الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوحي حاجة نفسية:
لا شك أن التوازن النفسي من أهم السمات التي تميز الشخصية السوية في السلوك وفي التفكير، والتوازن النفسي مظهر إنساني يعمل على إبرازه والتحلي به عاملان مهمان جدا:
الأول: الاستقرار والأمان والسكنية. وهي علامات ومظاهر خارجية يلاحظها الناس على الشخص الذي يتميز بهذا التوازن النفسي، وتنعكس هذه المظاهر النفسية على سلوك الشخص وفي حديثه وتفاعله مع الآخرين، وطريقة كلامه، حتى إنك بمجرد أن ترى شخصا موصوفا بهذه الصفات وتبدو عليه هذه المظاهر تضفي عليه هذه الصفة "الهدوء النفسي" أو "التوازن النفسي".
أما العامل الثاني: فهو الاطمئنان القلبي الذي يظهر أثره في منهج التفكير وطرائق التعبير عما يدور في القلب من أفكار. وإذا كان العامل الأول يظهر أثره في السلوك الشخصي فإن العامل الثاني ينعكس أثره على العقل والإدراك، بحيث يتصل العامل الأول بالنفس الإنسانية وآثارها على الجسم الإنساني، بينما يتصل العامل الثاني بالعقل وطرائق تفكيره في تحصيل اليقين الذي ينبني عليه اطمئنان
القلب ويقينه، وهذان العاملان من أهم عوامل تحقيق السعادة للإنسان.
ذلك أن النفس الإنسانية تتعدد رغائبها وتتنوع، وتختلف مراداتها وقد تتعارض، فهي لا تشبع أبدا من تحصيل الرغبات وتحقيق المرادات، وكلما حصلت على رغبة تخطّتها إلى غيرها وهكذا؛ لأن هذا من تمام كونها نفسا، حتى إن بعض العلماء عرف النفس بأنها الحركة سواء نطقت نَفْسا أو نَفَسا بالسكون أو بالفتح، وذلك باعتبار أن الحركة من لوازم النفس ومن خصائصها. فإذا ما تسلطت حركة النفس على صاحبها واستخدمته في تحقيق رغباتها التي لا تنتهي فإن حياته تنقلب إلى شقاء أبدي، فيسعى لاهثا في تحصيل مطالبها. وهي التي لا تشبع أبدا، ولكي تستقر حياة الإنسان ويتحقق لنفسه التوازن المطلوب ليشعر بالسعادة، لا بد له من كبح جماح هذه الرغبات، ليس بإماتتها أو محاربتها وقتلها، وإنما بترشيدها وترويض النفس على الاعتدال في مطالبها. وهذا لا يتحقق للمرء إلا بالسيطرة على نفسه وأن يملك زمامها، والمدخل الطبيعي إلى حسن قيادة النفس هو الاعتقاد بما جاء به الوحي، والإيمان به والعمل بمقتضاه، فتكون أوامر الشرع ونواهيه هي الغذاء الروحي والرياضة النفسية التي تضبط حركة النفس وتقوّم المعوج منها، هي الماء العذب الذي يطفئ حرارة الشهوة ويكبح جماحها، هي البرد الذي ينزل بالقلب فيبعث فيه الأمان والاطمئنان والهدوء والسكينة،
وكم لأرباب الرياضات في مثل هذه المواقف من تجارب وأهوال مع النفس وأسرارها، وكم سهروا الليالي في تهذيب رغائبها وترويض جموحها، ولم تصح لهم النفس من عللها ولم تستقم من اعوجاجها إلا بتعاليم الوحي. قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} ، {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} .
وما زالت الدراسات قاصرة عن اكتشاف خصائص النفس وسبر غورها والوقوف على كل صفاتها الذاتية، وكلام علماء النفس حولها يدور كله حول ما ظهر لهم منها؛ حول مظاهرها السلوكية، حول أحوالها وعاداتها، أمراضها الظاهرة فقط، ولكن هناك مناطق مظلمة في النفس الإنسانية لا تستطيع اكتشافها ولا سبر أغوارها ولا يحسها إلا صاحبها فقط، وقد لا يحسن المرء التعبير عنها ولا إقامة الدليل على وجودها، رغم وجدانه لها وخضوعه لآثارها. ولعل من هنا كان اهتمام القرآن الكريم بالإشارة إلى هذه المناطق المغلقة أمام العقل البشري في النفس الإنسانية، والتي سماها القرآن آيات وأشار إليها أكثر من مرة. قال تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20، 21] وفي النفس آيات أيضا. وقال أيضا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53] . ونلاحظ في الآيتين أن النفس جاءت معطوفة على آيات
الأرض وآيات الآفاق؛ لتفيد معنى التسوية والمعادلة بين الآيات في الجانبين، فكأن آيات النفس تعادل في دقتها وعظمتها آيات الآفاق في كثرتها، وتنوعها كما تعادل آيات الأرض في نفعها وضررها.
