الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكون موضوع المعرفة:
والمقصود هنا هو هذا الكون بطرفيه؛ الكون الطبيعي والكون الاجتماعي، وكلاهما صفحة مفتوحة أمام العقل البشري يقرأ فيها ويقرأ منها على قدر استطاعته، يقرأ في العالم الأرضي كما يقرأ في العالم العلوي وما يحتويه هذا وذاك من مظاهر، وظواهر فالكون كله خاضع لسلطان العقل قابل لأن يعرف، بل إنه يجود في كثير من الأحيان بإظهار أسراره والكشف عن قوانينه، وعلى الإنسان أن يلاحظ ويتأمل، وأن يربط بين الظواهر وأسبابها ليتعرف على العلاقات الكامنة بين ظواهر الكون.
وفي التصور الإسلامي نجد أن هذا الكون موضوع المعرفة لم يخلق عبثا ولا مصادفة، وإنما خلق لتحقيق غاية مقصودة ووظائف منشودة. قال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} ، {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} .
{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} .
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} ، فقال تعالى:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} .
وهذه قضية حاسمة في الفرق بين التصور الإسلامي للمعرفة وغاياتها وأهدافها والتصور الفلسفي عند الماديين، فلا مجال هنا للقول بالعبثية أو المصادفة، والكون كله من سمائه إلى أرضه ما علمناه منه وما لم نعلمه مظهر من مظاهر الحكمة والإتقان والعلم، علم ذلك من علمه وجهله من جهله، إنه صنع الله الذي أتقن كل شيء.
وهذا عكس ما تجده لدى المدارس الفلسفية المادية.
فالكون عندهم ليس له غاية ولا وظيفة؛ ولذلك كان القول بالعبثية أو المصادفة هو الجواب عن علة الخلق وسبب الوجود، وبالتالي فقد قطعوا العلاقة بين الكون وخالقه من جانب وبينه وبين غايته وأهدافه من جانب آخر، وأصبحت الحياة كلها مظهرا من مظاهر العبث واللهو، فلا غاية عندهم من خلق الكون ولا هدف مقصودا، وإنما هي أرحام تدفع وقبور تبلع كما قال الدهريون.
وفي التصور الإسلامي تتجسد الغاية والمقاصد وتنتفي المصادفة والعبثية، وفي القرآن الكريم نجد الإشارات المتكررة التي تلفت نظرنا إلى وظائف هذا الكون، وغاياته التي أمرنا الوحي
بالكشف عنها والإيمان بها، والعمل في ضوئها وبمقتضاها، والسير نحو تحقيق هذه الوظائف وتلك الغايات وعدم التعارض معها أو العمل على عكس مقتضاها. ومن أهم هذه الوظائف ما يلي:
الوظيفة الأولى:
1-
إن هذا الكون بطرفيه: الطبيعي والاجتماعي آية دالة على خالقه، وكل جزئية منه تحمل في طياتها هذا المعنى. إنها آية دالة على أن لها خالقا، فهي لم توجد من العدم، وهي لم تخلق نفسها كما قال سبحانه وتعالى:{أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور: 36] .
ويؤكد القرآن الكريم في الكثير من الآيات على هذه الوظيفة، وعلى أهميتها في التعامل مع الكون موضوع المعرفة باعتبار أن الكون كله آية وبرهان عملي واقعي على أن له خالقا.
وعليك أن تقف معي أمام هذه الآيات متأملا لتعرف أهمية هذه الوظيفة في دلالة الكون على خالقه، قال تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20، 21] .
{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] .
{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48] .
ولقد تكرر التذكير بهذه الآيات البينات في القرآن الكريم أحيانا في صيغة الإخبار عنها نصا صريحا كما في سورة الروم:
{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} .
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 20-25] .
وأحيانا يسوق هذه الآيات في صيغة الاستفهام التقريري:
وأحيانا يأتي الاستفهام متضمنا معنى السخرية والاستهزاء ممن أشرك أو أنكر هذه الآيات أو نسب الخلق إلى غير الخالق سبحانه فيسألهم عمن خلق هذه الآيات، قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ
اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 60-64] .
