المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوحي حاجة عقلية: - الوحي والإنسان - قراءة معرفية

[محمد السيد الجليند]

الفصل: ‌الوحي حاجة عقلية:

‌الوحي حاجة عقلية:

لا ريب أن العقل قد وقف على كثير من المعارف المتعلقة بعالم الشهادة وكشف العلم عن كثير من أسرار هذا الكون وقوانينه، وأصبح عالم الشهادة أمام العقل أشبه بالصفحة المقروءة التي يتعامل معها العقل فيفهم منها على قدر استطاعته، ولكي يتكامل الموقف المعرفي أمام العقل فإن ذلك لا يتم له إلا إذا عرف العقل الإجابة اليقينية عن الأسئلة المطروحة عليه منذ الأزل، وهي كلها متعلقة بهذا الكون بدءا ونهاية: من أين، وإلى أين، ولماذا. وهذه المعرفة اليقينية لا سبيل للعلم إليها لأنها ليست داخلة في اختصاص العلم التجريبي كما أنه لا يملك الإجابة عليها وقد جرب العقل الإجابات المطروحة حول هذه الأسئلة خلال موقف المدارس الفلسفية المختلفة فلم يجد فيها أمنا ولا يقينا بل زادته حيرة وشكوكا، فمن قائل بالعبثية المطلقة في تفسيره للوجود بعامة.

ومن قائل بالصدفة.

ومن قائل بالطبيعة والدهر. وكلها إجابات لم تشف للعقل علة ولم ترو للسائل غلة.

ص: 223

فكلها تنفي الغاية والحكمة من وجود هذا العالم، ولا ترى فيه إلا العبثية المطلقة كما قال الشاعر الجاهلي قديما:

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته

ومن تخطئ يعمر فيهرم

وقالوا: ما هي إلا أرحام تدفع، وقبور تبلع وما يهلكنا إلا الدهر. وكما عبر القرآن الكريم عن موقفهم بقوله تعالى:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] .

ولقد ترتب على هذا الموقف الرافض للغاية والحكمة الإلهية من الوجود والقائل بالعبثية أن فتش هؤلاء فيما تحت أيديهم من أقوال فلم يجدوا للوجود معنى ولا للحياة قيمة، وانعكس هذا التفسير على سلوكهم رفضا للحياة بأكملها، وهربا من الوجود الذي لا معنى له، فكان الانتحار هو المخلص لهم من هذا الوجود العبثي.

والعقل السليم يرفض هذا التفسير ويأباه، وليس ذلك من باب المصادرة على آراء الآخرين، وليس من باب وضع العربة أمام الحصان كما يسميها البعض، ولكن القضية أمامنا أشبه بالكتاب المفتوح، فمن أراد أن يقرأ بعقل واعٍ خالٍ من الشبهات فعليه أن يطالع صفحة الكون، وأن يتأمل في كل جزئية منه بدءا من نفسه هو ومن جسمه هو، ومن حبة القمح التي يزرعها ويأكلها، فإنه يجد لا محالة أن كل شيء في الكون موظف لأداء غاية مطلوبة ولحكمة

ص: 224

مقصودة للخالق سبحانه، وكل فرد من أفراد العالم يتناغم مع غيره في تناسق عجيب لأداء وظيفة كلية للكون بأسره، فالجماد بعناصره الأساسية موظف لخدمة النبات.

والنبات بما يحتويه من مواد غذائية موظف لخدمة الحيوان.

والحيوان موظف لخدمة الإنسان.

وكل فرد من أفراد هذه العوالم المتنوعة، تجد كل جزئية فيه تتكامل مع غيرها لأداء وظيفته الخاصة به بحيث تجد أفراد العالم كلها تتعاون فيما بينها، وتتكامل لأداء وظيفة مقصودة وتحقيق غاية مطلوبة.

وهذا التكامل ليس قاصرا على ما نشاهده في عالمنا الأرضي فقط، وإنما هو أشد ما يكون ظهورا في عالم الأفلاك، {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ومن أراد شيئا من المعرفة بعلم الفلك وما يطالعنا به من آيات باهرة في دقة النظام الكوني، فليراجع ما اكتشفه العلماء من ذلك مما يبهر العقول1. علم ذلك من علمه وجهله من جهله والأمثلة الدالة على

1 راجع في ذلك الله يتجلى في عصر العلم، الإسلام يتحدى لوحيد الدين خان، وكتابات الدكتور زغلول النجار ومحاضراته الرائعة في التلفاز حول هذه القضية.

