المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مفهوم الوحي: الوحي وسيلة للمعرفة: ليس هدفنا التعرض تفصيلا للوحي وما يتعلق - الوحي والإنسان - قراءة معرفية

[محمد السيد الجليند]

الفصل: ‌ ‌مفهوم الوحي: الوحي وسيلة للمعرفة: ليس هدفنا التعرض تفصيلا للوحي وما يتعلق

‌مفهوم الوحي:

الوحي وسيلة للمعرفة:

ليس هدفنا التعرض تفصيلا للوحي وما يتعلق به من مسائل كلامية، فقد تكلفت بذلك كتب علم الكلام والعقيدة، ولكن الذي أقصده هنا بيان أن الوحي إحدى وسائل المعرفة الخاصة بالغيبيات، فإذا كان عالم الشهادة له وسائله المعرفية من الحواس الخمس والعقل والتجربة، فإن العالم الغيبي له وسيلته أيضا وهي الوحي:

والوحي في اللغة هو الإعلام الخفي، وقد يضيف البعض قيدا إلى ذلك فيقول: هو الإعلام الخفي السريع.

وعند الأصوليين إعلام الله تعالى أنبياءه ورسله بشرع ليعملوا به ويبلغوه للناس، فنزلت شريعة التوراة على موسى، ونزل الإنجيل على عيسى، ونزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد يطلق لفظ الوحي ويراد به جبريل ملك الوحي الذي نزل بهذه الكتب السابقة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"يأتيني أحيانا مثل صلصلة الجرس، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا" وكما في قول عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا.

ص: 49

وقد يطلق الوحي ويراد به القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [سورة النجم: 4، 5] .

والوحي كوسيلة للعلم ليس قاصرا على نزول الملك جبريل على قلب الرسول، وإنما تتنوع طرقه:

1-

فقد يكون بواسطة الملك جبريل، وهو خاص بالوحي الرسالي التشريعي.

2-

وقد يكون الوحي رؤيا منامية، كما في قصة إبراهيم عليه السلام فقد رأى في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل. قال تعالى:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] .

وكما رأى صلى الله عليه وسلم أنه يفتح مكة، قال تعالى:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27] .

وكما أوحى إلى أم موسى أن أرضعيه، قال تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] .

ص: 50

3-

وقد يكون الوحي بالكلام من وراء حجاب، كما أوحى الله إلى نبيه موسى عليه السلام. قال تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ، {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} ، {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} ، {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ، {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} ، {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 11-14] .

ومن المفيد هنا أن ننبه إلى أن وحي الرسالات التشريعية قاصر على النوع الأول فقط، فلم تفرض الفرائض والتكاليف الشرعية إلا بواسطة ملك الوحي جبريل1، أما بقية أنواع الوحي الأخرى فهي وسائل إعلام من الله لمن شاء من عباده بأمر معين؛ ليعملوا به فقط وليبلغوه لأقوامهم على سبيل التكاليف الشرعية التي هي الأوامر والنواهي، ومما يدل على أن الوحي وسيلة إعلام وتعليم أن الله تعالى قد يوحي إلى بعض مخلوقاته تعليما لهم وإلهاما بما يريده الحق منهم، كما أوحى سبحانه إلى النحل. قال تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68، 69] .

1 باستثناء فريضة الصلاة التي فرضت ليلة المعراج برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 51

فهذا إلهام وتعليم للنحل لكي يؤدي وظيفته المطلوبة منه، حيث ألهمه الحق كيف يبني بيته بطريقته الهندسية، كيف يسلك سبله إلى جني الثمار والأزهار من أماكنها، كيف تتحول فيه وبه إلى عسل مصفى فيه شفاء للناس. هذا كله إلهام وتعليم من الله سبحانه.

وكما يكون الوحي من الله لبعض مخلوقاته، يكون الوحي أيضا من الشياطين لأوليائهم كما قال تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] .

والذي أنبه إليه هنا أن الوحي في كل هذه المواقف، وعلى كل هذه المستويات هو إعلام وإخبار، وهو تعليم وإلهام، وهو وسيلة من وسائل العلم خاص بمن هم أهل له، والعلم بالغيبيات ومسائلها التي أخبر بها الأنبياء ليس لنا وسيلة للعلم بها إلا الوحي الرسالي.

ولا ينكر العقل نوع الإلهام الذي يتعامل به النحل ومن على شاكلته من الحشرات، كما لا ينكر العقل أيضا نوع الرؤى المنامية وإن اختلف العقلاء في تفسيرها؛ لأن هذين النوعين من النوحي يشهد الواقع بهما، وقد شاهد كل منا خلايا النحل وهي تعمل بشكلها المنظم العجيب، وأيضا فإن كل إنسان قد جرب بنفسه نوع الرؤى المنامية سواء سماها رؤيا أو حلما، وسواء فسرها في ضوء تعاليم الأنبياء أو جعلها حلما شيطانيا، فإن اختلاف التعبيرات أو التأويلات حول ظاهرة ما يؤكد وجود الظاهرة ولا يلغيها.

