الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوحي والعلم: تحديد المفهوم
سبق أن تحدثنا عن علاقة العقل بالوحي وحددنا مفهوم العقل والمراد منه، ويتردد الآن الحديث عن علاقة الوحي بالعلم، وأن العلم يعارض الوحي، فما المراد بالعلم هنا؟
لقد عرف العلماء والمفكرون العلم بتعريفات كثيرة، وكلها تدور حول انكشاف المعلوم انكشافا تاما، واليقين به بحيث لا يرقى إليك شك، أو هو العلم بالموجود على ما هو عليه في الوجود، والعلم علاقة بين الذات العالمة وموضوع العلم، وهو صفة للذات العالمة، فهل المراد من قولنا: علاقة الوحي بالعلم هو هذا المعنى؟
وقد يطلق لفظ العلم على ألسنة المعاصرين ويراد به الحقائق العلمية والاكتشافات العلمية الحديثة، فيكون المعنى المراد هو عطاء العلماء وحقائق العلم التي توصل إليها العلماء خلال بحوثهم واكتشافاتهم، مثل: اكتشافهم كروية الأرض، وأن الشمس هي مركز الكون، قانون الجاذبية، قانون الطفو، قانون الطاقة
…
إلخ وغير ذلك
مما يطلق عليه مصطلح "العلم الحديث" الذي توصل إليه العلماء في مجالات الطب والفلك والكيمياء والفيزياء وغيرها، فأي المعنيين هو المقصود حين نقرأ عبارة الدين والعلم، أو الوحي والعلم؟
لعل في قراءتنا لقصة الصراع بين الكنيسة والعلم في العصور الوسطى بأوروبا ما يوضح لنا أن المقصود بالعلم هنا هو المعنى الثاني، هو حقائق العلم واكتشافاته، أما المعنى الأول لهذه الكلمة "العلم" فليس واردا هنا سواء أردنا به صفة العالم أو أردنا به انكشاف المعلوم واليقين الجازم به، وسوف يزداد الأمر وضوحا فيما يلي:
متى نشأت المشكلة تاريخيا؟
إن الحديث عن علاقة الدين بالعلم لم يأخذ مكانه في البحث الفلسفي إلا في عصر النهضة بأوروبا، كما أن العلاقة بينهما لم تكن محل تساؤل أو جدال قبل ذلك، وإنما شغل المفكرون أنفسهم ببحث العلاقة بين الدين والعقل باعتبارهما وسيلتين للمعرفة وأي هاتين الوسيلتين ينبغي أن تكون له الأولوية عند التعارض. وقد سبق الحديث عن هذه القضية، كما درسها القدماء، وأفاض فيها المفكرون أمثال ابن رشد والغزالي وابن تيمية وغيرهم.
ولقد نشأ الصراع بين الكنيسة والعلماء في العصور الوسطى، حيث فرضت الكنيسة على أتباعها الإيمان بمعتقدات خرافية ادعوا
أنها وحي ودين، وأن الخروج عليها كفر وإلحاد يكون جزاؤه الطرد من رحمة الكنيسة والقتل والإحراق والطرد من البلاد، وكانت تستعين الكنيسة في تنفيذ أوامرها بالإمبراطور وسلطانه؛ لأن تعيين الإمبراطور وعزله خاضع لسطان رجال الكنيسة وأوامرهم.
وكان مما فرضته الكنيسة على أتباعها أن يؤمنوا بأن الأرض ليست كروية وأنها مركز الكون، والغريب أنهم جعلوا هذه الآراء عقيدة ودينا لأتباعهم، ولما جرب العلماء هذه الآراء وأخضعوها للبحث العلمي وجدوها خرافة لا أساس لها من الصحة، وجهلا لا حظ لها من العلم. فأعلن العلماء رفضهم لها وللكنيسة معا، وحين رفضها العلماء لم يرفضوها على أنها آراء شخصية قال بها رجال الكنيسة وإنما رفضوها على أنها الدين الذي بشرت به الكنيسة، رفضوها على أنها الوحي الذي ادعت الكنيسة أنه ينزل عليهم، وأعلن العلماء حربهم على الكنيسة وعلى الدين الذي بشرت، فما كان من الكنيسة إلا أن استعانت بالسلطة وقررت حرمان هؤلاء العلماء من رحمة الكنيسة، وكان جزاء العلماء هو الإحراق أو القتل والطرد من البلاد باسم الدين، ولا يخفى على قارئ التاريخ ما جرى لكوبرنيق وجاليليو ونيوتن وتلامذتهم من تعذيب واضطهاد على يد الكنيسة.
ورغم ما أصاب العلماء على يد الكنيسة من تعذيب واضطهاد إلا أنهم استطاعوا أن يثبتوا للأجيال التالية أن ما تدعيه الكنيسة دينا
وعقيدة ليس إلا خرافة ومظهرا من مظاهر الجهل، وبدأت من هذا التاريخ قصة الصراع الطويل بين الكنيسة والعلم، وبدأت ثقة العلماء في الكنيسة ورجالها تختفي رويدا رويدا، وأصبح رجل الدين في نظر العلماء رمزا للجهل، وأصبحت آراؤه الدينية مظهرا من مظاهر الخرافة والتخلف، واختفت من هذه المعركة كلمة الكنيسة ليحل محلها لفظ الدين والوحي، كما اختفى لفظ رجل الكنيسة ليحل محله رجل الدين، وأخذت هذه الازدواجية الدين والعلم تأخذ العلاقة بينهما شكل التناقض، فهما لا يلتقيان أبدا، إما العلم وإما الدين، الدين عندهم رمز التخلف والجهل والخرافة، والعلم رمز التنوير والتقدم وعنوان النهضة المنشودة.