ص: 225

ذلك تخرج عن الحصر:

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الخالق

فإن عين الإنسان لا تقع على شيء فيما حوله إلا هو ناطق بما لله فيه من حكمة مرعية وغاية مقصودة. ولقد عبر القدماء من مفكري الإسلام عن هذا الأمر الأهم في عبارات واضحة وأدلة برهانية، فلقد أشار إلى ذلك أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر: وجعل جسم الإنسان نفسه آية دالة على ما لله من قصد وغاية في خلق أعضائه على هذا النحو الذي تتعاون فيه وتتكامل لأداء وظيفة الإنسان، فخلق العين في مقدمة الرأس وليس في المؤخرة، وخلق السمع والشم والذوق التي هي وسائل الإدراك على هذا النحو التكاملي، مما يدل على أن هناك فاعلا حكيما وأن له غاية وقصدا فيما خلق، مما ينفي القول بالعبث أو المصادفة، قال تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20، 21] .

ولقد أشار ابن رشد إلى هذا المعنى وسماه دليل العناية، واستدل على ذلك بآيات الذكر الحكيم. ولا شك أن العناية بالمخلوق تتضمن القصد والحكمة للخالق مما ينتفي معه القول بالعبثية: إن العقل لم يجد في مذاهب الفلاسفة برد اليقين الذي أشار إليه أبو حامد الغزالي، بل زادته آراؤهم حيرة واضطرابا، هذا من جانب الفلسفة والفلاسفة.

ص: 226

أما في جانب العلم واكتشافات العلماء فلا شك أن الإنسان تتملكه الدهشة ويستولي عليه العجب لما قطعه العلم من أشواط ومسافات كبيرة في اكتشاف مجاهل هذا الكون. فكم من قوانين كونية اكتشفها العلماء، وكم من الظواهر الطبيعية أدرك العلماء أسبابها والعلاقات المتبادلة بينها وبين أسبابها.

فعرفوا كيف يوظفون الكون ويسخرون هذه القوانين لصالح البشرية أحيانا، ولدمارها أحيانا أخرى، ولا شك أن ذلك كله في ميزان العلم والعلماء، وكلما ازداد العلماء اكتشافا لغوامض الكون ودقائقه يزداد علمهم بمدى الجهل والغموض الذي يحيط بهم في هذا الكون. ولا شك أن كل كشف علمي جديد يعتبر إضافة لرصيد المعرفة الإنسانية بالكون، وفي نفس الوقت يعتبر كشفا عما كان يجهله العقل. وهكذا تتوالى الكشوف العلمية التي تحمل معها مدى المساحة الشاسعة التي يجهلها العقل، ويعرف منها كل جديد.

ومع كثرة هذه الكشوف وأهميتها بالنسبة لحياة الإنسان إلا أنها في مجموعها تتعلق بظواهر الكون وتفسير علاقات أفراده، قال تعالى:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] . ومع كثرة هذه الكشوف إلا أنها لم تفسر لنا لغز الحياة ولا سر الوجود، وهذا ضلع المثلث الذي لا يكتمل الموقف المعرفي للعقل إلا به، والكشف عنه والاعتقاد فيه. إن العلم مع كثرة كشوفه لم يحمل لنا إجابة شافية للعقل من حيرته حول هذه الأسئلة:

ص: 227

من أين، إلى أين، لماذا؟ والذين اكتفوا بالموقف الفلسفي المادي في تفسيرهم للوجود ورفضوا الإصغاء لصوت الوحي لم يجدوا ما لهم بديلا عنه إلا القول بالعبثية. ودخلوا بذلك في نفق الإلحاد المظلم الذي كانت نهايته إما الانتحار وإما الارتماء في أودية الحيرة والضلال، وهم بذلك لم ينصروا حقا ولم ينصفوا عقلا.

إن سر الوجود لم يكشف عنه العلم لأن ذلك ليس من وظيفة العلم ولا من مهمة العلماء؛ لأن مهمة العلم هي الكشف عن القوانين التي تحكم علاقة الظواهر الطبيعية، وكيف يفيد الإنسان منها، وكيف يسخرها لصالحه.

إن مهمة العلم وصف الظواهر بحيث يبين لنا ما هي، وكيف حدثت الظاهرة، وإنه يبين لنا الإجابة عن السؤال: ما هذا؟ ولكن ليس لدى العلم إجابة عن السؤال لماذا.... لماذا كان هذا الوجود أصلا؟ ولماذا كان هذا الوجود على هذه الكيفية دون غيرها؟ إن العلم يضع أمام الإنسان مشاهدات للوقائع التي يتعامل معها في كشوفه العلمية، ولكنه لا يحمل الغاية منها، فالإنسان يأكل الطعام، ويعرف الطبيب كيف يتحول الطعام في جسم الإنسان إلى طاقة عن طريق الهضم والتمثيل الغذائي خلال الجهاز الهضمي ودوره المعروف للأطباء في هذه العملية، ولكن لا يعرف الطبيب لماذا تتحول هذه الطاقة في العين إلى قوة باصرة، ولا يعرف لماذا تتحول هذه الطاقة في الأذن إلى قوة سامعة، ولا لماذا تتحول هذه الطاقة في اليد إلى قوة باطشة،

