المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مفهوم العقل: من المعلوم أن دلالة الألفاظ تنقسم إلى دلالات لغوية - الوحي والإنسان - قراءة معرفية

[محمد السيد الجليند]

الفصل: ‌ ‌مفهوم العقل: من المعلوم أن دلالة الألفاظ تنقسم إلى دلالات لغوية

‌مفهوم العقل:

من المعلوم أن دلالة الألفاظ تنقسم إلى دلالات لغوية عامة، ودلالات اصطلاحية خاصة بأهل كل فن وصناعة، فالدلالة العامة للألفاظ نبحث عنها في معاجم اللغة حيث نجد المعنى اللغوي العام لكل كلمة مستعملة، وشائعة.

أما المعاني الاصطلاحية فنبحث عنها في المؤلفات الخاصة بكل فن من فنون القول، مثل الفاعل في علم النحو يختلف عنه الفاعل في القانون وعلم الجريمة، وليس من قصدنا في هذا البحث أن نتعرض للمعنى اللغوي العام لكلمة "العقل" أو لبيان أصولها الاشتقاقية، وليس من قصدنا أيضا البحث عن العلاقة بين المعنى اللغوي للكلمة والمعنى الاصطلاحي لها؛ لأن ذلك قد تعرضت له دراسات عديدة في مجالات مختلفة. والذي نقصده بالدرجة الأولى هنا بيان مفهوم العقل الوظيفي المعرفي.

لقد عرّف الفلاسفة العقل بأنه جوهر قائم بنفسه وقالوا: إن هذا التعريف مبين لماهية العقل وحقيقته، وهذا التعريف يقوم عندهم على أساس مذهب الفلاسفة في التفرقة بين الماهية والوجود. وهذه التفرقة قد ثبت بطلانها في العديد من الدراسات التي نهض بها علماء

ص: 56

كثيرون وبيّنوا أن هذه التفرقة لا أساس لها إلا في التصور العقلي فقط، وبيّنوا أن ماهية الشيء عين وجوده وليس في الخارج الحسي شيء يسمى ماهية الشيء وآخر يسمى عين الشيء، وأن هذه التفرقة إذا صحت ذهنا وعقلا فلن تصح واقعا ووجودا، وأن تعريف الفلاسفة للعقل بأنه جوهر قائم بنفسه غير صحيح؛ ذلك أن من خصائص الجوهر القائم بنفسه أنه يفعل دائما ولا ينفعل، فهو فعل محض، وذلك لا يتوفر في العقل حسب تصويرهم له.

ومن الأخطاء التي تأسست على مفهوم الفلاسفة للعقل بهذا المعنى السابق أنهم قالوا بنظرية العقول العشرة ليفسروا بها خلق العالم وصدوره عن الأول، وجعلوا العقل العاشر في هذ السلسلة هو المشرف على ما تحت فلك القمر. ومن المعلوم أن هذه النظرية تتعارض مع الدين وأصوله نصا وروحا؛ ولذلك كان موقف السلف منها هو الرفض المطلق، وحذروا جمهور المسلمين منها ومن القائلين بها.

ولعل من المفيد للقارئ الكريم أن يراجع في أخطاء هذه النظرية الكتاب العظيم الموسوم "بالصفدية" لابن تيمية أو كتاب بغية المرتاد في الرد على القرامطة أهل الإلحاد، حيث فصل فيهما ابن تيمية القول في بطلان مذهب الفلاسفة في العقل والعقول العشرة، وبين أنها لا تصح عقلا ولا شرعا، وأنها مؤسسة على مفهوم فاسد في العقل لمعنى المعقل.

