المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: في الولاية في النكاح بسبب القرابة - الولاية في النكاح - جـ ٢

[عوض بن رجاء العوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل السّابع: الولاية في النكاح على الأرقّاء

- ‌المبحث الأول: ثبوت الولاية في النكاح عليهم

- ‌المبحث الثَّاني: تزويج الأسياد أرقّاءهم

- ‌المبحث الثَّالث: تزويج الأرقّاء أنفسَهم

- ‌المبحث الرّابع: إجبار الأرقّاء على النّكاح

- ‌المبحث الخامس: خيار الأمة إذا عَتَقَتْ تحت زوج

- ‌الفصل الثامن: أسباب الولاية في النكاح

- ‌تمهيد: في بيان المقصود بأسباب الولاية في النِّكاح في هذا الفصل

- ‌المبحث الأوّل: في الولاية في النِّكاح بسبب القرابة

- ‌المبحث الثَّاني: الولاية في النِّكاح بالوَلَاء

- ‌المبحث الثاَّلث: ولاية السلطان في النّكاح

- ‌المبحث الرَّابع: الولاية في النِّكاح بالكفالة

- ‌المبحث الخامس: الولاية فى النِّكاح بالإسلام

- ‌المبحث السادس: الوكالة عن الوليّ في النكاح

- ‌المبحث السَّابع: الولاية في النِّكاح بالوصيّة

- ‌الفصل التاسع: شروط الوليّ في النكاح

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأوّل: اشتراط الذكوريّة في وليِّ النِّكاح

- ‌المبحث الثَّاني: اشتراط البلوغ في وليِّ النكاح

- ‌المبحث الثَّالث: اشتراط العقل في وليّ النِّكاح

- ‌المبحث الرَّابع: اشتراط الحرّيّة في وليّ النِّكاح

- ‌المبحث الخامس: اشتراط الإسلام فى وليّ النِّكاح

- ‌المبحث السادس: اشتراط العدالة في وليِّ النِّكاح

- ‌المبحث السّابع: اشتراط الرُّشْد في وليّ النكاح

- ‌المبحث الثَّامن: اشتراط كون الوليّ حلالاً

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الأول: في الولاية في النكاح بسبب القرابة

‌المبحث الأوّل: في الولاية في النِّكاح بسبب القرابة

1-

دليلها:

إنَّ قرابة النَّسب هي أقوى أسباب الولاية في النِّكاح على الحرّة، صغيرة أم كبيرة، اتفافاً من حيث الجملة، فكلّ سبب غيرها إنما هو نيابة عنها، أو خلافة لها، وإنَّما قلت: إنَّه أقوى الأسباب بالاتفاق من حيث الجملة لما سيأتي من أنَّه: لا ولاية لذوي الأرحام- وهم القرابة من جهة الأم- عند الجمهور، بل الولاية في النِّكاح خاصّة بالعصبات، وهم القرابة من جهة الأب، وفي الذكور منهم خاصّة، ضرورة أنَّ المرأة مَوْلِيّ عليها في النكاح- عندهم- فلا تلي نكاح غيرها، فالولاية في هذا الباب معتبرة بجهة الآباء، لا بجهة الأمّهات. وبناء عليه اختلفوا في ولاية الابن على أمّه في النِّكاح، مع أنَّه أقوى العصبات في الميراث كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

والأصل في تقديم أقرباء النَّسب في ولاية النِّكاح قوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1.

1 آخر سورة الأنفال.

ص: 60

وقوله تعالى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} 1 فأولويَّة ذوي الأرحام ببعضهم في هاتين الآيتين شاملة لأحقِّيتهم بولاية النِّكاح والمال وغيره من الولايات الخاصّة، كما يشمل الأولوية بأحقِّية الإرث والانتساب ونحوهما.

ويدلّ أيضاً على تقديم أقرباء النَّسب على غيرهم عموم أدلّة الولاية التي تقدم ذكرها في مبحث اشتراط الولاية في النِّكاح على الحرة المكلفة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"لا نكاح إلابوليّ"، فإنَّ قريب النّسب هو أولى الأولياء هنا. والله أعلم.

2-

نوع القرابة التى تثبت بها ولاية النِّكاح.

اتفق الفقهاء على ثبوت ولاية النِّكاح للعصبات من أقرباء النسب إلا الابن- كما سيأتي.

واتفقوا أيضًا على تقديمهم على غيرهم من ذوي الأرحام، بل حكى الإجماع على عدم ولاية ذوي الأرحام مع وجود العصبات2.

واختلفوا في ثبوت ولاية النِّكاح لذوي الأرحام، كأب الأم، والأخ للأم، والعم للأم، والخال، ونحوهم من الأقارب من جهة الأم على قولين:

1 سورة الأحزاب ـ الآية رقم: 6.

2 انظر: البحر الزخار في مذهب علماء الأمصار (4/56) .

ص: 61

القول الأول: أنَّه لا ولاية لذوي الأرحام، بل الولاية خاصة بالعصبات دونهم.

وبهذا قال الجمهور، ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة، عدا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله1

القول الثَّاني: أنَّ كلَّ من يرث بفرض أو تعصيب تثبت له الولاية في النِّكاح. وهي إحدى الروايتين عن أبي حنيفة2 رحمه الله.

سبب الخلاف:

ويرجع سبب هذا الخلاف إلى اختلافهم في أصل ثبوت سبب الولاية هنا، أهو مطلق القرابة؟ أم هو نوع خاصّ من القرابة وهم العصبات؟.

فعند الجمهور أنَّ شرط ثبوت الولاية للقريب في النِّكاح إنَّما هو العصوبة خاصَّة.

وأمَّا على الرِّواية الثَّانية عن أبي حنيفة رحمه الله فهو أنَّ شرط ثبوت الولاية هو مطلق القرابة، أمَّا العصوبة فهي شرط للتقديم لا غير؛ فلا ولاية لذوي الأرحام مع العصبات، أمَّا عند عدم وجود العصبة نسبًا،

1 انظر: المبسوط (4/223) ، والأم (5/14) ، والمغني (7/350) .

2 المبسوط (4/223) ، وبدائع الصنائع (3/1350 ـ 1351، 1370) ، والهداية وفتح القدير والعناية (3/285 ـ 286) .

ص: 62

أو ولاء، فتثبت الولاية لذوي الأرحام؛ لوجود أصل سببها وهو مطلق القرا بة1.

دليل الجمهور.

استدلَّ الجمهور لقَصْر الولاية في النِّكاح على العصبات دون ذوي الأرحام بما يلي:

أولاً: ما روى عن عليّ رضي الله عنه موقوفًا عليه، ومرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"النِّكاح إلى العصبات".

قال السَّرَخْسِي: "إدخال الألف واللام دليل على أنّ جميع الولاية في باب النِّكاح إنما تثبت لمن هو عصبة، دون من ليس بعصبة"2 اهـ

وقال الكاساني: "فوّض كلّ نِكاح إلى كلِّ عصبة؛ لأنَّه قابل الجنس بالجنس، أو بالجمع، فيقتضى مقابلة الفرد بالفرد"3 أهـ.

وهذا الخبر قد اشتهر ذكره في كتب الحنفية4 بهذا اللفظ عن عليّ رضي الله عنه موقوقاً عليه، ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الهداية: "حديث النِّكاح

1 انظر المبسوط (4/223) ، وبدائع الصنائع (3/1351، 1370) .

2 المبسوط (4/223) .

3 بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1351)، وانظر: فتح القدير والعناية (286/3) .

4 انظر المبسوط (4/219 ـ 223) ، وبدائع الصنائع (3/1351) ، والهداية وفتح القدير والعناية (3/277) ، وتبيين الحقائق (2/122) .

ص: 63

إلى العصبات لم أجده" اهـ1. وبيّض له الزيلعي في نصب الراية2.

وقال أحمد شلبي في حاشيته على تبيين الحقائق: "لم يخرجه أحد من الجماعة ولا يثبت. اهـ غاية"3.

وقد ذكر ابن قدامة في (المغني)، وغيره من الحنابلة نحوه موقوقاً على عليّ رضي الله عنه بلفظ:"إذا بلغ النساء نصّ الحقائق فالعصبة أولى إذا أدركن"4.

وهذا الأثر قد أورده البيهقي بسنده إلى معاوية بن سويد (وهو ابن مقرِّن المزني) قال: وجدت في كتاب أبي، عن عليّ رضي الله عنه أنَّه قال:"إذا بلغ النِّساء نصّ الحقائق فالعصبة أولى، ومن شهد فليشفع بخير"(5) .

ثم روى بإسناده إلى أبي عبيد- وهو القاسم بن سلَاّم- قوله:

"بعضهم يقول: الحقاق، وهو من المحاقّة، يعني المخاصمة، أن تحاقّ الأمّ العصبة فيهنّ، فنصُّ الحقاق إنّما هو الإدراك؛ لأنَّه منتهى الصغر، فإذا بلغ النِّساء فالعصبة أولى بالمرأة من أمّها إذا كانوا محرمًا وبتزوّجها6 أيضاً إن أرادوا، قال: وهذا يبيّن لك أنّ العصبة والأولياء غير الآباء ليس لهم أن

1 الدراية في تخريج أحاديث الهداية لابن حجر (2/62) .

2 نصب الراية للزيلعي (3/195) .

3 حاشية تبيين الحقائق (2/122) .

4 انظر المغني مع الشرح الكبير (7/350) .

5 البيهقي (7/121) نكاح، باب ما جاء في نكاح اليتيمة.

6 في نسخة "وبتزويجها". هـ محققه (7/121) .

ص: 64

يزوّجوا اليتيمة حتى تدرك، ولو كان لهم ذاك لم ينتظروا بها نصّ الحقاق، قال: ومن رواه نصّ الحقاق فإنّه أراد جمع حقيقة". اهـ1.

وقال ابن الأثير في النهاية: أصل النصّ: أقصى الشيء وغايته، ثم سمِّي به ضرب من السير السريع، ومنه حديث عليّ "إذا بلغ النساء نصّ الحقاق فالعصبة أولى" أي إذا بلغت غاية البلوغ من سنّها الذي يصلح أن تحاقق وتخاصم عن نفسها فعصبتها أولى بها من أمّها) 2 اهـ.

ثانياً: أنّ الأصل في الأولياء هم العصبات، فهم أهل الرأي والصيانة عمّا يلحق القبيلة من العار والشَّيْن، ولذلك كانوا مقدَّمين على ذوى الأرحام بالإجماع3. وأمَّا ذوو الأرحام فهم يُنْسبون إلى قبيلة أخرى فلا يلحقهم عار نسب غير نسبهم4.

ثالثاً: أنَّ مولى العتاقة مقدّم عليهم، فلو كان لقرابتهم تأثير في استحقاق الولاية بها لكانوا مقدّمين على مولى العتاقة؛ إذ لا قرابة لمولى العتاقة5.

1 البيهقي (7/121) نكاح، باب ما جاء في نكاح اليتيمة.

وانظر: غريب الحديث لأبي عبيد (3/456 ـ 457) .

2 النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (5/64) ، وقد رمز للحديث وتفسيره بعزوه للهروي.

3 انظر: بدائع الصنائع (3/1351) ، والبحر الزخار (4/56) .

4 انظر: المبسوط (4/223) .

5 نفس المصدر السابق.

ص: 65

دليل أبى حنيفة- رحمه الله فى إثبات ولاية النكاح لذوي الأرحام.

لقد استُدلَّ لأبي حنيفة رحمه الله على إثبات الولاية لذوى الأرحام بعد العصبات بما يلي:

أوَّلاً: قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} 1 من غير فصل بين العصبات وغيرهم، فثبت ولاية النِّكاح على العموم إلَاّ من خُصّ بدليل2.

ثانياً: ما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه أجاز تزويج امرأته ابنتها". وابنتها هذه لم تكن من ابن مسعود رضي الله عنه على الأصحّ، وإنّما جوّز نكاحها بولاية الأمومة3.

ثالثاً: أنَّ للشفقة اعتبارها في ولاية النِّكاح، وهي كما توجد في قرابة الأب توجد كذلك في قرابة الأمّ؛ لوجود سببها وهو القرابة4.

رابعاً: أنّ ولاية النِّكاح مرتَّبة على استحقاق الميراث؛ لاتّحاد سببهما وهو القرابة، فكلّ من استحقّ الميراث، استحقَّ الولاية؛ بدليل أنّه

1 سورة النور ـ الآية رقم: 32.

2 انظر: بدائع الصنائع للكاساني (3/1351) .

3 انظرالمبسوط (4/223) ، وفتح القدير (3/287) ، ولم أقف له على تخريج، ولم يذكروا له إسناداً فينظر.

4 المبسوط (4/223) ، وبدائع الصنائع (3/1351) ، والهداية والعنهاية وفتح القدير (3/286 ـ 287) .

ص: 66

لا ولاية لعبد ولا لكافر على مسلمة، وإنّما يقدّم العصبات على ذوى الأرحام؛ لأنّ للميراث أسباباً هي: الفريضة، والعصوبة، والقرا بة، والعصوبة أقوى أسباب الإرث؛ لاستحقاق جميع المال بها عند الانفراد، فترتُّب أسباب الولاية على أقوى أسباب الإرث1.

هذا خلاصة ما استُدِلَّ به لأبي حنيفة لإثبات الولاية في النِّكاح لذوى الأرحام، وقد نصَّ السَّرَخْسِي في (المبسوط) ، وتبعه صاحب (الهداية) 2، علي أنَّ دليل أبي حنيفة في إثبات ولاية ذوي الأرحام إنّما هو الاستحسان، فعلى هذا يكون ما سبق توجيه لهذا الاستحسان3. والله أعلم.

موازنة بين القولين.

ويبدو لي ممّا تقدّم أنّ في كلّ من القولين قُوَّة:

أمَّا مذهب الجمهور؛ فلأنَّ هذه الولاية إنّما شرعت في حقّ المرأة نظراً لها، وصيانة لعرضها، ولنسب قومها عمَّا يلحقهم من العار بوضعها

1 المبسوط (4/223) ، وبدائع الصنائع (3/1351) ، والعناية (3/287) .

2 انظر المبسوط (4/223) ، والهداية مع فتح القدير (3/285) .

3 يطلق الاستحسان عند فقهاء المذهب الحنفي بالاشتراك على معنيين: أولهما: قياس خفيت علَّته؛ لدقتها في مقابلة قياس آخر ظهرت علَّته؛ لتبادرها إلى الذهن أولاً.

وثانيهما: النصوص التي جاءت على خلاف القياس؛ بطريق الاستثناء من القواعد الأصلية. انتهى نصّاً من علم أصول الفقه لأحمد إبراهيم بك (ص 100)، وانظر أيضاً: أصول الفقه لمحمّد الخضري بك (ص333 ـ 335) .

ص: 67

في غير موضعها، والأنساب إنّما تعرف بالآباء لا بالأمَّهات، وهذا المعنى يكاد يكون إجماعاً- أعني أنّها شرعت لصيانة الأنساب.

وأمَّا وجه القّوة فيما روي عن أبي حنيفة رحمه الله من إثبات الولاية لذوي الأرحام بعد العصبات؛ فلأن القرابة مهما بعدت فهي داعية إلى الشفقة والنظر، وإلى صيانة أعراض الأقرباء أيضاً، فإذا انقرضت القرابة من جهة الآباء، فمن أحقُّ الناس بالنظر بعدهم إن لم يكن أولئك الذين تربطهم أواصر القربى؟.

وأمَّا أدلّة كلا الفريقين السابقة فلا يخلو أكثرها من نظر، وإنّما الحجَّة التي ينبغي أن يعوّل عليها هنا، هو تحقيق معنى "الوليّ" لغة، وشرعًا، وعرفاً، أيشمل قرابة الأمّهات أم هو قاصر على القرابة من جهة الآباء؟ وهذا محتمل، خاصّة بعد انقراض القرابة من جهة الآباء؛ وذلك: أنّ معنى الوليّ لغة يدور حول معنى القرب مطلقاً، سواء أكان قرباً حسّيّاً أم معنوياً، كما قاله ابن فارس وغيره1.

وأما شرعاً فلم يرد نصٌّ- فيما أعلم- في بيان ترتيب الأولياء، أو في حصرهم في نوع معيّن، إلا ما روي من حديث "النِّكاح إلى العصبات" الذي تقدّم قريباً، ولكنَّ الشأن في ثبوته، وما أظنّه يثبت بهذا اللفظ، ولو

1 انظر: مقاييس اللغة لابن فارس (6/141 ـ 142) ، والصحاح (6/2528 وما بعدها) ، ولسان العرب (15/411 وما بعدها) .

ص: 68

ثبت لم يبقَ معنىً لقول من قال بصحة إنكاح النِّساء أنفسهنّ أو غيرهنّ، كما هو مذهب الحنفية، مع شهرته في كتبهم دون غيرهم، فالله المستعان.

وأقرب حديث- فيما يظهر لي- يُستَدلُّ به في هذا المقام قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن اشتجروا فالسلطان وليّ من لا وليّ له"1، فإنّ هذا الحديث يدلّ على أن الأولياء محصورون في أناس معينين يمكن أن يختلفوا في أولويتهم بإنكاح المرأة أو منعها منه2. ومع هذا فإنّ الاحتمال ما زال قائماً.

وأمّا عرفاً: فهو أقوى ما يمكن أن يتمسَّك به الجمهور على تخصيص العصبات دون ذوي الأرحام هنا؛ بدليل ما روي عن أمّ سلمة رضي الله عنها أنّها قالت لمّا خطبها النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس أحد من أوليائي حاضراً"3، وقول عائشة رضي الله عنها:"يخطب الرجل إلى الرجل وليّته"4 فإنّ هذا وأمثاله يدلّ على أنَّ هناك عرفاً يميّز المقصود من الوليّ في النِّكاح5، وهم عصبة المرأة، ولكن لا يخفى أنّ محلّ الخلاف - هنا- فيما إذا لم توجد عصبة لا من النَّسب، ولا بالسَّبب أيضاً وهم عصبات الولاء بالعتق، فهل تنتقل الولاية حينئذٍ إلى السلطان أو إلى ذوي الأرحام؟ لا شك أنّ هذا محلّ نظر.

1 تقدَّم تخريجه من حديث عائشة رضي الله عنها (1/112) .

2 انظر: نحو هذا في المحلى لابن حزم (9/456) .

3 تقدّم تخريجه (1/184-185) .

4 تقدَّم تخريجه (1/138-140) .

5 انظر نحو هذا في سبل السلام (3/121) .

