بل زاد بعضهم على ذلك وجعل إيمان المسلمين بالغيب سببا في تخلفهم عن الحضارة وعدم مواكبتهم لعصر النهضة، وجعل الإيمان بالغيب رمزا للجمود والرجعية، وقال: إن الدعوة إلى الإيمان بالغيب هي دعوة للتخلف ومحاربة العقل والعقلانية، وأصحاب هذه الدعوة ظلاميون رجعيون.

كما سمعنا من بعضهم من قال: إن الله فكرة وهمية ينبغي أن يتخلص منها العقلاء.

ولقد ظهر في تاريخ الأنبياء من أنكر النبوة والوحي، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء. وظهر في عصرنا من تنكّر لقضية النبوة والوحي، وقال ويقول بتاريخية الأديان، أي: إنها ظاهرة تاريخية أفرزتها طبيعة المجتمعات الإنسانية لظروف اجتماعية معينة، وينبغي أن تختفي هذه الأديان بمجرد أن تختفي أسبابها التاريخية وليس هناك كتاب مقدس ولا وحي متبع، وينبغي أن يجعل العقل إلهنا بدلا من

ص: 38

اتباع النقل، ولا بد من التخلص من هذه الظواهر التاريخية التي تعود بنا إلى الماضي بدلا من أن تقودنا إلى الأمام، وبدلا من أن تتوجه إلى السماء نعبد فيها إلها مفقودا ينبغي أن نتوجه إلى الأرض فنهتم بالإنسان الموجود. وينادي بعضهم بتأنيس الإله أو تأليه الإنسان، إنها ثورة على العقائد الموروثة التي تكبل حركة العقل وتعوق مسيرة التقدم! فما الفرق إذن بين الموقفين، ما الفرق بين المعاندين للوحي قديما والمعاندين للوحي في عصرنا الحاضر؟!

ولقد ظهر في تاريخ الأنبياء من أنكر البعث واليوم الآخر، وقالوا:{إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} .

ويوجد الآن بين أظهرنا من لا يؤمن باليوم الآخر كلية، ويدعو إلى التخلص من هذه الخرافات التي لا يقبلها العقل، إذ لا يعرف العقل المعاصر معنى لما يسمى بالضرورة الدينية، أو الغيب فالإنسان مادة تفنى بفناء الجسم ولا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار. وليس وراء الحياة الدنيا شيء ينبغي أن نعمل لأجله أو نخشاه، وما هي إلا هرطقة يأباها العقل والعلم معا، وصرح بعضهم بأن هذه القضية كانت ولا زالت أحد عوامل التخلف للمسلمين.

ولقد ظهر في تاريخ الأنبياء من وصف رسل الله بالسفاهة والضلالة، والجنون، والسحر وحب الزعامة والرياسة، ويوجد بين أظهرنا الآن من يصف ورثة الأنبياء بما وصف به رسل الله سابقا من السفاهة، والضلالة، والجنون.

ص: 39

ولقد ظهر لنا من قراءة تاريخ الأنبياء أن الذين عاندوا الوحي وحاربوا الأنبياء كانوا أحد نمطين كما سبق؛ إما أصحاب هوى جاء الوحي بما يعارض أهواءهم، وإما أصحاب ملك وسلطان رأوا في تعاليم الوحي ما يزلزل أركان سلطانهم. وعليك أن تتأمل معي أطراف الصراع القائم الآن بين أتباع الوحي ومعانديه لتعرف أنهم إما صاحب هوى يتبع هواه وإما صاحب سلطان، ويندرج تحت كل نمط منهما أطراف وأتباع. وهذا ما يدعونا إلى القول مطمئنين أنه لا جديد في تاريخ الحواريين بين الوحي ومعانديه؛ لأنه ليس صراعا بين أشخاص بعينهم، وإنما هو صراع بين المبادئ والأهواء، بين أصحاب المبادئ وأهل الأهواء في العصور المتتابعة، وهذه قضية بدأت بظهور الإنسان في هذا الكون ولن تختفي ما دام الإنسان على ظهر الأرض، وصدق الله العظيم:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ} [هود: 118، 119] ولقد صاغ القرآن الكريم قانون الإيمان والكفر في قوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] كما صاغ قانون الوفاء والجحود في قوله سبحانه: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] .

