الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوحي والواقع:
إن بحث العلاقة بين الوحي والواقع هو أحد موضوعات الساعة، ولقد شغل بعض الدارسين أنفسهم ببحث هذه القضية وطرحها على الشباب في بعض الندوات الفلسفية كواحدة من القضايا التي ينبغي مناقشتها بعقلانية ونظرة نقدية، فطرح خلالها مجموعة من الأسئلة التي يرونها ضرورية للتخلص من قيود النص وعوائق الماضي، فلماذا الالتفات إلى الوراء والتمسك بالنصوص التي نزلت قبل أربعة عشر قرنا لتعالج مشكلات قد مضى وقتها، ولم يعد لها مبرر في هذا العصر؟
ولماذا لا نطوع الوحي ونصوصه لظروف العصر ومقتضياته كما فعل الغرب مع كتبهم المقدسة؟ وينبغي ألا يظل الواقع وهو متحرك أسيرا للنصوص المقدسة وهي ثابتة.
إنهم يجعلون الغرب قبلتهم في الأخذ عنه، وهو المثال والنموذج الذي ينبغي الاقتداء به في شئون الحياة، وإن الغرب قد تجاوز النص الديني وأخضعه للواقع ولم يعد للنص الديني علاقة
بحياتهم اليومية ولم يمثل قيدا ولا عائقا في مسيرتهم العلمية؛ ولذلك أبدعوا واخترعوا فلماذا لا نفعل كما فعل الغرب؟
ويحاول بعضهم أن يجدد مسائل دينية معينة ليقول: إن الزمن قد تجاوزها، وينبغي أن نتخلص من قيود النصوص التي تحكمها وتحكم مسيرتنا معها، فيقول: إذا كان الأقدمون قد مضوا على تقديس الله وعبادته فلماذا نتوقف نحن عند ما وقف عنده الأقدمون ونصر على تقديس الله وعبادته، وقد تجاوز العلم هذه القضية فلم يعد في منطق العلم متسع لفكرة الله، لماذا لا نقدس الإنسان بدلا من تقديس الله؟
ولماذا لا نؤله الطبيعة وقوانينها بدلا من تأليه إله غائب؟ ولماذا لا نشغل أنفسنا بالطبيعة بدلا من الانشغال بهذه الغيبيات؟
لماذا لا نقلد علماء الغرب في تأنيس الإله أو تأليه الإنسان. وإذا كان هذا هو موقف بعضهم من قضية الألوهية، فإن بعضا منهم نادى وينادي بتغيير أحكام الميراث التي أنزل بها الوحي خاصة ميراث المرأة التي نزل الوحي ليجعل نصيبها نصف نصيب الرجل، ويرون أن في ذلك إجحافا بحقوق المرأة، فلماذا تأخذ المرأة نصف الرجل؟ ولماذا لا يكون نصيبها مثل نصيب الرجل سواء بسواء؟ ويرى هؤلاء أن تطور حركة التاريخ تفرض علينا ضرورة إعادة النظر في هذه الأحكام، ولا يتقيد بها حتى لا تكون عائقا يقيد حركة التطور الاجتماعي والاقتصادي، هكذا يقولون.
وهذا ما سمعته من رءوسهم في أكثر من مناسبة، وكنت أسمع ذلك كله نقلا عنهم ولا أجد عندي مبررا لتصديق هذه السخافات أو قبولها عنهم فهم مسلمون، هكذا يقولون ويتسمون بأسماء المسلمين، وهكذا نعرفهم ولكن لما جلسنا معهم في الندوات واستمعنا إليهم في المؤتمرات تأكدنا من صحة ما سمعنا عنهم ولم نسجل هذا كتابة إلا بعد أن سمعته بنفسي مشافهة منهم في أكثر من مناسبة، وسمعنا غير ذلك منهم مما هو موجود في كتبهم، فالله عند بعضهم فكرة وهمية اخترعها الإنسان، والوحي ينبغي أن يخضع للواقع ويتطور مع حركة التاريخ.