ص: 57

وأن مفهوم الفلاسفة لمعنى العقل مأخوذ من اصطلاح اليونان للكلمة، ولا ينبغي أن يتحكم به قائله في أهل الصناعات الأخرى ولا في لغات أهل الأرض، ولا يجوز أن يجعله بديلا عن المعنى اللغوي العام لمفهوم العقل في لغتنا العربية، أو المعنى العام لها عند الإطلاق، وهذا المعنى اليوناني قد يوافق مذاهب اليونان ولغتهم؛ لأنهم ليسوا أهل دين ولا كتاب منزل، فمن أخذه عنهم وجعله مذهبا له لا يجوز أن يلزم الغير به، ولا أن يجعل المخالف له مخطئا؛ لأن هذه المعاني اصطلاحية خاصة بأهلها، فلا نحكم بالخطأ على مخالفهم ولا نلزم الغير بالأخذ به.

والعقل غريزة فطرية في الإنسان يستطيع بها أن يميز بين الحق والباطل في المعتقدات، والصواب والخطأ في الأقوال والأفعال، وأخذ بهذا المعنى الإمام أحمد بن حنبل والحارس المحاسبي وابن تيمية وابن القيم وجمهور السلف على ذلك، ورفضوا تماما الأخذ بمفهوم الفلاسفة للعقل وعارضوه وبينوا ما فيه من قصور، وما يترتب على الأخذ به من فساد في الدين والعقل معا. ولقد ظن البعض خطأ أن السلف حين رفضوا المفهوم اليوناني للعقل قد رفضوا العقل وأحكامه، ولعل السبب في ذلك أن نبرة التقديس للفلسفة اليونانية كانت قوية وعالية في عصورهم، واعتبرها البعض منزهة عن الخطأ وأن كل ما خالفها من النصوص الشرعية ينبغي أن يؤول

ص: 58

لصالحها ليكون موافقا لها، وتلك مشكلة كبرى عاشها السلف دفاعا عن قداسة النص القرآني في مواجهة تقديس البعض للفلسفة اليونانية، وتنزيهها عن الخطأ.

ولقد استغل العلمانيون المعاصرون هذه القضية، وأشاعوا أن السلف أعداء للعقل ورافضون لأحكامه ويحاربون من يأخذ به، وانطلقوا من هذا القول إلى ما هو أخطر حيث قالوا بأن القرآن يناقض العقل، ولم يستطع هؤلاء المخالفون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث، ويفرقوا بين الموقفين:

الموقف الأول: أن السلف يرفضون مذهب الفلاسفة في العقل، وأن معنى العقل عند الفلاسفة معنى اصطلاحي خاص بهم وحدهم، وليس هو بديلا عن المعنى اللغوي العام، ولا هو ملزم لغير الفلاسفة أن يأخذوا به، ولا هو بديل عن معنى الكلمة في لغة العرب التي نزل بها القرآن.

الموقف الثاني: أن رفض السلف لمفهوم العقل عند الفلاسفة لا يعني أبدًا أن السلف يرفضون العقل أو يردون أحكامه.

وتحري الحق في مثل هذه المسائل الدقيقة ليس في طباع الكثيرين من الناس خاصة إذا كانوا أصحاب هوى، كأن ينتصروا لمذهب معين أو يشنعوا على آخرين بما ليس فيهم؛ لإظهارهم أمام الناس في مظهر سيئ. وهذا كثير وواقع في كل عصر، خاصة وأن

ص: 59

أهل الحق في كل عصر قلة، وأدوات التشنيع ووسائلها متوفرة مع الخصوم مما أظهر المنهج السلفي بمظهر المضاد للعقل الرافض له، وهذا افتراء عليهم.

ولقد كان السلف في حقيقة موقفهم من العقل وأحكامه أكثر فطنة وذكاء، وأكثر احتراما للعقل حين رفضوا مذهب الفلاسفة في ذلك.

فالسلف يرون أن العقل ليس أداة ولا حالا في أداة، فهو ليس كحاسة السمع الحالة بالإذن، أو حاسة البصر الحالة في العين؛ وبالتالي هو ليس جوهرا قائما بنفسه كما يقول الفلاسفة.

