الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين العقل والوحي:
لعل ما سبق يقودنا إلى الحديث عن علاقة الوحي بالعقل باعتبار أن كلا منهما وسيلة أو أداة من أدوات المعرفة، لكل منهما مجاله وميدانه الذي نجح في الكشف عنه والتعرف عليه، وعلينا أن ندرك أنهما معا وسيلتان للمعرفة، وكما أن العقل مسلط على عالم الشهادة فكذلك الوحي خاص بالتعرف على عالم الغيب، وليس من هدفنا الدخول في تفصيلات هذه العلاقة، فقد كفانا القدماء الحديث عنها ولكن نود أن ننبه هنا إلى أهم معالم المنهج في هذه القضية. إذ يرتبط المنهج هنا بفهم طبيعة علاقة العقل بعالم الشهادة من جانب وعلاقة العقل بعالم الغيب من جانب آخر، وإذا عرفنا أبعاد علاقة العقل بعالم الغيب والفارق الكبير بينها وبين علاقته بعالم الشهادة، فإنه يكون من اليسير فهم علاقة العقل بالوحي.
1-
مما ينبغي أن نؤمن به إيمانا جازما أن الله أنزل كتابه ليفهم ويتدبر، كما قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، وقال:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] . ولهذا فإن إقبال السلف على حفظ القرآن
وفهمه وحسن تدبره كان مجالا للتنافس فيما بينهم، وحكي عن السلمي قوله: كنا نقرأ العشر الآيات من القرآن ولا نتجاوزها حتى نعلم ما فيها من علم وعمل. وكان بين أصحاب الرسول من هو حبر الأمة وترجمان القرآن، وكان أقرأهم زيد، وأعلمهم بالفرائض. وإذا اختلفوا في شيء ردوه إلى فلان.
كل هذا دليل على عناية جيل الصحابة -ومن بعدهم جيل التابعين- بالقرآن حفظا وفهما وتدبرا، فكلهم لم يقصروا في فهم ما حفظ من القرآن ولم يمتنع عن إعمال عقله في فهم القرآن، بدليل أننا لم نقرأ آية من كتاب الله إلا وجدنا عنها نقولا للصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
2-
لم نقرأ عن الصحابة والتابعين الذين نقلوا إلينا أقوال الرسول وأفعاله أنهم توقفوا أمام آية أو حديث، وقالوا: إن العقل يعارضها أو يرفضها، أو ينبغي تأويلها بصرفها عن ظاهرها، وإنما عملوا بالمحكم وآمنوا بالمتشابه، وقالوا:{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} خاصة فيما يتصل بقضايا الغيب من هذه الآيات، وفي مقدمتها آيات الصفات الإلهية التي هي محك الخلاف بين السلف ومخالفيهم، وكذلك آيات البعث والحساب. كذلك لم يتساءلوا عن كيفية أي صفة من الصفات المذكورة في الآية المعينة أو الحديث المعين، وإنما تلقوها بالقبول كما سمعوها عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
3-
من الأصول المرعية هنا أن النص إذا صح سندا ومتنا وفهما لا يتعارض أبدا مع الدلائل العقلية الصريحة عن الشبهات، والخالية من الشكوك.
ذلك أن العقل والنقل وسيلتان لتحقيق غاية واحدة هي الوصول إلى الحق، والتعرف عليه في الأقوال والأفعال والاعتقادات، والوسائل التي تؤدي إلى غاية واحدة لا يعارض بعضها بعضا وإنما يؤيد ويعاضد بعضها بعضا؛ فكلاهما حق والحق لا يعارض الحق أبدا.