وأخذت هذه العلاقة التناقضية في الظهور والشيوع إلى أن عمت أنحاء أوروبا كلها، وترتب على ذلك أن أفرزت هذه المعركة مجموعة من المصطلحات التي حملت في طياتها معنى الرفض لكل ما هو ديني، مثل: الحداثة، التنوير، العلمانية، وأخذت الفجوة تتسع شيئا فشيئا إلى أن سيطرت النزعة العلمية على الحياة في أوروبا وبدأت الكنيسة يتراجع سلطانها ويتحدد نشاطها داخل جدرانها فقط، وأخذت النزعة العلمانية تمد سلطانها لتحل محل الكنيسة في إدارة شئون المجتمع ونظام الحكم، وتبدلت النظرة إلى الكون وعلاقة الإنسان به، كما أخذت قضية اللاهوت وما يتبعه من قضايا إيمانية تتلاشى ويتلاشى أثرها من مظاهر الحياة.
وأخذت العلمانية تنشر على المجتمع مبادئها لتحل محل تعاليم الكنيسة، وأخذت مظاهر التقديس التي كانت تحظى بها التعاليم الكنسية تختفي أو تتلاشى من قلوب أتباعها، وأخذ العقل يحتل مكان الوحي، وتحولت نظرة العلماء وتقديسهم للمطلق "الله" إلى الكون والإنسان فكانت الطبيعة هي قبلتهم والإنسان محل تقديسهم، والاهتمام بما هو دنيوي حل محل الاهتمام بكل ما هو أخروي، كذلك كانت علاقة الإنسان بالطبيعة قائمة على أساس قطع الصلة بينها وبين ما هو غيبي "الله" ومصدر قوة الإنسان عندهم ليست مستمدة من قوى غيبية بل من قوة سيطرته على الطبيعة وقامت النزعة العلمانية على هذا الأساس؛ بتر الصلة بين كل ما هو دنيوي وما هو أخروي، وصار الواقع الفعلي الذي يعيشه المرء أولى بالاهتمام من كل ما هو غائب عن هذا العالم. وخلال هذا التحول الخطر من الإيمان باللاهوت إلى تقديس الطبيعة تبدلت مفاهيم كثيرة وظهرت قيم جديدة، احتلت مكان الصدارة في حياة الإنسان الأولى.
فتحولت النظرة إلى الكون من النظرة اللاهوتية المطلقة لتجعل الإنسان والكون محور الوجود كله ومركزه، وليست هذه النظرة مستمدة من الوحي وإنما أساسها العقل الرافض لكل ما هو لاهوتي، وليس الكون والإنسان علامات يستدل بها على موجود خالق لها "الله" بل هما مستقلان تماما في وجودهما عن أي موجود حقيقي
سواهما. بل هما الحقيقة الحقة الجديرة بهذا الاسم في هذا الوجود؛ لأنهما واقع لا مجال للشك فيه أما ما يدعيه علماء اللاهوت في ربطهما بوجود غيبي "الله" فإن ذلك أسطورة وخيال زائف لا يمكن التحقق من وجوده، والحقيقة المطلقة التي يمكن التحقق من ثبوتها ووجودها هي هذا الكون والإنسان، وما وراءهما فمحض خيال وأسطورة.
وسادت نزعة نقدية لكل ما هو مقدس في أوروبا تبنتها ظاهرة الحداثة والعلمانية التي تنفي كل ما هو ديني ليحل مكانه الواقع، وحاول النقد العلماني للدين أن يجهز على تعاليم الكنيسة لتفسح مكانها للعقل والعلم، وليحل النور العلمي والتنوير العقلي محل هذا الكلام الذي سيطر على عقول أوروبا في العصور الوسطى.
وعلى سبيل الإجمال، تولدت نزعة نقدية ذات طابع علمي قوامها تحويل اهتمام الإنسان من اللاهوت إلى الواقع، وبدلا من أن يكون اللاهوت منظما لحركة المجتمع تحت سطوة الكنيسة ينبغي أن يحتل مكانه التنظيم العقلاني الذي يتم في ضوئه فصل المجتمع عن الدين سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وأن تتخلى الكنيسة ورجالها عن دورهم ليحتل مكانهم العلماء ويحتل العلم مكانة الدين.
ولقد تم ذلك فعلا وتحول رجال الكنيسة إلى مجرد موظفين يتقاضون رواتبهم من الدولة، ويتم تعيينهم في الوظائف وعزلهم منها بأمر الإمبراطور، شأنهم في ذلك شأن أي موظف في الدولة.
ولم تنته هذه المعركة بين العلماء والكنيسة إلا بعد أن سيطرت ظاهرة الحداثة والعلمانية وتبلورت معالمها في أمور محددة أصبحت شعارا لعصر النهضة في أوروبا، ومن أهم هذه المعالم:
1-
العلمية، ويقصدون بذلك أن يكون الواقع موضوعا للعلم والعقل مقياسا للحقيقة، والواقع هنا هو الكون، هو الطبيعة فقط وكل أمور ليس لها رصيد في الطبيعة ولا يعبر عنها في الواقع الحسي بألفاظها مقابل موضوعي فهي خرافة وأسطورة، وبالتالي فإن أي حديث عن أمر غيبي ليس مقبولا.
2-
قانون العلية، أن تقوم هذه النزعة العلمية على مبدأ العلية أو قانون السببية، وأن ارتباط كل ظاهرة بعلتها وسببها يكفي في الإجابة عن السؤال كيف حدثت الظاهرة، وهذا هو هدف العلم وغايته. أما الإجابة عن السؤال: لماذا حدثت الظاهرة فإن ذلك ليس داخلا في مهمة العلم، ولا يعنينا البحث عنه أو الانشغال به.