ص: 69

ولصاحب (الروضة النديّة) كلام في هذا المعنى يحسن إيراده، فقد قال:"والذي ينبغي التعويل عليه – عندي - هو أن يقال: إنّ الأولياء هم قرابة المرأة الأدنى فالأدنى الذين يلحقهم الغضاضة إذا تزوّجت بغير كفء وكان المزوِّج غيرهم، وهذا المعنى لا يختص بالعصبات، بل قد يوجد في ذوي السّهام كالأخ لأمّ، وذوي الأرحام كابن البنت، وربّما كانت الغضاضة معهما أشدّ منها مع بني الأعمام ونحوهم، فلا وجه لتخصيص ولاية النِّكاح بالعصبات، كما أنّه لا وجه لتخصيصها بمن يرث، ومن زعم ذلك فعليه الدليل، أو النقل، بأنّ معنى الوليّ في النِّكاح شرعاً أو لغة هو هذا، وأمّا ولاية السلطان فثابتة بحديث: "إذا تشاجروا فالسلطان وليّ من لا وليّ له". انتهى المقصود من كلامه1. وله بقيّة لم أستحسن إيرادها؛ إذ سوّى فيها بين أبناء البنين وأبناء البنات وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات ونحوهم زاعماً أنّه لا مخصّص لذلك إلاّ أقاويل من سبق، ولا تعويل عليها عنده2.

ولكنّني لا أعلم له موافقاً له على هذا القول، بل إنّ الإجماع - أو ما يشبهه - قائم على أنّه لا ولاية لأحد مع وجود العصبات بالنّسب. والله أعلم.

1 انظر: الروضة النّديّة لصديق حسن خان شرح الدرر البهيّة للشوكاني (2/12 ـ 13) .

2 نفس المصدر السابق.

ص: 70

الرّ اجح:

إنّ الترجيح الذي تطمئنّ إليه النفس هو ما يعتمد على دليل واضح، وكلّ الأدلّة السابقة محتملة، ومع هذا فالذي يبدو لي - في هذه اللحظة، والعلم عند الله تعالى -: أنّه لا مانع من ولاية ذوي الأرحام بعد انقراض العصبات من النّسب والولاء، ولكن في الذكور خاصّة دون الإناث، وعلى هذا فأولياء المرأة هم قرابتها من الذكور خاصّة، الأدنى فالأدنى الذين تلحقهم الغضاضة باستبدادها بإنكاح نفسها أو إنكاح الأجانب لها، وأنّ العصبة شرط للتقديم؛ لأنّهم الأقرب اتفاقاً كما في الميراث، وعليه فإذا انعدمت العصبة من النّسب والولاء كان أولياؤها بعد ذلك أقاربها الذكور من ذوي الأرحام، وإنّما قصرت ذلك على الذكور منهم دون الإناث؛ لقيام الدليل على بطلان إنكاح الأنثى نفسها، فغيرها من النساء من باب أولى. والله أعلم.

3ـ الترتيب بين العصبات فى ولاية النِّكاح.

لقد عرفنا فيما تقدّم أنّ للعصبات بالنَّسب ولاية في النِّكاح إجماعاً، وأنَّهم مقدّمون على غيرهم باتفاق المذاهب الأربعة وغيرها.

وأمّا الترتيب بينهم في ولاية النِّكاح، لتقديم أحقّهم بها، فهذا يختلف بين كلّ مذهب وآخر، بل وجد في المذهب الواحد اختلافات شتّى، أيُّ الأولياء أحقُّ بالتقديم؟ وذلك يرجع فيما يظهر لي من خلال هذا البحث إلى عدّة أسباب أهمّها ما يلي:

ص: 71

1-

عدم وجود نصّ صريح من الكتاب أو السنّة في تبيان ترتيب الأولياء على التفصيل.

2-

أنّ مفهوم الوليّ الذي ورد به النصّ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلاّ بوليّ" يقتضي تقديم الأقرب فالأقرب للمرأة.

3-

أنّ أقرب أصل يرجع إليه في بيان الأقرب فالأقرب هو الترتيب بين العصبات في الميراث، ولمّا كان الترتيب بينهم في الميراث غير متفق عليه اتفاقاً كاملاً، فقد جرى هنا من الخلاف ما جرى هناك.

4-

ونظراً لوجود بعض الفوارق بين أحقيّة الميراث وأهليّة الولاية في النِّكاح، لم يطّرد الترتيب بين العصبات في ولاية النِّكاح اطّراداً كاملاً حسب الترتيب في الميراث، فجرى هنا خلاف آخر؛ تبعاً لاختلاف الاجتهادات أيّ العصبات أحقّ بالتقديم؟ حتى وإن كان متفقاً عليه في باب الميراث، بل لقد وجد من العصبات في الميراث من قيل بعدم ولايته في النِّكاح "كالابن" رغم أصالته في باب الميراث، ونظراً لتشعّب الخلاف في هذه المسألة والتفريع عليها في كلّ مذهب أرى أنّ أسلم طريقة لبحث هذه المسألة هو تصديرها بالترتيب المشهور في كلّ مذهب من المذاهب الأربعة مع الإشارة إلى أهم مسائل الخلاف في نفس المذهب، ثم إتباع ذلك بمباحث تفصيليّة في كلّ مسألة للمقارنة بين مذاهب الخلاف فيها، وبيان وجهة كلّ منهم. والله الموفق.

ص: 72

مذاهب الفقهاء في ترتيب الأولياء من العصبات إجمالاً.

أـ مذهب الحنفية:

إنّ الترتيب بين العصبات في ولاية النِّكاح عند الحنفيّة كالترتيب في الإرث، والأبعد محجوب بالأقرب على النحو التالي: فأوّلهم: الابن، فابنه وإن سفل، ثم الأب، فأبوه وإن علا، ثم الأخُ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ لأب، ثم العم الشقيق ثم العم لأب، ثم ابن العم الشقيق، ثم ابن العم لأب، ثم أعمام الأب كذلك.

فكلّ هؤلاء تثبت لهم ولاية الإجبار على الأنثى والذكر في حال صغرهما، وكذلك في حال كبرهما إذا جنّا، إلاّ الابن فلا يتصوّر في حقّه إلاّ ولايته على أمّه المعتوهة أو المجنونة، وكذلك تثبت لهم ولاية الاستحباب على المرأة المكلّفة كما تقدّم توضيحه في محلّه1.

وقد خالف في هذا الترتيب محمد بن الحسن رحمه الله فقال: إنّ الأب مقدّم على الابن2.

وكذلك خالف أبو يوسف ومحمد بن الحسن أبا حنيفة في الجدّ والإخوة، فقال أبو حنيفة بتقديم الجدّ على الإخوة، وقال الصاحبان: باستوائهما في الولاية، تبعاً لاستوائهما في الميراث عندهما.

1 انظر في هذا الترتيب: المبسوط (4/219) ، وفتح القدير (3/277) .

2 انظر: المبسوط (4/220) ، وبدائع الصنائع (3/1371) ، وفتح القدير

(3/277) .

ص: 73

وصحح ابن الهمام تبعاً للسَّرَخْسِي أنّ القول بتقديم الجدّ على الإخوة قولهم جميعاً؛ لأنّ في الولاية معنى الشفقة معتبر، وشفقة الجدّ مقدّمة على شفقة الأخ، ولهذا لا يثبت لها الخيار في عقد الجدّ، كما لا يثبت في عقد الأب1.

ب ـ مذهب المالكيّة:

وأمّا الترتيب عند المالكيّة فيقدّم الأبناء فأبناؤهم وإن سفلوا، ثم الأب، ثم الإخوة الأشقاء، ثم الإخوة لأب، ثم بنو الإخوة للأب والأمّ، ثم بنو الإخوة لأب، ثم الأجداد للأب وإن علوا، ثم العمومة وإن سفلوا2.

إلاّ أنّ بعضهم نصّ على أنّ كلّ جدّ يقدّم على ابنه من العمومة، وعلى هذا فالذي يتقدّم العمومة مطلقا إنّما هو الجدّ الأدنى، ثم بعد ذلك كلّ أب منهم يتقدّم ابنه3.

وقال المغيرة4: الجدّ وأبوه أولى من الأخ وابنه5.

1 انظر: انظر المبسوط (4/219) ، وبدائع الصنائع (3/1371) ، وفتح القدير (3/277) .

2 انظر: بداية المجتهد (2/10) ، وقوانين الأحكام الشرعية لابن الجوزي (ص223) ، والكافي لابن عبد البر (1/429) ، وتفسير القرطبي (3/77) .

3 انظر: الخرشي والعدوي (3/180) ، والدسوقي مع الشرح الكبير (2/225) .

4 هو: المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش، فقيه المدينة بعد مالك. انظر ترجمته في: الأعلام (8/200) ، وشذرات الذهب (1/310) .

5 انظر: بداية المجتهد (2/10) ، وتفسير القرطبي (3/77) .

ص: 74

وتقدّم الأبناء على الأب مقيّد بما إذا لم تكن المرأة في حجر أبيها أو وصيّه1، وإلاّ فالمقدّم الأب أو وصيّه، وكذلك وصيّ الوصيّ2.

جـ ـ مذهب الشافعية:

وأمّا مذهب الشافعية فترتيب الأولياء عندهم كترتيبهم في أحقّيتهم بالميراث، إلاّ في بعض المسائل، فأحقّ النّاس بإنكاح المرأة الحرّة عندهم: أبوها، ثم أبوه وإن علا، ثم أخ لأبوين، ثمَّ لأب، ثم بنو الإخوة وإن نزلوا، ثم الأعمام، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم سائر العصبة على ترتيب الإرث بالتعصيب3.

والمسائل التي يختلف فيها هذا الترتيب عن ترتيب الميراث- عندهم- هي:

الأولى: الابن يقدّم في الميراث اتفاقاً، وهنا لا ولاية للابن بمحض البنوّة، وإنّما قد يلي بسبب آخر كمشاركتها في النَّسب، كأن يكون ابن

1 يعبّر بعضهم بـ"التي في حجر أبيها أو وصيه"، وبعضهم بـ"المجبرة"، والمعنى واحد، والمرأة تكون مجبرة أو في حجر أبيها أو وصيه إذا كانت صغيرة مطلقاً- أي بكراً أم ثيّباً، عاقلة أم مجنونة - أو بكراً بالغة، وكذلك المجنونة البالغ بكراً أم ثيّباً.

وهذه الأخيرة هي المقصودة هنا، لأنّها هي التي يتصور لها ولد، فيكون أبوها حينئذٍ مقدّماً على ابنها.

2 انظر: الحطَّاب (3/429) ، والشرح الكبير (2/225) .

3 انظر: الأمّ (5/13 ـ 14) ، والمنهاج ومغني المحتاج (3/151) ، وروضة الطالبين (7/59) ، وتكملة المجموع الثانية (16/155) .

ص: 75

ابن عم، أو مولى، أو حاكماً، أو تولّدت قرابة من المجوس، أو وطء شبهة كأن يكون ابن أخيها أو ابن عمها، فيلي نكاحها بذلك السبب لا بسبب محض البنوّة1.

الثّانية: الجدّ يشارك الأخ في الميراث، وهنا يقدّم عليه اتفاقاً عندهم2.

الثّالثة: الأخ الشقيق يقدّم على الأخ لأب في الميراث اتفاقاً - عندهم- وهنا فيه قولان:

أظهرهما - وهو الجديد - يقدّم الأخ الشقيق على الأخ لأب، كالميراث.

والقول القديم: يستويان في أحقّية الولاية، ويجرى هذان القولان في أبناء الإخوة والأعمام وبنيهم إذا كان أحدهم شقيقاً والآخر لأب3.

د. مذهب الحنابلة.

وأمّا ترتيبهم عند الحنابلة: فأحقّ الناس بإنكاح الحرّة هو: أبوها فأبوه وإن علا، ثم ابنها فابنه وإن نزل، ثم أخوها لأبوين، ثم لأب، ثم

1 انظر: المنهاج ومغني المحتاج (3/151) ، وروضة الطالبين (7/60) .

2 انظر: مغني المحتاج (3/151) ، وروضة الطالبين (7/59) .

3 نفس المصدرين السابقين ونفس الصفحات.

ص: 76

بنوهما كذلك، ثم عمّها لأبوين، ثم لأب، ثم بنوهما كذلك، ثم سائر الأولياء على ترتيب الإرث بالتعصيب1.

هذا هو الترتيب المشهور في المذهب، وهناك روايات وأقوال أخر منها:

1-

تقديم الابن وابنه على الأب والجدّ2.

2-

تقديم الابن على الجدّ3.

3-

تقديم الأخ علي الجدّ4.

4-

استواء الأخ والجدّ5.

5-

استواء الابن والأب6.

6-

استواء الأخ الشقيق والأخ لأب في درجة واحدة، وهذا المذهب عند المتقدِّمين منهم، وكذلك الحكم في بني الإخوة، وفي الأعمام وبنيهم، ولكنّ الصحيح هو تقديم الشقيق7.

1 انظر: المغني (7/346ـ 349) ، والإنصاف (8/69 ـ 70) ، وزاد المستنقع مع حاشيته السلسبيل (2/122) .

2 الإنصاف (8/69) .

3 المصدر السابق، والمغني (7/346) .

4 نفس المصدر والمغني (7/347) .

5 نفس المصدرين السابقين.

6 الإنصاف (8/69) .

7 الإنصاف (8/69 ـ 70) ، والمغني (7/348 ـ 349) .

ص: 77

ثانيًا: أهمُّ مسائل الخلاف فى هذا الترتيب:

بعد هذا العرض لمذاهب الفقهاء في ترتيب الأوّلياء من العصبات يلاحظ أمران:

أوّلهما: أنّ هذه المذاهب أو بعضها قد تتَّفق على الترتيب في جهة واحدة، أو درجة واحدة من درجات الأولياء، ولكن ليس هناك اتفاق كامل من أوّل سلسلة العصبات إلى آخرها.

وثانيهما: أنّ هناك روايات وأقوالاً في نفس المذهب الواحد تختلف قوّة وضعفاً، ونظراً لقّوة تلك الأقوال أو شهرتها فلا بدّ من ذكرها وبيانها.

ونظراً لتلك الملاحظتين السابقتين، فإنّه لا بدّ من كرّة أخرى تفصيليّة توضِّح أهمّ الأقوال في كلّ جهة وفي كلّ درجة؛ فإنّ الأولياء من العصبات إمّا أن يكونوا.

1- أصولاً: وهم الآباء وآباؤهم وإن علوا.

2-

أو فروعاً: وهم الأبناء وأبناؤهم وإن نزلوا.

3-

أو فروعاً للأب: وهم الإخوة وبنوهم وإن نزلوا.

4-

أو فروعاً للجدّ: وهم الأعمام وإن علوا، وبنوهم وإن نزلوا.

وكلّ جهة من هذه الجهات الأربع تختلف درجاتهم فيها قرباً وبعداً.

فأوّل درجات الأصول: هو الأب، ثم أبوه، فأبوه وإن علا.

وأوّل درجات الفروع: هو الابن ثم ابنه فابنه وإن نزل.

وأمّا فروع الأب والجدّ: وهم الإخوة والأعمام فيختلفون درجة وقوّة، فدرجة الأخ مقدّمة على ابنه، وكذلك العم مقدّم على ابنه،

ص: 78

ويختلفون قوّة أيضاً، فمن يدلي بجهتين أقوى ممّن يدلي بجهة واحدة، فالأخ الشقيق أقوى من الأخ لأب، والعم الشقيق أقوى من العم لأب، وكذلك أبناؤهم فلنبدأ بهم على النحو التالي:

أوّلاً: مرتبة الأب.

ثانياً: مرتبة الجدّ.

ثالثاً: مرتبة الابن.

رابعاً: مرتبة الأخ وابنه.

خامساً: مرتبة العم وابنه.

وإليك تفصيلها: في المطلب الثّالث التالي:

ثالثاً: مراتب العصبات وأدلّتها بالتفصيل.

1ـ مرتبة الأب.

إنّ للأب في ولايته على ابنته ما ليس لغيره من الأولياء، بل إنّ الولاية له ولفروعه وأصوله دون غيرهم عند الشافعيّة ومن وافقهم. وليس هناك سبب آخر يشاركه إلاّ البنوة عند الجمهور.

وعلى هذا فإذا اجتمع أب المرأة وابنها، فأيّهما أحقّ بإنكاحها؟ في هذا ثلاثة أقوال للفقهاء:

الأوّل: أنّ الأب أحقّ بإنكاحها من الابن.

ص: 79

وهذا مذهب الشافعيّة، والحنابلة، ومحمد بن الحسن من الحنفيّة، وكذلك المالكيّة إذا كانت في حجر أبيها1.

والثَّاني: أنّ الأب في المرتبة الثانيّة بعد الابن وأبنائه وإن نزلوا.

وهذا مذهب الحنفيّة عدا محمد بن الحسن، ومذهب المالكيّة إن لم تكن في حجر أبيها2.

الثّالث: استواء الأب والابن في درجة واحدة. وهو قول بعض الحنابلة كما تقدّم3.

الأدلّة:

أـ استدل من قدّم الأب على الابن بما يلي:

1 ـ أنّ الولد موهوب لأبيه، كما قال تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى4} ، وقول زكريَّا عليه السلام:{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَة} 5، وقول

1 راجع الترتيب في المذاهب السابقة. (ص73 وما بعدها) .

2 راجع الترتيب في المذاهب السابقة. (ص73 وما بعدها) .

3 راجع مذهب الحنابلة السابق. (ص 77) .

4 سورة الأنبياء ـ الآية رقم: 90.

5 سورة آل عمران ـ آية رقم: 38.

ص: 80

إبراهيم عليه السلام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاق1} وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"2.

وولاية الموهوب له على الهبة أولى من العكس3.

2ـ أنّ الأب أكمل نظراً، وأشدّ شفقة على ابنته، ممّا يحمله على طلب الحظّ لها أكثر من غيره4.

3-

أنّ الأب يلي ولده في صغره، وفي سفهه وجنونه، فيليه في سائر ما يثبت عليه من الولاية، ولذلك اختص بولاية المال، وجاز له أن يشتري لها من ماله، وله من مالها، إذا كانت صغيرة، بخلاف غيره5.

4ـ أنّ في الولاية نوعاً من الاحتكام، واحتكام الأصل على فرعه أولى من العكس؛ بخلاف الميراث؛ فإنّه لا يعتبر له نظر، ولهذا يرث الصغير

1 سورة إبراهيم ـ آية رقم: 39.

2 هو حديث صحيح، وقد ورد من حديث جابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وعائشة، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن عمر، وأبي بكر الصديق، وأنس بن مالك، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعاً. كذا في إرواء الغليل (3/323 ـ 330)، وانظر أيضاً:(6/65 منه) .

3 انظر: المغني (7/346) .

4 انظر: المغني (7/346) ، والمبسوط (4/220) ، والتكملة الثانية للمجموع (16/155) .

5 انظر: المغني (7/346) .

ص: 81

المجنون، وليس فيه احتكام ولا ولاية على الموروث، بخلاف ولاية النِّكاح1.

5ـ أنّ كلّ الأولياء يدلون به عدا الأبناء2.