والإمام أحمد حين عرف العقل بأنه غريزة ندرك بها الأشياء، ونستنبط بها العلم بالأحكام فإن هذا التعريف من وجهة نظرنا يحتاج إلى توضيح، ذلك أن كلمة غريزة كلمة مجملة، وربما اشتبهت بالغرائز الدنيا في الإنسان وإن كان هذا المعنى ليس مقصودا للإمام أحمد.

والذي يستقرئ تراث السلف في هذه المسألة يجد أن معنى العقل عندهم أقرب إلى أن يكون "وظيفة إدراكية يتعاون في أدائها جميع ملكات الإنسان المعرفية" ما عرفناه منها وما لم نعرفه1.

1 راجع: كتابنا تأملات حول منهج القرآن في تأسيس اليقين، القاهرة، 1985م.

ص: 60

هو وظيفة يرتبط وجودها في الإنسان بوجود أدواتها الظاهرة والباطنة، وبمقدار ما تكتسبه هذه الأدوات من الخبرة الزمنية، ويحصل لها من النضج يكون مقدار العقل للأشياء أتم وأكمل، وتعقله للأمور أكثر نضجا وأقرب إلى الصواب.

ومفهوم العقل هنا يساوي تماما في الاشتقاق اللغوي المعنى المصدري لقولنا: فهمت المسألة فهما، وضربت الولد ضربا، فتقول: عقلت المسألة عقلا وتعقلت الأمر تعقلا، وعملية العقل للمسألة والتعقل للأمر ليس لها مكان في الجسم فتحل به، وليس لها أداة معينة في الجسم. فتقوم بها كما يقوم البصر بحاسة العين ويقوم السمع بحاسة الأذن، وإنما هي وظيفة جامعة لكل وظائف الحواس وهي التي تجرد هذه الحواس عن لواحقها الحسية، فالعين تدرك الأسود والأبيض، والعقل هو الذي يدرك معنى البياض والسواد، والذوق يدرك الحلو والمر، والعقل هو الذي يدرك معنى المرارة والحلاوة.

والقرآن الكريم حين ذكر الحواس المعرفية قرن كل حاسة بوظيفتها، قال تعالى:{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] . وأحيانا يذكر الحاسة مقرونة بوظيفتها على سبيل النفي كما في قوله: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بهَا}

ص: 61

[الأعراف: 179] ، وأحيانا يذكر حاستي السمع والبصر ويردفهما بكلمة الفؤاد، قال تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36] . {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} .

والتعقيب بكلمة الفؤاد بعد حاستي السمع والبصر يتضمن التنبيه إلى ما غاب عنا من وسائل الإدراك الباطنة، ومن أهمها وظيفة القلب، فالقرآن الكريم يصف القلب في العديد من الآيات بالفقه أو التعقل نفيا أو إثباتا.

وأحيانا يجعل وظيفة القلب أهم وأسمى من وظيفة الحواس الظاهرة. قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] .

وأحيانا يلفت القرآن نظرنا إلى أن وظيفة الحواس وسيلة مقصودة إلى تحقيق غاية أسمى من مجرد الإدراك الحسي للأشياء، وإذا لم تتحقق هذه الغاية كانت الوظيفة الحسية للأداة في حكم العدم. قال تعالى:{ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] . وقال سبحانه: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] .