3-
أن يتم ذلك كله خلال التجربة والمنهج التجريبي، وكل ما لم يخضع للتجربة يكون الحديث عنه خرافة وأسطورة.
4-
أن تؤسس المعرفة العقلية على النقد، واستبعاد كل ما هو أسطوري "ديني" لا تسنده التجربة ولا يستمد صدقه من الواقع الموضوعي. ويكون الموقف هو جوهر العقلانية الحديثة كما يكون جوهر العلمانية والحداثة هو رفض الدين واللاهوت.
ولقد حرص أصحاب هذا الاتجاه أن يبرزوا ما تتميز به نظرتهم العملية في مواجهة الكنيسة والنظرة اللاهوتية؛ ليجعلوا رجل الدين رمزا للجهل والخرافة، فقالوا:
1-
إن التفسيرات اللاهوتية التي يدعونا إليها رجل الدين ليست بذي موضوع، لا سند لها من الواقع، لا تخضع للتجربة، مستمدة من النظرة الغيبية. أما الموقف العلمي فإنه يكشف زيف هذه التفسيرات، ويوضح ما وراءها من جهل وأسطورة. إنه موقف يعمل على إزالة الأسطورة لتحل محلها الحقائق العلمية، يعمل على إزالة الظلام ليحل محله التنوير، إنه موقف يبدأ من الواقع ويعيد كل شيء إلى الواقع ولا علاقة له بما وراء الواقع المادي.
2-
إن التفسيرات اللاهوتية تستمدّ قداستها من المطلق "الله" ليتحكم به في الواقع عن طريق العلاقة الأسطورية بين الواقع والمطلق، أما النزعة النقدية فإنها تستمدّ قداستها من الواقع الذي هو مستقل في وجوده عن المطلق ولا علاقة بينهما، فالكون هو الحقيقة فقط ولا شيء وراءه يستحق أن يسمى بالحقيقة المطلقة. أما السلوك الإنساني والظواهر الاجتماعية، فهي ترجع في تفسيرها إلى عوامل نفسية ومؤثرات اجتماعية وبيولوجية وكل شيء يخضع في تفسيره للمادة والعلاقات المتبادلة بين ظواهرها، فالدين والأخلاق ليسا إلا إفرازا لحالات نفسية وبيولوجية، وآثارا لظروف اجتماعية وثقافية يعيشها الأفراد في مجتمعاتهم.
3-
في هذه النزعة العلمية ينبغي أن تتحول القداسة من المطلق "الله" إلى الطبيعة وإلى الإنسان، فيحتل الإنسان مكانة المطلق "الله" وهو في علاقة تلازمية مع الطبيعة ليجعل منها موضوعا للمعرفة، فالطبيعة وحدها هي موضوع المعرفة ولا شيء وراءها قابل لأن يعرف أو يكون موضوعا للمعرفة التجريبية، وبالتالي فإن أي حديث عما وراء الطبيعة فهو حديث خرافة.
4-
يترتب على ما سبق أن تكون "العقلانية النقدية" قائمة على نفي الدين والارتباط بالواقع، فالشعائر والطقوس الدينية عندهم خداع، والأخلاق والقيم أوهام اجتماعية، وينبغي أن يحتل العمل مكانة الشعائر والطقوس الدينية، وأن يتم تغيير الواقع من خلال الثورة على العقائد اللاهوتية؛ ليحتل الواقع مكانة اللاهوت حتى يتخلص المجتمع من زيف الأساطير.
هذا كله قد حدث في الغرب خلال القرون الثلاثة الأخيرة، ولا شك أن ما حدث هناك كانت له مبرراته وأسبابه.
فالعلم ينبغي أن يحتل مكانة الجهل.
والنور يحتل مكانة الظلام.
والحقائق تحتل مكانة الأساطير والخرافات. فهذا أمر ضروري لنهضة الأمم وتقدم الشعوب.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: إذا كانت هذه المعركة قامت في الغرب لتقضي على خرافات الكنيسة وجهلها وليحل فيها العلم والنور محل الجهل والظلام، فما علاقة هذه المعركة بالإسلام؟ وما شأن الإسلام بقصة الصراع التي نشأت في بلاد غير بلاد المسلمين، وفي ظل ثقافة الجهل والخرافة التي جاء الإسلام ليقضي عليها ويحاربها؟ إن الإسلام يبارك الثورة على الجهل والخرافة والأسطورة؛ ليفسح المجال للعلم والنور والحقائق العلمية.
فما هو السبب في نقل هذه المعركة إلى أرضنا وبلادنا؟ لقد أفرزت قصة الصراع بين الكنيسة والعلماء ثلاثة مواقف متباينة، تختلف فيما بينها في تفسيرها للدين الكنسي حسب الحقول الدراسية التي تنتمي إليها هذه المواقف، لكنها كلها رافضة للوحي معارضة له:
الموقف الأول: ويمثله علماء الطبيعة ابتداء من نيوتن، ويذهب أصحاب هذا الموقف إلى القول بأن الكون الذي نعيشه ليس في حاجة إلى قوى غيبية يستمد منها حركته، إنه مكتفٍ بنفسه عن غيره، إن قوانيه كامنة فيه، وهي التي تتولى حركته وتنظيم مسيرته، وكل فرد من أفراده، إنسانا كان أو حيوانا، نباتا كان أو جمادا، يشتمل على قانونه الطبيعي الذي ينظم حركة وجوده ويسوقه سوقا إلى أداء مهمته، ولا حاجة به إلى التعلق بقوى
أخرى وراءه يستمد منها نظامه أو حركته، فطبيعة كل كائن هي نظامه، هي قوامه وحياته والعلم قد كشف لنا عن قوانين هذه الكائنات ووضعنا أيدينا عليها وجربناها وعرفنا حقيقتها، فأصبح الكون عندنا هو الحقيقة، بل هو حقيقة الحقائق. وكل ما وراء هذا الكون هو محض خيال وهم تتشبث به الكنيسة لتستمد منه سلطانها، وتفرض به جبروتها على الناس.