6ـ أنّ الأب من قومها، والابن ليس كذلك، فهو ينسب إلى أبيه، فاستحقّ الأب الولاية؛ لقوّة قرابته3.

ب ـ وأمّا من قدّم الابن على الأب فى ولاية النِّكاح: فاستدلّ بأنّ الابن مقدّم على الأب في الميراث؛ فهو أقوى منه تعصيباً؛ ولذلك لا يستحقّ الأب معه إلاّ السدس من الميراث بالفريضة، ومبنى الولاية على العصوبة، فلمّا كان أقوى تعصيباً في الميراث، كان أحقّ بالتقديم من الأب في ولاية النِّكاح4.

جـ ـ وأمّا من سوّى بين الابن والأب في درجة واحدة: فقد رأى أنّ كلاً منهما قد وجد فيه سبب التقديم، أمّا الأب فلأنّه من قومها وأشفق عليها، وأمّا الابن فلأنّه أقوى تعصيباً في الميراث، وكلّ واحد من هذين السببين داع للتقديم؛ فاستويا في القوّة؛ فاستحقّا الولاية معاً، وقال

1 المغني لابن قدامة (7/346) .

2 مغني المحتاج (3/151) .

3 بدائع الصنائع (3/1371) .

4 انظر: المغني (7/346) ، والخرشي (2/180) ، والمبسوط (4/220) .

ص: 82

أبو يوسف رحمه الله إنّ الأولى أن يفوّض الابن – حينئذٍ - الأب في الإنكاح، إجلالاً واحتراماً واحترازاً عن موضع الخلاف1.

2ـ مرتبة الجد في ولاية النِّكاح:

وأمّا مرتبة الجدّ- أب الأب- في أحقّيته بولاية النِّكاح، ففيها

الأقوال التالية:

1ـ أنَّه أحقُّ بالولاية بعد أبيها وإن علت درجته، فيقدّم الأقرب فالأقرب منهم، سواء على قول من يقدّم جهة الأبوّة، مطلقاً كالشافعيّة والحنابلة، أم على قول من يقدّم جهة البنوّة على الأبوّة، كمذهب المالكيّة ومذهب أبي حنيفة وأبي يوسف2.

2-

استواء الأخ والجدّ في مرتبة واحدة، وهذه رواية عن الإمام أحمد وقول أبي يوسف ومحمد كما تقدّم3.

3-

تقديم الإخوّة وبنيهم على الجدّ الأدنى- وهو أب الأب- وهذا مذهب المالكيّة كما تقدّم4. ورواية عن الإمام أحمد بتقديم الأخ خاصّة على الجدّ5.

1 انظر: بدائع الصنائع (3/1371) .

2 تراجع المذاهب السابقة في ترتيب العصبات (ص 73 وما بعدها) .

3 تراجع نفس الصفحات السابقة.

4 راجع مذهب المالكية (ص 74) .

5 راجع مذهب الحنابلة (ص 77) .

ص: 83

4-

تقديم كلّ جدّ على ابنه من العمومة فقط، فيقدّم الجدّ الأدنى على العم الأدنى، كما يقدّم العمّ الأدنى على أب الجدّ، وهكذا كلّ أب يتقدّم ابنه، وهذا مذهب المالكيّة، وإن كان بعضهم يطلق القول بتقديم الأجداد على الأعمام، كابن رشد وابن جزي1.

الأدلَّة:

أـ وقد استدلَّ من قدّم الجدّ على الابن وأبنائه بنفس الأدلَّة على تقديم الأب على الابن، فينزّل الجدّ وإن علا منزلة أبيه- عند عدمه- كما ينزّل الابن وإن نزل منزلة أبيه، فالجدّ أب وإن علا، كما أن ابن الابن ابن وإن نزل2.

كما استدلَّ أيضًا من قدّم الابن على الجدّ بنفس الأدلَّة على تقديم الابن على الأب وأولى.

وأمّا من قدّم الجدّ على الإخوة أيضاً، فلأنّ الجدّ أقوى تعصيباً من الإخوة في الميراث، فالجدّ لا يسقط إلاّ بالأب، أمّا الأخ فيسقط بالأب وبالابن، وكذلك إذا ضاق المال وفي المسألة جدّ وأخ سقط الأخ دون الجدّ، فوجب تقديمه على الأخ في الولاية3.

1 يراجع الترتيب السابق في مذهب المالكية (ص 74) .

2 انظر: المغني (7/346 ـ 347) .

3 انظر: المغني (7/247) ، والمبسوط (4/219) .

ص: 84

وأيضاً: فإنّ للجدّ ولاية على النفس والمال جميعاً، بخلاف الأخ فلا ولاية له في المال1.

ب ـ وأمّا من سوّى بين الأخ والجدّ في أحقّيّة الولاية، فهذا فرع عن التسوية بينهما عنده في الإرث، ولكن لا يخفى أنّ هناك فرقاً بين استحقاق الولاية وبين استحقاق الميراث؛ فالميراث لا يعتبر له كمال النظر؛ ولهذا يرث الصبي والمجنون، والولاية نوع من الاحتكام بخلاف الميراث2.

ثم إنّه يَرِدُ عليه ما تقدّم قريباً من أنّ الجدّ أقوى في الميراث من الإخوة.

وقد ذكر ابن الهُمام تبعاً للسَّرَخْسِي قول أبي حنيفة بتقديم الجدّ على الإخوة، وقول الصاحبين بالتسوية بينهما، بناء على أصلهما في الميراث، ثم قال: والأصح أنّ الجدّ أولى بالتقديم اتفاقاً3.

وقال ابن قدامة في توجيه ما روي عن الإمام أحمد من تقديم الأخ خاصة على الجدّ بأنّ: "الجدّ يدلي بأبوّة الأب، والأخ يدلي ببنوّة، والبنوّة مقدّمة"4. أي لأنّها أقوى تعصيباً.

1 انظر: المبسوط (4/219) .

2 انظر: المغني (7/347) .

3 فتح القدير (3/277) ، والمبسوط (4/219) .

4 انظر: المغني (7/347) .

ص: 85

ولكن يَرِدُ على هذا ما سبق من الفرق بين الولاية والميراث، وبقوّة تعصيب الجدّ على تعصيب الأخ في الميراث أيضاً.

ج ـ وأمّا من قدّم أبناء الإخوة على الجدّ أيضاً فهذا تابع لتقديم الإخوة عليه.

د ـ وأمّا من قدّم بعض العمومة على بعض الجدود، فقال بتقديم كلّ جدّ على ابنه فقط. فهذا نظر لقرب الدرجة فيما يظهر، والله أعلم.

3 ـ ولاية الابن في النِّكاح ومرتبته.

وأمّا الابن فإنّ البحث في ولايته في النِّكاح ينقسم إلى قسمين:

أوّلهما: في ثبوت ولايته في النِّكاح.

ثانيهما: في مرتبة ولايته في سلّم العصبات، عند من يقول بولايته.

فأمّا المسألة الأولى: وهي ثبوت ولاية الابن في النِّكاح ففيها قولان مشهوران:

الأوّل: ثبوت ولايته. وهذا مذهب الجمهور ومنهم الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والمزني من الشافعية1.

1 راجع الترتيب السابق للعصبات في مذهب الحنفيّة والمالكية والحنابلة (ص73 وما بعدها) .

وانظر للمزني من الشافعيّة: مغني المحتاج (3/ 151) ، ونهاية المحتاج (6/232) ، وتحفة المحتاج (7/248) .

ص: 86

والثَّاني: أنَّه لا ولاية للابن على أمّه في النِّكاح بمحض البنوّة، ولكن قد يستحق الولاية عليها في النِّكاح بسبب، آخر غير البنوّة، كأن يكون ابن ابن عمّها، أو مولى لها، أو حاكماً، أو تولّدت بينه وبينها قرابة نسب بسبب نكاح شبهة، أو نكاح في حال الكفر، كأن يكون ابن أخيها أو ابن عمّها، فيلي عليها بذلك السبب، لا بسبب البنوّة المحضة. وهذا مذهب الشافعي وجمهور أصحابه1، وهو مذهب ابن حزم الظا هري أيضاً2.

الأدلة:

استدلَّ الجمهور على إثبات الولاية في النِّكاح للابن على أمّه بما يلي:

1 ـ بما رواه عمر بن أبي سلمة، عن أمّه أمّ سلمة رضي الله عنها في حديثها المتقدّم - وفيه: أنّها قالت لابنها عمر هذا: قم فزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم3.

2-

عموم قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} 4. فهذا خطاب للأقارب، وأقربهم الأبناء5.

1 انظر ترتيب العصبات في مذهب الشافعيّة المتقدّم. (ص75) .

2 انظر: لابن حزم المحلى (9/451) .

3 تقدّم تخريجه والكلام على إسناده وعلّته فراجعه (1/ ص184 وما بعدها) .

4 سورة النور ـ آية رقم: 32.

5 انظر: نيل الأوطار (6/141) ، والمغني لابن قدامة (7/348) ، والمبسوط (4/ 220) .

ص: 87

3-

وقياساً على الميراث، فإنّ الابن فيه عصبة اتفافاً، بل إنّه أقوى العصبات1.

دليل مذهب الشافعيّة على عدم إثبات الولاية للابن على أمّه فى النِّكاح:

واستدلَّ من لم يثبت للابن ولاية على أمّه في النِّكاح كالشافعيّة ومن وافقهم بما يلي:

1 ـ أنّ الولاية في النِّكاح تثبت للأولياء لدفع العار عن النَّسب، ولا نسب بين الابن وأمّه، فالقرابة بينهما لا ينسب أحدهما بسببها إلى الآخر، ولا ينسبان أيضاً إلى من هو أعلى منهما، فلم يكن له ولاية عليها، كابن الأخت والأخ للأمّ2

2-

أنّ الولاية في النِّكاح إنّما شرعت طلباً لحظّ المرأة والإشفاق عليها، والابن يعتقد أنّ تزويجه أمّه عار عليه، فلا يطلب لها الحظّ؛ لأنّ طبعه ينفر من ذلك، فلا يستحقّ ولاية نكاحها3.

1 انظر: المبسوط (4/220) .

2 انظر: الأمّ (5/14) ، وتكملة المجموع الثانية (16/156، 158) ، ومغني المحتاج (3/151) .

3 انظر: الأمّ (5/14) ، وتكملة المجموع الثانية (16/156، 158) ، ومغني المحتاج

(3/151) .

ص: 88

هذا خلاصة ما قاله الشافعيّة في منع ولاية الابن.

وقد أجاب الجمهور عن القول الأوّل - وهو أنّ الابن غير مناسب لها - بأنّه منتقض بما إذا كان الابن حاكماً أو مولى1.

وكذلك القول بأنَّ طبعه ينفر من تزويجها يبطله ما إذا كان الابن ابن ابن عمّ2.

وأجاب عنه الشافعيّة: بأنّ البنوّة غير مقتضية للولاية، وليست مانعة منها، فإذا وجد معها سبب آخر يقتضى الولاية فإنّ وصف البنوّة لا يمنع من ذلك3.

كما أجاب الشافعيّة عن حديث أمّ سلمة بما يلي:

1 ـ أنّ نكاح النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى وليّ، وإنّما قال له ذلك تطييباً لخاطره4.

2 ـ أنّ عمر بن أبي سلمة كان- حينذاك - طفلاً صغيراً، فكيف يصحّ تزويجه؟ 5.

1 انظر: المغني لابن قدامة (7/347 ـ 348) .

2 انظر: المصدر السابق.

3 انظر: مغني المحتاج (3/151) .

4 انظر في هذا: مغني المحتاج (3/151) ، وكذلك نهاية المحتاج (6/232) .

وراجع حديث أمّ سلمة هذا فيما تقدّم، فقد تمّ بسط القول فيه هناك (ص1/184 وما بعدها) .

5 انظر المراجع السابقة.

ص: 89

3 ـ وعلى فرض أنّه كان بالغاً فيكون تزويجه لها ببنوّة العمومة؛ فإنّه كان من بني أعمامها، ولم يكن لها وليّ أقرب منه، والابن إذا كان مشاركاً لأمّه في نسبها صحّ تزويجه لها اتفاقاً1.

4 ـ احتمال: أن يكون المخاطب في هذا الحديث هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وليس عمر ابنها؛ فإنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان السفير بينهما، وهو نسيب لها، فتكون لفظة "ابنها" وهم من الراوي2. والله أعلم.

الرَّا جح:

والذي يبدو لي- والله أعلم- أنّ القول بإثبات الولاية في النِّكاح للابن، كثبوتها للأب وعصبته لا يخلو من نظر - وإن كثر القائلون به - والذي أميل إليه في هذا هو مذهب الإمام الشافعي- رحمه الله، وهو أنّه لا ولاية للابن على أمّه بمحض البنوّة، وذلك لما يلي:

أوّلاً: أنّ جهة الأمومة لا مدخل لها في إثبات ولاية النِّكاح عند الجمهور ومنهم المالكيّة والحنابلة، ولذلك منعوا ولاية الأخ لأمّ، والخال، وغيرهما، من قرابة الأمّ، والابن هنا غير مشارك لأمّه في النَّسب؛ فلا قرابة بينه وبينها – حينئذ - إلاّ بجهة الأمومة خاصّة.

1 انظر في هذا: مغني المحتاج (3/ 151) ، وكذلك نهاية المحتاج (6/232) . وراجع حديث أمّ سلمة هذا فيما تقدّم (1/ ص 184 وما بعدها) .

2 انظر: مصادر التعليق السابق.

ص: 90

والقول بولايته له وجه من النظر على المشهور من مذهب الحنفيّة، وهو أنّ المرأة المكلّفة يصحّ لها تزويج نفسها بدون وليِّها؛ وعلى هذا فلها أن تفوّض نكاحها إلى من شاءت قريباً أم بعيداً، وهذا أقرب إلى الوكالة منه إلى الولاية، كما قرّره الحنفيّة أنفسهم أنّه إنّما يسمّى وليّاً- حينئذ- مراعاة لقرابته، وإلاّ فهو وكيل حقيقة.

ويدلّ على هذا اتفاق أئمة الحنفيّة الثلاثة على أنّه لا ولاية لذوي الأرحام مع وجود العصبات في الولاية على الصغار والمجانين، وهي الولاية الحقيقيَّة عندهم في النِّكاح، ثم إنّ أبا يوسف ومحمدًا لم يجعلا لذوي الأرحام ولاية مطلقاً وإن لم يوجد عصبة أيضاً، فتنتقل الولاية بعد العصبات إلى الحاكم.

بينما أثبتها لهم أبو حنيفة- رحمه الله في رواية إن لم يوجد لها عصبة، وبهذا يتَّضح أنَّ الأئمة الأربعة وأصحابهم يتفقون على أنّ جهة الأمومة لا تُستحقّ بها الولاية في النِّكاح مطلقاً، أو مع وجود قرابة الآباء، أو العصبات مطلقاً، فكيف أثبتوا لابن المرأة الولاية عليها في النِّكاح؟.

ثانياً: وأمّا تعليل من أثبت الولاية للابن بأنّه عصبة لها اتفافًا، ففي هذا إجمال وتناقض، فإن كان قصدهم بذلك أنّه عصبة لها اتفافاً في الميراث فنعم، ولكن ما الدليل على إجراء استحقاق ولاية النِّكاح مجرى استحقاق الإرث؟ فليس في هذا نصّ ولا إجماع، بل إنّ أقرب الأئمة إلى هذه القاعدة - وهو أبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه وهي: أنّ كلّ من استحقّ الإرث استحقّ الولاية في النِّكاح -، إنّما قصد بها من تثبت لهم

ص: 91

نوع ولاية من حيث الجملة؛ بدليل أنّه إذا وجد أب الصغيرة فإنّه لا يشاركه في ولايتها في النِّكاح أحد، لا عند أبي حنيفة ولا غيره، وبدليل ما تقدّم عنه قريباً من أنّه لا ولاية للأمّ ولا لغيرها من ذوي الأرحام إذا وجد العصبة أيّاً كان نوعها نسباً أو ولاء.

وأمّا إن كان مرادهم بالتعصيب: ما روي عن عليّ رضي الله عنه موقوفاً أو مرفوعًا بلفظ "النِّكاح إلى العصبات1" فهذا يحتاج إلى ثبوته أوّلاً، وما أظنُّه يثبت بهذا اللفظ، ثم إنّه لا يلزم منه أن يكون العصبات هنا هم عصبات الميراث، بل يحتمل أنّه قصد بذلك الرجال المشاركين لها في النَّسب.

وأمّا ما روي عن عليّ رضي الله عنه موقوفاً عليه بلفظ "إذا بلغ النساء نصّ الحقائق فالعصبة أولى"2. فهذا يدلّ صراحة على أنّ مراد عليّ- رضي الله عنه بالعصبات هنا هم عصبات الصغيرة، والصغيرة لا ابن لها، فبطل القول بإدخال الابن ضمن العصبات فيما روي عن عليّ بلفظ "النِّكاح إلى العصبات"، ثم ما المقصود بالأولويّة هنا؟ أهي أولويّة الحضانة أم التزويج؟ والأوّل أظهر؛ بدليل مشاركة الأمّ للعصبات في هذا الحقّ، ولا مشاركة للأمّ مع العصبات على مذهب الجمهور مطلقاً، ولا على مذهب الحنفيّة إن كانت ابنتها صغيرة، أو مجنونة، أعني مع وجود

1 تقدّم تخريجه (ص 63) .

2 تقدّم تخريجه (ص 64) .

ص: 92

العصبة، وأمّا إن كانت ابنتها كبيرة عاقلة فلا حقّ في تزويجها لأحد على المشهور من مذهب الحنفيّة، ومن الغريب أن يشتهر الاستدلال بهذه الرواية عن عليّ موقوفة، ومرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ "النِّكاح إلى العصبات" في كتب الحنفيّة مع أنّها أقوى حجّة عليهم - لو صحّت - على اشتراط الولاية في النِّكاح على الحرّة المكلّفة، لأنّ الحصر يفيد ذلك. والله أعلم.

ثالثاً: وأمّا حديث أمّ سلمة رضي الله عنها فإنّه أقوى حجّة للجمهور- لو صحّ سنده، وسلمت وجهة دلالته - وقد تقدّم الكلام عليه إسنادًا ودلالة في مبحث احتجاج الحنفيّة به على إثبات إنكاح الحرّة المكلّفة نفسها.

وذلك أنّهم قالوا: إنّ ابنها عمر بن أبي سلمة كان صغيراً ليس أهلاً لولاية النِّكاح، ففوّضت ذلك إليه فهو قائم مقامها.