ص: 62

فالوظيفة الحسية لهذه الأدوات قد تكون موجودة ومتحققة، لكن الغاية والهدف من الوظيفة الحسية مفقودة، وهي عملية التعقل لما يرى وما يسمع. فصارت الحاسة في حكم المفقودة تماما لغياب الهدف وفوات الغاية، فهذا كله وغيره كثير ينبهنا إلى أن منطق السلف في مفهوم العقل يختلف تماما عن مفهوم الفلاسفة. يقول ابن تيمية: والعقل في كتاب الله وسنة رسوله وكلام الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين هو أمر يقوم بالعاقل سواء سميناه عرضا أو صفة، فليس هو عينا قائمة بنفسها سواء سمي جوهرا أو جسما، وإنما يوجد التعبير بالعقل عن الذات العاقلة. فهو صفة تقوم بالعاقل، وإذا قيل: فلان العاقل أو صاحب عقل فإنما يراد به امتلاكه العلوم أو الخبرة التي يميز بها بين الصواب والخطأ في الأقوال والحق والباطل في الاعتقاد، وهذا ما قصد إليه الإمام أحمد في تعبيره عن العقل بالغريزة الثابتة في الإنسان، فكما أن في العين قوة بها يبصر الإنسان فكذلك الإنسان يمتلك هذه الغريزة التي يتحقق بها العقل والفهم والتدبر، وهي ليست جوهرا ولا حالة بعضو معين في الجسم ولكن يتعاون في أدائها جميع الملكات المعرفية في الإنسان الظاهر منها والباطن.

وقد يطلق العقل ويراد به العلوم التي حصلناها بهذه الغريزة. وبهذا المعنى فإنه يكون معناه صفة العلم المتحصلة والقائمة بالذات العالمة، ويميل شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن العقل كوظيفة يتعلق

ص: 63

بالقلب، كما قال تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46] . وقيل لابن عباس: بماذا نلت العلم؟ قال: "بلسان سئول، وقلب عقول".

وليس المقصود بالقلب هنا العضو المادي في الإنسان، ولكن المراد منه الوظيفة الإدراكية لهذا العضو، كما قال:{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] .

ومن المهم أن ننبه هنا إلى أن العمل يدخل في مفهوم العقل عند السلف. ذلك أن كل عمل تسبقه إرادة، وأصل الإرادة ومحلها في القلب، والإنسان لا يكون مريدا إلا بعد تصور المراد وتعقله وتحديد مقصوده منه. فلا بد أن يكون القلب متصورا للشيء المراد قبل تحققه واقعا، يقول ابن تيمية: وإذ قد خلق الله القلب لأن يعلم به، فتوجهه نحو الأشياء ابتغاء العلم بها هو الفكر والنظر، كما أن إقبال الإذن على الكلام ابتغاء سماعه هو الإصغاء وانصراف الطرف إلى الأشياء ابتغاء رؤيتها هو النظر. فالفكر للقلب كالإصغاء للأذن، والبصر للعين. وإذا علم ما نظر فيه فذاك مطلوبه

وكم من ناظر مفكر لم يحصل العلم ولم ينله، وعكسه كم من أوتي علما بشيء لم ينظر فيه ولم تسبق إليه منه سابقة تفكير فيه

وذلك كله ليس لأن القلب بنفسه يعقل العلم وإنما الأمر موقوف على شرائط واستعدادات قد تكون فعلا للإنسان ومطلوبا له، وقد تكون فضلا من الله فيكون

ص: 64

موهوبا منه. فصلاح القلب وحقه الذي خلق من أجله هو أن يقبل الأشياء، لا أقول يعلمها فقط، فقد يعلم الشيء من لا يكون عاقلا له بل غافلا عنه، والذي يعقل الشيء هو الذي يقيده ويضبطه ويعيه ويثبته في قلبه، فيكون في وقت الحاجة إليه غنيا به، فيطابق عمله قوله وباطنه ظاهره، وذلك هو الذي أوتي الحكمة. وهذا هو مجال تفاوت الناس علما وعملا، فمن رأى الأشياء أو استمع إلى الأقوال بغير قلب واعٍ لما يرى، أو سمع لم يستفد شيئا مما رأى أو سمع، فصار مدار الأمر كله على القلب.