وعند بعضهم الآخر ينبغي أن لا نتقيد بأحكام المواريث بعد أن تجاوزها الواقع الاجتماعي، وأصبحت المرأة كيانا اجتماعيا مستقلا.
ولقد تأثر بهذه الآراء مجموعة من شباب الباحثين الذين غرّهم بريق هذه الأسماء في الندوات الثقافية والمحافل الإعلامية، وأخذوا يرددون هذه الآراء دون فهم لأبعادها، ودون مناقشة لمصادر هذه الآراء ولا معرفة بها، وإنما من منطلق حسن الظن بأصحابها تقليدا لهم. وقد يُلتمَس لهذا الشباب نوع من العذر، فلقد تربوا على موائد علمية اقتصر زادها العلمي على نوع معين من المناهج والمؤلفات التي تربي في النفس الزهد في كل ما هو ديني والنفور منه، وتعمل
على إيجاد حاجز نفسي بين الشباب والإسلام، في ثوب من الألفاظ والمصطلحات المستوردة من كتابات المستشرقين عن الإسلام، فالوحي عندهم قيد على حركة العقل، يعوق التفكير الحر، قيد على حركة التاريخ وهو رمز للتخلف والرجعية، فإما العلم والتقدم والمعاصرة أو الحداثة وإما التمسك بالوحي والتقيد بأحكام النص؛ لأن ارتباط الإنسان بالله يصرفه عن الارتباط بالطبيعة، واهتمامه بالتمسك بأحكام الوحي يصرفه عن التمسك بأحكام العقل. ومما طم الوادي في عصرنا أن بعض العناصر النسائية قد انضمت إلى ثلة المعارضين للوحي تقربا وزلفى إلى سيدات مصر الأوليات؛ انتصارا لهذا التوجه الثقافي. ولقد انتهزت بعض السيدات الفرصة واتخذت من موقعها الوظيفي مصدرا لقوة رأيها ففتحت أمامها أبواب الصحف والمجلات الموصدة في وجه الآخرين وأخذت المقالات اليومية والأسبوعية تصافح القراء بهذه الآراء، مغلفة بألفاظ معسولة مثل التقدمية، العقلانية، الحداثة، التطور، محاربة التخلف والرجعية.
وصدق الله العظيم حين قال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] .
وكما قال سبحانه: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] .
إن من يتابع الحركة الثقافية المعاصرة يجد أصحاب هذه الآراء أحد نمطين:
الأول: نمط مستغرب بفكره وثقافته وولائه، بهره تقدم الغرب علميا وتكنولوجيا، بهره كثرة الاختراعات والكشوف العلمية التي يعيش في ظلالها الغرب وهي لا شك كثيرة، في نفس الوقت شغله التخلف الذي يعيشه العالم الإسلامي، التخلف السياسي والاقتصادي والعلمي، وهو واقع لا سبيل لإنكاره، وأخذ يتلمس الأسباب لهذا الواقع المتخلف فكانت الإجابة عنده هي ما رآه المستشرقون من أسباب لتخلف العالم الإسلامي. إنه الإسلام ولا شيء غيره، إنه التمسك بالوحي ونصوصه، وهذا النمط من المثقفين لم نجد عندهم ولاء لديهم حتى يدافعوا عنه ضد هجمات المستشرقين، ولم نجد عندهم معرفة بدينهم ولا استعدادا لأن يعرفوا شيئا عنه وأغلقوا عقولهم على مقالات المستشرقين عن الإسلام، وأصبحت هذه الآراء عندهم أشبه بالمسلمات التي لا تناقش. وهذا التيار قد بدأ في بلادنا من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وما زال مستمرا بدءا من كتابات سلامة موسى حيث كتب "ما هي النهضة؟ " ودعا فيها إلى التخلص من الغيبيات ابتداء من الإيمان بوجود الله وانتهاء باليوم الآخر، وما زال التيار مستمرا.
