الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثَّاني: اشتراط البلوغ في وليِّ النكاح
وأمَّا اشتراط البلوغ في وليِّ النكاح فإنَّه يكاد يكون محلَّ اتفاق بين الأئمة؛ إذ إنَّ الولاية في النكاح، أو غيره، ولاية نظر، والصغير إمَّا معدوم النظر أو ناقصه، فلم يكن من أهلها، وهذا هو المذهب المشهور المعتمد عند أصحاب المذاهب الأربعة وغيرها1.
وقد روى عن الإمام أحمد رحمه الله: أنَّ الصغير إذا بلغ عشراً زوّج وتزوّج وطلّق، وأجيزت وكالته في الطلاق، قال ابن قدامة- بعد أن حكى هذه الرواية-:"وهذا يحتمله كلام الخرقي لتخصيصه مسلوب الولاية بكونه طفلاً"2.
1 انظر للحنفية: الهداية وفتح القدير والعناية (3/284-285) وتبيين الحقائق (2/125)، وبدائع الصنائع (3/1347) وللمالكية: الخرشي (3/187) ، والشرح الكبير (2/230) وبداية المجتهد (2/9) ، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص 224) .
وللشافعية: المنهاج ومغني المحتاج (3/154) ، وروضة الطالبين (7/62) .
وللحنا بلة: المغني والشرح الكبير (7/356 والشرح 426) ، والإنصاف (8/73) ، والمبدع (7/35) ، وكشاف القناع (5/53) .
2 المغني (7/256والشرح 426) .
الأدلة:
ووجه اشتراط البلوغ في الوليِّ لا يختلف عمّا قدَّمناه في تزويج الصغار أنفسهم؛ إذ إنَّ الولاية على الغير فرع عن الولاية على النفس، وحاصل ما يستدل به لهذه المسألة ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} 1.
فإذا لم يؤتمن الصغير على حفظ ماله حتى بلغ، فأولى ألاّ يؤتمن على تصريف أمور غيره فيما هو أشدّ خطرًا من المال، وهذه الآية الكريمة هي الأصل في منع عقود الصغار، ولكن لا يستبعد أن يقال: إنَّ هناك فرقًا بين عقود الصغار وحفظ أموالهم، والآية نصّ في الثَّاني دون الأول، كما تقدّم في مبحث الولاية على الصغار2.
ثانياً: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً بلفظ "لا نكاح إلاّ بوليٍّ مرشد" 3، ومظنّة الرُّشْد المعتبر هو ما كان بعد البلوغ، لا قبله. والله أعلم.
1 سورة النساء- آية رقم: 6.
2 راجع ما تقدم (1/ 366 وما بعدها) .
3 سيأتي تخريجه والكلام عليه إن شاء الله تعالى (244 وما بعدها) .
إلاّ أن الصحيح في هذا الحديث وقفه بهذا اللفظ على ابن عباس رضي الله عنهما، كما سيأتي تخريجه مع مزيد بيان حول معناه1.
ثالثًا: حديث "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصَّبيِّ حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق"2.
رابعًا: ويستدلّ من جهة المعنى بأنَّ الصغير مَوْلِىٌّ عليه في نفسه، فأولى أن لا يلي على غيره، والولاية يعتبر لها كمال النظر، والصغير إما أن يكون لا نظر له - إن كان غير مميِّز - أو ناقص النظر إن كان مميِّزًا، ولأنَّ النكاح عقد معاوضة فلم يصحّ من الصَّبيِّ كالبيع3.
وأمَّا وجه ما روي عن الإمام أحمد رحمه الله من أن الصغير إذا بلغ عشرًا زوّج وتزوّج، فذلك لأنَّه إذا بلغ هذا السنّ صحّ بيعه، ووصيّته، وطلاقه، فتثبت له الولاية كالبالغ، قاله4 ابن قدامة رحمه الله، إلاّ أنه رجّح الرواية المشهورة في المذهب وهي اشتراط البلوغ5، وتبعه صاحب
1 سيأتي تخريجه والكلام عليه (244 وما بعدها) .
2 تقدم تخريجه (1/366 وما بعدها) .
3 انظر: المصادر السابقة، وخاصّة: المغني (7/356) ، ومغني المحتاج (3/154) ، والخرشي (3/187) ، والهداية والعناية وفتح القدير (3/284-285) ، وبدائع الصنائع (13/1347) .
4 انظر: المغني والشرح (7/356 والشرح 426) .
5 نفس المصادر.
الشرح الكبير، إلاّ أنه زاد- في ردّه للقول بعدم اشتراط البلوغ- قوله:"والأصول المقيس عليها ممنوعة"1.
ولعلَّ هذا فيما ترجّح عنده، وإلا فالرواية بصحة بيع الصَّبيِّ وطلاقه ووصيّته موجودة في المذهب، بل إنَّ صحة طلاق الصَّبيِّ ووصيَّته هي المذهب كما قرّره صاحب الإنصاف2.