وعليك أن تراجع آيات القرآن المكي الذي عُني بتأسيس اليقين وبناء العقيدة وما ذكره من آيات بينات دالة كلها على خالقها سواء كانت هذه الآيات تتعلق بالآفاق أو بالأنفس، وسواء كانت تتعلق بالكون الطبيعي وقانونه، أو بالكون الاجتماعي وسنن الله في قيامه أو انهياره. وكلها تؤكد أن هذا الكون آية، وكل جزئية منه آية. وصدق الشاعر لبيد حين قال:
وفي كل شيء له آية
…
تدل على أنه الخالق
وكما أرشدنا القرآن إلى التأمل في الكون الطبيعي وآيات الله فيه، نبهنا كذلك إلى تأمل آيات الله في الكون الاجتماعي وسنن الله في استقرار الملك فيه، فكان يذكر القصة وما يحيط بها من ملابسات وعوامل الاستقرار أو الانهيار، ثم يختمها بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً
…
} . ولقد تكرر ذلك في القرآن كثيرا؛ ليفيد منه المسلمون ويعوا الدرس ويأخذوا العبرة كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف: 111] وقال سبحانه: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي
هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120] . فبالإضافة إلى تثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم كان على المسلمين أن يفقهوا الموعظة ويتذكروا سنة الله في الأمم الخالية، ويجب على المسلم أن يراجع ما قصه القرآن الكريم من أحوال الأمم الماضية؛ ليعلم يقينا أن السنن ماضية في الكون الاجتماعي بنفس الدرجة التي تعمل بها في الكون الطبيعي، وكما أن النار سبب في الإحراق فكذلك الظلم والفساد سبب في انهيار الملك، ولا فرق بين تحقق القانون هنا أو هناك إذا وجد المقتضى التام وارتفعت الموانع، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
الوظيفة الثانية:
2-
الكون مرآة تتجلى فيه صفات الخالق:
يرتبط بالوظيفة السابقة ارتباطا مباشرا أن هذا الكون وما يحتويه من آيات بينات دالة على خالقها، أنه في نفس الوقت مرآة تنعكس على صفحتها صفات الصانع، وتتجلى فيه آثار صفاته الإلهية. فما أشبه الكون بطرفيه الطبيعي والاجتماعي بمعرض صناعي تظهر في أرجائه أنواع الصنعة الإلهية وتتجلى في أقطاره الأرضية وعوالمه العلوية صفات الحق سبحانه من العلم الذي تنكشف به دقائق هذا الكون وتتجلى غوامضه، ومن الإرادة الشاملة العامة، والقدرة المطلقة، والحكمة التي تنبئ عنها كل جزئيات هذا الكون صغيرة أو كبيرة، ظاهرة وباطنة، علوية وسفلية.
نعم، إنه معرض للصنعة الإلهية بفتح أبوابه أمام العقل من خلال آياته، وللعقل أن يجول في أنحاء هذا المعرض يقرأ فيه ويقرأ منه على قدر استطاعته، وما يراه العقل في هذه الصنعة من مظاهر المعرفة والإحكام والقدرة، فعليه أن يعلم أن هذه المظاهر مستمدة من صفات صانعها، وكلما ازداد العقل قراءة في هذه الصنعة ازداد فقها بها، فقها لها وقربا من صانعها، فيمتلئ قلبه شوقا وحبا ومعرفة به، ويتولد في القلب خشية منه، وطلبا للمزيد من العلم به والعلم منه كما قال سبحانه:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ، {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه} .
وحين تقرأ آيات القرآن الكريم تجد الحق سبحانه ينبّهنا في كثير من الآيات إلى مظاهر صفات الخالق سبحانه التي تنعكس آثارها في مفردات هذا الكون، وخاصة تلك الآيات التي أقسم بها القرآن الكريم والتي تتجلى في كل واحدة منها آثار صفات الله الحق سبحانه من دقة، وإتقان، وإرادة، وقدرة، وعلم، وحكمة.
وعليك أن تراجع ما أقسم به القرآن الكريم من آيات الله في الآفاق أو آيات الأنفس، وتتأمل ما فيها من دلائل حكمته، وطلاقة قدرته، وشمول إرادته. قال تعالى:
{فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق: 16-18] .
{فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 15-18] .
{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75، 76] .
{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ، وَمَا لا تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38، 39] .
وإذا كانت هذه الآيات قد صرح القرآن فيها بلفظ القسم، فهناك آيات أخرى أقسم بها القرآن بدون تصريح بلفظ القسم وليست أقل دلالة على صفات الخالق من سابقتها، قال تعالى:
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 1، 2] .
{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 1-3] .
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج} [البروج: 1] .
وهناك آيات آخرى نبهنا إليها القرآن الكريم على سبيل الإخبار عنها لنقرأ فيها حكمة الصانع وقدرته، قال تعالى:
والتذكير بهذه الآلاء الدالة على صفات الخالق سبحانه كثير الورود في القرآن الكريم، ولم نقصد من ذكر هذه الآيات إلا أن نلفت الانتباه إلى هذه الوظيفة الكونية الغائبة عن العقول. إن كل جزئية في هذا العالم تحمل في دلالتها أثرا من آثار صفات الخالق لها، واستجلاء هذه الآثار إحدى مهام العقل ووظيفته ولا سبيل للعقل إليها إلا إذا وقف أمامها متأملا متعجبا متسائلا كما قال سبحانه:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19] .
فأنت إذا ألقيت سمعك أو قلبت ناظريك في العالم الذي تعيشه ترى فيه من العجائب ما يبهر العقول، فانظر مليا في هذه الأرض التي جعلها الله مهادا للإنسان، وجعلها كفاتا لحاجاته من الطعام والشراب، يلقي فيها البذرة والحبة فتتغذى بماء واحد، وتربتها واحدة، وتتنفس هواء واحدا كما قال سبحانه:{صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4] ، ومع وحدة الأصول والمصادر تختلف الألوان، وتتنوع المذاقات.