وساعد على نمو هذا التيار عند بعض الشباب هذا الفراغ الديني الذي يعيشونه، والأمية الدينية التي تتمثل في جهلهم بالإسلام واحتضانه للعلم وتكريمه للعلماء. ونحن هنا لا نشكك في نوايا أحد فذلك أمر موكول إلى الله، ولكن الذي نؤكد عليه هو فراغ هذا النمط من المعرفة الكاملة بالإسلام، وجهلهم بالمنهج القرآني في تحصيل المعرفة وأهدافها وغاياتها، ولو أنهم صرفوا بعض وقتهم وجهدهم في التعامل مع القرآن ونصوصه بقلب مفتوح وعقل خالٍ من الشكوك والأوهام ليقفوا على أهمية العلم في حياة المسلم، لكان لهم موقف يختلف عن ذلك، بل ربما عادوا باللائمة على أنفسهم إن كانوا منصفين حيث ضيعوا أعمارهم وجهدهم في معارضة الوحي وهم يجهلون مقاصده وأهدافه، فضلا عن جهلهم بنصوصه، وهذا ما صرح به بعضهم في آخر حياته وكتب يعترف نادما على ما ضاع من عمره، وهو يجهل هذه الحقائق الدينية التي نزل به الوحي.
أما النمط الثاني:
فلم يؤت حظا لا من المعرفة بالإسلام ولا من العلم، ولكن هيأت له الظروف الاجتماعية موقعا إعلاميا اتخذه منبرا ينفث خلاله سمومه على المجتمع، ولا شك أن لأجهزة الإعلام دورها المؤثر في تهيئة العقول لتقبل الأفكار والتأثر بها في الحياة الاجتماعية. وتزداد خطورة هذا النمط في التأثير على المجتمع وتقبله لهذه الآراء حين يكون المجتمع أميا لا يقرأ ولا يكتب، فضلا عن أميته الثقافية وفضلا
عن أميته الدينية، وقد يحسن الظن بمن يخاطبه إعلاميا فيقع حديثه من النفس موقع القبول والرضى، ولقد شاهدنا وسمعنا خلال أجهزة الإعلام المرئية من يخاطب المجتمع قائلا: إن حجاب المرأة رمز للتخلف ودليل على التأخر، وشاهدنا وسمعنا من يقول: إن عدم مساواة المرأة بالرجل في الميراث ظلم يجب التخلص منه.
ومما يدعو إلى الأسى حقا أن أصحاب هذه الآراء يظهرون في التلفاز على أنهم رواد حركة التنوير وحملة المشاعل ورموز التقدم:
ألقاب مملكة في غير موضعها
…
كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
إن القضية جد خطيرة، وتنذر سحائبها بما هو أخطر خاصة في هذه المرحلة التاريخية التي يعيش فيها المسلمون، حالة الضعف والهزيمة النفسية التي تتمثل في التبعية المطلقة للغرب، والتنادي بها والتنافس المحموم في السعي إليها.
إن طرح هذه القضية للمناقشة -علاقة الوحي بالواقع- وافد إلينا من الغرب ضمن الأفكار الوافدة مع عقلية المستغربين الذين يحاولون جذب الواقع الإسلامي إلى الغرب فكرا وثقافة. إن القضية لا تنفصل -في أصلها- عن قصة الصراع بين الكنيسة والعلم في أوروبا، إنها إفراز طبيعي لهذه المعركة، لقد أثارت الكنيسة كثيرا من الغبار ضد الوحي، وضد مصدره، وضد عصمته، بل ضد الدين بصفة عامة
حين ربطت هرطقتها وآراءها بالوحي، وحين ادعت أن ما يقول به العلماء يناقض الوحي ويعارضه.
ولقد انتقل هذا الموقف بكامل حيثياته وملابساته إلى العالم الإسلامي، وتبنى العلمانيون العرب في مصر وفي غيرها الدعوة إلى أحد أمرين:
1-
إما التخلص من الوحي كلية، وبدعوى أنه يمثل قيدا على حركة العقل ويعوق حركة التقدم والتطور، فلا بد من الانتقال من العقيدة إلى الثورة عليها طلبا للتغيير.