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34] .

ص: 40

وهذا هو الدرس المستفاد مما قصّه القرآن علينا من تاريخ الأنبياء: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] . إنها أحد ملامح الوعي بالتاريخ، تاريخ الصراع بين الحق والباطل، تاريخ العلاقة بين أصحاب المبادئ وأهل الأهواء. ولقد علمنا القرآن الكريم أنه ليس هناك أحد {أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] .

وإذا كان تاريخ العلاقة بين الوحي والإنسان فيما مضى، قد بين لنا أن أهم أسباب المعاندة للوحي تركزت في اتباع الأهواء ومحبة العلو والاستكبار التي تفرز لنا عبادة السلطة، فقد انضم إلى هذه الأسباب في عصرنا الحاضر أسباب أخرى أفرزتها طبيعة الاحتكاك بين الحضارات المختلفة، وساعد في بروزها عوامل التأثير والتأثر، عوامل تأثير الحضارات المنتصرة في الحضارات المنهارة، فزكاها محبة تقليد الشعوب المهزومة عسكريا ونفسيا للشعوب المنتصرة، وهذه ظاهرة تاريخية تركت بصماتها على الحضارة الإنسانية في تاريخها الطويل.

ففي العصر العباسي -خاصة بعد حركة الترجمة- ظهر في تاريخ الفكر الإسلامي قضية التوفيق بين الفلسفة اليونانية الوافدة والدين، أو بين العقل والدين، أو بين الوحي والعقل، وكان أبرز رواد

ص: 41

هذه الحركة الفلاسفة المشاءون أمثال الفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد، كما عالجها علماء الكلام -خاصة المعتزلة- وبعض أئمة الأشاعرة كالرازي والجويني، وكذلك عالجها من علماء السلف شيخ الإسلام ابن تيمية. ولقد اختلفت المنطلقات الفكرية لكل مفكر في تناوله لهذه القصة، فهناك من جعل العقل أصلا وتأول الوحي لصالح العقل، وهناك من جعل الوحي أصلا وتأول مفاهيم العقل لصالح الوحي، وهناك من فصل القول وناقش المسألة على وجوهها المختلفة فجعل للعقل ميدانه الذي لا يخطئ فيه، وجعل للوحي ميدانه الذي هو أصل ومرجع أساس فيه، ومن هنا اختلفت أساليب المعالجة وتنوعت مناهج المفكرين حول هذه القضية.

أما في عصرنا الحاضر فقد تشابهت فيه المسائل إلى حد كبير مع عصر الترجمة في العصر العباسي، وظهرت فيه مقولات تشبه إلى حد كبير تلك المقولات التي ظهرت في عصر الترجمة، ويعيش العالم الإسلامي الآن حالة نفسية من الانهزامية التي جعلته مستعدا لتقبل كل ما يقال ويتردد في الحضارات المختلفة خاصة الحضارة الأوروبية المعاصرة، والتي تمثل في عصرنا دور المنتصر والحضارة الغالبة، والتي يطالب البعض بأن تكون هي النموذج والمثال الذي يجب تقليده واتباعه. فبعد حركة الترجمة في العصرالعباسي ظهرت مقولة أن العقل يعارض النقل، وكان المراد بالعقل

ص: 42

في هذه المقولة العقل اليوناني المترجم والذي تمثل في آراء أرسطو وأستاذه أفلاطون في الإلهيات بصفة خاصة، وفي عصرنا الحاضر ظهرت مقولة أن العلم يناقض الوحي، أو أن الدين يعارض العلم، وهذه المقولة استعارتها الأقلام العربية من حضارة الغرب بعد أن أفرزتها قصة الصراع بين الكنيسة والعلم في العصور الوسطى، وطبعا كان الدين الذي يعارض العلم في أوروبا ليس هو الإسلام بالقطع، ومن الإنصاف أن نقول: إنه أيضا ليس دين المسيح ابن مريم، وإنما كان دينا اخترعته الكنيسة ونادى به رجالها.