ص: 52

ولكن قد يتوقف بعض أصحاب العقول أمام الوحي الرسالي، وقد يتحفظ في قبوله وقد ينكره بالكلية. وإذا طالبنا المنكرين للوحي بالدليل وإقامة البرهان على صحة دعواهم في إنكار الوحي لا نجد لديهم دليلا واحدا على إنكارهم للوحي إلا قولهم: إن الوحي لا تثبته التجربة، أو لا تستطيع الاستدلال عليه ببرهان العقل، وهذا الذي يستدلون به ليس دليلا موجبا وإنما هو دليل نفي العلم. بمعنى أنه دليل على عدم وجدانهم لدليل الإثبات، فهم لا يعرفون دليلا موجبا للقول بالوحي وإنما الذي يعرفونه أنهم افتقدوا دليل الإثبات، إلى غير ذلك مما يدّعيه هؤلاء.

والسؤال الذي أطرحه عليهم هو: هل عدم علمكم بدليل الإثبات للوحي يعتبر دليلا على نفي الوحي في ذاته؟

وهل افتقادكم الدليل يعتبر دليلا قائما بذاته تحتجون به على نفي الوحي؟!

إن عدم معرفتكم بالدليل يعد دليلا على جهلكم بالدليل الذي يعلمه غيركم، والذي يشهد به الواقع والبرهان. ومن المعروف في لغة الأصوليين أن عدم العلم ليس علما بالعدم، بمعنى أن عدم العلم بالدليل ليس علما بعدم وجود المدلول في ذاته، فقد يكون الشيء موجودًا ولا تعلم دليل وجوده، وقد يكون له أكثر من دليل وحجة وعدم العلم بدليل الإثبات ليس دليلا على نفي الوجود، بل هو دليل على جهلكم بدليل الإثبات، وما تجهلونه أنتم فقد علمه غيركم بدلائله

ص: 53

وبراهينه، فلا حجة لأحد في رفض الوحي أو التنكر له إلا الاستعلاء والمكابرة، كما أخبر الله رسوله الكريم بقوله:{فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] . وسوف نوضح فيما يأتي أن الوحي ضرورة عقلية ومعرفية كما هو ضرورة اجتماعية ونفسية. والذين ينكرون الوحي الإلهي إلى رسل الله وأنبيائه عليهم أن يراجعوا القرآن الكريم باعتباره آخر وحي نزل من السماء، ويتأملوا ما جاء فيه وما أخبر عنه وما تنبأ به، وما أشار إليه من آيات كونية في الأنفس وفي الآفاق، ويسألوا أنفسهم: من أين لرجل أمي ولد ونشأ في جزيرة العرب بمعزل عن جميع الروافد الثقافية أن يعلم ذلك؟ وهي أمور لم يكن لأهل جزيرة العرب علم بها من قبل، ومنها أمور لم يكن للبشرية كلها علم بها قبل نزول الوحي بها، من أين له صلى الله عليه وسلم العلم بما قصه القرآن عليه من أحوال الأمم الماضية ومن أحوال الأنبياء السابقين عليه مع أقوامهم؟ إن القرآن الكريم نفسه يخبرنا بأن الرسول لم يعاصر هذه الأحداث ولم يشاهد قصص القرآن ولم يحضرها، فما مصدر علمه بها كما قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} "أي: موسى عليه السلام" حين ناداه ربه بالوادي المقدس طوى، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} وقال تعالى:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] .

ص: 54

وليس هناك مصدر آخر لهذه المعلومات إلا الوحي بها، كما قال تعالى:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} .

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} أي: ما أخبر به القرآن عما مضى من أحوال الأمم الماضية.

والذين عرفوا أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم ودرسوا سيرته بين قومه قبل البعثة وبعدها يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن كاهنا ولا عرافا ولا اشتغل بالسحر حتى يقولوا: إن الرسول قد عرف ذلك عن طريق الكهانة والعرافة. ولقد كانت سيرته صلى الله عليه وسلم بين قومه وأحواله التي عرف بها سببا في أن كثيرا من أهل مكة آمنوا به قبل أن يقدم لهم برهانا، ولا دليلا على صحة قوله، بل كفاهم عن هذا معرفتهم بأحواله وصدقه، والقرآن الكريم بين أيدي المسلمين الآن وإلى الأبد، وهو دليل قائم بذاته على صدق رسالته، وكل آية فيها دليل على صدقه بما فيها من وجوه الإعجاز الذي يبهر العقول، فهلا آمن المنكرون للوحي بأن عدم علمهم بدليل الوحي ليس دليلا على نفيه، وإنما هو دليل على جهلهم بما علمه غيرهم؟

ص: 55