2-
وإما إخضاع الوحي للواقع، ويفسر نصوص الوحي في ضوء واقعنا نحن، وفي ضوء ظروفنا نحن بدلا من أن نخضع واقعنا، وظروفنا للنصوص.
هكذا يعلنون صراحة وفي جرأة لا تنقصها العزيمة ولم يدر بخلدهم أن يعرفوا الفرق بين الإسلام والكنيسة، أو يتساءلوا عن مصدر الوحي في الكنيسة وعن مصدر الوحي في الإسلام. إن الوحي في الإسلام ليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم ولا من إنشائه، وإن الوحي في الإسلام قد انقطع بموت محمد صلى الله عليه وسلم وعلى إخوته من النبيين والمرسلين- ولم يدع أحد في الإسلام أنه ينزل عليه الوحي أو أن كلامه معصوم من الخطأ حتى يطلب من الجميع الإيمان به. إن ذلك كله لا مكان له في الإسلام، وهو نفسه مصدر الخلاف بين العلماء والكنيسة في أوروبا.
ففي العصور الوسطى سيطرت على رجال الكنيسة فكرة تتابع الوحي، وأن آراءهم التي يطلعون بها على الناس إنما هي وحي يجب اتباعه؛ ولذلك سادت فكرة ارتباط الوحي بالواقع يتطور معه ويتغير حسب ظروف الواقع، فما كان محرما بالأمس لا مانع أن يصبح اليوم حلالا إن لم يكن واجبا، وما كان مرفوضا بالأمس لا مانع أن يصبح اليوم مقبولا.
والذين يريدون نقل هذه القضية إلى العالم الإسلامي والترويج لها في بلادنا ينبغي عليهم أن يكونوا أمناء في توضيح الظروف التاريخية والثقافية التي أفرزت هذه القضية في أوروبا، وأن يشرحوا أبعادها الاجتماعية، وعليهم أن يكونوا أمناء في شرح الفروق الجوهرية بين الإسلام والكنيسة، وعليهم أن يكونوا أمناء في ضرورة التفرقة بين الإسلام ومبادئه وأصوله وواقع المسلمين المتردي والمتخلف ولا يحملوا الإسلام أوزار المسلمين.
وعليهم أن يكونوا أمناء في إعلان تبعيتهم المطلقة للغرب، وأن ما ينادون به من آراء وأفكار ليس لهم فيها إلا مجرد النقل والترجمة من لغات أصحابها وترديدها بين أبناء العربية، فهي ليست اجتهادا لهم حتى ينالوا من أجلها أجر المجتهد المخطئ، وإنها تبعية مطلقة وتكرار لآراء سبقهم إليها المستشرقون من قرن مضى.
وقد يحاول بعض هؤلاء أن يربط هذه الأفكار بتفسيرات واهية لا أصل لها، ولا سند لا من تاريخ الإسلام ولا من نصوصه،
فيقول: إن الوحي كان في عصر الرسالة تابعا للواقع يتطور معه ويتغير استجابة للظروف الاجتماعية، وإن أسباب النزول توضح لنا أن الآية كانت تنزل تلبية لحاجات الواقع واستجابة له، وإن الوحي كان يتبع الواقع ولم يكن الواقع تابعا للوحي.
وهذا الكلام التبريري لا فائدة فيه؛ ذلك أن العلم بأسباب النزول يوضح لنا أن القرآن الكريم منه ما كان ينزل لأسباب معينة ومسائل محددة، وهذا القدر لا يتجاوز عدد آياته خُمْس آيات القرآن الكريم، أما الأعم الأغلب من القرآن الكريم فكان ينزل ابتداء تعليما وتربية وتوجيها وتغييرا للواقع وتطويرا له.
كانت تنزل الآيات إجابة على أسئلة سأل عنها الصحابة، فتنزل الآية بالحكم الشرعي، فيستجيب الصحابة ويتبع المسلمون هذا الحكم ليصبح قاعدة شرعية يجب اتباعها، كما في قوله تعالى:
1-
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] .
