الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعرفة بين العقل والوحي:
من المهم في هذا السياق أن نبين أن المعرفة الإنسانية تتنوع مصادرها وأدوات تحصيلها، فأحيانا نقول: هذه معرفة حسية خالصة، إذا كان موضوعها المحسوسات وأدواتها الحواس، كرؤيتنا للنار وللشمس والهرم. وأحيانا نقول: هذه معرفة عقلية خالصة، إذا كان موضوعها هو المعاني والمعقولات المجردة كعلمنا بالعدل وأنه خير، والظلم وأنه شر، وكعلمنا بأن النقيضين لا يجتمعان أبدا ولا يرتفعان أبدا، وأحيانا نقول: هذه معرفة حسية عقلية معا، كعلمنا بالمعارف التجريبية مثل أن النار محرقة، وأن الثلج بارد، والشمس تبعث الحرارة
…
إلخ.
ومن الملاحظ أن كل هذه المعارف الحسية المتنوعة ترتبط بالواقع الحسي وتبدأ منه وتعود إليه بسبب ما، أما المعارف العقلية الخالصة فلا علاقة لها بالمحسوسات أصلا لا بدءا ونهاية، وإنما هي إدراك عقلي مجرد عن الحسيات ولواحقها.
ولكن هناك لون آخر من المعرفة يتعلق بما وراء المحسوسات، يتعلق بعالم الغيب، وليس التعرف على هذا العالم
معزولًا عن العقل ولا منقطع الأسباب بالعالم الحسي كما يخيل للبعض أن يزعم ذلك، ولكن منهجه في التعرف عليه وعلى مسائله يختلف عن منهج التعرف على عالم المحسوسات أو عالم الشهادة بلغة أهل الاصطلاح. إن الخلاف فقط خلاف في المنهج والوسائل، وإذا أحسن الباحث توظيف المنهج العلمي في التعرف على عالم الشهادة، والتعرف على وظيفة هذا العالم وأهداف وجوده ومقاصده والغاية الإلهية من وجوده، فإن ذلك يقوده بالضرورة إلى التعرف على عالم الغيب وقضاياه.
ولما كان هذا العلم عزيز المنال على كثير من العقول، صعب التحصيل لكثرة ارتباط العقل بالمحسوسات، كان دور الوحي في التعرف عليه مهما وضروريا؛ ليقود العقل إلى ما غاب عنه، ليقرب إليه ما بعد عنه وليكشف له عما وراء حجب المحسوسات، وليست حاجة العقل إلى الوحي هنا تعني الطعن في العقل أو التقليل من شأنه كما يحاول البعض أن يصور القضية، وكأنها صراع بين العقل والوحي. لا، إن القضية ليست طعنا في العقل ولا تهوينا من شأنه، إنها فقط توزيع وظائف، إنها أشبه بوضع كل أداة من أدوات المعرفة في مكانها المناسب لها ومحاولة الإفادة منها في مكانها وبوضعها الطبيعي المخلوقة من أجله، وكما قلنا: إن هناك معرفة حسية خالصة أدواتها الحواس، وهناك معرفة عقلية خالصة أدواتها العقل ومعرفة
حسية عقلية يشترك في تحصيلها العقل والحواس معا، فكذلك هناك معرفة غيبية لا ينالها العقل بمفرده بل لا بد له من الاستعانة بالوحي؛ لكي يتعرف عليها بواسطته ويؤمن بوجودها. هذا إذا كنا نتعامل مع عقل مؤمن بالوحي والرسالة، أما إذا كان الخطاب مع عقل غير مؤمن، فإن ذلك له مستوى آخر من الخطاب ليس هذا موضعه.