الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوحي والكون: قراءة معرفية
لقد انتقلت المعركة بين الكنيسة والعلم من الغرب إلى العالم الإسلامي على أيدي المستشرقين وتلامذتهم، انتقلت المعركة على أنها صراع بين الدين والعلم، واستعملت كلمة الدين هنا بالمعنى المطلق واختفت كلمة الكنيسة تماما واستعمل مكانها لفظ الدين بالمعنى العام، ثم استعملت كلمة الإسلام بدلا من الدين في مرحلة تالية لتصبح المعركة بين الإسلام والعلم بدلا من أن تكون بين الكنيسة والعلم كما هو معروف تاريخيا، وتوالت الكتابات لتؤسس هذه العلاقة التناقضية بين الإسلام والعلم وتولى إثم هذه الفرية مجموعة من العلمانيين العرب في مصر ولبنان والمغرب وتونس وكلهم ممن تأثر بالمستشرقين، فتغذى منهم بهذه الأفكار المسمومة ولم يحاولوا أن يفرقوا في موقفهم العلماني بين الإسلام والكنيسة من جانب ولا بين علماء الإسلام ورجال الكنيسة من جانب آخر، وإنما ثبتوا هذه الفرية الظالمة وعملوا على إذاعتها في أجهزة الإعلام والندوات والمؤتمرات ليخرج جيل جديد من المشتغلين بالثقافة في
العالم العربي فيتبنى هذه القضية وكأنها إحدى مسلمات العصر التي لا تقبل نقاشا ولا حوارا، فإما العلم وإما الدين، وحمّلوا الإسلام أوزار المسلمين فجعلوه سببا للتخلف والركود الذي أصاب المسلمين.
ومن هنا وجب علينا أن نوضح موقف الإسلام من العلم والمعرفة؛ ليعرف الخاصة والعامة ما في دعاوى هؤلاء من تضليل وأكاذيب ساعد على الترويج لها المناصب التي ائتمنتهم عليها الدولة، فخانوا الأمانة واستغلوا مناصبهم فجعلوها منابر لهم ولمن يسير في فلكهم، فيردد أكاذيبهم ويعتقد صحة أفكارهم. وسوف نعالج علاقة الوحي بالكون في هذه العجالة من جانبها المعرفي لتتعرف على منهج القرآن في تأسس المعرفة بالكون وتوظيفه لأداء مهام معينة ترتبط بمقاصد الشارع من جانب، وتدور كلها حول تحقيق مصالح الإنسان ودفع المضار عنه من جانب آخر. وسوف تجد أن منهج القرآن في قضية المعرفة يختلف عن المدارس الفلسفية في كثير من جوانب هذه القضية وغاياتها ومقاصدها.
إذ من المعلوم أن المعرفة لها أركانها الأساسية التي تتم خلالها عملية المعرفة ويكتمل بها الموقف المعرفي، وكثيرا ما تقرأ في الحديث عن نظرية المعرفة أن أهم عناصر الموقف المعرفي هي:
1-
وسائل المعرفة.
2-
موضوع المعرفة "الكون".
3-
الذات العارفة.
4-
غاية المعرفة ومقاصدها.
وتختلف وجهات النظر بين المفكرين حول هذه العناصر الأربعة حسب ثقافة المفكر انتمائه المذهبي، فهذا مادي حسي وذاك عقلي مثالي وثالث حدسي فطري
…
إلخ.
والتصور الإسلامي للموقف المعرفي قد يلتقي مع بعض هذه المدارس في تفسيرهم للموقف المعرفي وقد يختلف مع البعض الآخر، وهذا أمر طبيعي؛ فإن حديث الإنسان عن الموقف المعرفي مهما علا شأنه لا بد أنه يحمل معه طابع هذا الإنسان ولون ثقافته ومذهبه الفكري، كما يعبر عن وجهة نظره التي تأثر بها وانحاز إليها، وهذا الخلاف يفسر لنا تعدد وجهات النظر الفلسفية حول الموقف المعرفي بكامله، بالتالي يفسر لنا الفوارق الأساسية بين الحضارات الإنسانية من عصر إلى عصر، ومن بيئة ثقافية إلى أخرى.