فهذا ثمره حلو وذاك مر وهذا حامض وذاك حارّ، فانظر كيف تتحد الأصول وتتنوع الثمار، وتختلف ألوانها فهذا لونه أبيض وذاك أحمر أو أخضر كما قال سبحانه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر: 27] ليقرأ فيها العقل طلاقة قدرة الخالق وكمال إرادته، كيف يتحول الماء العذب في جذوع هذه الثمار إلى مرارة في بعضها وحلاوة في بعضها الآخر، كيف يتم ذلك داخل هذا المصنع النباتي إلا إذا كان الصانع مطلق الإرادة والقدرة يفعل ما يشاء وكيف يشاء، ولا يقولن أحد: إن ذلك محكوم بطبيعة البذرة وخصائصها؛ لأن ذلك من لغو الحديث، فإن الذي طبع الثمار وخلقها على هذا النحو العجيب هو هو الذي جعلها مصنعا لهذه الثمار المتنوعة طعما ولونا وشكلا.
وإذا تأملت جسم الإنسان فإنك تقرأ فيه من آثار الحكمة والعلم ومن صفات الخالق ما يسعه وعاء عقلك، وما غاب عنك أكثر وأكثر فالجسم غذاؤه واحد، وشرابه واحد، وهواؤه واحد، ولكن هذه المواد تتحول في جسم الإنسان إلى طاقات متنوعة الوظائف.
فكيف تتحول هذه المواد إلى طاقة باصرة في العين.
وكيف تتحول إلى طاقة سامعة في الأذن.
وكيف تتحول إلى طاقة هاضمة في المعدة.
وكيف تتم عملية تصنيع الدم بمكوناته المختلفة. وكيف وكيف
…
ألا يقرأ العقل في هذا كله آثار الصفات الإلهية من الحكمة والعلم والقدرة.
ولقد أشار القدماء إلى بعض هذه المعاني كالإمام الأشعري في رسالة أهل الثغر وابن القيم في إغاثة اللهفان وابن رشد في مناهج الأدلة ما بين إيجاز وإطناب، ثم جاءت الكشوف العلمية فكشفت الستار عن كثير من هذه الغوامض، وأظهرت الكثير من معالم الحكمة والتقدير الإلهي في مفردات هذا العالم، والتي نبه القرآن الكريم إلى كلياتها أحيانا، وإلى مفرداتها أحيانا أخرى، ولقد وقف العلماء المعاصرون أمام حشرة النحلة في حيرة كيف يتم تصنيعها للعسل، وكيف يتحول غذاء النحل إلى هذا الشراب، متسائلين عن أسرار
صنعه وهو الشافي لكثير من الأمراض، ووضعوا الكثير من المؤلفات التي حملت معها عجبهم وإيمانهم بحكمة الصانع وإتقان الصنعة في هذه الحشرة الضئيلة، وكذلك الحيوان، كيف يتم تصنيع اللبن واستخراجه من بين فرث ودم سائغا للشاربين.
ألم تشاهد يوما ما حيوانا يداعب طفله الصغير وكيف يحنو عليه، كيف يحمله بين فكيه لينقله من مكان إلى آخر أكثر آمنا ومجلبة للاطمئنان.