2-
{وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] .
3-
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] .
4-
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] .
5-
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] .
ولو أحصيت الآيات التي نزلت لسبب معين لا تجدها أكثر من خمس آيات القرآن الكريم. ومما ينبغي أن يعرف أن الأحكام الشرعية التي تضمنتها هذه الآيات ونزلت بسببها لم تتغير حسب الظروف ولم يتطور الحكم الذي نزلت به حسب تطور العصور، بل كان واقع المسلمين خاضعا له، فلم تكن الخمر حراما في وقت ثم أصبحت حلالا في وقت آخر، ولم يكن المحيض حراما في وقت دون وقت
…
إلخ، بل كان واقع المسلمين خاضعا لأحكام هذه الآيات أمس واليوم وسيظل محكوما به إن شاء الله، فكيف يقال: إن الوحي كان تابعا للواقع يتغير بتغير الواقع، ويتطور حسب ظروف الناس.
قد يفهم بعض الدارسين أن كل أحكام الشريعة الإسلامية قد طرأ عليها التطور، مستدلا على ذلك بموقف الإمام الشافعي؛ حيث كان له مذهب يفتي به في العراق، ولما حضر إلى مصر أفتى بمذهب جديد يخالف ما كان يفتي به في العراق. وهذا ما صرح به بعضهم في كثير من الندوات كان يدعي فيها أنه "شافعي العصر".
وهنا أمور ينبغي أن نوضحها:
أولا: ينبغي أن نفرق في أحكام الشريعة بين الثوابت والمتغيرات؛ ذلك أن الإسلام يتضمن أحكاما ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان ولا تخضع لما يسمى بالتطور الاجتماعي، وإنما يجب أن تخضع لها الظروف الاجتماعية ولا تخضع هي للظروف الاجتماعية، وهذه الثوابت تنظم حياة الناس في حياتهم اليومية وفي علاقاتهم الاجتماعية، فتكون هذه الثوابت حاكمة لا محكومة، يخضع لها الواقع ولا تخضع هي للواقع لأنها تمثل منهج الحياة للمسلم ثقافيا واجتماعيا، واقتصاديا وسياسيا. وهذه الثوابت مضبوطة بالنصوص القطعية في ثبوتها والقطعية في دلالتها، والتي تشمل ركائز الإسلام وأركانه العقائدية كالإيمان بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله، قال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] .
وقال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] .
وكما جاء في الحديث الصحيح، حديث جبريل جاء يسأل: ما الإسلام، ما الإيمان، ما الإحسان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أن تؤمن
بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره".
هذه الركائز الأساسية التي لا يتم إيمان المرء إلا بها والإذعان لها، وثبتت بالنصوص القطعية في دلالتها وفي ثبوتها، لا مجال فيها للقول بالتطور أو التغير بتغير الأحوال؛ لأنها قطعيات في ثبوتها، قطعيات في دلالتها. والقول بأن الإيمان بواحد منها أو التمسك بنصوصها يعوق عمل العقل ويقيد حركة المجتمع فهذا يعني الدعوة إلى التخلص من الإسلام كلية بحجة التطور والتقدم، وإذا سمعت من يقول: إن الله فكرة وهمية ينبغي التخلص منها، أو من يقول بتأليه الإنسان بدلا من تأليه الإله، أو تأليه الطبيعة وقوانينها بدلا من تأليه الإله الغائب، أو من يقول بتأنيس الله أي: يضفي صفات الإله على الإنسان، فكل ذلك خروج ورفض مطلق للوحي ونصوصه ومحاولة للتخلص منه والدعوة إلى رفضه. ودعك من المماحكات اللفظية التي يلجئون إليها تبريرا لرفضهم الوحي كقولهم بالعقلانية، وحرية العقل، والثقافة، والتطور
…
إلخ، فإن ذلك لا يغني عن الحق شيئا، فهذه أركان العقيدة الثابتة التي لا يكون الإيمان إلا بها، قولا وعملا، اعتقادا أو سلوكا.