إن اكتشاف هذه المناطق المظلمة في النفس الإنسانية واستثارة كوامنها لا يتأتى إلا بعطاء الوحي، الذي يعلم خفاياها ويعرف أمراضها ودواءها. إنها العالم الأصغر الذي أقسم به القرآن في مواجهة العالم الأكبر، قال تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10] .
إن النفس الإنسانية بحاجة إلى الوحي لكي يأخذ بيدها إلى شاطئ النجاة مستعينة في ذلك بيقين الاعتقاد وسلامة الإرادة ونبل المقصد، وتستمد عونها من الله حتى لا تلعب بها عواصف الأهواء. وقال صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك" وقال بعض الحكماء: "نفسك إذا لم تجبرها على فعل الخير والطاعة جبرتك هي على فعل الشر والمعصية"؛ ولذلك كانت الاستعانة بالله على قهر النفس دعاء نتقرب به إلى الله في فاتحة الكتاب وفي الصلوات: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} [الفاتحة: 5] .
وينبغي أن نعلم أن النفس الإنسانية لا تنتمي في أصلها إلى عالم الشهادة حتى تستطيع أن تتعامل معها بمنطق العلم الحسي،
ولكنها تنتمي إلى عالم الغيب كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71، 72] .
وقال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10] . ولما كانت النفس تنتمي إلى هذا العالم الغيبي كانت عللها وأمراضها غائبة عن كثير من ذوي العقول، خاصة أصحاب هذه العقول التي تعودت على المحسوسات ولم تتجاوزها إلى غيرها، وبالتالي فإن علاج هذه الأمراض النفسية قد غاب عنهم في معظم الأحيان؛ وذلك لغيابهم عن فهم حقيقة النفس الإنسانية، ودعك من الذين يعالجون الأعراض المرضية وظواهرها ثم يتوهمون أنهم بذلك قد عالجوا أمراض النفس. لا، إن هناك فارقا كبيرا بين علاج الأعراض وعلاج الأمراض ذاتها، إن النفس الإنسانية أحد مواطن التحدي والإعجاز في الكون كله. ولقد أقسم القرآن بها لأهميتها، ولما فيها من مواطن الإعجاز ودقة الصنعة.
والسكينة والاطمئنان من علامات النفس الصحيحة السليمة من الأمراض. وذلك كله لا يتأتى لها إلا بالتعرف على عوامل الاطمئنان والسكينة من هدي الوحي ومن نور النبوة، وتستمد النفس علاجها
لأمراضها من هذا النور الذي هو في حقيقة الأمر شفاء لما في الصدور، كما قال سبحانه:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] .
وقال سبحانه: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] .
ودائما ما ينبه القرآن الكريم إلى الأخذ بمبدأ الوقاية من المرض قبل نزول العلة بالنفس، فيستحكم الداء ويستعصي الدواء. ومن أهم هذه الوسائل الواقية اللجوء إلى الله تعالى والاستعانة به والإنابة إليه وحسن التوكل عليه، فقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا أقل من ذلك" كما كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من شرور النفس في قوله: "نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا" لأن قوة الشهوة وغلبة الهوى لا يعين على التغلب عليها إلا الله، فهو المعين وحده على هوى النفس وقهرها وبذكره وحده تطمئن القلوب وتسكن النفوس، فتعرف النفوس أنه لا ملجأ لها إلا إليه، ولا عون لها إلا به.
كما ينبغي أن تعلم أن المجتمع كله في حاجة ضرورية إلى الوحي ليقوده إلى التعرف على غاياته الكبرى ومقاصده السامية التي تتمثل في علاقة الإنسان بخالقه، علاقة المخلوق بالخالق، وهذا أمر
مقصود من الشارع، أن يتعرف الإنسان على أوامر الله ونواهيه ليستطيع أن يحقق بذلك عبوديته لله وحده؛ ليعرف كيف يتخلص من العبودية لغير الله، ليعرف أن كل بني آدم أمام الله سواء، تحقيقا لمعنى العبودية المطلقة للخالق، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] ليعرف كيف يتحقق في سلوكه وعلاقاته مع الله، ومع الناس بمعاني التوحيد الخالص لله ربوبية وألوهية، فيستمد عزته من عزة خالقه، وسلطانه من قوة إيمانه بخالقه، فيتضاءل أمامه كل سلطان، وعلى قدر اعتصامه بهذه المعاني فإن الله يخلق هيبته في قلوب الناس، وعلى قدر خوفه من الله يخافه الناس وعلى قدر خشيته لله يخشاه الناس، وهذا هو حبل الله المتين الذي قصد الشارع الاعتصام به والالتفاف حوله، فتتّحد الأهواء وتتوحد المقاصد والغايات، ويكون هوى الناس تبعا لما جاء به الرسول، وهذا التوحد يعود نفعه على المجتمع بالدرجة الأولى حتى وإن بدا في ظاهره أنه من العبادات الدينية، فإنه ينعكس على سلوك الأفراد سكينة في النفس وأمانا في القلب ومودة وتراحما بين الناس.