إن التفسير اللاهوتي للظواهر الكونية كان يمثل مرحلة متقدمة من عمر البشرية اضطر الإنسان خلال هذه الفترة أن يفسر كل شيء يراه باسم الإله لعجزه عن مواجهة الطبيعة الخارجية وجهله بقوانينها. أما بعد اكتشاف قوانين الطبيعة والتثبت من صدقها بالتجربة المباشرة فلم يعد هناك مجال للقول بالقوى الغيبية التي لا يمكن إخضاعها للتجربة أو التأكد من صدقها بالمشاهدة الحسية، والحقيقة التي ينبغي الاعتراف بها عقليا ليست إلا ما يخضع للتجارب ويمكن فحصه علميا، والوحي والدين قائم على مسلمات لا يمكن التحقق من صدقها بالتجربة ولا سبيل إلى مشاهدتها وفحصها علميا، وكل ما لا يمكن إثباته بالتجربة فهو وهم باطل لا حقيقة له، ومن هنا قالوا: إن الدين تفسير زائف للظواهر الكونية، ولا بد من إزاحته ليحل العقل والعلم مكانه.
الموقف الثاني: ويمثله تفسير علماء النفس للدين، لقد رأوا أن الدين ظاهرة تنعكس خلالها كوامن اللاشعور المخزون في النفس
الإنسانية من عمر الطفولة، فالجنة والنار وما يحيط بهما من ترغيب وترهيب صورة مثالية لآمال الإنسان، والوحي والإلهام صور لأساطير عاشها الإنسان في سن طفولته، والإله صورة مثالية لإنسان الأرض تتجسد فيه صفات العدل والحق وقيم الخير المفقودة في عالم الواقع، وما الدار الآخرة إلا صورة يتحقق فيها للإنسان ما كان يحلم به في حياته الدنيا، ولكنه فشل في تحقيقها فخلق لنفسه عالما آخر تتحقق فيه أحلامه وآماله. وصار الإنسان عندهم هو الذي يخلق إلهه ويصنعه لنفسه من واقع تاريخه النفسي، ومخزونه اللاشعوري.
أما الموقف الثالث: ويرجع إلى علماء الاجتماع الذين فسروا الدين على أنه ظاهرة تاريخية أحسن اختراعها الإنسان ليلوذ إليها ويحتمي بها من نوازل التاريخ، سواء كانت هذه النوازل كوارث طبيعية كالزلازل والبراكين والأمراض، أم كانت نوازل إنسانية كظلم الحكام وطغيان الملوك. لقد أحس الفقراء والضعفاء بحاجتهم إلى قوى عظمى يلتفون حولها ويهرعون إليها عند النوازل واخترعوا اسم الإله، واشتقوا له مجموعة من الصفات التي وصفوا بها الإنسان، فإذا كان في بني البشر ملك يظلم فهناك ملك أكبر منه يقتص منه للمظلوم، وإذا كان هنا قاضٍ غير عادل فهناك قاضٍ أكبر منه عادل يجازي على الخير
والشر، وعلى ذلك يقولون: إن الدين ظاهرة اجتماعية خلقها العقل الإنساني وأتم خلقها في حالة عجز الإنسان عن مواجهة القوى الخارجية، لقد اخترع الإنسان قوة ما وراء الطبيعة طلبا لحمايتها. وجاء بالسحر ثم بالعمليات الروحية، ثم بالعقيدة الإلهية حتى اخترع فكرة الإله الواحد
…
وهذه العقائد قد فات أوانها وفقدت ضرورتها؛ لأنها ظهرت في فترة تاريخية معينة استجابة لعجز الإنسان وعنوانا لجهله، أما بعد سيادة العلم والعقلانية فلم يعد الإنسان بحاجة إلى هذا الاعتقاد.
إن هذه المواقف الثلاثة قد نشأت كنتيجة طبيعية لرفض العلماء للكنيسة واللاهوت المسيحي إبان المعركة التي نشبت بين الكنيسة والعلماء، ولم يشهد تاريخ الفكر الديني ثورة أشد ولا أقسى من ثورة العلماء على الدين خلال هذه المعركة. لقد كان موقف الرافضين للوحي قبل هذه المعركة قاصرا على الدهريين والطبيعيين، فالدهريون أسندوا الفعل إلى الدهر قالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وكان رد القرآن عليهم مكتفيا بقوله تعالى:{وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] .
وكان الموقف الطبيعي يشبه إلى حد كبير الموقف الدهري، لكن لم نقرأ في تاريخ الفكر الديني هذا الهجوم الشرس على الوحي إلا بعد هذا الصراع الذي شهدته أوروبا بين الكنيسة والعلم.
فالفلسفة اليونانية وهي الأم الشرعية للفلسفة الأوروبية في العصور الوسطى والحديثة لم ترفض فكرة الإله ولم تنفِ وجوده، وكلام أرسطو عن المحرك الأول وكلام أفلاطون عن الأول والعلة الأولى قد أشبع نهمهم العقلي بالبحث في هذه القضية، فهم لم ينكروا وجود الإله وإن كان تصويرهم له يختلف عما أتى به الوحي، لكنهم لم يقولوا باكتفاء الكون بذاته واستغنائه عنه؛ لأنه عندهم المحرك الأول لهذا الكون، وأن هذا الكون بما فيه يتحرك حسب قوانينه شوقا وتشبها بالإله.