ثانيا: هناك الجانب التشريعي في الإسلام الذي يتضمن الأحكام الفرعية التي تنظم حياة الناس اليومية في علاقاتهم الاجتماعية
وفي أحوالهم السياسية والاقتصادية، وهذه الأحكام التشريعية قد تكفلت كتب الفقه الإسلامي بتفصيلاتها وبيان مسائلها، ما يجوز وما لا يجوز في ضوء الكتاب والسنة، وهذا الجانب الفقهي ينبغي أن نعرف الفروق الدقيقة في أحكامه بين ما هو قطعي وما هو ظني؛ لأن هناك أحكاما ثبتت بالدلائل القطعية التي لا مجال فيها للاجتهاد، كتحريم الربا، وتحريم الخمر، والزنا، والسرقة، وغير ذلك من الأحكام القطعية التي تتعاون في مجموعها على تحقيق الأمان النفسي والأمن الاجتماعي للمسلم في ماله وفي عرضه وفي نفسه، والتي تتحقق بها المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، فهذه الأحكام القطعية لا مجال فيها للتطور أو التغير أو التبدل حسب تبدل الأحوال؛ لارتباطها بالمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، تلك المقاصد التي تمثل قطب الرحى في كل تشريع سماوي، والتي تمثل هدفا وغاية لكل دستور وضعي.
وهذه الأحكام القطعية قد تخضع أحيانا لمبدأ فقهي معروف وهو مبدأ الضرورات تبيح المحظورات، لكن خضوعها لهذا المبدأ في الظروف الاستثنائية لا يلغي أصل الحكم الشرعي، وإنما يمثل حالة استثنائية لضرورة اقتضتها الظروف الطارئة، فإذا زالت هذه الظروف الاستثنائية عاد الوضع إلى الحكم الأصلي؛ وذلك مثل أكل
الميتة فإنه حرام في أصل وضعه الشرعي، لكن الشارع أجازه استثناء عند الضرورة في قوله تعالى:{إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فإذا زالت الضرورة عاد الوضع إلى أصل الحكم وهو تحريم أكل الميتة. ففي هذه الحالات الاستثنائية لا يقال: إن الحكم فيها تغير في أصل وضعه الشرعي، ولا يقال: إن الوحي هنا تابع للواقع يتغير بتغيره، بل الأصل في ذلك أن الواقع هنا تابع للوحي وأن الوحي هو الذي ينظم الواقع ويضبط أحواله بضوابط الشرع، وليست حالات الضرورة هنا تمثل أحكاما جديدة وإنما هي استثناء من الحكم الأصلي كما سبق. ومن هنا فقد وضع علماء الأصول مجموعة من القواعد الكلية التي تضبط هذه الحالات الاستثنائية، وتيسر على الناس الأخذ بمبدأ التيسير، فقالوا: الضرورات تبيح المحظورات.
وإن الضرورة تقدر بقدرها.
وإنه لا ضرر ولا ضرار.
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} "قاعدة رفع الحرج".
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
إن التفرقة بين القطعيات والظنيات في أحكام الشريعة أمر على جانب كبير من الأهمية، حتى لا تختلط المسائل وتضيع ضوابط الأحكام في غمرة الادعاء والنشوة التي يحسها البعض تحت شعار التطوير والمعاصرة، فلا يجوز لمسلم أن يقول: إن الربا كان حراما
في وقت البعثة لظروف اقتضتها طبيعة المجتمع الجاهلي، ولكن الآن تغير الوضع وأصبح الاقتصاد العالمي شبكة من العلاقات التي يصعب فصلها، فيجب أن نقول بتغير الحكم؛ ليصبح التعامل بالربا حلالا.