فالحضارات الإنسانية تستمد أصولها وأهدافها ومقاصدها في الموقف المعرفي، من وجهة نظر الإنسان التي تحمل معها طابعه ولون ثقافته وعوامل بيئته الزمانية والمكانية. أما في الحضارة الإسلامية فإنها تستمد أصولها وغايتها ومقاصدها المعرفية من الوحي المنزه عن التأثر بوجهات النظر الإنسانية المتعالي على عوامل الزمان والمكان.
وبالتالي فإن وظيفة الإنسان في الموقف المعرفي ليست مرتبطة بتحقيق غايته وأهدافه الشخصية بقدر ما هي مرتبطة بتحقيق أهداف الوحي، ومقاصده من الموقف المعرفي.
إن أهداف الإنسان ومقاصده من المعرفة قاصرة على تحقيق مطالبه هو، ومقاصده هو، وأهوائه هو، حتى ولو كان ذلك على رقاب الآخرين ومقاصدهم. أما أهداف الوحي ومقاصده فهي تحقيق الخير لكل بني الإنسان، وتوظيف المعرفة لصالح كل بني الإنسان. فأهداف الوحي ومقاصده عامة للإنسان من حيث هو إنسان، مؤمنا كان أو كافرا، بخلاف المذاهب الفلسفية الأخرى فإن مقاصدها خاصة وغاياتها قاصرة على أتباعها فقط.
ففي تصور الإسلام لقضية المعرفة ومقاصدها نجد الإنسان مؤتمنا على هذا الكون، مكلفا بعمارته، مطالبا باكتشاف قوانينه كما هو مكلف بتوظيف العلم والمعرفة حسب أوامر الوحي وليس حسب أهواء العلماء ومقاصدهم، يوظف الكون لتحقيق خير الإنسان عامة وليس لتحقيق جموحالمهووسين. نعم إن هناك فارقا كبيرا بين تصور الإسلام لأهداف المعرفة ومقاصدها وأهداف العلماء ومقاصدهم من المعرفة، ولعل الفارق يبدو واضحا بين عالم يوظف علمه ومعرفته لصالح الإنسان وعمارة الكون، وعالم آخر يوظف علمه لتدمير الإنسان وخراب هذا الكون، فالعالم الثاني يحقق بعلمه
أهدافه الشخصية ومقاصده من المعرفة وتوظيفها، أما العالم الأول فيحقق أهداف الوحي ومقاصده ليعم النفع لكل بني الإنسان.
والقرآن الكريم يربط في تناسق عجيب بين أركان المعرفة السابقة ووظيفة الإنسان من جانب وبينه وبين الكون كموضوع للمعرفة من جانب آخر، كما يربط بين هذين الركنين وأهداف المعرفة وغايتها من جانب ثالث؛ ليكتمل بذلك وحدة الموقف المعرفي في موضوعه، وفي غايته، وفي وسائله، ويكون الإنسان نفسه باعتباره سميعا بصيرا عاقلا ذاتا عارفة، وتتوحد به ومعه وسائل المعرفة وأدواتها، وباعتباره جزءا من هذا العالم يكون هو نفسه موضوعا للمعرفة، وفيه يتوحد الموقف المعرفي كله وبه تتحقق أهدافه ومقاصده، فيكون هو الذات العارفة وهو وسيلة المعرفة، وهو موضوع المعرفة، وبه تتحقق غاية المعرفة، فالموقف المعرفي كله يتوحد في الإنسان.
الإنسان ومسئوليته عن الكون:
أ- الكون الطبيعي:
لقد خلق الله الإنسان على نحو جعله قابلا ومستعدا للمعرفة، وهبه أدوات تحصيل المعرفة من الحواس والعقل، قال تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] .
وكما خلق الله الإنسان على هذا النحو، فقد وضعه أمام مسئوليته المباشرة عن حسن توظيف أدوات المعرفة وتحصيل المطلوب منها، فقال سبحانه وتعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36] .