كما لم نقرأ في تاريخ الفكر الديني أن الدين ظاهرة تاريخية مضى وقتها وفات أوانها، ولم يعد لنا حاجة إليها إلا على يد أوجست كونت ومدارس علم الاجتماع التي سارت على منهجه.
كما لم نقرأ أن التدين حالة نفسية يخلقها الإنسان لنفسه يحقق فيها آماله وطموحاته ويهرب إليها من واقعه المؤلم. إن هذه التفسيرات كلها نشأت في ظل النهضة الأوروبية المعاصرة التي ثبتت أركانها على أنقاض الكنيسة وتراثها.
وظهر الدين بمعناه العام في هذه المعركة معارضا للعلم، رافضا له، رمزا للجهل والتخلف، ورجال الدين دعاة إلى الخرافة محاربين للعلم ومعاندين للعقل، وظهرت العلمنة عنوانا لرفض الدين
وإقصائه عن شئون الحياة تربويا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وظهرت الحداثة عنوانا لرفض القداسة ومحاربتها، فليس هناك ما يستحق القداسة إلا الإنسان والطبيعة، وفكرة الإله والتراث والقداسة كلها أفكار بالية خدعتنا بها الكنيسة لتستذل بها عقولنا وتملك بها رقابنا، والعقل وحده هو الذي ينبغي أن يحتل مكانة الإله والعمل والإنتاج يأخذ مكانة الشعائر الدينية وقداستها. وبذلك قضت هذه النزعة الإلحادية على كل ما هو ديني، وعكفت على الكون تستنطقه أسراره، وتقف على قوانينه، وتكشف عن نظامه، وكان العلم والعقل هما سلاح هذه المعركة.
في العالم الإسلامي:
لقد انتقلت هذه المعركة بكامل حيثياتها وملابساتها إلى العالم الإسلامي، واختفت منها كلمة الكنيسة وحل مكانها لفظ الدين، الدين بالمعنى العام. وبدلا من أن يصوروا قصة هذا الصراع على أنه صراع بين آراء رجال الكنيسة والعلماء، صوروها على أنه صراع بين الدين بمعناه العام والعلم. وصار الدين نقيضا للعلم وأصبح الإيمان بأحدهما يعني نفي الآخر ورفضه، وارتبط لفظ الدين بالتخلف والرجعية والخرافة والأسطورة، كما صار رجاله رموزا لهذه المعاني السيئة.
لقد صدّر الغرب هذه المعركة إلى بلاد المسلمين ضمن الصادرات الثقافية خلال القرنين الأخيرين، وحمل لواءها نيابة عن الغرب مجموعة من تلاميذ المستشرقين في العالم الإسلامي، ومن أبناء العربية ممن يعرفون شعار العلمانية والتنوير والحداثة.
ومن الإنصاف أن نقرر هنا أن المسيحية الصحيحة التي بشر بها نبي الله عيسى عليه السلام بريئة تماما من كل الخرافات والأساطير التي فرضتها الكنيسة على أتباعها في العصور الوسطى، فليست المسيحية طرفا في هذه المعركة؛ لأن نصوصها لم تتعرض لتفسير الظواهر الكونية لا من قريب ولا من بعيد، وهذه التفسيرات الخرافية التي قال بها رجال الكنيسة لا علاقة لها بالوحي الذي نزل على نبي الله عيسى، ولكنها كانت أحد الأساليب التي استذل بها رجال الكنيسة عقول السذج من الناس بدعوى أن الوحي نزل بها، وأنها دين وعقيدة.
لقد تبنى رواد العلمانية والتنوير الدعوة إلى رفض الدين وإقصائه عن حركة المجتمع كما فعلت أوروبا، دون أن يفرقوا بين الإسلام والكنيسة، ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن علاقة الإسلام بالعلم وموقفه من الخرافة والأسطورة ومحاربته للجهل.
وكما صورت أوروبا الكنيسة على أنها سبب تخلف أوروبا وانحطاطها قال بذلك رواد التنوير والعلمانية في بلاد المسلمين، فجعلوا الإسلام سببا لتخلف المسلمين وانحطاطهم.
وكما جعلت أوروبا رجال الكنيسة رموزا للتخلف والجهل، نادى التنويريون والعلمانيون في بلادنا بأن رجال الدين هم رموز التخلف والجهل.
وكما أن أوروبا لم تتقدم ولم تنهض إلا بعد أن نفضت يدها من سلطان الكنيسة وأبعدتها عن شئون الحياة، نادى رواد التنوير بأن المسلمين لن يتقدموا وينهضوا إلا إذا تخلوا عن الإسلام ونفضوا أيديهم منه، وأبعدوه تماما عن حركة الحياة.
وكما نادى علماء الغرب بأنه ليس هناك شيء "مقدس" يعلو على نقد العقل، كذلك نادى رواد التنوير في بلادنا بأنه ليس هناك شيء "مقدس" يعلو على النقد، وأخضعوا القرآن الكريم لمنطق النقد العقلي، وحاولوا أن يجعلوه محلا للشك وموضعا للتشكيك، بل إن بعضهم حاول أن يطبق على القرآن الكريم بعض نظريات النقد الحديثة ليقول: إن القرآن قد اشتمل على بعض الأساطير التي عرفها العرب قبل الإسلام.
هذا هو جوهر حركة التنوير التي يروج لها العلمانيون في العالم العربي، ولقد شجعهم على ذلك بعض المؤسسات التبشيرية التي انتشرت في أنحاء شتى من بلاد المسلمين، كما أسهم في الترويج لها كثير من النصارى أمثال فرح أنطون وشبل شميل
وسلامة موسى وغيرهم من الذين يسبح الإعلام بأسمائهم، باسم التنوير وأعلامه.