ألم تشاهد طيرا وهو يطعم صغيره ويضع حبات الطعام في فيه بطريقة هندسية تلفت النظر؟ إن هذه المظاهر وغيرها كثير لا بد أن تنبه الإنسان ليتساءل حولها: من أودع الرحمة في قلب هذا الحيوان المفترس حتى صار رحيما بطفله؟ من علم الطير كيف يلتقط الغذاء ويختزنه ويحمله من مكان قصي ليضعه في فم طفله؟ من علم طفل الحيوان كيف يلتقط ثدي أمه بطريقة تدل على أنه قد تدرب عليها منذ زمن بعيد؟
إن هذه المشاهدات كلها تحمل معها آثار صانعها وصفاته من الرحمة، والعلم، والحكمة، والقدرة، والإرادة، مما يدل على أن الكون كله مظهر من مظاهر صفات الحق سبحانه. يقول أبو الحسن الأشعري مشيرا إلى هذا المعاني الدقيقة: ويدل ترتيب ذلك على محدث قادر حكيم، من قبل أن ذلك لا يجوز أن يقع باتفاق، فيتم من
غير مرتب له، ولا قاصد إلى ما وجد منه فيها دون ما كان يجوز وقوعه عليها من الهيئات المخالفة لها، وجواز تقدمها في الزمان وتأخرها، وحاجتها بذلك إلى محدثها ومرتبها، ثم يضرب مثالا شارحا لمعنى القصد والإرادة الإلهية والغاية المطلوبة وتحققها دون غيرها فيقول: "لأن سلالة الطين والماء المهين يحتمل من الهيئات ضروبا كثيرة لا يقتضي واحد منها سلالة الطين ولا الماء المهين بنفسه، ولا يجوز أن يقع شيء من ذلك فيها بالاتفاق لاحتمالها لغيره، فإذا وجدنا ما صار إليه الإنسان في هيئته المخصوصة به دون غيره من الأجسام، وما فيه من الآلات المعدة لمصالحه كسمعه وبصره وشمه وحسه وآلات ذوقه، وما أعد له من آلات الغذاء التي لا قوام له إلا بها على ترتيب ما قد أحوج إليه من ذلك، حتى يوجد في حال حاجته إلى الرضاع بلا أسنان تمنعه من غذائه، وتحول بينه وبين مرضعته، فإذا نقل من ذلك وأحوج إلى غذاء ولا ينتفع به ولا يصل منه إلى غرضه إلا بطحنها له، جعل له منها بقدر ما به الحاجة في ذلك إليه، والمعدة المعدَّة لطبخ ما يصل إليها من ذلك وتلطيفه حتى وصل إلى الشعر والظفر وغير ذلك من سائر الأعضاء، في مجار لطاف قد هيئت لذلك بمقدار ما يقيمها، والكبد المعدَّة لتسخينها بما يصل إليها من حرارة القلب، والرئة المهيأة لإخراج بخار الحرارة التي في القلب، وإدخال ما يعتدل به من الهواء البارد وباجتذاب المناخر له وما فيها من الآلات المعدة لخروج ما يفضل من الغذاء عن مقدار الحاجة في مجار ينفذ منها ذلك
…
وغير ذلك مما يطول
شرحه مما لا يصح وقوعه بالاتفاق، ولا يستغني فيما هو عليه من مقدر له يرتبه
…
ولا مدبر
…
كما لا يصح أن تترتب الدار على ما يحتاج إليه فيها من البناء بغير مدبر يقسم ذلك فيها، ويقصد إلى ترتيبها"1.
إن المعاني التي نبه إليها الأشعري في بنية الإنسان توجد كذلك في كل كائن حي، كما توجد في النبات، وهي معانٍ جامعة لصفات القصد والغاية التي ينتفي معها القول بالمصادفة والقول بالعبثية، وجامعة لصفات العلم والحكمة التي ينتفي معها الجهل واللهو والعبث، وجامعة لصفات الإرادة والقدرة التي ينتفي معها العجز.
وكلها في النهاية تؤدي إلى العناية بالمخلوق ورعايته، وينبغي استجلاء هذه المعاني من القرآن الكريم والتنبيه إليها والاهتمام بها وتربية النشء عليها وامتلاء قلوبهم بالإيمان بها، والاعتقاد فيها لأنها قطب الرحى في تثبيت قضية الإيمان في القلوب. إن مناهج الدراسة في المؤسسات التعليمية ينبغي أن تجعل من هذه القضية محورا أساسيا تربي عليها الشباب حتى ينشأ المرء عارفا بربه من خلال تعرفه على دقائق صنعته في كل جزئيات هذا الكون، فيتعرف الطبيب والمهندس وعالم النبات والفلكي وعالم الحشرات، كل فيما يخصه على دقائق الصنعة التي هو بصددها ويستخرج ما فيها من
1 راجع أصول أهل السنة والجماعة ص35-38، الطبعة الأولى سنة 1987.
دلائل القدرة والعلم والحكمة والقصد والغاية ليزداد إيمانا على إيمانه إن كان مؤمنا، وليعلم أن هذه المعاني لا يمكن أن تقع مصادفة وبلا قصد ولا غاية من الفاعل الخالق، فيؤمن أن وراءها خالقا قادرا وليعلم أنها {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] .
إن محاربة الإلحاد لا يكفي فيها الوعظ والإرشاد واستعمال العبارات المسيلة للدموع، وإنما ينبغي أن يعيش المسلم لغة عصره وثقافته، فيتخذ من العلم سلاحا يتزود به في مواجهة الإلحاد المتفشي في بؤر كثيرة ومستنقعات عفنة لا سبيل إلى تطهيرها من هذا المرض إلا بسلاح العلم ولغته، والسبيل إلى هذا هو أن تشتمل مناهج الدراسة في مؤسساتنا على هذا الزاد العلمي، وأن يدرس الطلاب هذه العلوم بروح قرآنية تربط بين موضوعات هذه العلوم والغاية منها وأنها لم تخلق عبثا، وأن تربط بينها وبين خالقها من جانب آخر، حتى لا يقع الشباب في أودية الضلال.