وحاصل ما تقدّم: أنّ في إسناد هذا الحديث: (ابن عمر بن أبي سلمة) وهو مجهول، ثم على فرض صحته واتصاله فمن هو الذي زوّج أمّ سلمة حقيقة؟ أهو ابنها عمر هذا كما ورد صريحاً في بعض ألفاظ هذا الحديث؟ أم هو ابنها الآخر: سلمة بن أبي سلمة؟ وكان أكبر من أخيه عمر؟: وهذا اختيار ابن كثير.

أم أنّ الذي زوّجها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ فإنّه كان السفير بينهما، وهو نسيب لها، واسمه موافق لاسم ابنها الصغير، فوهم الراوي وظنّه عمر ابنها؟ أم أنّ وليّها حقيقة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بولاية

ص: 93

السلطنة؟ لعدم وجود أحد من أوليائها كما هو صريح تلك الرواية؟ أم أنّه خصوصية له صلى الله عليه وسلم؟ لأنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ 1.

ولا يصح الاستدلال به حينئذٍ للجمهور إلاّ على القول بأنّ الذي زوّجها هو أحد ابنيها (عمر، أو سلمة) ومع هذا فيعكّر على هذا الاستدلال أمران:

أوّلهما: أنّ ابنيها كانا صغيرين، وأحسن أحوالهما بلوغ سنّ التمييز فكيف يستدل به من يشترط بلوغ الوليّ؟ وهم أكثر المحتجّين بهذا الحديث، بل إنّني لا أعرف من قال بصحة ولاية الصبيّ المميّز في المذاهب الأربعة خاصّة إلاّ ما روي عن الإمام أحمد: أنّ الصبيّ إذا بلغ عشراً زوّج وتزوّج2.

وثانيهما: أنّ ابنيها كانا مناسبين لها كما تقدّم3 ـ أي من بني أعمامها ـ وعلى هذا فلا يحتجّ به على ثبوت الولاية بالبنوّة المحضة. والله أعلم.

1 انظرما تقدّم (1/ ص 184 وما بعدها) .

2 انظر: المغني والشرح الكبير (7/356 والشرح 426) .

وراجع الولاية على الصغار (1/ 366 وما بعدها) .

3 تقدم قريباً في إجابة الشافعيّة (ص 89) . وراجع المبحث المتقدم في حديث أمّ سلمة هذا (1/ 184 وما بعدها) .

ص: 94

ترتيب الابن فى سلّم العصبات (عند من قال بولايته) .

وأمّا المسألة الثانية: فهي ترتيب الابن في سلّم العصبات عند من قال بولايته في النِّكاح، وفيها الأقوال الثلاثة التي سبقت في مرتبة الأب وهي:

1ـ تقديم الأبوّة مطلقاً على البنوّة مطلقاً، وعلى هذا فيكون الأب، وأبوه وإن علا مقدّماً على الابن، وابنه وإن نزل.

2ـ تقديم البنوّة مطلقاً على الأبوّة مطلقاً، أي عكس الأولى.

3ـ استواء الابن والأب في درجة واحدة.

وقد تقدّم بيان من قال بها ووجهة نظركلّ في ذلك1، فلا حاجة إلى إعادتها مرّة أخرى.

وهنا زيادة روايتين عمّا سبق: كلتاهما عن الإمام أحمد رحمه الله وهي لا تخرج عن الأقوال السابقة وهما:

1ـ تقديم الابن على الجدّ خاصّة، وتوجيه هذه الرواية يتبع القول في تقديم الابن على الأب2.

2ـ استواء الجدّ وابن الابن في درجة واحدة، وهذه الرِّواية أيضاً تخريج على القول باستواء الأب والابن في درجة واحدة، وخرّجها بعض الحنابلة على رواية استواء الأخ والجدّ3.

1 تقدّم (ص 80 وما بعدها) .

2 انظر: المغني (7/346) ، والإنصاف (8/69) .

3 انظر: الإنصاف (8/69) .

ص: 95

4ـ مرتبة ولاية الإخوة:

المقصود بالإخوة في هذا المبحث هم: الإخوة الأشقاء، أو لأب، وأمّا الأخ لأمّ فليس هو من العصبات - التي هي محلّ بحثنا هذا ـ وإنّما قد يلي عند عدم العصبات بقرابة ذوي الأرحام كما في الرواية المشهورة عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وكذلك قد يلي بالولاية العامة التي تُستَحقّ بمجرَّد الإسلام، كما هوالمشهور عند المالكيّة.

وترتيب الإخوة الأشقاء أو لأب في سلّم العصبات فيه الخلاف المشهور في الجدّ والإخوة، وقد سبق أهمّ ما قيل فيه في مبحث "مرتبة الجدّ في الولاية" وحاصله ثلاثة مذاهب.

القول الأوّل: أنّ ترتيب الإخوة وبنيهم في ولاية النِّكاح يأتي بعد الأصول والفروع، فلا ولاية لأخ وابنه وإن نزل مع أب وأبيه وإن علا، ولا مع ابن وابنه وإن نزل عند من يقول بولاية الأبناء، وهم الجمهور. وهذا القول هو مذهب الحنفيّة، والحنابلة، وكذلك الشافعيّة القائلين بعدم ولاية الابن أصلاً1.

وحجّة هذا القول: أنّ الإخوة أقرب العصبات بعد الأصول والفروع، وأقواهم تعصيباً، وأحقّهم بالميراث2.

وأمّا ما يختص بتقديم الجدّ عليهم فقد تقدّم في مبحث الجدِّ3.

1 راجع المذاهب السابقة في ترتيب العصبات إجمالاً. (ص73 وما بعدها) .

2 انظر: المغني (7/348) ، والمبسوط (4/219) .

3 انظر مبحث "مرتبة الجد في الولاية"(ص83) .

ص: 96

القول الثَّاني: أنّ الإخوة وبنيهم مقدّمون على الجدّ. وهذا هو المشهور من مذهب المالكيّة1، ولم أجد من نصّ على توجيه هذا القول إلاّ ما أشار إليه ابن رشد بقوله:"وسبب اختلافهم في الجدّ هو اختلافهم فيمن هو أقرب هل الجدّ أو الأخ"؟ 2 اهـ.

وقد ذكر ابن قدامة رواية للإمام أحمد رحمه الله توافق مذهب المالكيّة هذا في تقديم الأخ على الجدّ، وقال في توجيهها:"لأنَّ الجدّ ـ يدلي بأبوّة الأب، والأخ يدلي ببنوّة، والبنوّة مقدّمة"3. اهـ.

وهذا التوجيه يتفق مع مذهب المالكيّة؛ لقولهم بتقديم البنوّة مطلقاً على الأبوّة مطلقاً، فيكون من يدلي بالبنوّة - وهو الأخ - مقدّماً على من يدلي بالأبوّة وهو الجدّ. والله أعلم.

القول الثَّالث: هو استواء الأخ والجدّ في درجة واحدة، وهي رواية عن الإمام أحمد، وقول أبي يوسف، ومحمد، وهذا بناء على استوائهما في الميراث بالتعصيب، فيستويان في الولاية كالأخوين، كما تقدّم4.

1 راجع ترتيب العصبات عند المالكية. (ص74) .

2 بداية المجتهد (2/10) .

3 المغني (7/347) .

4 راجع ما تقدّم في مرتبة الجدّ في الولاية (ص83) .

ص: 97

استواء الإخوة فى الدّرجة واختلافهم في القوّة.

وأمّا إذا اجتمع الإخوة في درجة واحدة واختلفت قوّة مراتبهم كالأخ الشقيق مع الأخ لأب، ففي استوائهما في أحقّية الولاية أو تقديم أحدهما على الآخر قولان مشهوران:

القول الأوّل: أنّهما سواء في أحقّية الولاية.

وهذا القول هو المشهور عن الإمام أحمد رحمه الله، وهو المذهب عند المتقدِّمين من أصحابه، وبه قال أبو ثور، والشَّافعي في القديم، وزفر من الحنفيّة1.

ووجهة هذا القول: أنّ الأخ لأبوين والأخ لأب قد استويا في الجهة التي تستفاد منها الولاية - وهي جهة الأب - فاستويا في استحقاق الولاية، والأخ الشقيق إنّما يترجّح في الميراث بجهة الأمومة، وقرابة الأمّ لا مدخل لها في ولاية النِّكاح، فلم يترجّح بها هنا، كالعمّين أحدهما خال، وابني العمّ أحدهما أخ لأمّ2.

والقول الثَّاني: هو تقديم الأخ الشقيق على الأخ لأب:

وهذا مذهب الأئمة أبي حنيفة، ومالك، والشافعي في الجديد،

1 انظر: المغني لابن قدامة (7/348) ، والإنصاف (8/69) ، والمبسوط (4/219) وروضة الطالبين (7/59) .

2 انظر المغني لابن قدامة (7/348) ، وروضة الطالبين (7/59) ، والمبسوط

(4/219) .

ص: 98

وهي الرِّواية الثَّانية عن الإمام أحمد وعليها المذهب عند متأخري أصحابه1.

ووجهة هذا القول ما يلي:

1ـ أنّ الولاية حقّ يستفاد بالتعصيب، فقدّم فيه الأخ لأبوين

على الأخ لأب2.

2-

وقياساً على استحقاق الميراث بالولاء، فإنَّة لا مدخل للنِّساء فيه، وقد قدّم فيه الأخ لأبوين 3.

3-

ولأنّه وليّ القصاص، فقد قال سبحانه وتعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانا} 4، ولو قُتِل رجل وله أخ لأبوين، وأخ لأب، كان القصاص للأخ لأبوين، دون الأخ لأب، فدلّ على تقديمه5. والله أعلم.

1 راجع الترتيب السابق للعصبات إجمالاً في المذاهب الأربعة (ص73) وانظر: أيضاً: المغني (7/348) ، والإنصاف (7/69) ، والخرشي والعدوي (2/180) ، ومغني المحتاج (3/151) .

2 انظر: المغني (7/349) ، والمبسوط (4/219) .

3 المغني (7/349) .

4 سورة الإسراء- آية رقم: 33.

5 التكملة الثانية للمجموع (16/155) .

ص: 99

والرّاجح:

تقديم الأخ الشقيق على الأخ لأب؛ فإنَّ جهة الأمومة وإن كان لا مدخل لها في أصل ثبوت الولاية، فإن ذلك لا يمنع الترجيح بها؛ فإنّها زيادة قرابة هي مظنَّة للشفقة والنظر، وذلك معتبر في الولاية، وعلى هذا فيقدّم الشقيق من الإخوة وأبنائهم وكذلك الأعمام وأبناؤهم على غير الشقيق. والله أعلم.

5-

مرتبة ولاية الأ عمام في النِّكاح:

يأتى ترتيب العمومة في أحقّية الولاية متأخِّرًا عن الأصول والفروع، وفروع الأب وهم الإخوة عدا ما تقدم ذكره عن بعض المالكية من القول بالتفصيل بين الأعمام والأجداد، وهو أنَّ كلَّ أب يتقدَّم ابنه فقط1.

ولكنَّ الرَّاجح هو تقديم الجدّ مطلقًا وإن علا، على الأعمام والإخوة، بل وحتى على الأبناء كذلك، بناء على أنَّ الرَّاجح تقديم الأصول على الفروع مطلقاً.

وأمّا الأعمام فيما بينهم: فإنَّ الشقيق يتقدَّم على العمِّ لأب، وكذلك ابن العم الشقيق يتقدَّم على ابن العمِّ لأب، وهكذا كما تقدَّم في الإخوة.

1 راجع ترتيب العصبات السابقة على مذهب المالكية (ص74) .

ص: 100

ويتفرَّع على تقديم الشقيق على غيره مسائل يراعى فيها الأقوى عند الاستواء في درجة واحدة وهي كثيرة، وإنّما نكتفي بذكر ثلاث مسائل للتمثيل.

المسألة الأولى: إذا اجتمع ابنا عم أحدهما أخ لأم فأيُّهما يقدم؟

قيل: هما سواء؛ لاستوائهما في التعصيب والإرث به.

وقيل: فيهما الخلاف في الشقيق مع ولد الأب، وطرد هذا القول جمهور الشافعية في الجديد، والقاضي من الحنابلة1.

فعلى هذا يقدّم ابن العم الذي هو أخ لأمِّ بجهة الأمومة؛ بناء على أنَّ الرَّاجح تقديم الشقيق على غيره.

واختار ابن قدامة القول الأوّل، ووافقه بعض الحنابلة؛ وذلك لأنَّ جهة الأم في هذه المسألة يرث بها منفردة، وما ورث به منفردًا لم يرجّح به، ولذلك لم يرجّح بها في الميراث، ولا في غيره2.

1 انظر: روضة الطالبين (7/59) وتكملة المجموع الثانية (16/156) .

وللحنا بلة: المغني (7/ 349) ، والإنصاف (8/70) والمبدع (7/ 32) .

2 انظر: المغني (7/349) .

ص: 101

المسألة الثّانية: إذا اجتمع ابنا عمّ أحدهما لأبوين، والآخر لأب، ولكنّه أخوها من الأمّ فأيّهما يقدّم؟

اختار الشافعيّة تقديم ابن العمّ لأب الذي هو أخوها لأمّها؛ لإدلائه بالجدّ والأمّ، وولد الأبوين يدلي بالجدّ والجدّة1.

واختار ابن قدامة تقديم ولد الأبوين؛ بناء على أنّ الرّاجح تقديم الشقيق، ولم يعتبر الترجيح هنا بجهة الأمومة؛ لأنّه يرث بها منفردة، كما في المسألة السابقة2.

المسألة الثّالثة: ابنا عمّ أحدهما معتِق: على القولين في الأخ الشقيق والأخ لأب.

المسألة الرّابعة: ابنا عمّ أحدهما خال: فهما سواء قولاً واحداً، نصّ على ذلك الشافعيّة في الصورتين3.

وإلى هنا ينتهي ما أمكن بيانه من خلاف الفقهاء في ترتيب الأولياء من العصبات النسبيّة إجمالاً وتفصيلاً، وأولاها بالاختيار مذهب الشافعيّة وهو أنّ: وليّ الحرّة: أبوها، فأبوه وإن علا، ثمّ أخوها، فابنه وإن

1 انظر: روضة الطالبين (7/59) ، ونهاية المحتاج (6/232) ، وتحفة المحتاج (7/ 347) ، ومغني المحتاج (3/151) .

2 انظر: المغني (7/348 ـ 349) ، وكشاف القناع (5/51) .

3 انظر: روضة الطالبين (7/60) ، والتكملة الثانية للمجموع (16/156) ، ومغني المحتاج (3/151) ونهاية المحتاج (6/232) .

ص: 102

نزل، ثمّ عمّها، فابنه وإن نزل، ويتقدّم الشقيق من الإخوة والأعمام وأبنائهم على غير الشقيق إذا استوت درجتهم. والله أعلم.

رابعاً: أثر الترتيب بين الأولياء في ولاية النِّكاح:

إنّ للترتيب بين الأولياء أثره في أحقيّة الوليّ بالولاية، وفي انتقالها عنه إلى غيره، وإن كان تام الأهليّة، وهذا الأثر يتجلّى في كثيرٍ من المسائل وأهمّها المسائل التالية:

المسألة الأولى: إذا اجتمع الأولياء واستووا درجة وقوّة فمن يزوّج منهم؟

المسألة الثَّانيه: إذا أنكح الوليّ الأبعد مع حضور الأقرب فما الحكم؟

المسألة الثّالثة: إذا عضلها الوليّ الأقرب فمن يزوّجها؟

المسألة الرَّابعة: إذا غاب الولُّي الأقرب فمن يزوّجها؟

وإليك بيان ذلك بالتفصيل ما أمكن. والله الموفِّق والمعين.

المسألة الأولى: إذا استوى الأولياء فمن يزوّج منهم؟

إذا اجتمع الأولياء واتّحد سبب الولاية، واستووا في الجهة والدّرجة والقوَّة، كالإخوة الأشقاء – مثلاً - فقد اتفق الفقهاء رحمهم الله على أنّ كلاً من أولئك أولياؤها، وأنّه إذا تقدّم أحدهم بإذن بقيّتهم فزوّج

ص: 103

المرأة كفؤاً بإذنها أنّ عقده صحيح، وأنّ المستحب أن يقدّموا أفضلهم وأكبرهم وأحسنهم نظراً في الولاية.

واختلفوا فيما إذا انفرد أحدهم بدون إذن الآخرين، وإليك عرضاً لمذاهبهم في هذه المسألة:

أولاً: مذ هب الحنفيّة: أنّه لا يشترط اجتماعهم، فأيّهم زوّجها جاز ذلك، وذلك لما يلي:

1 ـ ما رواه الحسن البصري، عن سَمُرة بن جُنْدُب رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أنكح الوليّان فهو للأوّل". رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي، والنسائي، والطيالسي، والحاكم، والبيهقي، وغيرهم1. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، والعمل علي هذا عند

1 تخريجه:

1-

أحمد: (المسند 5/8، 11، 12، 18) .

2-

أبوداود: (6/ 111 عون المعبود) نكاح، باب:"إذا أنكح الولياّن".

3-

الترمذي: (4/248 تحفة) نكاح، باب: ما جاء في الوليين يزوِّجان.

4 ـ النسائي: (7/ 314) مع حاشيتي السيوطي والسندي) البيوع، الرجل يبيع السلعة فيستحقها مستحق.

5-

الطيالسي: (2/305 منحة المعبود) نكاح، باب قوله صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلاّ بولي" وما جاء في العضل.

6-

الحاكم: (2/175) وصححه وأقرّة الذهبي.

7-

البيهقي: (7/139، 141) .

وانظر من كتب التخريج: التلخيص الحبير (3/ 188-189) ، وإرواء الغليل (6/254 ـ 255) .

(تنبيه) : كثيراً ما يُعزى هذا الحديث لابن ماجه أيضاً، إلا أنَّ الذي وقفت عليه في سننه إنِّما هو الجزء الثاني من لفظ هذا الحديث المتعلّق بالبيوع بلفظ "أيّما رجل باع بيعاً من رجلين فهو للأول منهما"، وبلفظ "إذا باع المجيزان فهو للأول"

(2/738) ، تجارات، باب إذا باع المجيزان فهو للأوّل، ولم أجد اللفظ الآخر المتعلق بالنكاح، فلعلّه في موضع آخر، أو أنّ المقصود بالعزو إليه أصل الحديث. والله أعلم.

ص: 104

أهل العلم، لا نعلم بينهم في ذلك اختلافاً: إذا زوّج أحد الوليين قبل الآخر، فنكاح الأوّل جائز، ونكاح الآخر مفسوخ. وإذا زوّجا جميعاً فنكاحهما جميعاً مفسوخ، وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق"1. اهـ

وقد صحّحه الحاكم وغيره2، إلا أنّ في سماع الحسن البصري من سَمُرة بن جُنْدُب رضي الله عنه خلافاً مشهوراً، مع ما عرف عنه رحمه الله من التدليس أيضاً، فلا يكفي سماعه من سمرة مطلقاً، بل لابدّ من خصوص سماعه لهذا الحديث منه لثبوت صحته3. والله أعلم.