ومن المفيد هنا أن نلاحظ عند قراءة الآيتين السابقتين من سورة النحل وسورة الإسراء نجد أن أدوات المعرفة التي ذكرت فيهما جاءت بنفس الترتيب: "السمع. البصر. الفؤاد" وتكرر ذكر هذه الأدوات بنفس الترتيب في القرآن الكريم كثيرا.
وحين نلاحظ وظائف هذه الأدوات ودورها في تحصيل المعرفة نجد أن حاستي السمع والبصر تتعلق وظائفهما بعالم الشهادة فقط، فأنت تسمع وتبصر ما هو موجود متعين في عالم الشهادة. أما الفؤاد فيتعدى هذا العالم الحسي إلى تحصيل المعارف المجردة عن الحواس، إلى معرفة القوانين والعلاقات الكامنة بين الأشياء المحسوسة، إلى تحصيل المعارف الكلية، إلى معرفة الخصائص والطبائع. أما حاستا السمع والبصر فيقتصر دورهما على تحصيل المعارف الجزئية الحسية الآنية اللحظية فقط، أما الفؤاد فيتجاوز في وظيفته كل المعارف الجزئية إلى المعارف الكلية كما يتجاوز المعارف الآنية اللحظية إلى الماضي والمستقبل، ويتعرف على الماضي كما يتصور المستقبل ويتخيله. وبذلك يستطيع الإنسان أن
يجمع في أطراف الموقف المعرفي الزمن بعناصره الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، ومن هنا يستطيع أيضا أن يستخلص من الموقف المعرفي الدرس المستفاد من الماضي ليضيء به الحاضر، ويرسم به المستقبل لتتحقق غاية المعرفة، وأهدافها المطلوبة.
ولقد وضع القرآن الكريم أمام الإنسان مجموعة من التساؤلات التي يتعلق بعضها بالكون الطبيعي، ويتعلق بعضها الآخر بالكون الاجتماعي، والتي ينبغي أن يشغل نفسه بالتأمل فيها ويحاول البحث عن الإجابة عنها خلال توظيفه لأدوات المعرفة التي منحها الله له.
وخلال تأملنا لهذه التساؤلات القرآنية نجدها تتعلق بمواقف متنوعة يعيشها الإنسان في صباحه ومسائه، قد يتنبه المرء إلى بعضها فيقف أمامها متسائلا متعجبا، وقد يغيب عن بعضها الآخر فلا ينشغل بها ولا يفطن إليها، فيسوقها القرآن إليه في شكل سؤال يحتاج إلى إجابة لا بد أن يشغل المرء بها نفسه؛ لأن طرح هذه التساؤلات والانشغال بها تسهم إلى حد كبير في اكتمال الموقف المعرفي، وتقود الإنسان إلى تحقيق المقاصد والغايات الإلهية من الموقف المعرفي؛ لأنها تنبه الإنسان إلى النظر فيما يشاهد من ظواهر كونية يتأملها بعقله، ويتساءل حولها: كيف خلقت؟ لماذا خلقت؟ ومن خلق؟ ولماذا جاءت على هذا النحو من الوجود دون
غيره؟ وما سر ارتباطها بما سبقها وما لحق بها من الظواهر
…
إلخ هذه التساؤلات، والقرآن الكريم يسوق لنا هذه التساؤلات في صيغة الأمر الإلهي المباشر.
فكما أمر بالصلاة والزكاة والحج أمر كذلك بالنظر والتساؤل حول هذه الظواهر الكونية، ولا فرق عندي بين صيغة الأمر في الحالتين من حيث ضرورة وجود ما أمر به الوحي وتحصيله إلا من حيث إن الأمر بالصلاة والزكاة يتعين على كل مسلم القيام به، والأمر بالتساؤل هنا حول مظاهر الكون وظواهره يكفي في القيام به بعض من أهل الاختصاص والعلماء والباحثين. فالأمر بالعبادات فرض عيني والأمر بالتساؤل فرض كفائي، لكن ذلك لا يعني عدم وجوده، ولا يعني خلو المجتمع ممن ينهض بهذه المسئولية.