ص: 228

ولا لماذا تتحول في الإنسان إلى قوة مدركة عاقلة، ولم يتساءل عنها الطبيب لأنها أصلا ليست من مهمة العلم، ولو سألت طبيبا لم تتوزع الأغذية في بدن الإنسان إلى طاقة تؤدي دائما إلى وظائف محددة في كل عضو من أعضاء الجسم، وإن هذه الوظائف لا تتخلف أبدا إلا لعلة طارئة؟ أو كيف تنظم هذه الطاقة وظيفتها في كل كائن حي حتى يطير بها الطير في السماء، ويسبح بها السمك في الماء، ويعيش بها الإنسان على وجه الأرض؟ لكانت إجابة الطبيب عن هذه الأسئلة: إن ذلك ليس داخلا في مهمة العلم، إن العلم يصف ما يحدث وليس من مهمة العالم أن يتكلم عن لماذا يحدث؟

إن معرفة العلل الغائية لهذا الوجود سر لا يكشف عنه إلا الوحي؛ لأن العلم كما قلنا يتكلم عما يحدث ولا يعنيه التحدث عن العلة الغائية التي هي إجابة عن السؤال: لماذا؟ ولا راحة للعقل إلا باكتمال الموقف المعرفي لديه، وإذا كان العلم قد كشف له عن كثير من دقائق هذا الكون وأسراره، فيأتي دور الوحي ليقول للعقل ما عجز عنه العلم، ويعرفه بأسباب هذا الوجود، ويكشف له عن غاياته وأهدافه؛ حتى لا يقع العقل في أودية الحيرة وضلال العبثية.

وصدق الله العظيم: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .

{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] .

ص: 229

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38، 39] .

إن الوحي هو الذي يقدم للعقل تفسيرا مقنعا لعلة الوجود وغايته، والوحي هو الذي يقول للعقل: إن هناك حياة آخرة بعد الحياة الدنيا يكتمل بها حكمة الوجود الإنساني، يكتمل بها الموقف المعرفي للعقل، يكتمل بها منظومة الوجود كله في ضوء من العدل الإلهي الذي به يكون للوجود معنى وللأخلاق أثر في سلوك الإنسان.

إن الوجود الإنساني لو كان قاصرا على هذه الحياة فقط لكان وجود الإنسان فيها هو البؤس بعينه، ولما كان للوجود معنى ولا للحياة قيمة، فحياة الإنسان تحيط به من كل جانب بما يدعو إلى الإشفاق، فما أكثر الآلام والأمراض، وما أكثر المظالم والطغيان، وما أكثر عوامل القهر والتسلط بين بني الإنسان، فالقوي متسلط على الضعيف، والغني متسلط على الفقير، والحاكم متسلط على المحكوم، وكم من مظاهر الفساد والإفساد، فإذا لم يكن هناك حياة آخرة يقتصّ فيها للمظلوم من الظالم وللضعيف من القوي وللشعوب من حكامها لكان الوجود كله عبثا، وهذا ما يرفضه العقل وينفيه النقل. قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 115] .

{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار} [ص: 28] .

ص: 230

{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3] .

{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] .

{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281] .

إن قيمة الحياة الإنسانية لا يكون لها معنى إلا في الاعتقاد باليوم الآخر كضرورة دينية وأخلاقية معا، عبر عنها القرآن الكريم في أكثر من آية. وهذا الأمر ليس من مهمة العلم الكشف عنه، وليس من اختصاص العلماء البحث فيه، وإنما هو نور الوحي وهداية الأنبياء؛ لكي يؤمن المرء بعدالة الخالق بين عباده، والتي عبر عنها كثير من الأحاديث الصحيحة حتى إن الله يقتص للشاة الظلفاء من الشاة القرناء. وإذا كان ميزان العدالة قد اهتزّ في يد البشر في حياتهم الدنيا، فإنه غير قابل للخلل في يد الخالق سبحانه، وكل هذه المعارف الدينية لا سبيل إليها إلا بطريق الوحي. فتسكن النفوس من حيرتها وتطمئن القلوب، حيث يجد المظلوم والضعيف والفقير ما وعدهم ربهم حقا في الآخرة كما آمن بمصداقية الوحي فيما أمر به، ونهى عنه في الدنيا.

ص: 231