بل إنَّ صاحب الإنصاف حكى عن الشارح المذكور قوله: إن أكثر الروايات تحدِّد من يقع طلاقه، من الصبيان بكونه يعقل، وهذا اختيار القاضي من الحنابلة3.
الرَّاجح:
ومما تقدَّم يتَّضح أنَّ مذهب الجمهور باشتراط بلوغ الوليِّ هو الأقوى والأولى احتياطًا للنِّكاح؛ فإنَّ هذه ولاية على الغير، فينبغي أن يعتبر لها كمال النظر، ومظنَّته البلوغ، والصغير إن كان غير مميّز فلا نظر له لنفسه ولا لغيره، وأمَّا إن كان مميِّزًا فهو قاصر النظر، وقصور نظره مظنّة إلحاق الضَّرر بغيره.
ومع هذا؛ فإنَّ عقد الصّبيّ المميّز بإذن مولِيَّته المعتبر إذنها شرعاً له وجه من النظر ومستند من الأثر، فأمَّا الأثر فما سبق من حديث أمّ سلمة
1 نفس المصادر.
2 انظر: الإنصاف (4/267 البيوع) ، 7/185-186 الوصيّة) (8/ 431 الطلاق) .
3 انظر: الإنصاف (8/432) .
رضي الله عنها أنَّها أمرت ابنها ليزوّجها برسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنها هذا كان صغيرًا لم يبلغ الحلم حينذاك1.
وكذلك إن كان الذي زوّجها ابنها الآخر سلمة بن أبي سلمة، فإنَّه لم يقل أحد أنَّه قد بلغ الحلم حينذاك، وظاهر أمره أنَّه كان صغيرًا2، فيلزم من قال بصحَّة هذا الحديث على هذا الوجه أنَّ يصحح عقد الصَّبيِّ المميّز، وليس القول بأنَّه وكيل عن أمّه بأولى من القول بأنَّه وليٌّ، وقد تقدَّم ما أمكن بيانه حول معنى هذا الحديث إسنادًا ودلالة فليراجع3.
والأثر الثَّاني: ما سبق أيضًا عن أمّ سليم رضي الله عنها: أنها أمرت ابنها أنس أن يزوّجها بأبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه، وكان عمر أنس إذ ذاك عشر سنين4 أو دونها، وهذا قريب أو موافق لما روى عن الإمام أحمد رحمه الله من اعتبار العشر سنين، فإن صحَّ هذان الأثران على هذا النحو ففيهما الحجّة على صحّة عقود الصبيان المميِّزين بإذن مولِيَّاتهم، وما يقال من الخصوصيّة في حديث أم سلمة رضي الله عنها لا يمكن قوله في قصّة أمّ سليم رضي الله عنها، وما يقال أيضًا بأنَّهما وكيلان عن أمّهاتهم- كما يقوله من لا يشترط الولاية في النكاح على الحرة المكلّفة-
1 انظر ما تقدم (1/ 190 وما بعدها) .
2 انظر ما تقدم (1/ 198 وما بعدها) .
3 انظر ما تقدم (1/ 184وما بعدها) .
4 انظر ما تقدم (1/ 220 وما بعدها) .
ليس بأولى من القول بأنَّهما وليَّان، بل الظاهر كونهما وليِّين إمّا وجوبًا كما يقوله الجمهور أو استحبابًا كما يقوله الحنفية ومن وافقهم.
وأمَّا من جهة النظر: فإنَّ للصبي المميّز عبارة صحيحة في النكاح بإذن وليّه على قول الجمهور، والغالب في عقود الأنكحة أنَّه يسبقها تمهيد، ومشاورة من الوليِّ ومولِيَّته وأقاربهم، فإذا تمَّ عقد الصبي المميِّز لمولِيَّته بإذنها وإذن من يشاركها أمرها عادة كان منعه من العقد حينئذ بحجَّة قصور نظره محلَّ نظر، وخاصّة إذا لم يكن لها وليٌّ بالغ غيره كما هو ظاهر الأثرين السابقين.
وإنَّما قلت: باعتبار التَّمييز بين الصِّبيان دون الإطلاق أو اعتبار العشر، كما في الرواية الآنفة الذكر عن الإمام أحمد رحمه الله؛ لأنَّه لا عبرة بعقد غير مميّز إجماعًا؛ إذ ليس له قصد صحيح معتبر في تصرُّفاته أشبه المجنون.
وأمَّا التحديد بالعشر السنين فهذا يحتاج إلى توقيف، وما تقدَّم من أثر أمّ سليم وقع اتِّفاقًا - إن صحَّ أن عمره كان كذلك - فلا يدلُّ على منع ما دون ذلك.
ولذلك نقل صاحب (الإنصاف) قول بعض الحنابلة: إنَّ أكثر الروايات تحدِّد من يقع طلاقه من الصبيان بكونه يعقل1. والله أعلم.
1 تقدم قريبا (ص217) .