وإذا كان الفرض العيني يتعين على كل فرد القيام به ويتعين مسئوليته عنه أمام الله، فإن الفرض الكفائي يتعين على مجموع الأمة القيام به، وتتعين مسئولية الأمة عنه أمام الله. وإذا كانت مسئولية الفرض العيني مسئولية شخصية فردية، فإن مسئولية فرض الكفاية مسئولية جماعية يتعين على شخص الحاكم والراعي أن يكلف من ينهض بها نيابة عن مجموع الأمة إذا لم يتقدم أحد للنهوض بها. وتلك قضية على جانب كبير من الأهمية في النهوض بالأمة والترقي
بها من مستوى الجهل إلى مستوى العلم؛ ذلك أن الأمر الإلهي بالنظر والتفكر قد تكرر وروده في القرآن بصيغ متعددة وأساليب مختلفة وحول قضايا متنوعة، تناول عالم الشهادة بأنواعه المختلفة، بدءا من الأمر بالنظر في بدء الخلق وبدء خلق الإنسان وكيفية الخلق:
قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [العنكبوت: 20] .
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] .
{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17-20] .
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ
زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 6-11] .
ومن اللافت للنظر في هذه الأوامر الإلهية، وفي هذه التساؤلات أنها جاءت أحيانا في صيغة الأمر المباشر {قُلِ انْظُرُوا} وأحيانا في صيغة الاستفهام الإنكاري الذي يفيد التعجب من عدم الانشغال بهذه التساؤلات {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا} مما يتضمن اللوم والعتاب، وأحيانا يجيء في صيغة الأمر المؤكد باللام ليفيد الإلزام والإيجاب {فَلْيَنْظُرِ
…
} .
ولا شك أن تعدد الصيغ وتنوعها حول هذه التساؤلات يشير إلى ضرورة الانشغال بها والاهتمام بها كجزء أساسي في تنوير الوعي بالكون، وتثقيف العقل الجماعي للأمة، وبناء الجسور التي يعبر خلالها الإنسان من رؤيته الحسية لعالم الشهادة إلى بناء رؤيته العقلية لما وراء عالم الشهادة. وهذا ركن أساسي في بناء الموقف المعرفي، أن يجعل عالم الشهادة منطلقا له إلى عالم الغيب، أن يتخذ عالم الشهادة دليلا له لإثبات ما وراءه، ومنهجه في ذلك هو طرح هذه التساؤلات القرآنية على العقل لينتقل من المحسوس إلى اللامحسوس، ومن الشهادة إلى الغيب في شكل تتوحد فيه الرؤيتان معا: الحسية والعقلية بحيث لا تنفصل إحداهما عن الأخرى، رؤية الحواس لعالم الشهادة وظواهره ومظاهره، ورؤية العقل والفؤاد لما وراء عالم
الشهادة، فلا يقتصر الموقف المعرفي على مجرد الرؤية الحسية للأشياء مجزأة منفصلا بعضها عن بعض، بل لا بد من الرؤية العقلية أيضا لتجمع شتات المحسوسات في شكل كلي منظم دقيق ينبئ عن حكمة صانعه، ويدل على العناية الإلهية بالكون والقصد الغائي منه، وهذا لا يتأتى إلا بالمزاوجة بين رؤية الحواس ورؤية العقل معا. ولعل هذا يفسر لنا السر وراء جمع القرآن بين الإدراك الحسي، والإدراك العقلي معا ولم يفصل بينهما أبدا، فجاء بذكر الفؤاد أو الأفئدة بعد السمع والبصر في كل موارد هذه الحواس في آيات الذكر الحكيم.
ب- الاجتماع البشري:
وكما أمر القرآن بالنظر في الكون الطبيعي والتساؤل حول بدء الخلق وأصله وكيفيته، فقد أمر أيضا بالنظر والتساؤل حول سنن الله الكونية وعن قوانين الاجتماع البشري وآثارها في تاريخ الأمم الماضية، وكيف قامت الممالك واستقرت، وكيف بادت وانحدرت، وكيف ازدهرت الحضارات، ولماذا انهارت وانكسرت.