أما الذين يقولون بإمكان التعارض بينهما فتجد أحدهم يدعي أن ما معه من النقل صحيح، وقد يكون الأمر خلاف ذلك، وقد يكون النقل صحيحا ولكن ما فهمه منه ليس فهما صحيحا. وكذلك تجد الآخر يدعي أن معه من الدلائل العقلية المعارضة للسمع ما يرد به نصا صحيحا وعند التأمل تجد أن ما معه ليس له من النظر العقلي الصحيح نصيب، وإنما هو شبهات فاسدة أو شكوك طارئة، سرعان ما تزول بالبرهان القطعي الصريح، أما أن يكون النقل صحيحا والدليل العقلي صريحا فهذان لا يمكن أن يتعارضا أبدا.
4-
يتفرع عن الأصل السابق أن الدليل النقلي الصحيح قطعي الدلالة، والدليل العقلي الصريح هو أيضا قطعي الدلالة. والدلائل القطعية
لا تتعارض، وإنما يتعارض منها ما هو ظني الدلالة أو ظني الثبوت، وإذا قال البعض: إن معه دليلين -عقليا ونقليا- وظنهما متعارضين ينظر فيهما، أيهما كان قطعيا قدم وأخذ به، ويتأخر الظني ويرفض، ليس لكونه عقليا ولا شرعيا ولكن لكونه ظنيا في دلالته، والظني لا يعارض القطعي، وينبغي أن ننبه هنا إلى أن كثيرا مما يسميه الناس دلائل عقلية أو سمعية يعارض بعضها بعضا ليس كثير منها يرقى إلى مستوى البرهان، وهذا متفق عليه؛ لأنه قد لا يكون دليلا في نفس الأمر وإنما هو بحسب من يظنه كذلك.
5-
إن دلالة ما جاء به الشرع في باب الإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته واليوم الآخر والبعث والحساب والجنة والنار
…
إلخ، وهي مسائل الخلاف الجوهرية بين المؤمنين بالوحي ومعارضيهم قديما لم يتنازعوا في دلالته على ما دل عليه من ذلك، والمتنازعون في ذلك لم يتنازعوا في أن السمع دل على ذلك أيضا، وإنما تنازعوا هل عارضه من الدلائل العقلية ما يدفع موجبه أم لا؟
وإذا ظهر معارض له، فأي الدلالتين تكون قطعية والأخرى تكون ظنية؟
وهذا هو مثار الخلاف في أمثال هذه المسائل. وقد عالج هذه القضية أئمة كبار مثل ابن رشد في كتابه فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال كما وضع الإمام ابن تيمية كتابه العظيم: "درء تعارض العقل والنقل" لحسم هذه المشكلة بالأصول العقلية، والنقلية معا.
ولا يستطيع أحد أن يطعن في جنس الأدلة العقلية، ولا فيما علم العقل صحته، وإنما تتجسد المشكلة فيما يدعيه البعض عقليات -ويردون من أجلها ما صح من نصوص الوحي القطعية- وهي في حقيقتها ليست دليلا في نفس الأمر، وكل ما عارضوا به الشرع من هذه الأدلة قد تبين فساده في العقل، فضلا عن معارضة الشرع له.
7-
والدليل لا يمدح ولا يذم لكونه عقليا أو سمعيا، وإنما يمدح الدليل لكونه قطعيا في الدلالة على مطلوبه، والدليل الشرعي لا يقابل بالدليل العقلي وإنما يقابل بالدليل البدعي المحرم؛ لأن الدليل العقلي الصحيح هو في الأصل دليل شرعي دل عليه الشرع نصا أو تنبيها، وأشار إليه وأمر به الشرع، وأوجب الأخذ به.
مفهوم الدليل الشرعي:
وكون الدليل شرعيا يراد به ما أثبته الشرع، ودل عليه بنصوصه الصحيحة.
ويراد به ما أباحه الشرع وأذن فيه. وهذا شامل للأدلة التي نبه إليها القرآن بالأمثال المضروبة في أبواب التوحيد والعدل وإثبات الصفات، فتلك أدلة شرعية وعقلية يعلم المرء صحتها بعقله، فهي براهين وأقيسة عقلية، وهي مع ذلك شرعية نبّه إليها الكتاب العزيز وأمر بها.