وفي الحقيقة لقد ظلم هؤلاء وأولئك العلم والدين معا.
لقد ظلموا الدين حين نقلوا إلينا صراع الكنيسة والعلم على أنه صراع بين الدين والعلم؛ ذلك أن الدين الذي بشر به عيسى عليه السلام بريء مما فرضته الكنيسة على أتباعها وجعلته دينا لها.
ولو كان عيسى ابن مريم بينهم لأعلن براءته منهم ومن دينهم الذي نسبوه إليه، ولقد توعد القرآن الكريم أمثال هؤلاء في قوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] .
وظلموا العلم ثانيا حين قالوا: إن العلم ينفي الدين ويناقضه؛ ذلك أن الأديان السماوية الصحيحة كلها حق، والعلم الصحيح في ذاته حق، ومحال أن ينفي حق حقا آخر أو يعارضه.
كما ظلموا الإسلام ثالثا حين أقحموه في هذه المعركة وجعلوه مثل الكنيسة دون أن يفرقوا بين الإسلام واحتضانه للعلماء ودعوته للعلم، والكنيسة وموقفها الرافض للعلم المحارب للعلماء.
وهنا أمران ينبغي أن ننبه إليهما:
الأمر الأول: لا ينبغي أن نجعل واقع المسلمين المعاصرين مقياسا نحكم به على الإسلام؛ لأن واقع المسلمين لا شك أنه واقع متخلف علميا، فلا ينبغي أن نجعل تخلف المسلمين دليلا على تخلف الإسلام.
كما أن واقع المسلمين متردٍّ اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، فليس من الحكمة أن نجعل هذا الواقع المؤلم مقياسا نحكم به على سلامة المبدأ وصحته الذاتية، فكم من المبادئ الصحيحة تحولت على يد أبنائها إلى فساد وانحلال عند التطبيق، وهذا أمر لم يخلُ منه مجتمع ولا خلت منه حضارة.
فعلى سبيل المثال نجد الإسلام في نصوصه من الكتاب والسنة يجعل العدل أساسا لاستقرار الحكم ودوام الملك، وقديما كنا نحفظ في مقررات الدراسة أن العدل أساس الملك، وأن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة، وكم من النصوص النبوية والآيات القرآنية تؤكد على هذ المبدأ. ولكن الواقع الذي يعيشه العالم الإسلامي تلاشى من قاموسه مبدأ العدل وأصبح الظلم عنوانا لقوة الحكم، وشعارا لهيبة الدولة، ورمزا لاستتباب الأمن في البلاد. وكم من ألفاظ اخترعوها ليلبسوها ثوبا اجتماعيا مقبولا عند الناس ليمارسوا تحتها ألوانا من الظلم لم يعرفه التاريخ. فهل
نجعل واقع الحكم في العالم الإسلامي -وهو بهذه الصورة المزرية- دليلا على أن الإسلام لا يجعل العدل أساسا للحكم فيه؟
والإسلام يجعل الشورى مبدأ الحكم في الإسلام، نزل به الوحي الإلهي آمرا الرسول وهو مصدر التشريع أن يجعل الشورى أصلا من أصول العلاقة بينه وبين أصحابه مع أنه المعصوم والمؤيد بالوحي المعصوم، لكن لكي يستقر هذا المبدأ على يديه وهو بين أصحابه نزل به قوله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] . كما جعل مبدأ الشورى عنوانا لجماعة المؤمنين وصفة لازمة لهم؛ لأنها من لوازم الإيمان، فقال تعالى عن جماعة المؤمنين:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] .
فإذا تحولت الشورى على يد حكام المسلمين إلى استبداد سياسي لا يعرفه تاريخ البشرية، وأصبح مصير بعض شعوبه مرهونا بأسر وعائلات يتوارثون حكم الشعوب وكأن الحكم تركة عقارية تنتقل تلقائيا من جيل الآباء إلى الأبناء ثم الأحفاد، فما دخل الإسلام في ذلك؟ وما علاقة هذه الأنظمة الاستبدادية بالإسلام ونظامه السياسي القائم على مبدأ الشورى؟ وهل من الإنصاف أن نجعل استبداد الحكام في بلادهم دليلا على أن الإسلام لم يجعل الشورى أصلا من أصول الحكم؟
نعم، لقد أصبح معروفا بل من المقرر في تاريخ الحكم ونظامه العالمي، أن سياسة الاستبداد والطغيان صناعة شرقية، وأن شعوب الشرق هي التي تعرف تماما كيف تصنع الحاكم الظالم المستبد الطاغية، بل ترعاه وتعبده أحيانا، لكن ما علاقة ذلك بالإسلام؟
وإذا كان الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ويجعل مداد العلماء عند الله كدم الشهداء، ويجعل العلوم الكونية "الفيزياء، الكيمياء، الرياضيات، الهندسة، الفلك، الطب
…
إلخ" هي المدخل الطبيعي للعلم بالله ومرآة لتجلي صفاته من الحكمة والعلم والقدرة، وربط خشية الله بهذا العلم الكوني، قال تعالى:{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 27، 28] . فليس المقصود بالعلم هنا ولا بالعالم: عالم التفسير أو الحديث أو الفقه، إنما هو العالم بالكون ودقائقه، هذا هو العلم الكوني في التصور القرآني.