وما سبب قيام الممالك واستقرارها، وما سبب انهيارها وزوالها ليأخذ المسلم من تاريخ الممالك درسا وعبرة يستضيء بهما في استقرار حاضره وبناء مستقبله. ولقد نبه القرآن في آيات كثيرة إلى هذه القضية خلال ما قصّه علينا من تاريخ الأمم الماضية.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم: 9، فاطر: 44] .
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39] .
وتكرر الأمر بالنظر في عاقبة المكذبين، والمفسدين، والمجرمين؛ ليبين لنا القرآن الكريم أن الظلم والفساد والبغي في الأرض بغير الحق وتكذيب الرسل، كل ذلك وما يترتب من سلوك اجتماعي يتناقض مع أوامر الوحي كان سببا في انهيار الممالك واندثار الحضارات، والعلاقة الثابتة بين استقرار الممالك وسيادة العدل والإنصاف مطردة لا تتخلف أبدا فهي أشبه بالعلاقات السببية الكامنة في الكون الطبيعي، فإذا ما وجد السبب حصلت النتائج سواء كان ذلك على مستوى الكون الطبيعي، أم على مستوى الكون الاجتماعي.
قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف: 59] فربط سبحانه بين هلاك الأمم وانهيار الممالك والظلم، وكان ضياع العدل وسيادة الظلم سببا طبيعيا في انهيار الملك، ولك أن تتأمل معي أسباب انهيار الملك في تاريخ الأمم الماضية والحاضرة أيضا، وكيف نبه القرآن الكريم إليها وأشار إلى خطورة إهمالها أو غضّ الطرف عنها من قبل المسئولين. ومن أهم هذه الأسباب سيادة الظلم وضياع العدل؛ مما يترتب على ذلك ضياع الحقوق والأمانات
ويأس الضعفاء وطمع الأقوياء وتفشي المحسوبية والوساطات، وهذا أخطر ما تصاب به المجتمعات؛ ولذلك فقد ربط القرآن الكريم بين الظلم والإهلاك في أكثر من آية. قال تعالى:
{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 13] .
{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف: 56] .
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39] .
وهذه إحدى السنن الكونية في الاجتماع البشري، وهي لا تتخلف أبدا، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا. ولا يغيب عن الذهن أن السنن الكونية لا علاقة لها بالدين أو الثقافة، فمتى وجدت أسبابها وقعت النتائج، سواء كانت الأسباب في أمة كافرة أو أمة مسلمة؛ لأن أسباب استقرار الملك أو انهياره لا علاقة له بدين ولا ثقافة. ولذلك كان من مواريث أمتنا أن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة، وهذا أمر ينبغي أن يستقر في أذهان الجميع حتى إذا نظر المسلم المعاصر حوله في شرق البلاد وغربها، فوجد بلاد أوروبا وأمريكا قد استقرت فيها الممالك وازدهرت فيها مظاهر العمران، وسادت لغة العلم فلا يعتبر ذلك خروجا عن السنن الإلهية في الكون، فهذا أمر طبيعي، حيث ساد العدل واختفى الظلم، وأصبح العالم آمنا في بيته، وآمنا على عرضه، وآمنا على ماله، وكان للإنسان هناك قيمة، ولكلمة العلم وصوت العالم أثر، وتلك مؤشرات الاستقرار والأمان.
وعلى العكس من ذلك لا ينبغي أن يعجب المرء إذا رأى التخلف والهلع النفسي والاضطراب الاجتماعي سائدا في بلاد كثيرة من أوطان المسلمين، فليس ذلك شيئا غريبا عن مسار السنن الكونية ولا هو شذوذ عن منطقها، حيث يسود الظلم، والخسف، والتنكيل، والتغريب، والتصفية الجسدية أحيانا لمن يرفع صوته في وجه الظالم ليقول له: قف وارحم الرعية من ظلمك.