وإذا كان الدليل الشرعي لا يعلم إلا بخبر المعصوم كما في إخبار الوحي عن الله وصفاته والبعث والحساب، كان ذلك الدليل شرعيا سمعيا؛ لأنه لا يعلم بطريق العقل وحده بل علم بطريق النص، ويتميز بأنه شرعي وعقلي معا؛ لأنه لا يوجد في العقل الصريح ما يعارضه، والشرع لم يحرم الدليل إلا لأمور خارجة عن مطلب الحق وقصده الذي هو غاية الاستدلال، وهدفه.
1-
فقد يحرم الشرع الدليل لكونه كذبا في نفسه، كأن تكون إحدى المقدمات باطلة، فإنه يكون كذبا، والله يحرم الكذب لا سيما عليه. قال تعالى:{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف: 169] .
2-
وقد يحرم الدليل لأن صاحبه يتكلم فيه بدون علم به، كما قال تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] .
3-
وقد يحرم الدليل لكونه جدالا بالباطل، أو جدالا في الحق بعدما تبين كقوله تعالى:{وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56]، وقوله سبحانه:{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6] .
ويتضح من هذا أن كل دليل كان قطعي الدلالة على مطلوبه هو في حقيقة أمره دليل شرعي نبه إليه الكتاب العزيز، عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله، ولم يحظر الشرع جنس الأدلة العقلية أبدًا ولا قال أحد من السلف بذلك. والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالبرهان، وأمر بتعلمه حيث يجب ذلك، ودل على مجامع البراهين التي يرجع إليها غاية نظر النظار، وأهل العلم بالآثار النبوية يعلمون من ذلك ما يجهله غيرهم، شأنهم في ذلك شأن أهل كل اختصاص كأهل الطب والهندسة في تخصصاتهم المختلفة، فإنهم يعلمون منها ما يجهله غيرهم.
8-
وينبغي أن نعلم أن العقل ليس أصلا في إثبات الشيء في نفسه، فلا يعطيه وجودًا ولا ينفي عنه عدما، كما يدعي ذلك بعض المتكلمين والفلاسفة، وإنما هو أصل في علمنا بالشرع، ذلك أن الأشياء ثابتة في نفسها سواء علمناها بعقولنا أو لم نعلمها، والشرع من هذا الباب مستقل بوجوده عن إدراك العقل له شأن كل الموجودات، فنبوة النبي ورسالته إلى الخلق ثابتة في نفسها
سواء أدركتها عقول البعض أو لم تدركها، وعدم علم البعض بذلك، أو عدم ثبوت ذلك عند البعض، أو رفض البعض لما جاء به الرسول، كل ذلك لا يلغي أن النبوة ثابتة في نفسها، ولا يلغي أن ما جاء به الرسول حق في نفسه.
فالعقل لم يعط الشرع صفة مدح لم تكن ثابتة له، ولم ينف عنه صفة ذم كانت ثابتة له كذلك، ولم يضف إليه من صفات المدح ما ليس فيه، ولم ينف عنه من الصفات ما ليس كذلك. وإنما علم العقل بالشرع على ما هو عليه، على ما نزل به الوحي، وعلى ما أخبر به الرسول، علم العقل من ذلك ما علم وجهل منه ما جهل.