فإذا انصرف المسلمون عن هذا العلم وأداروا له ظهورهم، وفضلوا الجهل بالكون على العلم به وبدقائقه، وآثروا الكسل والدعة على التعلم والبحث حتى صاروا أضحوكة العصر وذيل الركب والقافلة، فما دخل الإسلام في هذا التخلف الذي يعيشه المسلمون؟
وإذا كان هذا هو واقع المسلمين: التخلف، الجهل، الأمية، الفقر، فهل من الإنصاف أن نجعل هذا الواقع المتردي دليلا نحكم به على الإسلام بأنه سبب تخلف المسلمين؟
أليس من الأجدى والأقرب إلى روح المنهج العلمي أن يقرأ هؤلاء الإسلام في نصوصه من الكتاب والسنة ليتعرفوا على موقفه من العلم كمفتاح للنهضة، وعلى العدل والشورى كأساس للحكم، ويعرفوا أن الإسلام يجعل هذه الأسس أصولا لقيام الممالك واستقرارها، وازدهار الحضارات ونهضتها؟
إن الحكم على الإسلام من واقع المسلمين أمر مقصود في ذاته يلجأ إليه البعض ويروجون له؛ لأنهم لم يجدوا في نصوص الإسلام دليلا على موقفهم المعادي للإسلام إلا واقع المسلمين المتخلف، فجعلوه سندا لهم ودليلا على ترويج أفكارهم ضد الإسلام، فخلعوا على الإسلام أوصاف الكنيسة، كما خلعوا على علماء الإسلام أوصاف رجال الكنيسة، فصاروا رموزا للتخلف والجهل والخرافات. وسار في نفس الطريق جمهور كبير من العلمانيين ودعاة التنوير في بلادنا ممن لا تربطهم بالإسلام إلا صلة الاسم وشهادة الميلاد، فقرءوا الإسلام في كتابات المستشرقين بدلا من أن يقرءوه في نصوصه الأصلية، وصادف رأي المستشرقين عندهم قلبا خاليا فتمكن، فأصبحوا دعاة لهذه الافتراءات مدافعين عنها، وتولا نيابة عن
المستشرقين الدفاع عن موقفهم من الإسلام. ولعل الذي يتابع الحركة الثقافية المعاصرة في عالمنا العربي بالذات يجد آراء المستشرقين في الإسلام وفي القرآن والسنة جعلها البعض عناوين لبعض المؤلفات العربية، ولا شك أن خطر هؤلاء على الإسلام أشد وأقسى من خطر المستشرقين أنفسهم؛ لأنهم من أبناء جلدتنا، يعيشون بين ظهورنا بل قد تسنم معظمهم ذرا المؤسسات الثقافية والإعلامية؛ ليجعل منها منبرا لبث أفكاره بين الجمهور، ويجعلها منطلقا للتأثير في سير الحركة الثقافية في البلاد، ويرصد الجوائز المالية لتكريم من يسير في ركبه وينهج نهجه، ويجعل فكره ورأيه مبدأ ومقياسا للولاء والبراء بين المثقفين.
وهكذا أصبح الإسلام مظلوما بين أهله كما هو مظلوم من أعدائه وخصومه، فلا العلماء به قد مكن لهم الدفاع عنه، ولا أنظمة الحكم في العالم الإسلامي منعوا -بحكم موقعهم- الأقلام المتربصة من النيل منه.
وقد يحتجّ هؤلاء على ما يذهبون إليه بأقوال بعض المشتغلين بالعلم ممن يملكون عاطفة التدين وحماسة المتدينين، ولكن ينقصهم الزاد النافع من العلم بمقاصد الشريعة الكلية فيقعون في أخطاء ويفتون بأقوال قد لا تتفق مع روح الشرع، ولكنها من وجهة نظرهم تسد الذرائع وتمنع الفتن من باب أن الوقاية خير من العلاج، فيجد
فيها هؤلاء المتربصون فرصة للتشنيع على الإسلام بأنه يعارض التقدم ويحارب التطور، مع أن هذه آراء واجتهادات لا تمثل إلا رأي أصحابها، وربما لو تأملها هؤلاء المتربصون بعين الإنصاف لوجدوها صوابا من حيث عللها الغائية ومقاصدها العامة، ولكن أنَّى لهم ذلك وهم لا يفرقون بين آراء الرجال والنصوص الأصلية للإسلام.
أما الأمر الثاني الذي أودّ أن أنبه إليه هنا، فهو موقف الإسلام من توظيف العلم وتسخيره، فإن نتائج العلم والمعرفة أمر محايد صالح لأن يستعمله الإنسان في الخير الذي يسعد البشرية ويحقق لها الرفاهية وطيب العيش، كما أنه صالح في الوقت نفسه لأن يستعمله الإنسان في دمار البشرية وخراب العالم، فهو صالح لأن يستعمل في الخير أو الشر على سواء، صالح لفعل الضدين، وتوجيهه إلى فعل الخير أو الشر خاضع لإرادة الإنسان ومقاصده منه وغايته فيه. وهنا لا بد أن تختلف الغايات وتتعارض المقاصد حسب ثقافة العالم وحضارته، والقيم التي يدين بها، والمجتمع الذي يستظل بسياسته، وحسب الدين الذي يؤمن به. والإسلام يؤكد هنا على أمر مهم جدا وهو أن العلم نعمة كبرى من الله وهبه للإنسان، وأن موضوع العلم هو هذا الكون وما فيه من آيات كبرى وظواهر طبيعية فهو أيضا مخلوق لله، لتحقيق مصالح الإنسان ودفع الضار عنه، ووسائل المعرفة التي يتعامل بها الإنسان مع الكون في الموقف المعرفي هي أيضا مخلوقة لله وخلقت على هيئة مخصوصة لتحصيل هذه المعرفة
والإفادة منها، ثم إن القوانين التي يكتشفها الإنسان في هذا الكون هي أيضا من صنع الخالق سبحانه، فهو الذي خلق السبب وجعله مؤثرا، وخلق المسبب وجعله قابلا للأثر.