وقد روى هذا الحديث أيضاً الإمام أحمد بن حنبل، والبيهقي، عن الحسن، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، إلاّ أنّ الصحيح رواية الحسن، عن سَمُرة، كما قاله البيهقي رحمه الله4.

1 انظر: الترمذي (4/248) .

2 انظر: إرواء الغليل (6/254 ـ 255) .

3 نفس المصدر.

4 انظر قول البيهقي (7/ 141) .

وانظر الرواية المذكورة في:

1-

المسند (4/149) .

2-

البيهقي (7/139) نكاح، باب الوكالة في النكاح و (7/141) باب نكاح الوليين.

وهناك رواية ثالثة لهذا الحديث عند الدرامي (2/63 ـ 64) ، والبيهقي (7/140 ـ 141) ، (عن الحسن، عن سمرة أو عقبة) أي على الشكّ من الراوي، ولكن الاعتماد هنا على رواية الحسن البصري عن سمرة كما قاله البيهقي. والله أعلم.

ص: 105

وإذا ثبت هذا الحديث فهو ظاهر الدلالة على تصوّر انفراد بعض الأولياء بالتزويج بدون علم الآخر، وإلاّ لما كان هناك تصوّر لتكرار العقد من ولييّن؛ ولذلك قال السَّرْخَسِي في المبسوط:"وفي هذا تنصيص على أنّ كلّ واحد منهما ينفرد بالعقد"1.

2-

أنّ سبب الولاية هنا القرابة، وهو غير محتمل للوصف بالتجزيء، والحكم الثابت أيضاً غير متجزيء وهو النِّكاح، فيجعل كلّ واحد من الأولياء كالمنفرد به؛ لثبوت صفة الكمال في حقّ كلّ واحد منهم بكمال السبب، وكونه غير محتمل للتجزيء كما في ولاية الأمان، فإنّها تثبت لكلّ واحد من المسلمين بهذا الطريق، وهذا بخلاف ما إذا كان سبب الولاية هو الملك أو الولاء، فالسبب هناك متجزيء في نفسه؛ فلم يتكامل في حقّ كلّ واحد منهم؛ بدليل أنّ أحد الموليين لا يرث جميع المال بالولاء، بخلاف ما إذا تفرّد به أحد الأخوين فإنّه يأخذ جميع المال2.

1 المبسوط (4/218) .

2 انظر: المبسوط (4/218 ـ 219) ن وبدائع الصنائع (3/1374) ، وفتح القدير (3/289) ، والبحر الرائق (3/128) .

ص: 106

ثانياً: مذهب المالكيّة:

وأمّا مذهب المالكيّة ففيه تفصيل، وهو: إن كان الوليّ مجبراً - كأبويّ من ألحقتها القافة بهما، وكالوصيّين - فلا يصحّ بدون إذن الآخر، كالشريكين في الأمة، ويفسخ إن وقع حتى ولو أجازه الوليّ المجبر بعد ذلك.

وأمّا إن لم يكن الوليّ مجبراً، فيصحّ وإن لم يأذن الآخر.

فإن تشاحّ الأولياء في تعيين الزوج، أو فيمن يتولّى العقد فحاصل المذهب كما قاله ابن عبد البرِّ: أن ينظر الحاكم في ذلك فما رآه سداداً ونظراً أنفذه، وعقده أو ردّه إلى من يعقده منهم، وقد قيل: يأمر أحدهم بالعقد، ولا يعقده هو مع وليّ حاضر مرشد، والأوّل تحصيل المذهب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الأولياء "فإن اشتجروا فالسلطان وليّ من لا وليّ له" 1، ولقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"لا تُنْكَح المرأة إلاّ بإذن وليّها أو ذي الرأي من أهلها أوالسلطان"2. اهـ.

1 تقدّم تخريجه (1/ 112) .

2 الكافي لابن عبد البر (1/429) ، وقول عمر بن الخطاب تقدّم تخريجه (1/ 145) . وانظر لتقرير مذهب المالكيّة هذا، كل من: المدوّنة (3/143) ، والحطاب والمواق

(3/432، 439 ـ 444) ، والخرشي والعدوي (3/183، 191) ، والزرقاني والبناني (3/177، 185) ، والشرح الكبير والدسوقي (2/227، 232) .

ص: 107

ثالثاً: مذهب الشافعيّة:

وأمّا مذهب الشافعيّة ففيه تفصيل يرجع إلى اعتبار إذن المرأة لهم جميعاً أو لبعضهم، أو عدم إذنها مطلقاً، وكذلك إلى إذن الأولياء لبعضهم أو تشاحّهم على توليّ العقد.

فأمّا ما يرجع إلى إذن المرأة فلا يخلو من ثلاثة أحوال هي:

الأوّل: أن تعيّن المرأة أحدهم وتأذن له دون غيره، ففي هذه الحال لا يزوّجها غيره إلاّ بوكالة عنه، فإن زوّجها الآخر لم يصحّ قطعاً.

والثَّاني: أن تأذن لكلٍّ منهما على انفراده، أو تعيّن الخاطب، فتقول أذنت في فلان، فمن شاء من أوليائي فليزوّجني به، ففي هذه الحال يستحب أن يزوّجها أفضلهم فقهاً، أو ورعاً، أو أكبرهم سنّاً، فإن تعارضت تلك الصفات قدّم الأفقه، فالأورع فالأكبر.

أمّا الأفقه: فلانّه أعرف بشروط العقد، وقيّده بعضهم بأعلمهم في باب النِّكاح.

وأمّا الأورع: فلأنّه أشفق وأحرص على طلب الحظّ لها، وأبعد عن التُّهمة.

ص: 108

وأمّا الأسنُّ: فلأنّه أكثر تجربة، وأخبر با لأكفاء، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سهل لمّا تقدّم للكلام بين يديه قال له:"كبّر كبّر" 1 أي قدّم الأكبر منك سنّاً، فتقدّم محيّصة فتكلَّم.

فإن تقدّم ـ حينئذ ـ المفضول، أو الأصغر، فزوّجها في هذه الحال بكفء صحّ ولا اعتراض للباقين.

والثالث: أنَّ تأذن لأوليائها إذناً مطلقاً- أي بدون تعيين أحد منهم ـ فتقول: زوّجوني، ففي هذه الحال يشترط اجتماعهم ـ على الأصحّ عندهم ـ فيأذن الأولياء لأحدهم، فيزوّج بالولاية عن نفسه، وبالوكالة عن بقيَّة الأولياء، فلو عيّنت المرأة بعد إطلاق الإذن واحداً منهم لم ينعزل الباقون، قطع بذلك البغوي وصححه النووي2.

وأمّا إن تشاحّ الأولياء ولم يقدّموا واحداً منهم وقد أذنت المرأة لكلِّ واحدٍ منهم ففيه ما يلي:

1ـ إن بادر أحدهم فزوّجها برضاها صحّ قطعاً، بدون كراهة.

1 الحديث رواه الستّة وغيرهم، انظر تخريج الدارمي للسيد عبد الله هاشم يماني (2/109)، وانظر للبخاري: كتاب الجزيّة، باب الموادعة والمصالحة للمشركين. (6/275 الفتح) . وانظر لمسلم أوّل كتاب القسامة (11/143) وما بعدها مع شرح النووي) .

2 أي في الروضة (7/88) .

ص: 109

2ـ وإن لم يسبق أحدهما فلا يخلو: إمّا أن يكون الخاطب واحداً أو متعدّداً، فإن اتّحد الخاطب أُقْرِع بين الأولياء وجوباً قطعاً للنزاع، فمن خرجت قرعته زوّج، ولا تنتقل الولاية في هذه الحال إلى السلطان؛ لأنّ هذا لا يعدّ عضلاً منهم، وإنِّما العضل الامتناع من تزويجها، فإن زوّجها بعد القرعة غيرُ من خرجت قرعته صحّ أيضاً ـ على الأصحّ عندهم ـ لأنّه وليّ مأذون له، وقيل: لا يصحّ ليكون للقرعة فائدة، وأجاب من صحّحه بأنّ فائدة القرعة قطع النزاع بينهم، لا سلب الولاية عمّن خرجت له.

وأمّا إن تعدّد الخاطب فالمعتبر رضى المرأة، فإن رضيت بالجميع أمر القاضي بتزويجها من أصلحهم بعد تعيينه1.

رابعاً: مذهب الحنابلة.

وأمّا مذهب الحنابلة ففيه تفصيل يرجع إلى إذن المرأة وإلى تشاحّ الأولياء.

1ـ فإن أذنت المرأة لواحد منهم بعينه تعيَّن، ولم يصحّ إنكاح غيره ممّن لم تأذن له؛ لعدم الإذن، وعن الإمام أحمد رواية: إن أجازه من عيّنته

1 انظر للشافعية: روضة الطالبين (1/87 ـ 88) ، والتكملة الثانية للمجموع (16/156) ، والمنهاج ومغني المحتاج (3/160) ، ونهاية المحتاج (6/248 ـ 249) ، وتحفة المحتاج (7/268) .

ص: 110

صحّ وإلاّ فلا1.

2-

وأمّا إن أذنت المرأة لكلِّ واحد منهم أن يزوّجها صحّ تزويج كلّ واحد منهم؛ لأنَّ سبب الولاية موجود في كلِّ واحد منهم، والأولى تقديم أفضلهم علماً، وديناً، وورعاً، وخبرة، ثم أسنَّهم2، ثم يقرع بينهم، واستدلوا لاستحباب تقديم الأكبر بقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سهل "كبّر كبّر" 3 أي قدّم الأكبر منك سنّاً، وذلك أنّه لما قدم محيّصة4 وحويّصة5 وعبد الرحمن6 بن سهل، وكان أصغرهم سنّاً، فبدأ بالكلام مخبراً النبي صلى الله عليه وسلم بقصة قتل اليهود لأخيه عبد الله بن سهل، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلَّم من هو أكبر منه سنّاً ممّن كان معه.

1 انظر: الإنصاف (8/88) .

2 قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: "ظاهر كلام أحمد يقتضي أن لا أثر للسنِّ هناك وأصحابنا قد اعتبروه". (من الإنصاف 8/87) .

3 متفق عليه، البخاري (12/229 مع الفتح) ومسلم (3/1294) .

4 هو: محيّصة ـ بضم الميم وفتح الحاء ـ المهملة ـ وكسر الياء المشدّدة، ويقال بإسكان الياء، وهو ابن مسعود بن زيد بن كعب. انظر ترجمته فى: تهذيب الأسماء واللغات (2/85 من القسم الأول) .

5 حويّصة: هو أخو محيّصة: وهو بتشديد الياء ويجوز تخفيفها ساكنة، والأشهر التشديد. انظر ترجمته في: تهذيب الأسماء واللغات (1/ 171 من القسم الأول) .

6 عبد الرحمن: هو عبد الرحمن بن سهل بن زيد بن كعب، وهو ابن عم حويّصة ومحيّصة. انظر ترجمته وترجمة أخيه (عبد الله القتيل في هذه القصة) في: تهذيب الأسماء واللغات (1/ 271، 297 من القسم الأول) .

ص: 111

وأمّا إجراء القرعة بينهم: فلتساوي حقوقهم، ولما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه كان إذا سافر أقرع بين نسائه، فأيّهما خرجت لها القرعة خرجت معه في سفره1؛ وذلك لتساوي حقوقهنّ.

وأمّا إن تشاحّ الأولياء، وقد كانت المرأة قد أذنت لكلِّ واحد منهم، فإنَّه يقرع بينهم؛ لأنَّهم تشاحّوا في الحقّ وتعذّر الجمع؛ لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله من إجراء القرعة بين نسائه إذا أراد السفر بهنّ لتساوي حقوقهنّ فكذلك هنا.

فإن بدر واحد من الأولياء فزوّج كفؤاً بإذنها صحّ، وإن كان أصغرهم أو المفضول، وكذلك إن كان من خرجت القرعة لغيره في أقوى الوجهين عندهم؛ لأنَّه تزويج صادر من وليّ كامل الولاية بإذن مولّيته فصحّ، كما لو انفرد، والقرعة إنِّما هي لإزالة المشاحّة، وذكر أبوالخطاب2 أنّه إن خرجت القرعة لغيره كان هو الأولى فلم يصحّ

1 الحديث في هذا رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها انظر: البخاري (9/209 مع الفتح) نكاح، باب القرعة بين النِّساء اذا أراد سفراً.

ومسلم (15/209 نووي) فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضي الله عنها.

وانظر تخريج السيد عبد الله هاشم يماني على سنن الدارمي (2/68) نكاح، باب الرجل يكون عنده النسوة.

2 هو: محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني، إمام الحنابلة في عصره، المتوفي سنة 510 هـ.

انظر ترجمته في: الأعلام (6/178) ، ومعجم المؤلفين (8/188) ، وطبقات الحنابلة

(1/116 ـ 127) .

ص: 112

إنكاحه كالأبعد مع الأقرب1.

وبعد هذا العرض للمذاهب الأربعة في بيان من هو أحقّ بالتقديم إذا اجتمع أولياء النَّسب واستوت درجتهم وقوّة قرابتهم، يمكن تلخيصها فيما يلي:

أوّلاً: أن يكون للمرأة أكثر من أب، كمن ألحقتها القافة بأبوين فأكثر، كما نصّ على ذلك المالكيّة وبعض الحنابلة2.

ففي هذه الصورة لا يزوّجها أحدهم إلاّ بإذن الآخر، ولا ينبغي ـ فيما يظهر لي ـ أن تكون محلَّ خلاف؛ إذ إنّ الأب الحقيقيّ لها واحد منهم، وإنّما لم ينصّ عليها بعض الفقهاء لندرتها. والله أعلم.

ثانياً: اختلافهم في تعيين من عيّنته المرأة من الأولياء، والظاهر أنّه لا يتعيّن؛ وذلك لما سبق من أنّ حقّ الوليّ العقد، وحقّ المرأة الرضى، وعلى هذا فالحرّة المكلّفة لا تزوّج إلاّ برضاها، وأمّا إبطال حقّ ثابت للوليّ فليس لها ذلك؛ لأنّه ثبت شرعاً بغير رضاها، فلا تملك إسقاطه إلاّ أن يمتنع من تزويجها مطلقاً، أو يصرّ على إنكاحها بمن لا ترضاه من غير سبب شرعيّ، فحينئذ يكون عاضلاً لها ويسقط حقّه في الولاية.

1 انظر: المغني والشرح الكبير (7/405 والشرح 442 ـ443) الإنصاف (8/87 ـ 88) ، وكشاف القناع (5/59) ، والمبدع (7/42) ، وشرح منتهى الإرادات

(3/22) .

2 انظر للمالكيّة ما تقدّم (ص107)، وللحنابلة: شرح منتهى الإرادات (3/23) .

ص: 113

ثالثاً: اشتراط اجتماع الأولياء لتقديم أحدهم: ومن تأمّل المذاهب السابقة وجدها تجمع على أنّه ليس بشرط، وإنّما الخلاف بينهم في الأولى بالتقديم، وفي تعيين من عيّنته المرأة رغم أنّ لاشتراطه وجهاً من النظر؛ لأنّ الولاية حقّ ثابت لهم جميعاً، وليس أحدهم أولى به من الآخر، إلاّ أنّ حديث سَمُرة بن جُنْدُب رضي الله عنه في تزويج الوليّين وهو: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيّما امرأة زوّجها وليّان فهي للأوّل منهما1 ". دالّ على صحّة تزويج أحد الوليّين دون علم الآخر؛ إذ لو أذن أحدهما للآخر لما وقع التزويج منهما جميعاً، وقد تقدّم قول الترمذي إنّ هذا الحديث عليه العمل عند أهل العلم. والله أعلم.

مسألة تزويج الوليّين:

إنّ مسألة تزويج الوليّين مسألة مشهورة عند الفقهاء والمحدّثين، وهي لا تخرج عن ثلاث حالات:

الأولى: أن يعلم السابق منهما.

الثّانية: أن يقع العقدان معاً ويعلما.

الثّالثة: أن يجهل السابق منهما.

فأمّا الحالة الأولى: وهي إذا سبق أحد النِّكاحين الآخر وعلم فلا يخلو من حالين:

1 هذا لفظ أبي داود، وتقدّم تخريجه في أول هذا المبحث (ص104) .

ص: 114

أوّلهما: أن يعلم ذلك قبل دخول الثّاني، فنكاح الأوّل هو الصحيح، ونكاح الثّاني باطل اتفافاً.

وثانيهما: أن يعلم ذلك بعد دخول الثّاني: ففي ذلك قولان مشهور ان:

القول الأوّل: أنّ نكاح الأوّل هو الصحيح، ونكاح الثّاني باطل أيضاً، لا فرق بين ما قبل الدخول وما بعده. وهذا مذهب الجمهور1.

والقول الثّانى: أنّ الثّاني يصير بالدخول أولى بها من الأوّل.

وهذا مذهب الإمام مالك وابن القاسم2.

الأدلّة:

أوّلاً: دليل الجمهور:

استدل الجمهور على صحة عقد الأوّل بما يلي:

1ـ ما رواه الحسن البصري، عن سَمُرة بن جُنْدُب وعقبة بن

1 انظر للحنفية: فتح القدير (3/289 ـ 290) .

وللشافعية: روضة الطالبين (7/88) ، مغني المحتاج (3/ 61) ، تحفة المحتاج

(7/269) ، نهاية المحتاج (6/249) .

وللحنابلة: المغني والشرح الكبير (7/404 والشرح 443 ـ 444) ، والمبدع (7/ 42) ، وكشاف القناع (5/59) .

2 انظر: بداية المجتهد (3/11) ، والحطاب والمواق (3/439 ـ 440) ، والخرشي والعدوي (3/191) ، والشرح الكبير والدسوقي (2/233) ، والزرقاني والبناني (3/185) .

ص: 115

عامر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيّما امرأة زوّجها وليّان فهي للأوّل منهما، ومن باع بيعاً من رجلين فهو للأوّل منهما".

وهذا الحديث قد رواه الأئمة: أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي والدارمي، والحاكم، وأبو داود الطيالسي، والبيهقي عن الحسن، عن سَمُرة بن جُنْدُب رضي الله عنه1.

ورواه أحمد والبيهقي عن الحسن، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه2.

وفي رواية للدارمي والبيهقي "عن الحسن، عن سَمُرة بن جُنْدُب أو عقبة بن عامر" ـ أي على الشك من بعض رواته3. ورواية الحسن عن سمرة أصح4 كما قال البيهقي.

وقد حسّنه الترمذي5، وقال الحاكم ـ بعد تخريجه ـ: هذا الطريق الواضح التي ذكرتها لهذا المتن كلّها صحيحة على شرط البخاري

1 تقدّم تخريجه (ص104) .