وعليك أن تدور ببصرك، وإن استطعت فببصيرتك لترى أين مكانة العلم ومكانة العالم في بلاد المسلمين وأين نظيرها في بلاد غير المسلمين، وكم ينفق على البحث العلمي والعلماء في بلاد المسلمين وفي غير بلاد المسلمين، وسوف تجد نفسك بعد هذه المقارنة البسيطة موقنا تماما أن سنة الله لا تتخلف في كونه أبدا، وسوف تؤمن معي أن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة، وهذا قانون عام له أثره الفعال في طبائع العمران البشري ازدهارا أو انهيارا، يستوي في ذلك المجتمع المؤمن والمجتمع الكافر على حد سواء؛ لأن سنن الله محايدة لا تجامل أحدا.
ولم يكتفِ القرآن الكريم بالإشارة إلى هذا المبدأ فقط، وإنما أشار إلى كثير من المبادئ التي هي بمثابة القوانين الاجتماعية العامة، وإن شئت فقل: هي أسباب تتعاون فيما بينها لتشكل مجموعة
السنن الاجتماعية التي يترتب عليها استقرار الممالك أو انهيارها، وإذا كان مبدأ العدل يأتي في مقدمتها فهناك أيضا مجموعة من الضوابط السلوكية التي تتعلق بالأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية بعضهم ببعض، مثل ظهور الفساد، وتفشي المنكر، واللامبالاة، وضياع رابطة الأخوة الدينية، وسيادة عيشة الترف والرفاهية التي تتحول على يد المترفين من مستوى الوسائل إلى مستوى الغايات والمقاصد؛ مما يترتب على ذلك من خلل في ترتيب الأولويات في المجتمع، حيث تتحول الوسائل إلى غايات ومقاصد؛ وبالتالي تتنافس الأفراد والمجتمعات في أمور لا يجوز التنافس فيها وتتناسى أمورا هي أولى بالتنافس والاهتمام، وذلك كله بسبب الخلل الواقع في ترتيب الأولويات في المجتمع. ومن هنا سادت مظاهر الانحلال والفساد كما قال تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] .
هذه القوانين الاجتماعية وضعها القرآن الكريم أمام المسلم ليتأملها بعين البصيرة كما يتأمل القوانين الطبيعية تماما بعين البصر، فكلاهما خاضع لقانون السببية. وكما أن الأسباب لا تتخلف عنها مسبباتها في الكون الطبيعي إلا عند حدوث المعجزة، فكذلك الأمر في الكون الاجتماعي، إذا وجدت أسباب انهيار الممالك كالظلم، والفساد، واللامبالاة، وتفشي المنكرات، وضياع العلم وإهمال دور العلماء
…
إلخ، فلا بد أن تتبع المسببات أسبابها وهذا ما حذر منه
القرآن الكريم في أكثر من آية، وتكررت إليه الإشارة في أكثر من صيغة؛ لتفيد كلها معنى التحذير من الغفلة عنها، قال تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، وقال سبحانه وتعالى:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 127] . وتكرر ذلك في القرآن كثيرا، ومن له خبرة باللغة ودلالة هذه الصيغ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا
…
} {أَوَلَمْ يَسِيرُوا
…
} يعلم تماما أهمية الإشارات القرآنية إلى اكتشاف السنن الكونية التي نبه إليها القرآن وأثرها في العمران البشري. ولكن للأسف الشديد لقد غفل المسلمون عن النظر في هذين النوعين من القوانين: قوانين الكون الطبيعي، وقوانين الكون الاجتماعي، أو تغافلوا عنهما أو أريد لهم وبهم أن ينصرفوا عن ذلك؛ فكان واقعهم المتردي علميا واجتماعيا هو النتيجة الطبيعية لهذه الغفلة.
ولا ينبغي لأحد أن يتشدق بلغو الحديث فيربط بين هذا الواقع المؤلم الذي يعيشه المسلمون والإسلام ليجعل الإسلام سببا في هذا الواقع؛ فإن الإسلام بريء مما فيه ومما عليه المسلمون من هذا التخلف والانهيار، ولو كان للإسلام الكلمة العليا لما وقع المسلمون في هذا القيد الحديدي من التخلف والانهيار الذي يعيشون فيه.