وإذا كانت هذه الأمور التي يتشكل منها الموقف المعرفي كله مخلوقة لله بما فيها الإنسان نفسه، فإن فلسفة الإسلام في هذا الموقف تفرض على الإنسان أن يحسن توظيف العلم لصالح الإنسان ودفع الضار عنه وليعمر به الكون؛ لأن العناصر المكونة للموقف المعرفي كله مخلوقة لله كما سبق، وينبغي أن يوظف العلم الناتج عن هذا الموقف المعرفي لتحقيق إرادة الله في كونه.
وننبه هنا إلى أمور قصدها الشارع من توظيف العلم وعلاقة العلم بالوحي:
الأمر الأول: تحقيق الوظيفة الكونية وهي أن نجعل هذا الكون آية دالة على خالقه، كما أشار القرآن في قوله تعالى:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11]، وأن نجعله مفتاحا يلج منه الإنسان إلى الإيمان بعالم الغيب:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} وما لم يجعل الإنسان هذا الكون آية دالة على خالقه فإنه بذلك يكون قد فاته المعنى الإلهي من معرفته بالكون؛ لأن الخلق في ذاته آية دالة على وجود الخالق.
ويتعلق بهذه الوظيفة الكونية معنى آخر حرص الشرع على تحقيقه وتحصيله واستحضاره في عقل الإنسان، وهو أن هذا الكون بما فيه من دقائق الصنعة وما يشتمل عليه من حكمة الصانع يعتبر مرآة تتجلى فيها الصفات الإلهية، ويقرأ العقل فيها حكمة الصانع وحسن تدبيره، ومطلق قدرته وعموم إرادته، وكلما ازداد العقل البشري علما بدقائق الصنعة ازداد قلب العالم إيمانا ويقينا بصفات الصانع وما يجب له من صفات الجلال والجمال والكمال {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} هذه المعاني الكونية حرص الشرع على تحقيقها وتحصيلها من معرفة الإنسان بالكون، وما فيه.
أما الأمر الثاني: وهي تحقيق الوظيفة الاجتماعية للكون، بمعنى أن يحسن المرء تسخير هذا الكون وتوظيفه لتحقيق منافع الإنسان ودفع الضار عنه، والكون هنا كلمة جامعة، تطلق على ما سوى الله تعالى، فالعالم من سمائه إلى أرضه سخر لخدمة الإنسان وتحقيق منافعه كما سبق، فكل ما يمكن أن يوظفه العلم لتحقيق خير الإنسانية من هذا الكون يصير مطلبا شرعيا، فاستخراج المعادن من باطن الأرض وتسخير الأفلاك والإفادة من السببية الكامنة فيها، وما في البحر من عوالم وتسخير الرياح.. كل هذا مطلب شرعي ووظيفة إنسانية في الكون، فإذا ما قصر المسلمون في تحصيل هذه الوظائف لا بد أن يجنوا الثمرة المرة القاسية تخلفا وتأخرا عن ركب التاريخ الذي لا
مكان فيه إلا لمن ملك مفاتيح العلم بأسرار هذا الكون، ولا يحسب هذا الموقف على الإسلام في مصادره بل يحسب على المسلمين الذين أخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم، كما تحسب على ولاة أمور المسلمين الذين آثروا أن يكونوا قادة لقطيع من الجهلاء بدلا من أن يحملوا راية العلم أمام موكب العلماء.
إن القضية هنا ليست علاقة بين الوحي والعلم وإنما هي علاقة أصحاب الوحي وأتباعه بالعلم ومعرفة قوانينه، سواء على مستوى العلم الكوني أم على مستوى العلم الاجتماعي، وكما سبق أن قلنا: إن هذه سنة الله في كونه من أخذ بها وأحسن توظيفها لا بد أن يجني ثمرتها ولو كان من الكافرين، ومن أدار لها ظهره وأعرض عنها جنى ثمرتها مرارة وتخلفا، ولو كان من المؤمنين {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .
الأمر الثالث: إن الدين والعلم يكملان منظومة الموقف المعرفي للإنسان ومعرفته بالوجود وغايته، بدءا ونهاية، بهيئته وهويته، بما شاهده العقل وبما غاب عنه، فالعلم يقف العقل على عالم الشهادة وخصائصه وماهيته، والوحي يقدم للعقل تفسيرا لما عجز عنه العلم من التعرف على عالم الغيب وما فيه ومسائله، كما يعرفه على علل الوجود وغاياته، ومقاصد الخالق سبحانه منه، فيكتمل للعقل عناصر المنظومة المعرفية كلها، فيقف العقل
منها على ما استطاع فهمه وإدراكه، وما عجز عنه البعض فإن البعض الآخر قد يعلمه، ويأتي الوحي كمعلم للعقل يأخذ بيده ليعرفه ما غاب عنه، ويعطيه الإجابة المطمئنة للنفس والقلب معا عن علة الوجود، ومقاصد الخالق منه، وغايته فيه؛ لأن الإجابة عن السؤال المتعلق بالعلل الغائية للوجود ليست من أهداف العلم ولا من مقاصده؛ لأنه يكتفي بالبحث في الظواهر وأسبابها وتوظيفها. أما الإجابة عن علة الوجود وغايته فلا علاقة للعلم بها؛ لأنها من خصائص الوحي ومقاصده، وهي التي تنفي القول بالعبثية عن هذا العالم، ولا مفر للعقل البشري عنها إذا هو لم يتلق إجابة الوحي عن هذا السؤال: لماذا؟
وكم ضلت عقول في هذا المقام وذلت أفهام، وتواردت شبهات ولم تجد العقول أمانا ولا النفوس اطمئنانا إلا في تعاليم الوحي، قال تعالى:{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17] .
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] .
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38، 39] .