2 تقدّم تخريجه (ص105) .

3 انظر: الدارمي (2/63 ـ 64) ، والبيهقي (7/140- 141) .

والشك هنا من: سعيد بن أبي عروبة، الراوي عن قتادة، عن الحسن البصري، كما قاله البيهقي (7/140) ، والألباني في إرواء الغليل (6/254) .

4 انظر: البيهقي (7/141) ، وإرواء الغليل (6/254) .

5 الترمذي مع التحفة (4/248) .

ص: 116

ولم يخرجاه، وأقرّه الذهبي1.

ونقل الحافظ في التلخيص تصحيحه عن أبي زرعة وأبي حاتم، وقال:"وصحته متوقّفة على سماع الحسن من سَمُرة، فإنّ رجاله ثقات، لكن اختلف فيه على الحسن"2 اهـ.

وقال الألباني في (إرواء الغليل) ـ تعقيباً على قول الحافظ هذا: "بل صحته متوقّفه على تصريح الحسن بالتحديث؛ فإنّه كان يدلّس كما ذكره الحافظ نفسه في ترجمته في (التقريب) 3، فلا يكفي والحالة هذه ثبوت سماعه من سَمُرة في الجملة، بل لا بدّ من ثبوت خصوص سماعه في هذا الحديث كما هو ظاهر"4 اهـ.

ومع هذا فقد قال الترمذي رحمه الله: "والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، لا نعلم بينهم في ذلك اختلافاً: إذا زوّج أحد الوليّين قبل الآخر، فنكاح الأوّل جائز، ونكاح الآخر مفسوخ، وإذا

1 المستدرك (2/175) .

2 التلخيص الحبير (3/188) .

3 انظر ترجمته في: التقريب (1/165) ، وتهذيب التهذيب (2/263 ـ 270) ، وقد تقدّمت الإشارة إلى ترجمته (1/144) واسمه الحسن بن أبي الحسن البصري، ثقة فقيه فاضل مشهور وكان يرسل كثيراً ويدلّس.

4 إرواء الغليل (6/255) .

ص: 117

زوّجا جميعاً فنكاحهما جميعاً مفسوخ. وهذا قول الثوري وأحمد وإسحاق"1 اهـ.

2ـ ما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال: "إن دخل بها الثّاني وهو لا يعلم أنّها ذات زوج فرّق بينهما بغير طلاق، ولها عليه مهر مثلها"2.

وهذا الأثر قد أخرجه البيهقي بإسناده إلى قتادة3، عن خِلَاس4: أنّ امرأة زوّجها أولياؤها بالجزيرة من عبيد الله بن الحرّ، وزوّجها أهلها بعد ذلك بالكوفة، فرفعوا ذلك إلى عليّ رضي الله ففرّق بينها وبين زوّجها الآخر، وردّها إلى زوّجها الأوّل، وجعل لها صداقها بما أصاب من فرجها، وأمر زوجها الأوّل أن لا يقربها حتى تنقضي عدتها"5.

1 انظر: الترمذي مع تحفة الأحوذي (4/248) .

2 ذكره في المبدع (7/42) ، وأشار إليه صاحب المغني (7/404) .

3 هو: قتادة بن دِعامة ـ بكسر أوّله ـ ابن قتادة السدوسي، أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، مات سنة بضع عشرة بعد المائة، روى له أصحاب الكتب الستة.

انظر: التقريب (2/123) ، وتهذيب التهذيب (8/351 ـ 356) .

4 هو: خِلَاس ـ بكسر أوّله وتخفيف اللام ـ ابن عمرو الهَجَري ـ بفتحتين ـ البصري، ثقة وكان يرسل وكان على شرطة عليّ رضي الله عنه، وقد صحّ أنّه سمع من عمار، كذا في التقريب (1/230) .

ورمز له برواية أصحاب الكتب الستة.

وانظر: تهذيب التهذيب (3/176 ـ 178) .

5 البيهقي: (7/141) نكاح، باب إنكاح الوليين.

ص: 118

قال الألباني: رجاله ثقات، لكنّه منقطع، خِلَاس لم يسمع من عليّ كما قاله أحمد وغيره1.

3 ـ ولأنّ نكاح الأوّل خلا من مبطل، والثَّاني تزوّج امرأة في عصمة غيره، فكان نكاحه باطلاً، كما لو علم أنّ لها زوجاً2.

4 ـ ولأنّ نكاح الثّاني باطل لو خلا من الدخول اتفافاً، فكان باطلاً وإن دخل بها كنكاح المعتدّة، وكما لو علم3.

ثانياً: وأمّا دليل القول الثّانى وهو ما روي عن مالك ومن معه من أنّها للأوّل ما لم يدخل بها الثّاني، فهو:

1ـ ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال: "إذا أنكح الوليّان فالأوّل أحقّ مالم يدخل الثّاني"4.

1 إرواء الغليل (6/255) .

2 انظر: المغني لابن قدامة (7/404) .

3 انظر: المصدر نفسه.

4 لم أقف على تخريج هذا الأثر، وقد ذكره ابن قدامة في المغني (7/404) وقال الألباني في إرواء الغليل:"لم أقف عليه" اهـ (6/254) .

وقد رأيت في الموطأ نحو هذا إلاّ أنّه في المرأة التي يطلقها زوجها وهو غائب ثم يراجعها فلا تبلغها رجعته ونصّها: "قال مالك: وبلغني أنّ عمر بن الخطاب قال في المرأة يطلقها زوجها وهو غائب عنها، ثم يراجعها فلا يبلغها رجعته، وقد بلغها طلاقه إيّاها، فتزوّجت أنّه إذا دخل بها زوجها الآخر أو لم يدخل بها فلا سبيل لزوجها الأوّل الذي كان طلقها إليها، قال مالك: وهذا أحبّ ما سمعت إليّ في هذا وفي المفقود". اهـ. الموطأ مع شرح الزرقاني (3/200) طلاق، باب عدّة التي تفقد زوجها. ثم قال الزرقاني:"هذا مذهبه في الموطأ، ومذهبه في المدوّنة أنّها تفوت بدخول الثَّاني فيهما لا بعقده وهو المشهور في المذهب". (نفس الجزء والصفحة) .

ص: 119

2ـ ولأنّ الثّاني اتصل بعقده القبض فكان أحقّ1.

وعقّب عليه ابن قدامة في (المغني) بعد توجيه هذا القول بقوله: "أمّا حديث عمر فلم يصححه أصحاب الحديث، وقد خالفه حديث عليّ رضي الله عنه، وجاء على خلاف حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وما ذكروه من القبض لا معنى له؛ فإنّ النِّكاح يصحّ بغير قبض، على أنّ لا أصل له فيقاس عليه، ثم يبطل بسائر الأنكحة الفاسدة"2 اهـ.

وقال ابن رشد: "سبب الخلاف في اعتبار الدخول أولا اعتباره معارضة العموم للقياس، وذلك أنّه قد روي أنّه عليه الصلاة والسلام قال: "أيّما امرأة أنكحها وليّان فهي للأوّل منهما"3، فعموم هذا الحديث أنّها للأوّل دخل بها الثّاني أو لم يدخل، ومن اعتبر الدخول فتشبيهاً بفوات السّلعة في البيع المكروه، وهو ضعيف"4 اهـ.

1 انظر: المغني (7/404) .

2 انظر: المغني (7/404) .

3 تقدم تخريجه (ص104) وانظرص 116 وما بعدها.

4 بداية المجتهد (2/12) .

ص: 120

وأمّا الحالة الثَّانية: وهي أن يُعْلم وقوع النِّكاحين معاً بدون سبق لأحدهما فهما باطلان اتفاقاً1؛ لأنّ الجمع ممتنع، وليس أحدهما أولى به من الآخر2.

وأمّا الحالة الثّالثة:- وهي أن لا يعلم السابق من النِّكاحين - ففي هذه الصورة خلاف وتفصيل للفقهاء، إليك بيانه:

القول الأوّل: فسخ النِّكاحين جميعًا، لا فرق بين أن لا يعلم كيفيّة وقوعهما، أو علم أنّ أحدهما وقع قبل الآخر لا بعينه، أو علم بعينه ثم جهل، كأن يشتبه بالآخر أو ينسى، فالحكم في جميعها واحد وهو فسخ النِّكاحين جميعاً، وهذا مذهب الجمهور3، ومنهم الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على تفصيل فيمن يفسخ أهو الحاكم؟ أم الزوجان؟ ثمّ تتزوّج

1 كذا قيل: ـ حتى إنّ ابن رشد المالكي قال: وأمّا إن أنكحاها معاً فلا خلاف في فسخ النّكاح فيما أعرف. اهـ (2/11 ـ 12) ومع هذا فإنّه يحتمل أن يكون فيها الخلاف السابق لمالك ومن وافقه فتكون لمن دخل بها منهم، بل قد تكون هذه المسألة أولى من التي علم تأخر عقده كما في الصورة السابقة، والله أعلم.

2 انظر للحنفيّة: فتح القدير (3/290) .

وللمالكيّة: بداية المجتهد (2/11 ـ 12) .

وللشافعيّة: روضة الطالبين (7/88) ، والمنهاج ومغني المحتاج (3/161) .

وللحنابلة: المغني (7/407 ـ 408) ، وكشاف القناع (5/ 60) .

3 انظر: المغني لابن قدامة (7/406) ، وبداية المجتهد (2/12) ، وفتح القدير لابن الهمام (3/290) .

ص: 121

المرأة من شاءت منهما أو من غيرهما، وهذا إذا لم يكن قد دخل بها أحدهما، وإلاّ فلا فسخ عند الإمام مالك رحمه الله كما تقدّم.

وإنّما يلجأ إلى الفسخ عند الجمهور؛ لأنّ كلّ واحد من النِّكاحين يحتمل أن يكون هو الصحيح. والجمع متعذّر فيلجأ إلى الفسخ لإزالة الزوجيّة1.

القول الثََّاني: أن يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة أُمِر صاحبه بالطلاق، ثم يجدّد القارع نكاحه بإذن المرأة، فإن كانت زوجته بالعقد الأوّل لم يضرّه تجديد النِّكاح شيئاً، وإن كانت زوجة الآخر بانت منه بطلاقه وصارت زوجة من خرجت له القرعة بعقده الجديد، وهذا القول رواية ثانية عن الإمام أحمد رحمه الله2.

القول الثََّالث: يجبرهما السلطان على أن يطلق كلٌ منهما فإن أبيا فرّق بينهما. وهو مذهب الثوري، وأبي ثور، وهذا قريب ممّا قبله، لأنّه تعذّر إمضاء العقد الصحيح، فوجب إزالة الضرر بالتفريق3.

القول الرَّابع: تخيّر المرأة بينهما، فأيّهما اختارته فهو زوجها. وهذا القول يروى عن بعض التابعين كشريح، وعمر بن عبد العزيز، وحمّاد بن أبي سليمان4.

1 انظر: المغني لابن قدامة (7/406) .

2 انظر: المغني لابن قدامة (7/406) .

3 نفس المصدر والصفحة.

4 نفس المصدر (7/407) .

ص: 122

وقال ابن قدامة رحمه الله: "وهذا غير صحيح؛ فإنّ أحدهما ليس بزوج لها، فلم تخيّر بينهما، كما لو لم يعقد عليها إلاّ واحد منهما، وكما لو أشكل على الرجل امرأته من النساء، أو على المرأة زوجها، إلاّ أن يريدوا بقولهم: أنّها إذا اختارت أحدهما فرّق بينها وبين الآخر، ثم عقد المختار نكاحها فهذا حسن، فإنَّه يستغنى بالتفريق بينها وبين أحدهما عن التفريق بينها وبينهما جيمعاً، وبفسخ أحد النِّكاحين عن فسخهما"1. اهـ.

ووصف ابن رشد القول بالتخيير بالشذوذ2.

القول الخامس: هو التفصيل بحسب احتمالات الوقوع، وهو مذهب الشافعيّة ولهم في هذه الصورة التفصيل التالي:

(أ) إن لم يعلم السبق والمعيّة وأمكن كلّ منهما فالنكحان باطلان.

لأنّهما: إن وقعا معاً تدافعا، وإن وقعا مرتّبين فلا اطّلاع على السابق منهما، وإذا تعذّر إمضاء العقد بطل؛ إذ الأصل في الأبضاع الحرمة حتى يتحقّق السبب المبيح.

1 انظر: المغني لابن قدامة (7/407) .

2 بداية المجتهد لابن رشد (2/12) .

ص: 123

وأمّا هل يحتاج النِّكاحان إلى فسخ كما قاله الجمهور؟ أو هما منفسخان أصلاً؛ لأنّ النِّكاح الباطل لا حكم له؟.

فيه وجه في المذهب: أنّه لا بدّ من إنشاء الفسخ؛ لاحتمال السبق، ذكره في الروضة1.

وفي شروح (المنهاج) يندب للحاكم أن يقول: إن كان قد سبق أحدهما الآخر فقد حكمت ببطلانه، لتحلّ يقيناً، وتثبت هذه الولاية للحاكم للضرورة والحاجة2.

ويظهر من هذا أنّ المعتمد هو أنّ النِّكاح مفسوخ أصلاً، وهذا هو الذي عزاه ابن قدامة في المغني للشافعي حيث قال:"وقال الشافعي وابن المنذر: النِّكاح مفسوخ؛ لأنّه تعذّر إمضاؤه".

وعقّب عليه بقوله: "وهذا لا يصحّ، فإنّ العقد الصحيح لا يبطل بمجرّد إشكاله، كما لو اختلف المتبايعان في قدر الثمن؛ فإنّ العقد لا يزول إلاّ بفسخه كذا هنا" اهـ3.

1 انظر: روضة الطالبين (7/89) .

2 انظر: نهاية المحتاج (6/249) ، وتحفة المحتاج (7/269 ـ 270) ، ومغني المحتاج (3/161) .

3 المغني لابن قدامة (7/406) .

ص: 124

(ب) أن يعلم سبق أحد النِّكاحين ولم يعلم عينه، فالنِّكاحان باطلان على المنصوص وهو المذهب، كما لو احتمل السبق والمعيّة؛ لأنّ مجرّد العلم بالسبق هنا لا يفيد؛ وذلك لتعذّر الإمضاء.

والقول الآخر في المذهب: التوقف حتى يتبيّن، وهذان القولان في المذهب فيما إذا لم يُرْجَ معرفته بعينه، وإلاّ فيجب التوقف قولاً واحداً.

وأمّا هل يحتاج هذان النِّكاحان إلى فسخ؟ فيه ما في الصورة التي قبله، ويَرِدُ عليه قول ابن قدامة السابق.

وفيه سؤال آخر: وهو هل يقع النِّكاح باطلاً ظاهراً وباطناً؟ أو ظاهراً فقط؟ هما وجهان في المذهب، وصحّح النووي وتبعه بعض شرّاح المنهاج أنّ محلّ الخلاف فيما إذا لم يكن فسخ، أمّا إن حصل الفسخ فالصَّواب انفساخ النِّكاح ظاهراً وباطناً.

ويترتّب على هذا الخلاف ما إذا علمنا السابق منهما، فعلى القول بالبطلان ظاهراً وباطناً فلا زوجيّة للسابق، ولو نكحت ثالثاً فهي للثّالث، وأمّا على القول بالبطلان ظاهراً لا غير، فإذا علمنا السّابق فهي زوجته.

(ج) أن يسبق واحد معيّن ثمّ يخفى ـ كأن يشتبه بصاحبه أو ينسى ـ فيتوقّف حتى يتعيّن؛ وذلك لجواز التذكّر، ولأنّنا تحقّقنا صحّة العقد فلا يرتفع إلاّ بيقين؛ فعلى هذا لا تحلّ لواحد منهما، ولا تنكح غيرهما إلاّ ببينونتها منهما؛ بأن يطلقاها، أو يموتا، أو يطلقها أحدهما ويموت الآخر وتنقضي عدَّتُها من موت آخرهما، ولا يبالى بطول ضررها

ص: 125

كزوجة المفقود، ومثل التي انقطع دمها بمرض ونحوه تصير إلى سنِّ اليأس مع الضَّرر.

ويرى بعضهم: أنّه عند اليأس من التبيّن ـ عرفاً ـ تطلب الفسخ من الحاكم، ويجيبها للضرورة؛ كالفسخ بالعيب وأولى1.

"خلاصة ما تقدّم وبيان الرّاجح"

ومّما سبق يعلم أنّ عدم العلم بالسابق من النِّكاحين يحتمل الآتي:

الاحتمال الأوّل: أن يقع النِّكاحان معاً، فالنِّكاحان باطلان على هذا الاحتمال اتِّفاقاً، ولكن لا سبيل للعلم به مع أنّها صورة نادرة.

الاحتمال الثّايى: أن نعلم السّابق بعينه ثم نجهله، فهنا أحد النِّكاحين وقع صحيحاً وهو السابق منهما، وإنّما الإشكال في معرفة عينه.

فهذا إن كان التوقف لانتظار بيّنة تكشف حقيقة الأمر يقيناً، فالأمر كما قال الشافعيّة، وهو التوقف حتى يتبيّن النِّكاح الصحيح، ولا ينبغي أن تكون محلّ خلاف بهذا الاعتبار، أمّا إن كان التوقّف لغير ذلك؛ كاحتمال تذكّره مثلاً، ففي هذا ضرر بالغ بالمرأة مع ضآلة احتمال اكتشاف الأمر على حقيقته.

1 انظر تفصيل كلّ ما تقدّم في هذه المسألة عن الشافعيّة في كلٍّ من:

روضة الطالبين (7/88 ـ 89) ، المنهاج ومغني المحتاج (3/161) ، تحفة المحتاج (7/269 ـ 270) ، ونهاية المحتاج (6/249 ـ 250) .

ص: 126

الاحتمال الثّالث: أن نعلم مجرّد السبق، كأن نعلم أنّ أحدهما

عقد قبل الزوال والآخر بعده، فهنا أيضاً أحد النِّكاحين وقع صحيحاً وهو السابق، وإنّما الإشكال في معرفة عينه، فالقول ببطلانه من أصله حكم بالبطلان على عقد وقع صحيحاً، وهذا غير صحيح كما قاله ابن قدامة رحمه الله.

لذا: فالذي يظهر لي: أنّه لا يحكم ببطلان النِّكاحين أو أحدهما إلاّ بعد فرقة، سواء كانت فسخاً كما قال الجمهور، أو طلاقاً كما قاله بعض العلماء، كما أنّ المرأة لا تحلّ لأحدهما إلاّ بعقد جديد تسبقه فرقة من الآخر بفسخ أو طلاق، أو موت أحدهما وانقضاء العدّة، ولا فرق من أنّ يكون الفسخ من الحاكم، كما هو المعتمد عند الشافعيّة والحنابلة، أو من الزوج.