وكذلك فمن الضروري أن يقف الشباب على أن هذه المفردات الكونية تحمل معها آثار صفات خالقها فيتحول الكون كله أمام العالم والمتعلم إلى مرآة يقرءون على صفحتها دلائل قدرة الخالق وعلمه وحكمته وإرادته، بالإضافة إلى كون ذلك كله آية دالة على الخالق سبحانه، وليس من الحكمة ولا من الصواب منهجيا أن يدرس الطلاب هذه العلوم بروح إلحادية تقطع صلة الكون بخالقه، وتقف بالطلاب عند مجرد اكتشاف الأسباب المادية دون أن يصلوا هذه
الأسباب بالمسبب الأول وهو الله، ودون أن يشرحوا للطلاب أن هذه الأسباب ليست فاعلة ولا مؤثرة بذاتها وإنما هي فاعلة بفعل الله فيها، فهو الذي أودع فيها خاصية التأثير فكانت مؤثرة، وهو الذي جعل المسببات قابلة للأثر فكانت منفعلة بأسبابها، أما أن تدرس هذه العلوم الكونية بمعزل عن روح القرآن فإن ذلك عين العبث بعقول الأمة وضياع للناشئة في متاهات الحيرة وأودية الشكوك والشبهات. إن المنهج الذي تدرس به هذه العلوم الكونية في مؤسساتنا منهج غربي نشأ وتأسس على مبدأ قطع الصلة بين الكون وخالقه، وأن هذا الكون المادي ليس وراءه خالق نبحث عنه أو نؤمن به، وأن محاولة البحث عن الخالق أو مجرد الحديث عنه لون من ألوان الخرافة والجهل، وليس وراء المادة والعلم ما ينبغي أن نتعلق به أو نشغل أنفسنا به. على هذا النحو من بتر الصلة بين الكون والخالق، تأسس المنهج الغربي في دراسة الكون وعلومه، فلماذا الحرص على الأخذ بهذا المنهج في بلادنا؟
ولماذا الحرص على أن نربي عليه أبناءنا؟ ولماذا الإصرار على الالتزام بهذا المنهج الذي يزرع الشكوك ويثير الشبهات أمام الناشئة؟
أليس من الحكمة أن نربي أبناءنا بمنهج نربط به بين الكون، وخالقه لنحقق خلاله هذه الوظائف التي نبهنا إليها القرآن الكريم.
الوظيفة الثالثة:
3-
دلالته على عالم الغيب:
إن وجود هذا الكون شاهد على عالم الغيب ودليل عليه، هو دليل على النشأة الآخرة، ذلك أن هذا العالم الحسي قد ثبت وجوده بحكم الواقع والمشاهدة، ولا شك في أن الواقع دليل عملي أكثر يقينا من الدليل النظري بحكم التجربة والمشاهدة، ولا شك أن هذا العالم لم يخلق نفسه، ولم يوجد من غير خالق، والذي أوجده أول مرة يكون قادرا على إعادة خلقه مرة ثانية، وإذا أخبرنا القرآن أن الله سوف يعيد الخلق مرة ثانية، فإنه بذلك يكون صادقا، وليس في منطق العقل دليل على امتناع ذلك بل إن العقل يقبل ذلك ويؤيده من خلال مشاهدته لهذا العالم الحسي، ومن خلال المشاهدات اليومية لأفعال البشر -ولله المثل الأعلى- فإنك إذا رأيت إنسانا يحمل أثقالا، مائة كيلو جرام مثلا، ثم جاء من يحدثك أنه رأى نفس الشخص يحمل 50 كيلو جراما فإن العقل يكون أكثر أمانا لقبول هذا الخبر وتصديقه؛ لأن مشاهدتك له وهو يحمل مائة كيلو خير دليل على صدق من حدثك بأنه يحمل 50 كيلو أقل مما رأيته أنت بنفسك، وهذا يعني أن عوامل صدق الخبر أكثر.
ولو جاء من حدثك أنه رأى الشخص يحمل مائتين أو ثلاثمائة، ربما توقفت في قبول الخبر وتصديقه، وربما خالجك نوع من الريب في ذلك، ولكن لما رأيته يحمل مائة كيلو وجاء من حدثك بأنه يحمل أقل مما رأيته كان الخبر أولى بالقبول والصدق من باب أولى.
والله تعالى قد خلق هذا العالم أول مرة من العدم، وأخبرنا في كتابه الكريم أن هذه الحياة الدنيا ليست غاية في ذاتها، وإنما هي مزرعة الآخرة، حيث تجزى فيها كل نفس بما كسبت، يقتص فيها من الظالم للمظلوم تحقيقا لمعنى العدل الإلهي كما قال سبحانه:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] ، والعقل يجد قبولا لأخبار القرآن عن اليوم الآخر وتصديقا له وذلك من خلال مشاهدته لهذا العالم، وإيمانه بأن الذي خلق أول مرة يكون قادرا على إعادة الخلق مرة ثانية.