والدعاوى العريضة التي يقول بها المخالفون من أن العقل أصل في إثبات الشرع، أو أن العقل أساس الشرع أو غير ذلك من الأقوال فكلها تحتاج إلى تمحيص؛ لأن علاقة العقل بها هو موجود ليست علاقة إثبات للوجود أو منع له ونفي عنه، وإنما هي علاقة علم بالموجود على ما هو عليه في الوجود الخارجي، فالعقل لا يمنح وجودا للمعدوم، ولا يمنع عدما عن الموجود، حتى يقال: إن العقل أصل في إثبات الشرع، أو إن العقل أساس الشرع، ذلك أن العقل يعلم وجود الأشياء الموجودة بالفعل على ما هي عليه في الوجود، ولا يعلم وجود المعدوم إلا على سبيل التخيل، فكيف يقال: العقل أصل أو أساس للشرع؟
وهنا أمور تحتاج إلى مزيد من الإيضاح:
أولا: إذا كان العقل أصلا في علمنا بالشرع، فإن قضايا الغيب كالإيمان بالله والنبوة واليوم الآخر والصفات الإلهية، هي من الثوابت التي لا مدخل للعقل فيها إلا العلم بها فقط، على ما أخبر به الرسول عنها. أما ما يتصل بحياة الناس اليومية من الشرعيات في مسائل السياسة والاجتماع وما يتفرع عنهما، فهي محل اجتهاد العقول لتستنبط من الأحكام الشرعية ما يسدّ حاجات الناس اليومية المتجددة، وهذه التفرقة بين الثوابت والمتغيرات في علاقة العقل بالشرع أمر على جانب كبير من الأهمية؛ حتى لا تختلط الأوراق عند البعض، فيظن أن ما هو ثابت قابل للاجتهاد العقلي، أو أن ما هو من قبيل المتغيرات يثبت عند حدود وعصر معين، أو اجتهاد فقيه معين.
ثانيا: إذا كان العقل أصلا في علمنا بالشرع، وظهر في الشرعيات ما يعز على العقل فهمه، فلا ينبغي للعقل أن يتهم الشرع أو يرده، ولا ينبغي للعقلاء أن يقولوا: نحن نأخذ بدليل العقل ونرد دليل الشرع، بدعوى أننا لو رفضنا الأخذ بدليل العقل لكان ذلك قدحا في الشرع؛ لأننا عرفنا الشرع بالعقل ولو رددنا أحكام العقل الذي به عرفنا الشرع لكان ذلك رفضا للشرع أيضا. أو غير ذلك من المقولات التي نجدها في بعض
الكتابات قديما وحديثا؛ لأن هذه الأقوال فيها من التمويه والمغالطات الشيء الكثير، ذلك أن علاقة العقل بالشرع هي علاقة تعلم وتلقٍّ خاصة ما يتعلق منه بالغيبيات، ومن المعلوم أن العقل دلنا على صدق الرسول في كل ما أخبر به، وأصبحت طاعة الرسول واجبة في ذلك.
وكثيرا ما نجد في كتابات السلف ضرب الأمثلة التي يوضحون بها نوع العلاقة بين العقل والوحي ليقربوا بها المسألة إلى الأفهام، فهي تشبه إلى حد كبير موقف الرجل العامي الذي يعلم أن فلانا من الناس هو المفتي وجاء إليه من يسأله عن هذا المفتي فدله عليه، وبين له أنه العالم المفتي الذي يستفتيه الناس عند الحاجة، ثم اختلف هذا الرجل العامي مع العالم المفتي وقال لسائله: يجب أن تسمع قولي ولا تسمع قول المفتي، وحينئذ يجب على السائل المستفتي أن يقدم قول المفتي لا قول الرجل العامي.
فإذا قال له الرجل العامي: أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي عند الاختلاف كان ذلك قدحا في الأصل الذي علمت به أنه مفت.
قال له السائل: أنت شهدت بأنه عالم مفت، وزكيته ودللت عليه فشهدت بوجوب إتيانه، والأخذ عنه دون تقليدك، وموافقتي لك في العلم بأنه مفت لا يستلزم بالضرورة أنني أوافقك في العلم بأعيان
المسائل التي هي محل الخلاف بينكما، وخطؤك في أعيان المسائل التي خالفت فيها المفتي، لا يلزم عنه خطؤك في أنك دللت عليه وشهدت له وزكيته وفي علمك بأنه مفت، هذا مع الفارق الكبير، فإن المفتي قد يجوز عليه الخطأ أما الرسول فإنه معصوم؛ ولذلك وجب تقليده على كل من آمن به سواء وافقه عقله، أو خالفه.