وكما قبل الفلاسفة المشاءون قديما مقولة أن العقل يعارض الدين، فقد انخدع كثير ممن يحملون الأقلام في عصرنا وقالوا: إن الدين -وهم هنا يقصدون الإسلام- يعارض العلم.

وكما صدق الفلاسفة قديما هذه المقولة، وحاولوا تأويل النقل لصالح العقل اليوناني، فإن كثيرين في عصرنا الحاضر قبلوا مقولة أن الدين يعارض العلم، وحاولوا تبعا لذلك رفض الدين دون أن يفرقوا بين الإسلام وغيره من الأديان الأخرى.

ثم أخذ بعض المفكرين من علماء النفس والاجتماع يستعيرون تفسيرات مفكري الغرب للدين أو ما أسموه ظاهرة الدين بعد أن فقدوا الثقة في دينهم الذي ورثوه عن الكنيسة في العصور الوسطى، وتعددت التفسيرات واختلفت الاجتهادات، فعلماء النفس جعلوا قضية

ص: 43

الدين والتدين حالة نفسية تصاب بها الشعوب في حالة الهزائم النفسية، والسياسية.

أما علماء الاجتماع، فجعلوا الدين ظاهرة تاريخية أفرزتها الظروف الاقتصادية والاجتماعية وينبغي أن تختفي هذه الظاهرة باختفاء أسبابها، وتبنت بعض المدارس الاجتماعية في العالم العربي هذه الآراء التي استعارتها من الغرب، وحاولت أن تفسر في ضوئها ظهور الإسلام، وما دامت أسباب ظهوره قد انتهت فينبغي أن يختفي الإسلام تبعا لها. هكذا يقول العلمانيون في مؤتمراتهم وندواتهم ومؤلفاتهم، فالإسلام عندهم ظاهرة تاريخية، والقرآن الكريم منتج ثقافي لا يعلو على نقد العقل، وينبغي أن يطور العالم الإسلامي نفسه من مرحلة الاعتقاد إلى مرحلة الثورة على العقيدة، كما فعل الغرب.

لقد ارتفعت أصوات كثيرة في عالمنا العربي تنادي بهذا، وكلما ساءت أحوال العالم الإسلامي اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا علا صوت هؤلاء المستغربين بوجوب تقليد الغرب المتقدم اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا؛ ليجعل منه القدوة والمثل، ومع كثرة الهزائم التي تحلّ بالمسلمين شرقا وغربا يزداد ضجيج المعاندين للوحي وترتفع أصواتهم مطالبين بأن يكون الغرب قبلتنا ثقافيا واجتماعيا ودينيا كما هو قبلتنا اقتصاديا. أما أن نسمع صوتا واحدًا ينادي بأن يكون الغرب

ص: 44

قبلتنا سياسيا فتتمتع شعوب العالم العربي بالحرية كما يتمتع بها الغرب، أو ينعم بالديمقراطية كما ينعم بها الغرب، فهذا ما لم نسمعه من أحد بعد.

وهذه الدراسة الموجزة محاولة متواضعة أتينا خلالها بتوضيح العلاقة التاريخية بين العقل والنقل ومهمة كل منهما، وما هي وظيفة العقل وعلاقته بعالم الشهادة وعالم الغيب، وحاولت فيها أن أوضح فلسفة الإسلام في موضوع المعرفة وغايتها وموضوعها.

وعلاقة الوحي والعقل بهذه القضية وعناصرها المختلفة، وأن لهذا العالم عالم الشهادة باعتباره موضوعا للمعرفة، وظائف متعددة: منها وظائف كونية، ومنها وظائف اجتماعية، وأخرى عرفانية، وأن حاجة النفس إلى الاعتقاد حاجة فطرية ضرورية، وأن الموقف المعرفي كله تختلف فلسفته في الحضارة الإسلامية عنها في الحضارة الغربية من ناحية الأهداف والمقاصد، وكذلك من ناحية الوسائل والمناهج. وليغفر لنا القارئ الكريم ما يجده في هذه العجالة من تقصير، وليكن عذرنا بين يديه نبل المقصد، وسمو الهدف، والله من وراء القصد وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 45