أمّا ما ذكره في (الرّوضة) 1 من جواز أن يكون الفسخ من المرأة فلا أدري ما وجه ذلك. والله تعالى أعلم.

المسألة الثَّّانية: إذا أنكح الوليُّ الأبعدُ مع حضور الأقرب فما الحكم؟

وأمّا إذا أنكح الوليُّ الأبعدُ مع حضور الأقرب وبدون إذنه فقد اختلف فيه الفقهاء بناء على اختلافهم في حكم الترتيب بين الأولياء، أهو شرط أم ليس بشرط؟

1 روضة الطالبين (7/89) .

ص: 127

1 فالجمهور: ومنهم الحنفيّة والشافعيّة والحنابلة أنّه شرط، فالأقرب يحجب الأبعد كما في الميراث، فيكون الأبعد بمنزلة الأجنبي عند حضور الأقرب. وعلى هذا: فإذا أنكح الأبعد، والأقرب حاضر من غير إذن منه ولا عذر فالنِّكاح غير صحيح عند الشافعيّة والحنابلة.

وأمّا عند الحنفيّة ورواية عن الإمام أحمد فيصحّ النِّكاح ويقف على إجازة الوليّ الأقرب؛ فإن أجازه جاز، وإن ردّه بطل.

والخلاف هنا في تصحيحه مبنيٌّ على صحّة العقود بالإجازة كبيع الفضوليّ، فمن قال: النِّكاح لا يكون بالإجازة صحيحاً - كالشافعيّة والصحيح من مذهب الحنابلة - أبطله، ومن قال تلحقه الإجازة كالحنفيّة والرّواية الأخرى عن الإمام أحمد أجازه با لإجازة، وردّه بعدمها1.

2-

وأمّا المالكيّة ففي مذهبهم تفصيل وخلاف.

أمّا التفصيل فباعتبار الوليّ الذي يملك الإجبار، والوليّ الذي لا يملكه.

وأمّا الخلاف ففي الأولياء غير المجبرين.

1 انظر للحنفيّة: المبسوط (4/220) ، وبدائع الصنائع (3/ 1372)، وفتح القدير (3/288) . وللشافعية: الأم (5/14) ، والمنهاج ومغني المحتاج (3/154) ، وتكملة المجموع الثانية (16/162) .

وللحنابلة: المغني والشرح الكبير (7/364 والشرح 334) ، والإنصاف (8/ 81) ، والمبدع (7/39) .

ص: 128

فإن كان الوليّ أباً في ابنته البكر فلا ولاية لأحد معه، ومثل الأب في ابنته البكر عندهم: وصيّه، والمالك في أمته، فهم الذين يملكون حقّ الإجبار.

فإن أنكح الوليّ الأبعد في هذه الحال فسخ النِّكاح، ولو أجازه المجيز بعد ذلك، إلاّ إن كان هناك إذن بالتفويض له من الوليّ المجبر في جميع أموره، وثبت له التفويض بالبيّنة، فيصحّ بهذه المحترزات، وفي اشتراط قرب الإجازة أيضاً وجهان: أقربهما اشتراطه.

وقد تعقّب بعض المالكيّة مسألة استثناء التفويض متسائلاً:

أيُّ فرق عند التفويض بين الوليّ الأبعد والأجنبي؟ لأنّه إن كانت العلّة هي الولاية فلا ولاية لأحد مع الأب في ابنته البكر، والوصيّ في محجورته، والمالك في أمته، وإن كانت العلّة التفويض من الأب أو الوصيّ أو المالك فأيُّ فرق بين الوليّ الأبعد والأجنبي1.

وأمّا إن كان الوليّ غير مجبر فقد اختلف القول هنا عن الإمام مالك وأصحابه على أقوال كثيرة أهمِّها ما يلي:

القول الأوّل: أنّ كلاً من الوليّ الأقرب والأبعد وليّ في النِّكاح، وإنِّما يقدّم الأقرب منهم استحباباً من باب الأولى والأفضل، وهذا القول

1 انظر بداية المجتهد (2/11) ، وشرح المواق مع الحطاب (3/434) ، والزرقاني مع البناني (3/ 179) ، والخرشي والعدوي (3/ 185-186) ، والشرح الكبير والدسوقي (2/228 ـ 229) .

ص: 129

هو المشهور عن مالك وأصحابه، وكثيراً ما اقتصر على نسبته إليه في كتب الخلاف دون التعرُّض لذكر ما سواه من الأقاويل، وهو المنصوص في (المدوّنة) أيضاً ففيها:

(قلت1: أرأيت المرأة يكون أولياؤها حضوراً كلُّهم، وبعضهم أقعد من بعض، منهم العم، والأخ، والجدّ، وولد الولد، والولد نفسه، فزوّجها العمّ فأنكر ولدها وسائر الأولياء تزويجها وقد رضيت المرأة، قال: ذلك جائز على الأولياء عند مالك2".

قال: وقال مالك: في المرأة الثيّب لها الأب والأخ، فيزوّجها الأخ برضاها، وأنكر الأب، أذلك له؟ قال: قال مالك: ليس للأب ههنا قول إذا زوّجها الأخ برضاها، لأنّها قد ملكت أمرها" اه3.

ودليل هذا القول: قول عمر رضي الله عنه: "لا تُنْكَح المرأة إلاّ بإذن وليّها أو ذي الرّأي من أهلها أو السلطان"4.

ففي المدوّنة: قال: سألت مالكاً عن قول عمر بن الخطاب "أو ذي الرّأي من أهلها". من ذو الرّأي من أهلها؟ قال مالك: الرجل من العشيرة أو ابن العمّ، أو المولى، وإن كانت المرأة من العرب فإنّ إنكاحه جائز.

1 السائل هنا سحنون والمجيب ابن القاسم كما هو معروف.

2 المدوّنة (2/143) .

3 نفس المصدر والجزء والصفحة.

4 انظر: شرح الزرقاني على الموطأ (3/127) وتقدّم تخريجه (1/145) .

ص: 130

قال مالك: وإن كان ثمّ من هو أقعد منه فإنكاحه إيّاها جائز، إذا كان له الصلاح والفضل، إذا أصاب وجه النِّكاح"1.

القول الثّاني لهم: أنّه إذا أنكح الأبعد مع حضور الأقرب فالنِّكاح مفسوخ.

ذكره ابن رشد في (البداية)2.

وعلى هذا فيكون الترتيب بين الأولياء شرط. لكن قال ابن رشد:

قد أنكر قوم هذا المعنى في المذهب أعني أن يكون النِّكاح منفسخاً غير منعقد"3 اه.

القول الثَّالث لهم: أنّ للوليّ الأقرب أن يجيز أو يفسخ. ذكره ابن رشد في البداية4.

وفي قوانين الأحكام لابن جزي ما يفيد: أنّ الفسخ مقيد بعدم الدخول5.

1 المدونة (2/ 144) . وانظر في معنى "ذو الرأي من أهلها" الفواكه الدواني للنفراوي (2/27) . وانظر في مذهب المالكية هذا: بداية المجتهد (2/10) ، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (223) ، والمواق والحطاب (3/432) ، والزرقاني والبناني (3/177) ، والخرشي والعدوي (3/183) ، والشرح الكبير والدسوقي (2/227) .

2 بداية المجتهد (2/10) .

3 نفس المصدر (2/11) .

4 نفس المصدر (2/10) .

5 قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (223) .

ص: 131

وهذا هو الأظهر؛ لما تقدّم من اعتبار الدخول عند الإمام مالك رحمه الله.

وقال ابن عبد البر: "وقيل: بل للأقعد ردّه وإجازته على كلّ حال، لأنّه حقّ له" اه1.

وهذا يفيد صحّة نكاح الوليّ الأبعد، وإنّما فيه حقّ للوليّ الأقرب، فإن أجازه جاز، وإن لم يجزه انفسخ، ويدلّ على صحّة إنكاح الأبعد تصحيحهم له بعد الدخول، فلو كان النِّكاح باطلاً من أصله لم يصحّ، لا قبل الدخول، ولا بعده.

وقد نقل المواق: عن اللخميّ: أنّ إنكاح الوليّ الأبعد مع حضور الأقرب لا فساد فيه اتفاقاً- (أي عندهم) وإنّما الخلاف هل فيه حقّ للآدمي أو لا؟ "2.

القول الرّابع لهم: أنّ للأقرب ردّه أو إجازته ما لم يطل مكثها، وتلد الأولاد3.

وهذا القول قريب ممّا قبله إن لم يكن تقييداً له، وهو يفيد وقوع النِّكاح صحيحاً، كما يفيد إثبات حقّ للوليّ الأقرب، وإنّما يسقط هذا

1 الكافي لابن عبد البر (1/430) . ونقله عنه القرطبي (3/78) .

2 التاج والإكليل للمواق، وشرح مختصر خليل (3/432 مع الحطاب) .

3 انظر المدونة (2/144) ، والكافي لابن عبد البر (1/430) ، وتفسير القرطبي (1/78) ، والمواق (3/432، مع الحطاب) .

ص: 132

الحقّ بطول المكث، وإنجاب الأولاد، ممّا يدلّ على رضى الأقرب إن علم، وإن لم يعلم فإنّ حقّه لا يقابل بما يلحق الزوجين والأولاد من فرقة وضياع. والله أعلم.

القول الخامس لهم: أن ينظر السلطان في ذلك، ويسأل الوليّ الأقرب عمّا ينكره ثمّ إن رأى السلطان إمضاءه أمضاه، وإن رأى أن يردّه ردّه1.

وهذا يدلّ على وقوع النِّكاح صحيحاً إذا عقده الوليّ الأبعد وأصاب فيه وجه النِّكاح، وإنّما ردّ لسبب آخر كعدم النظر لحظّ المرأة، أمّا إذا وضعها حيث ينبغي أن توضع فالنِّكاح صحيح، ونافذ. والله أعلم.

"سبب الخلاف وبيان الرَّاجح"

وممّا تقدّم نعلم أنّ سبب الخلاف بين المالكيّة أنفسهم وبينهم وبين غيرهم إنّما مردّه إلى اختلافهم في حكم الترتيب بين الأولياء؛ أهو شرط أم ليس بشرط؟ وعلى القول بأنّه شرط، هل هو حقّ لله أو حقّ للآدمي؟

فمن رأى أنّه لم يقم دليل شرعي على اشتراط الترتيب بين الأولياء قال بصحّة إنكاح الوليّ الأبعد مع حضور الأقرب؛ لأنّه نكاح انعقد بوليّ، وإنّما الترتيب باعتبار الأولى والأفضل لا غير.

ومن رأى أنّ الترتيب بين الأولياء شرط ولكنّه حقّ للوليّ الأقرب قال: النِّكاح صحيح، ويقف على إجازة من له الحقّ وهو الوليّ الأقرب.

1 انظر نفس المصادر السابقة وصفحاتها.

ص: 133

ومن رأى أنّه حقّ لله تعالى قال: النِّكاح غير منعقد أصلاً.

هذا حاصل ما ذكره ابن رشد من أسباب الخلاف في هذه المسألة1.

ونحن إذا تأمّلناها وجدنا أنّ أقوى حجّة مع من لم يشترط الترتيب هو المطالبة بإقامة الدليل الصريح على اشتراطه شرعاً، ولكن يعكّر على حجّتهم هذه أنّ قولهم لم يطّرد في جميع الأولياء بل فرّقوا بين الوليّ المجبر وغير المجبر، فاشترطوه حقّاً للوليّ المجبر دون غيره، فقالوا: إنّه لا يتقدّم على الأب في ابنته البكر أحد، فإن تقدّم أحد غيره فزوّجها فالنِّكاح مفسوخ، ولو أجازه الأب بعد ذلك، وهذا بداية الطريق للتسليم باشتراط الترتيب بين الأولياء، وإلاّ فما الفرق؟

والذي يظهر لي والله أعلم أنّ الحجّة هنا في اشتراط الترتيب بين الأولياء هي في تحقيق معنى الوليّ لغة وشرعاً وعرفاً، أيشمل مطلق الأقارب بعدوا أم قربوا؟ أم هو خاص بالأقرب فالأقرب، وفيما يظهر لي: أنّ الاحتمال وارد في كلّ منهما، إلاّ أنّ أقربهما صواباً هو اعتبار الأقرب فالأقرب لما يلي:

أولاً: أنّ الأقرب وليّ لغة وشرعاً وعرفاً اتفاقاً، ففي اعتباره احتياط للنِّكاح، بخلاف الأبعد فهو محتمل لغة وشرعاً وعرفاً، والمتَّفق عليه أولى بالتقديم خروجاً من الخلاف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "دع ما يَريبك إلى ما لا

1 بداية المجتهد (2/11) .

ص: 134

َريبك1".

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الحلال بيّن وإنّ الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالرَّاعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، ألا وإنّ حمى الله محارمه". متفق عليه2.

ثانياً: القياس على الميراث كما تقدّم، فالأقرب يحجب الأبعد فكذلك هنا.

ثالثاً: أنّ القول بعدم اشتراط الترتيب بين الأولياء يعود على القول باشراط الولاية بالبطلان، وذلك أنّه ليس هناك حدٌّ يُنْتهى إليه حينئذ وإن حدّ في ذلك حدّاً احتاج إلى دليل؛ ولذلك قال ابن حزم رحمه الله:"أمّا قولنا: إنّه لا يجوز إنكاح الأبعد من الأولياء مع الأقرب؛ فلأنّ الناس كلّهم يلتقون في أب واحد إلى آدم عليه السلام بلا شكّ، فلو جاز إنكاح الأبعد مع وجود الأقرب لجاز إنكاح كلّ من على وجه الأرض؛ لأنّه يلقاها بلا شكّ في بعض آبائها، فإن حدّوا في ذلك حدّاً كلّفوا البرهان عليه ولا سبيل إليه، فصحّ يقيناً أنّه لا حقّ مع الأقرب للأبعد"3 اه.

1 هو حديث صحيح وتقدّم تخريجه (1/266) .

2 تقدم تخريجه (1/265) .

3 المحلى لابن حزم (9/458) .

ص: 135

رابعاً: أنّ القول بجواز نكاح الأبعد يفضي إلى الفوضى بين الأولياء، ممّا يترتّب عليه مفاسد بين الأولياء أنفسهم، وبينهم وبين موليَّاتهم، فوجب منعه درءاً للمفسدة على قاعدة "درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح".

وبهذا يقوى القول باشتراط الترتيب بين الأولياء. والله أعلم.

المسألة الثَّالثة: وهي إذا عضل الوليّ الأقرب فمن يزوّجها؟

وأمّا إذا عضل الوليّ الأقرب مولِّيَّته فلم يزوّجها فهذه المسألة من أهمّ مسائل هذا المبحث وينبغي قبل الشروع في بيان من يزوّجها؟ أن نبيّن معنى العضل وحكمه.

أولاً: معنى العضل:

فأمّا معنى العضل لغة: فهو الشِّدَّة، والمنع، والتضييق.

يقال: عضل الرجل أيمه إذا منعها من التزويج ظلماً.

ومنه العَضَل بفتح العين المهملة والضاد المعجمة لكلّ لحم مكتنز في عصب لقوّته وشدّته.

ومنه: الدّاء العضال الذي أعيا الأطباء علاجه، والأمر العضال: الذي استغلق حلّه ولم يهتد لوجهه، كما تسمّى الشدائد معضلات.

ويقال: عضّلت- بتشديد الضاد المعجمة المرأة أو الناقة بولدها، إذا التوى في رحمها، ونشب، وتعسّر خروجه.

ويقال: عضّلت الأرض بأهلها: أي غصّت بهم وضاقت لكثرتهم،

ومنه قول الشاعر:

ص: 136

ترى الأرض منّا بالفضاء مريضة

معضّلة منّا بجمع عرمرم1

والباب كلّه يدور حول: الشدّة والمنع والتضييق كما تقدّم.

قال ابن فارس: "العين والضّاد واللاّم أصل واحد صحيح يدلّ على شدّة والتواء في الأمر"2.

وفي اللسان: أصل العضل: المنع والشدّة، يقال أعضل بي الأمر إذا ضاقت عليك فيه الحيل، وأعضله الأمر غلبه، وداء عضال: شديد معْيٍ غالبٌ، قالت ليلى:

شفاها من الدّاء العضال الذي بها

غلام إذا هزّ القناة سقاها3 اه

وأمّا معنى العضل شرعاً: فهو امتناع الوليّ من تزويج مولِيَّته بغير حقّ شرعي؛ كامتناعه من تزويجها بكفء رضيته.

وإنّما يختلف الفقهاء بعد ذلك في: متى يكون امتناع الوليّ بحقّ أو بغير حقّ؟ تبعاً لاختلاف الأنظار والاجتهادات فيما هو أصلح للمرأة، وفيما يكون تصرّفاً من الوليّ في حدود ولايته شرعاً.

وأهمّ ما اشتهر ذكره عن الفقهاء هنا: هو امتناع الوليّ من تزويجها

1 أورده ابن فارس وغيره: انظر مقاييس اللغة لابن فارس (4/346) .

2 نفس المصدر (4/345) .

3 لسان العرب (11/451)، وانظر مادة عضل في كلٍّ من:

مقاييس اللغة لابن فارس (4/345 ـ 346) ، والصحاح للجوهري (5/1766 ـ 1767) ، والقاموس وتاج العروس (8/21 ـ 22) .

ص: 137

بكفئها أو لنقصان مهر مثلها؟ فيتفقون على أنّ الوليّ إذا امتنع من تزويجها بخاطبها الكفء الذي رضيته فهو عاضل لها.

وأمّا إن كان الخاطب الذي رضيته غيركفء لها فلا يعدّ امتناع الوليّ من تزويجها به عضلاً لها1.

وأمّا إن رضيت المرأة بالتزويج بأقلّ من مهر مثلها، فليس لوليِّها الامتناع من تزويجها به طلباً لمهر المثل عند الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة المشترطون للولاية في النِّكاح، ووافقهم أبو يوسف ومحمد من الحنفية2، إمّا لأنّ نكاحها بيد وليِّها عندهما، أو لأنّ نقص المهر لا يثبت لأوليائها حقّ الاعتراض عليها3 على القول بصحة تزويجها نفسها.

وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا زوّجت المرأة نفسها بدون مهر مثلها

1 انظر للحنابلة: المغني (7/368 ـ 369) ، والإنصاف (8/75) وكشاف القناع

(5/54) .

وللشافعية: المنهاج ومغنى المحتاج (3/153) .

وللمالكيّة: الخرشي والعدوي (3/189) ، والشرح الكبير والدسوقي (2/232) .

وللحنفية: الهداية وفتح القدير والعناية (3/294 ـ 295) . ورد المحتار وحاشية ابن عابدين (3/82) .

2 انظر للحنابلة: المغني (7/369) ، والإنصاف (8/75) ، وكشاف القناع (5/54) .

وللشافعية: مغني المحتاج (3/153) .