وكذلك الأمر بالنسبة لمن شهد له الناس بالطب ومهارته فيه، ثم جاء المريض وسأل العامي عن عنوان الطبيب الماهر فدل المريض على عنوان الطبيب الحاذق فذهب إليه المريض، ووصف له الطبيب العلاج المناسب لعلاج ما يشكو منه، ولما خرج المريض سأله الرجل العامي قائلا: ماذا وصف لك الطبيب، فأخبره المريض بنوع العلاج.
فقال له العامي: إن هذا العلاج غير صحيح، وينبغي أن تتركه ولا تأخذ به.
فقال له المريض: أنت لا تعرف شيئا في مهنة الطب، أما الطبيب فهو أهل اختصاص.
فقال العامي: لا بل يجب أن تسمع قولي لأني قد دللتك على الطبيب، وأنا الذي زكيته لك، فيجب أن تأخذ بقولي في محل الخلاف؛ لأن عدم الأخذ بقولي يقدح في الأصل الذي عرفت به الطبيب، وهنا يقال للعامي: علمك بأنه طبيب ماهر لا يعني أبدا علمك بمهنة الطب.
وكذلك العقل لما دلنا على أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم صحيحة وأنه صادق فيما أخبر به عن ربه، كان ذلك صحيحا منه لوضوح دلائل النبوة لكل ذي عقل، ومعرفة العقل بأن محمدًا نبي بدلائله الواضحة لا يعني أبدا أن العقل متخصص في علم النبوة، وأنه يعلم ما علمه النبي، لا
…
بل هنا يقال للعقل: "ليس هذا بعشك فادرجي" فنحن في حياتنا العادية نعلم أن غيرنا أعلم منا بصناعات كيماوية أو معدنية مختلفة، فإذا سألنا سائل عن صانع حاذق بالمعادن وأنواعها، فدللناه عليه، فهل يعني هذا أننا أكثر علما بهذه الصنعة من الصانع نفسه؟ وهل إذا اختلف معنا السائل في سر من أسرار هذه الصناعة نقول له: إن قولنا مقدم على قول الصانع الماهر فيها؟
إن في ذلك من التمويه والمغالطة ما لا يخفى على العقلاء، وهذا هو شأن من يقدم بين يدي الله ورسوله في مسائل الغيب.
9-
ومن المعلوم أن أفضلية الرسول ومباينته لذوي العقول ليس لها نظير فتقاس به في باب النبوة، فإن من الناس من يمكنه أن يصير عالما بالطب والصناعات المختلفة، ولكن لا يمكن لأحد أن يصير نبيا بعقله، ولا يمكن لمن لم يجعله الله نبيا رسولا أن يصير بمنزلة النبي الرسول؛ فإن النبوة لا تنال بالاجتهاد. فإذا علم المؤمن ذلك وعلم بالعقل أن محمدًا رسول الله وأنه أخبر بشيء ووجد في عقله ما ينازعه في خبره ويعارضه في قبوله
كان عقله يوجب عليه أن يسلم في موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، وإلى من هو متخصص في الأخذ عمن بيده مفاتح الغيب، وأن لا يقدم رأيه على قول الله ورسوله، وإن كان على يقين بأن الله ورسوله أعلم بما أنزل منه، وإن كان في شك من ذلك، فليس له معنا حينئذ حديث؛ لأن كل من تعود معارضة الشرع برأيه لا يستقر في قلبه الإيمان وهو أشبه بمن يعلق إيمانه بالرسول على شرط عدم المعارض العقلي لأقوال الرسول وأخباره، فإيمانه مشروط بعدم المعارضة، ومن المعلوم أن ذلك الموقف هو مدخل الإلحاد، وقد سبق أن بينا أن في أخبار الأنبياء عن الغيب ما لا ينال بالعقل، ولا يدرك بالحس، ويمتنع أن يصل أحد إلى هذه الأخبار الإيمانية إلا بواسطة الوحي والأنبياء عنها فقط.