وقد أكد القرآن هذه القضية في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] والقلب لا يقبل من الأمور إلا ما كان صوابا، ولا يقبل من الاعتقاد إلا ما كان حقا. وهذه سنة الله في خلقه للقلب، فإذا لم يوضع فيه الاعتقاد الحق فإنه لا يقبل غيره ولا يطمئن إليه، ولا يزال القلب يتقلب في أودية الأفكار بين الحق منها والباطل؛ لأنه لا يترك خاليا فارغا أبدا، بل لا بد له من الاشتغال بالفكر والنظر، ولا تنكشف للإنسان هذه الأحوال إلا بعد رجوعه إلى الحق والصواب في القول والاعتقاد، فيتبين له حينئذ أن القلب كان هائما في أودية الفكر بلا حاصل، ولو ترك القلب وحاله التي فطر عليها لم يقبل من الاعتقاد إلا ما هو حق، ولا من الأقوال إلا ما هو صواب وتلك فطرة الله في خلقه للقلب.

ص: 65

هذا هو مفهوم العقل، هو عملية وظيفية يقوم بها الإنسان، وتتعاون في أدائها كل الملكات المعرفية في الإنسان الظاهر منها والباطن، ما علمناه منها وما لم نعلمه.

وهذا المعنى مال إليه سلف الأمة وقالوا به، فهم لا يرفضون العقل إذن كما حاول البعض أن يشنع عليهم بهذه الأكذوبة، ولكنهم يرفضون مذهب الفلاسفة في العقل.

وهم لا يرفضون أحكام العقل، ولا يقللون من شأنه في تحصيل العلوم واكتساب المعارف.

إذ كيف يرفضون العقل وأحكامه والإسلام في مبادئه وأصوله وشريعته مؤسس على خطاب العقل. فالقرآن نزل ليخاطب العقلاء، وليتدبره العقلاء، وليستنبط أحكامه العقلاء، ومن فَقَدَ العقل فَقَدْ فَقَدَ أهلية الخطاب القرآني، وليس له في خطاب الشرع ما يذم عليه ولا ما يمدح من أجله، بل ليس للمرء من عباداته في الإسلام إلا ما عقل منها. وشرائع الإسلام كلها لم يكلف بها إلا العقلاء، فكيف يشنع على منهج السلف بهذه الفرية الظالمة التي تدل على جهل صاحبها بمذهب السلف، وبمنهجهم العقلاني المنضبط؟!

ولعل السبب في ذلك أنه كلما تقادم العهد بزمن النبوة وجيل الصحابة والتابعين، وقل العلم بالآثار النبوية وانطمست معالم المنهج، وقل الملتزمون به وكثر المخالفون له والمشنعون عليه ممن لهم

ص: 66

زلفى عند أهل الرياسات وأصحاب النفوذ من الملتفّين حولهم من الذين يجيدون الالتفاف حول جميع الموائد في كل عصر، فتكثر الأحاديث وتتسلط أجهزة الإعلام بالدعاية الموجهة ضد الخصوم من السلف، وقد يجعلون منهم دعاة الرجعية والتخلف، وما أكثر ما قيل عن المنهج السلفي في هذا الصدد.

وينبغي ألا نعفي أتباع المنهج السلفي من مسئوليتهم عن ذلك؛ لأسباب كثيرة لا داعي للتفصيل فيها الآن، ولكن هذه حقيقة ينبغي أن تعرف. فلقد أساء أدعياء المذهب إلى السلفية أكثر مما أحسنوا، أحيانا عن جهل بالمنهج وأصوله وقضاياه، وأحيانا بسلوكهم الشخصي الذي يدعو إلى التنفير والترهيب أكثر مما يدعو إلى التقريب والترغيب، وعلى رأس هذه الأسباب استفراغ وقتهم وجهدهم في الخلاف حول شكليات وفروع وإهمالهم لأساسيات وأصول، وهذا مما يدمي القلوب ويحزن النفوس معا أن يجد المخالفون عن اتباعه الأسباب والمبررات للتشنيع على سلف الأمة، والافتراء عليهم بما لم يقولوه ولم يدر بخلدهم يوما ما.

ص: 67