كما لا يجوز لمسلم أن يقول: إن الخمر ينبغي أن يكون حلالا؛ تبسيطا لأسواق السياحة، أو إن ما نراه ونشاهده على شواطئ المجون من العراء الفاضح أو القول بالزواج العرفي أو تكوين الأسر غير التقليدية كمعاشرة الرجل للرجل والمرأة للمرأة أو الرجل للأجنبية
…
إلخ ما نسمع من أفواه دعاة التغريب والتحديث، فإن ذلك كله من باب وضع السم في الدسم؛ ليخاطبوا بذلك غرائز الشباب استغلالا للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد، وليس ذلك كله إلا محاولة لتطويع المبادئ الإسلامية وتنزيلها على حسب أهوائهم لترضي رغباتهم، ونزواتهم {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] . وهؤلاء كما تحدث القرآن عنهم: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} ، وإن أطعمتموهم، {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} . نسأل الله أن يحمي شباب الأمة من تضليل هؤلاء وخداعهم، كما نسأله سبحانه أن ينير بصائرهم ليروا الحق حقا والباطل باطلا.
أما ما يدعيه بعضهم من ضرورة تغيير أحكام المواريث لتناسب وضع المرأة في العصر الحديث، فإن الحديث عن خطورة هذه الدعوى أو الحديث عن دلالتها على جهل صاحبها بالإسلام وتكريمه للمرأة قد يخرجنا عن هدفنا في هذه العجالة، لكن هناك أمور ينبغي أن تعرف لبيان تكريم الإسلام للمرأة، وتفضيله لها عن وضع المرأة في أي حضارة أخرى.
إن هؤلاء يجعلون قبلتهم التي يتوجهون إليها هي الغرب تقليدا له في موقفه من المرأة، وقد غاب عن هؤلاء أن وضع المرأة في الإسلام يختلف عنه في الحضارة الغربية اختلافا جذريا، فالمرأة في الإسلام إنسان مكرم كرمه الله في خلقته وكرمه في خلقه. كرمها الإسلام بأن جعلها في مكانة تؤهلها لأن تكون مطلوبة لا طالبة، مرغوبا فيها لا مرغوبا عنها، في كل أحوالها وفي مراحل عمرها المختلفة، فالرجل يشقى لتسعد هي، يكد الرجل سحابة نهاره وسواد ليله ليوفر لها احتياجاتها سواء كانت بنتا أو أختا أو أما أو زوجة، فالرجل مسئول عن كفالتها في جميع مراحل عمرها، فهي دائما مكفولة وليست بكافلة. وهذه مسئولية الرجل أمام أحكام الشرع الإسلامي فهي مسئولية دينية عقائدية كمسئولية الرجل عن نفسه تماما، وهذا الوضع يختلف عن وضع المرأة في الحضارة الأوروبية التي يراد لنا تقليدها. ولا أريد أن أعقد هنا مقارنة بين وضع المرأة في الإسلام ووضعها في أوروبا؛ فإن ذلك أمر معلوم للخاصة والعامة،
ويكفي أن نعرف أن البنت في أوروبا إذا بلغت سنا معينة من عمرها فإنها تكون مسئولة عن نفسها مسئولية كاملة سلوكيا وأخلاقيا واجتماعيا؛ لتصبح في سجل الأسرة كائنا مهملا لا مكانة له، ولم يكن لها في الوضع الاجتماعي حقوق تعرف إلا في مطلع هذا القرن. لم يكن لها حقوق لا قبل الزوج ولا قبل الأسرة، فكانت كما مهملا يباع ويشترى في أسواق النخاسة والرقيق الأبيض، فكان لا بد من تشريع قانون يضمن للمرأة حياتها الآدمية، يكفل لها حقوقها قبل زوجها وقبل أسرتها باعتبارها شريكة الرجل في مؤسسة الحياة الزوجية كما يسمونها، وبالتالي كان لا بد أن تقاسم إخوتها الأشقاء في ميراث الأب سواء بسواء، بحيث لا يتميز عنها أخوها لأنه ليس مكلفا بكفالتها، ولا بالإنفاق عليها كما هو الشأن في الإسلام، وكذلك الأمر في داخل الأسرة، كان لا بد من تشريع يضمن للمرأة حقوقها قبل زوجها في حال استقرار الحياة الزوجية وفي حال الانفصال؛ لأنه ليس لديهم شريعة سماوية تنظم هذه العلاقة في داخل بيت الزوجية وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات لكل منهما قبل الآخر. وعلى سبيل الإجمال، فإن الإسلام يختلف عن الحضارة الغربية في موقفه من المرأة؛ فقد كفل لها معيشتها الكريمة في كنف الرجل في جميع مراحل عمرها، فإذا افتقدت الأب أو الأخ انتقلت كفالتها إلى عمومتها وإلى أبنائهم من بعدهم، وإذا افتقدت عائلها من العصبة فإن بيت مال المسلمين يعول من لا عائل له، وعند زواجها يقوم الزوج بالإنفاق عليها إلى حد الكفاية اللائقة بها حسب وضعها الاجتماعي؛ ولذلك فقد
وضع الإسلام شرط الكفاءة بأن يكون الزوج كفئا لها في وضعه الاقتصادي والاجتماعي.
