المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مستويات الغيب: أ- غيب نسبي: هناك ما يسمى بالغيب النسبي وهو ما - الوحي والإنسان - قراءة معرفية

[محمد السيد الجليند]

الفصل: ‌ ‌مستويات الغيب: أ- غيب نسبي: هناك ما يسمى بالغيب النسبي وهو ما

‌مستويات الغيب:

أ- غيب نسبي:

هناك ما يسمى بالغيب النسبي وهو ما غاب عن الحواس في عالم الشهادة، ويدخل في ذلك الماضي والمستقبل، فكلاهما غيب بالنسبة للحواس، وكذلك الأمر بالنسبة للحاضر، فهو غيب بالنسبة لمن لم يشاهده، لكنه ليس غيبا لمن عاصره وعاشه. فهناك أمور معاصرة للشخص المعين لكنه لم يشاهدها لغيابه عنها، فتكون غيبا بالنسبة له وليست غيبا لمن شاهدها، والشخص الواحد قد يكون الأمر المعين غيبا بالنسبة له في وقت دون آخر، وهكذا شأن الإنسان في عالم الشهادة، فالغيب بالنسبة له أمر نسبي إضافي، قد يكون الأمر غيبا بالنسبة لشخص دون شخص، وقد يكون الأمر غيبا للشخص الواحد في وقت دون وقت، وعلاقة العقل بهذا النوع من الغيب النسبي متفرع عن علاقته بعالم الشهادة، فما غاب عنا وجربه غيرنا لزمنا العمل بمقتضاه عند العلم به.

وما تواتر العلم به عن الأمم الماضية من أخبار الأنبياء عنهم هو مما يلزم العلم به، وما يتنبأ به العلماء بناء على المشاهدات العلمية المتكررة هو من هذا القبيل بناء على اطراد السنن الإلهية في الكون سواء تعلقت هذه السنن بالظواهر الطبيعية أو بالمجتمعات البشرية؛ لأن سنة الله في كونه لا تتخلف إذا وجد المقتضي وارتفع المانع، وهذا هو محل اعتبار الإنسان الذي ندبه القرآن إليه في نهاية

ص: 81

كل قصة يقصها عن الأمم الماضية، حيث يقول سبحانه وتعالى:{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار} [الحشر: 2]{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً} تكررت كثيرا في سورة الشعراء. هذه التعقيبات القرآنية على قصص الأمم الماضية تلفت نظرنا إلى الغرض من سوق هذه القصة، أو تلك ليقوم العقل بوظيفته فيها فكرا وتأملا واعتبارا، وذلك ما ندبه الشرع له وحثه عليه.

ب- الغيب المطلق:

وهو ما لا سبيل للعقل إلى العلم به عن طريق الحواس بحال ما، أو هو ما استأثر الله بعلمه وحجبه عن جميع خلقه، قال تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]، {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] .

أ- والغيب قد يطلق في القرآن الكريم ويراد به مكنون العلم الإلهي الذي استأثر الله به عن سائر خلقه، يستوي في ذلك الرسول والنبي والولي، إلا من شاء ربك منهم فيعلمه الله ما شاء من علمه كيف شاء، كما قال تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] . فهذا العلم الإلهي غيب عن الإنسان لا ينال بحس ولا عقل، ولا سبيل إليه إلا بالتعليم الإلهي لمن شاء من عباده عن طريق الوحي أو الرؤيا أو الإلهام، فهو ليس اكتسابا ولكنه وهب

ص: 82

وعطاء، لا مدخل لروافد العقل المعرفية إليه، ولكن هناك أبواب أخرى لتحصيل هذه المعرفة يدخل منها أهلها ويسعى إليها عشاقها، كما في قوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151] فهذا العلم لا ينال بكسب عقلي ولا يتخيله عقل ولا يناله وهم، وإنما يتعلم من الله بطريقه المعروف ووسائله المشروعة.

ب- وقد يطلق الغيب في القرآن الكريم ويراد به الذات الإلهية وصفاتها، وعلى ذلك كثير من المفسرين في قوله تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 2، 3] فقالوا: إن الغيب هنا هو الله، نقل ذلك ابن تيمية عن جماعة من الحنابلة منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني1، وخالفهم في ذلك جماعة آخرون رفضوا إطلاق لفظ الغيب على الله.

ويبدو أن الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي. ذلك أن الذين أجازوا إطلاق لفظ الغيب على الله، رأوا أن الخلق يغيبون عن الله في معظم أحوالهم، فلم يذكروه ولم يعبدوه ولم يشهدوه في أفعالهم، فهو سبحانه ليس بنفسه غائبا عنهم حفظا ورزقا ولطفا وعونا، وإن كانوا هم غائبين عنه إنابة وتوكلا، وذكرا وعبادة.

1 راجع دقائق التفسير 1/ 202، ومنهج القرآن في تأسيس اليقين ص41.

ص: 83

فالمعنى المقصود في استعمال لفظ الغيب على الله هو انتفاء شهود الخلق له في معظم الأحوال، وهذا صحيح وواقع.

أما الذين رفضوا إطلاق لفظ الغيب على الله، فكان قصدهم أنه حاضر مع كل كائن في كونه {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7] . فهو سبحانه مع خلقه علما ورزقا ولطفا وإحياء وإماتة، وهو سبحانه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فهو سبحانه شهيد على العباد رقيب عليهم، ومع كل كائن في كونه بهذا المعنى، فهم الغائبون عنه وليس هو الغائب عنهم، ولذلك لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على الله، وهذا المعنى صحيح أيضا.

وعند التحقيق لا نجد خلافا بين أصحاب الرأيين. فأصحاب الرأي الأول يجيزون استعمال لفظ الغيب على الله لغياب الخلق عنه، وأصحاب الرأي الثاني يرفضون ذلك؛ لأنه سبحانه ليس غائبا عن الخلق وإن كان الخلق غائبين عنه. وكلا الرأيين صحيح على هذا التفسير، فصارت المسألة خلافا لفظيا فقط.

ص: 84