المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوحي حاجة إنسانية: - الوحي والإنسان - قراءة معرفية

[محمد السيد الجليند]

الفصل: ‌الوحي حاجة إنسانية:

‌الوحي حاجة إنسانية:

من المفيد في هذه المرحلة من البحث أن نوضح هذه القضية التي تحوم حولها بعض الشبهات من الذين يرون أن العلم قد أغنانا عن الوحي، وأنه حل لنا المشكلات التي عانت منها البشرية قديما والتي جعلتها تفكر في الاستعانة بالوحي لحل هذه المشكلات، أما الآن وقد حمل لنا العلم حلول هذه المشكلات فلم تعد البشرية في حاجة إلى هذا اللون من الاعتقاد في الغيبيات، هكذا يقولون.

وقد ينادي بعضهم في الاستدلال على صحة موقفه هذا فيحاول أن يخضع النصوص القرآنية لما يسميه بنقد النص أو تأويل النص أو إعادة قراءة النص قراءة عصرية أو إعادة التفسير في ضوء الواقع أو

أو

إلخ ما يقولون.

ولو خاطبنا هؤلاء بلغتهم لقلنا لهم: إن العلم لا ينكر الوحي ولا يتضمن العلم نفيا للوحي ولا إنكارا للنبوة، بل على العكس قد فتح العلم بكشوفه الرائعة عن حقائق كانت في طيّ الغيب قربت للعقل إدراك ما كان يظنه مستحيلا أو غير مقبول في تصوره.

ص: 232

وقضية الوحي في أساسها لا يملك العقل برهانا على إنكارها، فهي في أصل ثبوتها ليست مما يحيله العقل ولكنها ليست مما جرت به العادة بين العقلاء، وهذا أمر لازم لها، فهي ليست من قبيل العادات ولا الأعراف التي تعوّد الناس على معايشتها حتى يتقبلوها بسهولة. ومن هنا كانت محل إنكار من الكافرين بقضية النبوة، والسبب الرئيسي في هذا الإنكار هو عدم التعود على مشاهدة هذه الحالة، وهناك فارق كبير بين المستحيل العقلي والمستحيل عادة. ومن الخطأ منهجيا أن يحمل الناس المستحيل العادي على المستحيل العقلي، وهذا يفسر لنا موقف المشركين من الرسل جميعا حين دعوهم إلى الإيمان بهذا الوحي، فقالوا للرسول:{مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس: 15] .

وقالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم: 10] .

وقالوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الحجر: 6، 7] .

وقال بعضهم لبعض: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34] .

وقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7] .

ص: 233

وقالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] .

وقالوا غير ذلك كثيرا، وعند تأملنا هذه الاعتراضات الواردة على الرسل نجد سببها هو مخالفة هذا الأمر لما تعودوه وتعارفوا عليه من ألوان المعرفة العادية، ولما كانت الكهانة والسحر من الأمور الشائعة بينهم، فقد نسبوا الوحي إلى هذه الظاهرة فقالوا:{إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} ، {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} .

وفرعون -قديما- لم يجد عنده ما يعارض به نبي الله موسى إلا اتهامه بالسحر؛ ولذلك جمع له كبار قومه في فنون السحر. ولما وقفوا على حقيقة ما مع موسى عليه السلام أدركوا أنه ليس من جنس بضاعتهم؛ ولهذا كانوا أول من آمن برب العالمين رب موسى وهارون، وقال فرعون لهم:{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِين} [الشعراء: 49] . إلى غير ذلك من وسائل التهديد بالعذاب والهلاك، فما كان جوابهم إلا أن قالوا لفرعون:{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 72، 73] .

وعلى هذا النحو كانت قضية الرسل مع أقوامهم، فالنبوة أصلا أمر غير عادي.

ص: 234

والوحي كوسيلة معرفية غيبية أمر غير عادي، ودعوى الأنبياء أنهم يخاطبون بوحي من السماء أمر غير عادي، ودلائل صدق الأنبياء من الآيات والمعجزات أمر غير عادي، ولكن السؤال الضروري هنا: هل لأن هذه الأمور كلها فوق عادة البشر تكون بالضرورة مما يحكم العقل باستحالتها؟ الجواب هنا بالقطع لا؛ فإن العقل لا يحكم باستحالة هذه الأشياء. ومن يملك برهانا قاطعا على القول بأن هذه الأمور مستحيلة عقلا فليظهره.

إن كل ما يدعيه الرافضون للوحي أنهم لا يعرفون دليلا عليه ولا يملكون برهانا على صحته. وقد يضيفون إلى ذلك دعواهم أن هذه القضية لا تخضع للتجربة الحسية؛ وبالتالي فهي ليست قابلة للصدق.

وهذا أقصى ما ينبهون إليه من دعاوى الإنكار. ولكن من قال: إن عدم معرفتهم بدليل نزول الوحي يعتبر دليلا على عدم وجوده؟

من قال: إن عدم وجدان الدليل دليل على عدم وجود الدليل في نفسه؟

وهل إذا جهل بعض الناس دليل نسبة كتاب المنطق لأرسطو أو لم يعلم أصلا بوجود أرسطو كفيلسوف، هل عدم علمه بوجود أرسطو يلغي وجوده في نفسه، ويعتبر ذلك دليلا كافيا على صحة قوله؟

ص: 235

ثانيا: من الذي قال: إن التجربة هي الوسيلة الوحيدة لإثبات صحة الرأي أو خطئه؛ إن هناك كثيرا من المعارف اليقينية لا تخضع في ذاتها للتجربة، ولا يملك أحد إنكارها.

نعم، إن التجربة مسلك علمي صحيح لا يشك أحد في نتائجها إذا استوفت شروطها العلمية، لكن التجربة ذاتها لها عالمها الخاص الذي يخضع لها وتعمل في دائرته وحدوده، لكن التجربة لا تحمل معها دليلا على أن كل ما لم يجرب من المعارف لا يكون صحيحا، إنها لا تنفي وجود الأشياء التي لم نجربها كما لا تنفي قياس أشياء لم نشاهدها على أشياء شاهدناها تجريبيا، وهذا في حد ذاته كافٍ للحكم عليه بما شاهدناه في نظيره ومثيله. وهذا هو القياس العلمي وهو كالتجربة المباشرة تماما في إفادة اليقين، والتجربة لا تعتبر حقيقة علمية لمجرد أننا شاهدناها، والقياس عليها لا يعتبر باطلا لمجرد أنه قياس. وقد توصل العلم إلى اكتشاف كثير من الوسائل المعرفية التي قربت إلى الأذهان إمكان الوحي عقلا كوسيلة من وسائل المعرفة، ولعل ما أورده بعض العلماء المهتمين بهذه القضية من أمثلة الاختراعات الحديثة، والكشوف العلمية ما يبرهن على صحة هذه القضية1

1 راجع في هذه الأمثلة: الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان ص150-160 حيث نقل أمثلة كثيرة عن الإنسان ذلك المجهول، الله يتجلى في عصر العلم، العلم في منظوره الجديد.

ص: 236