وبالإضافة إلى ذلك كله، فإن الإسلام قد ضمن للمرأة استقلالها التام في "ذمتها المالية" فلها أن تتاجر وتكسب وتدخر كما تشاء، ولا يجبرها أحد على أن تنفق من مالها لا على بيت الزوجية ولا على غيره إلا برضاها المطلق واختيارها الكامل؛ لأن ذلك لا يجب عليها شرعا، فأين هذا من وضع المرأة في حضارة الغرب؟
ولكل هذه الاعتبارات فقد راعى نظام توزيع التركة "أحكام الميراث" الإسلامي "أن يكون الغُنْم بالغُرْم".
فإذا كان الرجل كافلا للمرأة في جميع أحوالها وفي مراحل عمرها المختلفة، فقد راعى الإسلام أن يكون نصيبه في الإرث ضعف المرأة حتى إذا لجأت إليه يوما ليكون عائلا لها عند فقد الزوج أو الأب، يكون نصيبها في الإرث المدخر عنده كفيلا بحاجتها.
ولو تتبعنا حالات الإرث المشتركة بين الرجل والمرأة فسوف يتبين لنا أن الحالات التي تأخذ فيها المرأة نصف نصيب الرجل قليلة جدا إذا قارناها بالحالات الأخرى، فإن الحالات التي تأخذ فيها المرأة نصف نصيب الرجل أربع حالات فقط من حالات الإرث عند توزيع التركة، بينما توجد عشرون حالة أخرى يكون وضع المرأة فيها كالتالي:
1-
حالات تتساوى فيها مع الرجل.
2-
حالات تأخذ فيها نصيبا أكثر من نصيب الرجل.
3-
حالات ترث فيها وحدها ولا يرث الرجل.
ونظام الميراث في الإسلام مرتبط بالنظام المتكامل لبناء الأسرة، وينبغي أن ننظر إليه من جميع جوانبه ولا نكتفي بالنظرة الجزئية إلى نقطة واحدة ونلغي ما عداها؛ فإن عدالة نظام الميراث في الإسلام جعلت كثيرا من الأقباط في مصر يلجئون إلى الاحتكام إليه والأخذ به عن طريق دار الإفتاء المصرية لحل المشكلات التي قد تنجم بينهم في توزيع التركات1.
فإذا طلع علينا من يقول بضرورة تغيير أحكام الميراث لتناسب العصر فنقول له: ولماذا لا يتغير وضع العصر ليناسب الإسلام؟ ولماذا لا يتطور الواقع ليرتبط بالإسلام بدلا من القول بتطور أحكام الإسلام لتناسب الواقع؟ ولماذا لا نؤسلم التطور بدلا من تطور الإسلام؟ ولماذا نخضع أحكامنا لأوضاع فاسدة بدلا من تصحيح هذه الأوضاع والعمل على إصلاحها؟
1 راجع في هذه القضية -تفصيلا- كتاب الإسلام بين الحقيقة والادعاء ص71، لمجموعة من العلماء تحرير د/ حامد طاهر.