ومعلوم أن الخلق الأول كان من العدم، والخلق الثاني لا يكون من العدم وإنما يكون من وجود، ذلك أن الإنسان إذا مات تحلل جسده وعاد إلى أصله الترابي، فالجسد الإنساني ليس غريبا على التراب وإنما هو منه وإليه كما قال سبحانه:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] ، ولما كان الخلق أول مرة من العدم كان أكثر صعوبة في منطق العقل من الخلق الثاني، وبالتالي يكون الخلق الثاني أهون وأيسر من باب أولى. فالذي يخلق من عدم أولى به أن يكون قادرا على الخلق من الوجود، والأمر في ذلك يشبه تماما المثال الذي سقناه لتوضيح الموقف من عالم الشهادة.
وهذا ما نبه إليه القرآن الكريم في أكثر من آية حيث نبهنا إلى أن الخلق الثاني أهون على الله من الخلق الأول؛ لأن بدء الخلق كان
من العدم وإعادة خلقه يكون من وجود، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] .
وهذا ما يسمى بلغة المنطق بقياس الأولى وقد أشرنا إليه تفصيلا في دراسات لنا سابقة، وهو يعني ثبوت الحكم لشيء بناء على ثبوته لما هو أولى بالثبوت منه، وقد أشرنا إلى المثال التوضيحي له من قبل، وهو قياس برهاني عقلا ونقلا أشار إليه القرآن في كثير من آياته، قال تعالى مستدلا على البعث:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 78-81] .
تأمل معي هذه الآية الكريمة تجدها تنطلق من عالم الشهادة باعتباره واقعا محسوسا لا يمكن إنكاره، وتستدل به على الخلق الثاني. وقد تضمنت الآية عددا من الأدلة تعتمد كلها على عالم الشهادة كركيزة أساسية للاستدلال على البعث:
الدليل الأول: {ضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} وسبب نزول الآية أن أحد المشركين قد أنكر البعث وقال للرسول وقد أمسك قطعة
عظم "رميما" بيديه: يا محمد، أترى أن الله يبعث هذه العظم بعدما أصبحت رميما؟ فقال له الرسول:"نعم، يبعثها ويبعثك ويدخلك النار". ونزلت الآية لتقول له: كيف تضرب لله الأمثال بهذه القطعة وتنسى أنك كنت عدما فأصبحت موجودا؟ أليس الذي أوجدك من العدم أول مرة قادرا على إعادتك مرة ثانية؟ ألا تكون الإعادة أهون من الخلق الأول؟
الدليل الثاني: ثم جاءت الآية الثانية بدليل أكثر عموما، فقال للرسول:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} ليفهم المخاطب أن الذي تكفل بالخلق الأول من العدم قادر على الخلق الثاني من وجود.
الدليل الثالث: ثم ساقت الآية دليلا علميا يحتاج إلى مستوى أرقى من التعقل، فقال سبحانه وتعالى:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} ومن المعلوم أن من خصائص الشجر الأخضر أنه رطب بارد، وأن من خصائص النار أنها حارة يابسة، وخصائص الخضرة على النقيض من خصائص النار، وفي لغة العقل أن الجمع بين النقيضين محال، والآية تنبهنا إلى أن الله تعالى قد خلق النار من الشجر الأخضر، أي: خلقها من نقيضها. وإذا كان الله قد خلق النار من نقيضها فإنه يكون قادرا على إعادة خلق الشيء من أصله، بل إن ذلك أولى في القبول وأدعى للصدق. وهذه الأدلة كلها تنطلق من عالم الشهادة وتتخذ منه أساسا ومرتكزا لإثبات عالم الغيب، ولست هنا في مقام الاستدلال على البعث أو الاستدلال
على عالم الغيب، وإنما قصدنا الأول التنبيه إلى إحدى وظائف عالم الشهادة التي غاب عنها البعض وراح يتحدث عن عالم الغيب بأنه حديث خرافة وأن المؤمنين به رافضون لمنطق العقل ويقودون القافلة إلى الوراء
…
و
…
و
…
إلخ ما يثيره دعاة التنوير الغربي في مجتمعنا. ولو أداروا بعقولهم فيما حولهم وتأملوا الموقف بعين الإنصاف لعلموا أن حديثهم في ذلك عين الخرافة والجهل.
الوظيفة الرابعة:
4-
الكون مسخر للإنسان:
إن هذا الكون بعالميه السفلي والعلوي مسخر لخدمة الإنسان وتحقيق مصالحه، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} ، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 33، 34]، {هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً} [النحل: 14] .
وقانون التسخير هذا عام وشامل لكل ما في السموات والأرض برا وبحرا وجوا، فالكل مسخر للإنسان، فكما جعل الشمس والقمر والليل والنهار مسخرات بإذنه سبحانه، أرسل الرياح مبشرات، وأرسل الرياح لواقح، فأنزل من السماء ماء، وجعلها حاملة للماء لتنقله إلى الأرض الجرز لتخرج به الزرع مختلفا ألوانه، ومظاهر التسخير واضحة في كل جزئيات الكون لا تحتاج إلى بيان
وكان من رحمة الله بالإنسان أن جعل الكون قابلا لفعل الإنسان ومنفعلا بإرادته منه، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] .
قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} ، {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} ، {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} .
والانتفاع بهذا الكون ليس خاصا بالمؤمن دون الكافر وإنما هو نفع عام لكل بني البشر المؤمن والكافر على سواء؛ ولذلك تجد خطاب القرآن الكريم في الآيات موجها إلى الناس عامة بلفظ {لَكُمْ} ، {خَلَقَ لَكُمْ} ، {سَخَّرَ لَكُمْ} وصيغة الخطاب هذه
{لَكُمْ} تدل على أن التسخير مقصود وهو إحدى وظائف الكون المطلوبة، والتي ينبغي أن يتنافس حول تحقيقها المتنافسون لارتباط هذه الوظيفة بالوظيفتين السابقتين ارتباطا وثيقا، فهي بمثابة المقدمة لهما، ذلك أن تسخير الكون للإنسان لن يتم إلا إذا استطاع الإنسان أن يعمل عقله في أشياء الكون من سمائه إلى أرضه كاشفا عن قوانينه، باحثا في ظواهره بقصد الوصول إلى معرفة العلاقات المتبادلة بين هذه الظواهر وجودا وعدما، وهذا كله هو مفتاح الطريق إلى معرفة آثار الله في كونه ومعرفة آثار صفاته، وبالتالي فإن ذلك كله يقود العالم المتأمل إلى الإيمان بأن هذا الكون بما فيه من براهين بينات تبهر العقول آية من آيات خالقه سبحانه.
ولذلك فقد نبه القرآن الكريم في العديد من آياته أن هذه الآيات الكونية المسخرة لخدمة الإنسان، يجد الإنسان فيها خلال انتفاعه بها وتسخيره لها كثيرا من الآيات الناطقة بصفات خالقها الدالة عليه، وينبغي على الإنسان أن يتنبه لها لأنها ليست بعيدة عنه، بل إنها حوله مصاحبة له في غدوه ورواحه، وفي صباحه ومسائه، وفي نومه ويقظته.
فمن أراد الانتفاع بالماء فعليه التعرف على قوانينه، متى يتحول إلى جماد، ومتى يتحول إلى بحار، ومتى يستخدمه لتوليد الطاقة.
ومن أراد أن ينتفع بالرياح، أو الهواء فعليه أن يتعرف على قوانينها، ومتى يستطيع تسخيرها والإفادة منها.
ومن أراد الانتفاع بالأرض وتربتها فعليه التعرف على خصائص التربة، ومتى تكون صالحة للإنبات ومتى لا تكون.
وكذلك عالم الأفلاك، وعالم الطب، وعالم الحشرات
…
إلخ، والتسخير لا يتم إلا بمعرفة هذه القوانين وإعمالها، وهذا هو مضمار السبق الحضاري بين الأمم، وميدان السبق والتنافس بين الشعوب. وهذه القوانين التي يتم بها تسخير العالم لا تتأبى على من تعرف عليها مؤمنا كان أو كافرا؛ لأن ذلك مما أودعه الله في الكون وجعله ذلولا لمن توصل إلى اكتشافه وتعرف عليه. ويستطيع بذلك أن يخضع الكون كله لصالحه، فيفيد منه، وينتفع بخبراته، وينافس غيره من أمم الأرض.
حول قانون السببية:
وهنا نقطة على جانب كبير من الأهمية نود الإشارة إليها، ذلك أنه ينبغي ألا يظن المرء أنه حين يكتشف القوانين ويتوصل إلى معرفة العلاقة بين ظواهر الكون أنه بذلك قد استقل بهذا الكون، أو أن هذه القوانين التي اكتشفها تكفي وحدها في الاستقلال بالفعل في هذا الكون، أو أنها تعمل أثرها منعزلة عن خالق الكون. لا، إن هناك بعدا آخر على درجة كبيرة من الأهمية ينبغي ملاحظته، فقد نعرف
القانون ونكتشف السبب المؤثر الفاعل، ثم نحاول أن نضعه حيث يؤثر في محله القابل للأثر. فنجد أن هذا المحل معطل غير قابل للأثر فلا ينفعل ولا يتأثر، وبالتالي لا يؤثر القانون ويتعطل الأثر. وقد يكون له أيضا ضد يمانعه، ذلك أن كل سبب ليس مستقلا بالتأثير منفردا به، بل لا بد له من أسباب تعاونه، فإذا لم تتم معاونة الأسباب الأخرى المشاركة وتنتفي الأضداد والعوائق المانعة لم يحصل المسبب، فالمطر وحده لا ينبت النبات بل لا بد أن تنضم إليه عوامل أخرى لا تقل في تأثيرها عن المطر، فلا بد من اعتدال الهواء، وكون التربة صالحة للإنبات، فإذا نزل المطر وبذر النبات في أرض جدباء أو في صخر فمن العبث أن ننتظر إنبات الزرع؛ لأن التأثير هنا منتفٍ لانتفاء المحل القابل للأثر، والزرع لا ينمو ولا يؤتي ثماره إلا بتعهد صاحبه له وصرف الآفات المضرة عنه والطعام لا يغذي الإنسان منفردا بل لا بد من قابلية الجسم لنوع الطعام وسلامة الأعضاء والقوى المنبثة في الجوارح، وكل ذلك لا يفيد شيئا ما لم يكن الجسم قد صرفت عنه الآفات والعوائق. فلا بد من انتفاء الموانع ووجود الأسباب المعاونة، وكل سبب معين أو شرط مطلوب تحققه في حدوث الأثر يعتبر جزءا من السبب العام للفعل ويكون مؤثرا في أحداث المسبب بقدر الحاجة إلى تحصيله ومعاونته، وليس في الوجود سبب تام مقتضٍ للفعل بذاته مستقل عن الأسباب المعاونة، وإذا كان بعض الباحثين يسمي الأسباب المساعدة شروطا والبعض
يسميها مقتضيات، فإن هذا نزاع لفظي لا يلتفت إليه هنا لأن المقصود هنا هو بيان أن المسبب لا يحصل إلا بتوفر هذه العوامل المساعدة لسببه ولا مشاحة في تسميتها سببا أو شرطا، وينبغي ألا يصرف نظرنا هذا الخلاف اللفظي عن دور هذه الأسباب المساعدة في التأثير في الفعل، وتوقف الفعل عليها. وحينئذ فلا بد في كل سبب مؤثر من توفر ثلاثة أمور:
1-
وجود المقتضي التام للفعل.
2-
توفر الأسباب المساعدة أو الشروط الخارجية.
3-
انتفاء المانع العائق.
فإذا تحققت هذه الشروط الثلاثة في السبب فلا بد أن يوجد المسبب، أما أن يكون في الوجود علة تامة تستلزم معلولها، أو يكون في الوجود سبب تام مستقل بالتأثير، فهذا قول باطل يكذبه الواقع، ولا فرق في ذلك بين الأسباب الطبيعية في الكون والأسباب الإنسانية في حركة المجتمع، فقد يكون هناك عائق أقوى من السبب فيمنعه عن التأثير، وهذا ما عبر عنه القدماء في قولهم: إن السبب لا يستقل بالتأثير، بل لا بد من ارتفاع الموانع التي قد تعوق السبب عن التأثير في المسبب، وهذه الموانع منها ما نعلمه ومنها ما لا نعلمه، وهي كلها بيد الله سبحانه وتعالى فهو سبحانه المسبب الأول، فهو الذي يجعل السبب مؤثرا وفي نفس الوقت يجعل المحل غير قابل للأثر، فلا ينفعل
بالسبب ولا يتأثر به. وهذه قضية ينبغي أن يتنبه لها المرء حتى لا يصاب بالغرور العقلي، وحتى لا يقطع الصلة بين الكون وخالقه أو يفصل بين الأسباب ومسبب الأسباب، فهو وحده سبحانه له الخلق وله الأمر، فعلى المرء أن يبحث ويكتشف ويعمل عقله، وفي نفس الوقت يكون قلبه معلقا بالخالق والمسبب يستمد منه العون والتوفيق، ولقد لفت القرآن نظرنا لذلك قال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 58-73] .
هذه الإشارات القرآنية توجه نظرنا إلى ضرورة ربط الكون بخالقه بدءا ونهاية؛ لنعلم أن الذي خلق هو الذي يحفظ على الكون نظامه، وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41] .
وحين نحاول دراسة الكون وقوانين تسخيره بعيدا أو منفصلا عن خالقه، فإننا بذلك نكون قد أبطلنا الوظيفتين السابقتين للكون، كونه آية دالة على خالقه وكونه مرآة لصفات الخالق، وحينئذ لا يجد الباحث أمامه إلا القول بالعبثية المطلقة أو الصدفة العشواء وتنتفي الغائية والحكمة. وهذا ما فعله الماديون في بحوثهم الكونية، لقد بتروا الصلة تماما بين الكون وخالقه، وأصبح العالم عندهم مادة فاعلة ومادة منفعلة وليس وراء ذلك فاعل حكيم ولا غاية مقصودة.
إن تحقيق الوظائف الكونية السابقة هدف أساسي من أهداف المعرفة بالكون، وغاية مقصودة للشارع، أمر بها القرآن وكلف بها الإنسان، فلا بد أن يكون الكون موظفا بواسطة الإنسان لتحقيق هذه الأهداف الكبرى:
1-
أنه آية دالة على الخالق.
2-
أنه مرآة تنعكس على صفحتها صفات الخالق وآثار صفاته.
3-
أنه دليل على عالم الغيب.
4-
أنه مسخر لخدمة الإنسان.
وهذه الوظائف الكبرى لا تتحقق واحدة منها إلا بالعلم وبمجهود العلماء.