وللأئمة الثلاثة جميعاً: الإفصاح لابن هبيره (2/122) .

ولمحمد وأبي يوسف: المبسوط (5/14) ، والهداية وفتح القدير والعناية (3/302) .

3 نفس المراجع السابقة للصاحبين. قولاً ودليلاً.

ص: 138

فللأولياء حقّ الاعتراض عليها؛ لأنّ الأولياء يتفاخرون بكمال مهور نسائهم، ويعيَّرون بنقصها فأشبه الكفاءة1.

ولأنَّ في تزويجها بأقلّ من مهر مثلها ضرراً على نسائها بنقص مهور أمثالهنّ2.

وأمّا وجهة نظر الجمهور: فلأنّ المهر حقّ خالص للمرأة، فلم يكن للأولياء حقّ في منعها، أو الاعتراض عليها من أجل نقصانه، كثمن عبدها أو أجرة دارها3.

ولأنّها لو أسقطته بعد وجوبه لسقط اتفاقاً4.

ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "التمس ولو خاتماً من حديد"5. متفق عليه.

ولقول عمر رضي الله عنه: "لو كان مكرمة في الدنيا أي التغالي في المهور أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم"6.

وهذا هو الرّاجح إن شاء الله تعالى؛ فإنّ تيسير المهور ممّا ندب إليه

1 نفس المراجع السابقة للصاحبين. قولاً ودليلاً.

2 نفس المراجع السابقة للصاحبين. قولاً ودليلاً.

3 المغني لابن قدامة (7/369) .

4 نفس المصدر.

5 تقدم تخريجه (1/207) .

6 انظر تخريجه في إرواء الغليل (6/347 ـ 350) وقد صححه وذكر أنّ ممّن خرّجه: أبو داود والنسائي والترمذي ـ وصححه ـ وكذا ابن حبان والدارمي والحاكم والبيهقي وأحمد والحميدي والضياء في الأحاديث الختارة (6/47) .

ص: 139

الإسلام، وممَّا يعتزّ به خيار الناس وكرامهم، فضلاً عن أنّه حقّ خالص للمرأة. وا لله أعلم.

ثانياً: حكم العضل.

وأمّا حكم العضل فلا خلاف في تحريمه؛ لأنَّه نوع من الظلم الذي يتنافى ومشروعية الولاية في النِّكاح؛ إذ هي ولاية نظر وإحسان، لا ولاية قهر وإذلال واستبداد، ومن الأدلّة على تحريم العضل ما يلي:

1 قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} 1.

فالخطاب هنا في قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} للأولياء كما اختاره أكثر المفسرين وإليه ذهب جمهور الفقهاء، كما تقدّم في أدلّة اشتراط الولاية في النِّكاح2.

2 حديث معقل بن يسار رضي الله عنه في سبب نزول الآية السابقة حين عضل أخته عن نكاح زوجها الذي طلّقها، فتركها حتى انقضت عدتها، ثم جاء يخطبها من جديد. ونصّه كما في الترمذي "عن الحسن البصري عن معقل بن يسار: "أنّه زوّج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت ثم طلّقها تطليقة لم

1 سورة البقرة آية رقم (232) .

2 انظر: ما تقدم في أدلة اشتراط الولاية في النكاح (1/ 68 وما بعدها) .

ص: 140

يراجعها حتى انقضت العدّة، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطّاب فقال له: يالُكَع1: أكرمتك بها وزوّجتكها فطلّقتها، والله لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك. قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله تبارك وتعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} إلى قوله {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . فلمّا سمعها معقل قال: سمعٌ لربّي وطاعة، ثم دعاه فقال: أزوّجك وأكرمك". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن الحسن"2.

وهذا الحديث رواه أيضاً: البخاري وأبو داود والدارمي والطيالسي والطحاوي والحاكم والبيهقي3.

3 حديث عائشة رضي الله عنها الذي تقدّم مراراً وفيه: "فإن اشتجروا فالسلطان وليّ من لا وليّ له"4.

فيؤخذ من هذا الحديث أنّه إذا عضل جميع الأولياء انتقلت الولاية إلى السلطان، لتنزيلهم حينئذ منزلة العدم.

4 حديث "لا ضرر ولا ضرار" رواه أحمد وغيره وهو صحيح

1 يا لكع: بضم اللام وفتح الكاف كصرد: اللئيم والعبد والأحمق. انتهى من شرحه (8/325 تحفة الأحوذي) .

2 الترمذي مع تحفة الأحوذي (8/324 ـ 325) .

3 تقدم تخريجه (1/140-141) .

4 تقدم تخريجه (1/112) .

ص: 141

بمجموع طرقه، ومتفق على معناه1.

ثالثاً: تزويجها إذا عضل الوليّ.

وأمّا تزويجها إذا عضل وليِّها الأقرب فقد اتفق الفقهاء على سقوط حقّ الأقرب في الولاية إذا ثبت عضله وانتقالها إلى غيره، ثمّ اختلفوا فيمن يزوّجها حينئذ على قولين:

القول الأوّل: أنّه يزوّجها من يليه من الأولياء.

وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة2، وبه قالت الشافعية إذا تكرّر العضل من الوليّ الأقرب، بناء على أنّه يصير بذلك فاسقاً، ولا ولاية للفاسق على الصحيح عندهم3.

ووجهة هذا المذهب: أنّه تعذّر التزويج من جهة الأقرب فملكه من يليه، كما لو جنّ الأقرب4. ولأنّه يكون بالعضل فاسقًا، فتنتقل الولاية عنه، كما لو شرب الخمر5.

1 انظر المسند (1/313) .

وانظر تصحيحه وتمام تخريجه في إرواء الغليل (3/408 ـ 414) .

2 انظر المغني والشرح الكبير (7/368 والشرح 428) ، والإنصاف (8/75) ، وكشاف القناع (5/54) ، والمبدع (5/54) .

3انظر للشافعية: مغني المحتاج (3/153) ، وتحفة المحتاج (7/251) ، ونهاية المحتاج (6/134) .

4 انظر المغني والشرح الكبير (7/368 والشرح 428) .

5 نفس المصدر.

ص: 142

والقول الثّاني: أنّه يزوّجها السلطان. وهذا مذهب المالكيّة وكذلك الشافعيّة في غير الصورة السابقة وهي تكرّر العضل، وكذلك الحنفيّة بناء على أنّ العضل كما يكون في الحرّة المكلّفة يكون في الصغيرة والمجنونة، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله اختارها أبو بكر من الحنابلة1.

ودليل هذا القول ما يلي:

1 حديث "فإن اشتجروا فالسلطان وليّ من لا وليّ له"2.

2 ولأنّ النِّكاح حقّ للمرأة، فإذا تعذّر من جهة وليِّها كان للحاكم استيفاؤه، كما لو كان على رجلٍ دين فامتنع من أدائه، فإنّ الحاكم يقوم باستيفائه لصاحبه من الممتنع3.

3-

ولأنّ الوليّ بامتناعه يكون ظالماً، والسلطان يقوم مقام صاحب الحقّ في دفع الظلم عنه4.

1 انظر للمالكيّة: الشرح الكبير والدسوقي (2/231 ـ 232) ، والخرشي والعدوي (3/189) ، والزرقاني والبناني (3/183) .

وللشافعيّة المصادر السابقة، والأم (5/14) .

وللحنفية: رد المحتار وحاشية ابن عابدين (3/82) .

وللرواية المذكورة عن الإمام أحمد: المصادر السابقة في التعليق رقم (2) ص142.

2 تقدم تخريجه (1/112) .

3 المغني لابن قدامة (7/368) ، وتكملة المجموع الثانية (16/163) .

4 المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير (7/368 والشرح 428) .

وانظر: المبدع لابن مفلح (7/36 ـ 37) .

ص: 143

ومنع ابن قدامة من صحة الاحتجاج بالحديث لانتقال الولاية للسلطان فقال: الحديث حجّة لنا، لقوله صلى الله عليه وسلم:"والسلطان وليُّ من لا وليَّ له". وهذه لها وليّ، ويمكن حمله على ما إذا عضل الكلّ؛ لأنّ قوله "اشتجروا" ضمير جمع يتناول الكلّ" اه1.

وكذلك منع من القياس على الدَّين بقوله: والولاية تخالف الدَّين من وجوه ثلاثة:

أحدها: أنَّها حقّ للوليّ، والدَّين حقّ عليه.

الثّاني: أنّ الدَّين لا ينتقل عنه، والولاية تنتقل لعارض من جنون الوليّ، وفسقه، وموته.

الثَّالث: أنّ الدَّين لا يعتبر في بقائه العدالة، والولاية يعتبر لها ذلك، وقد زالت العدالة بما ذكرنا، فإن قيل: فلو زالت ولايته لما صحّ منه التزويج إذا أجاب إليه؟ قلنا: فسقه بامتناعه، فإذا أجاب فقد نزع عن المعصية وراجع الحقّ، فزال فسقه وصحّ تزويجه"2. انتهى ما قاله ابن قدامة رحمه الله: إلاّ أنّ الفرق الثَّالث غير لازم لمن لا يشترط عدالة الوليِّ كما هو مشهور مذهب المالكيَّة والحنفيَّة، كما سيأتي في شروط الوليِّ في النِّكاح إن شاء الله تعالى.

ومع هذا: فإنَّ في القول بانتقال الولاية من الوليِّ العاضل إلى من يليه

1 نفس المصادر السابقة.

2 نفس المصادر السابقة.

ص: 144

من الأولياء قوّة لا تخفى متى أمكن تزويجها من طريق أوليائها، وذلك أنَّه لا موجب للعدول عنهم متى أمكن التزويج من طريقهم؛ إذ إنّ السلطان ليس بوليّ لمن لها وليّ كما هو صريح الحديث، وأمّا إن لم يمكن تزويجها من طريق بقية أوليائها؛ كأن يقوم العاضل بمنع غيره أيضاً من الإقدام على تزويجها، ويخشى وقوع فتنة وعداوة بين العاضل وغيره ممن يريد تزويجها كما هو الغالب عادة في مثل هذا فحينئذ يرفع الأمر للحاكم ليحكم بالولاية لمن يستحقّها من الأولياء، ويعينه على التمكين منها، فإن لم يمكن ذلك إلَاّ مع خوف الفتنة وعداوة بين الأولياء زوَّجها الحاكم؛ قطعاً للنزاع ولتعذّر تزويجها من قبل الأولياء. والله أعلم.

المسألة الرَّابعة: وهى إذا غاب الوليّ الأقرب فمن يزوَّجها؟

وأمَّا المسألة الرَّابعة وهي: إذا غاب الوليّ الأقرب فمن يزوّجها؟ فقد اتفق أصحاب المذاهب الأربعة على أنَّه: إذا غاب وليّ المرأة الأقرب فقد جاز لغيره تزويجها، على خلاف بينهم في حدَّ الغيبة التي يجوز التزويج فيها لغير الأقرب، وكذلك في: من يزوَّجها؟ أهو الوليُّ الذي يليه، أم السلطان؟ كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى.

وذهب ابن حزم الظاهري وزفر من الحنفيَّة إلى أنَّه لا يجوز لأحد تزويجها في غيبة وليّها الأقرب، وإن طالت غيبته حتى يقدم فيزوّجها بنفسه.

وناقش ابن حزم وجهة الجمهور من أنَّ في انتظاره إضراراً بالمرأة بأنَّ الإضرار بها لا يبيح فرجها، ثم تساءل عن حدِّ الغيبة التي ينتظر، فيها

ص: 145

من التي لا ينتظر؟ قائلاً بأنَّهم لا يأتون إلَاّ بقول لا يعقل له وجه1.

وكذلك قال زفر: إنّه لا يزوِّجها الوليُّ الأبعد لبقاء ولاية الأقرب، ولا يزوِّجها السلطان من باب أولى؛ لأنّ ولايته متأخّرة عن ولاية الوليّ الأبعد، وهذا بخلاف العضل عنده لأنَّ الوليّ العاضل ممتنع من إيفاء حقّ لمستحقّه، فيقوم السلطان مقام صاحب الحقّ في دفع الظلم عنه، والغائب غير ظالمٍ في سفره خصوصاً إذا سافر لحجّ ونحوه2.

وما ذهب إليه ابن حزم وزفر رحمهما الله له وجه من النظر متى أمكن تزويجها من قبل وليِّها الأقرب بغير إضرارٍ بها، كسفر الحجّ وزيارة الأقارب ونحوهما، ممّا علم قرب عودة أصحابها، وندرة وقوع الضّرر في مثلها.

وأمّا الأسفار التي تتضرّر المرأة فيها بطول غيبة وليّها، كالغيبة المنقطعة كما سيأتي، فالضّرر ممنوع شرعاً بدليل حديث "لا ضرر ولا ضرار"3.

وبدليل اتفاقهم ومعهم ابن حزم وزفر على أنّ الوليّ الحاضر الكامل الأهليّة إذا عضلها سقطت ولايته، وزوّجت عليه رغم أنفه، كما

1 انظر لابن حزم: المحلى (9/458) .

2 وانظر لزفر: المبسوط (4/221) ، وبدائع الصنائع (3/1272) .

3 تقدَّم التنبيه على من خرجه (ص141-142) .

ص: 146

هو صريح كلام ابن حزم1، مع أنَّه يرجى عدوله عن عضله في أيّ لحظة، أو أنّه إنِّما عضلها لرغبته في تزويجها بغير من رضيته، وقد يكون أصلح لها ممّن رضيته، وما ذلك إلَاّ بسبب ما يلحقها من الضّرر بسبب عضله إيّاها، وهذا الإضرار يتحقّق في غيبة الوليّ، بل قد يكون أشدّ وأنكى، ولا يضرّنا اختلاف الفقهاء في حدّ الغيبة التي ينتظر فيها الوليّ من التي لا ينتظر متى وجد الاتفاق منهم على رفع الضّرر.

وأمّا من الذي يزوّجها في غيبة الوليّ الأقرب؟ أهو الوليّ الأبعد أم السلطان؟ قولان مشهوران:

الأوّل: أنّ الذي يزوّجها هو الوليَّ الذي يليه مرتبة، وهذا مذهب الحنفيّة والحنابلة2.

والثَّاني: أنّه السلطان. وهو مذهب الشافعيّة3.

وأمّا المالكيّة ففي كلامهم، ونقل بعضهم عن بعض اختلاف واضطراب شديد؛ وبيان ذلك أنَّ الوليّ- عندهم- إمّا أن يكون مجبراً

1 انظر: المحلى (9/457) .

2 انظر للحنفيّة: المبسوط (4/220) ، وبدائع الصنائع (3/1372) ، والهداية وفتح القدير والعناية (3/288 ـ 290) .

وللحنابلة: المغني (7/369) ، والإنصاف (8/76) ، والمبدع (7/37) ، وكشاف القناع (5/55) .

3 انظر للشافعية: الأم (5/14) ، وروضة الطالبين (7/58، 68 ـ 69) ، والمنهاج ومغني المحتاج (3/152 ـ 157) .

ص: 147

وهو الأب في ابنته البكر، أو الصغيرة مطلقاً.

وإمّا أن يكون غير مجبر وهم: بقيَّة الأولياء، ومثلهم الأب في ابنته الثّيب المكلّفة.

فبعضهم جرى على إطلاق قول واحد، ولم يفرّق بين مجبر وغير مجبر، وبعضهم فصّل، ولكن في كلّ من التفصيل والإجمال إشكال، وحاصل تلك الأقاويل يمكن تصنيفها إلى صنفين:

الصنف الأوّل: يدلّ على أنّ المعتمد هو أنّ الولاية تنتقل في غيبة الوليّ الأقرب إلى الأبعد، لا فرق بين مجبر وغيره.

وهذا ما يدلّ عليه كلام ابن عبد البرِّ في (الكافي) 1، والقرطبي في تفسيره2، وابن رشد فى (بداية المجتهد) 3، وابن جزي فى (قوانين الأحكام) ، وكلامه في هذا صريح مفصّل، ونصّه:"إذا غاب الأقرب انتقلت الولاية إلى الأبعد، وقال الشافعي: إلى السلطان"4 اه. ثم قال في مسألة بعد هذا: "إذا غاب عن البكر أبوها وهي مجبرة زوَّجها سائر الأولياء، أو السلطان إن لم يكن لها وليّ"5.

وهذا هو ما عزاه ابن هبيرة لمالك رحمه الله حيث قال: "واختلفوا

1 الكافي (1/430) .

2 تفسير القرطبي (3/79) .

3 بداية المجتهد (2/11) .

4 قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص/224) .

5 نفس المصدر والصفحة.

ص: 148

فيما إذا غاب الأقرب من الأولياء غيبة منقطعة، فقال أبوحنيفة ومالك وأحمد: تنتقل الولاية إلى من بعدهم، وقال الشافعي: تنتقل إلى السلطان"1.

والصنف الآخر: يدلَّ على أنَّ المعتمد هو انتقالها إلى السلطان، سواءً كان الوليُّ مجبراً أم غير مجبر، إلَاّ في بعض الحالات التي قد قيل بانتقالها إلى الأبعد، أو بصحَّة تزويجه فيها، وإن كان الأحقّ به فيها السلطان.

وهذا هو ظاهر كلام خليل في (المختصر) ، وكذلك شروحه

وحاصلها:

أنَّه إن كان الغائب الوليَّ المجبر كالأب في ابنته البكر فلا يزوِّجها إلَاّ السلطان حيث قيل بتزويجها دون الأولياء الحاضرين، وأمَّا إن كان الغائب غير مجبر وكانت الغيبة مسافة ثلاثة أيام فما فوقها فالذي يزوّجها هو السلطان أيضاً، ولكن لو زوّجها الوليّ الأبعد صحَّ حينئذ بناء على أنّ الترتيب بين الأولياء ليس بشرط.

وأمَّا إن كان الغائب أسيراً، أو مفقودا، ً أو وليّاً غير مجبر، ومسافة غيبته دون ثلاثة أيام، فالذي يزوّج حينئذ الوليّ الأبعد دون السلطان، وقيل غير ذلك2. والله أعلم.

1 الإفصاح لابن هبيرة (2/122) .

2 انظر: الخرشي والعدوي (3/186 ـ 187) ، والشرح الكبير والدسوقي (2/229 ـ 230) ، والحطاب والمواق (3/435 ـ 437) ، والزرقاني والبناني (3/180) ، ومنح الجليل (2/22-23) ، وبلغة السالك والشرح الصغير (1/358 ـ 359) ، والمدوّنة (2/144) .

ص: 149

الأدلَّة:

استدلَّ من قال: يزوّجها الوليّ الأبعد دون السلطان، بما يلي:

1 حديث "السلطان وليُّ من لا وليَّ له". وهذه لها وليٌّ؛ فلا ولاية للسلطان عليها مع وجوده 1.

2-

ولأنَّه تعذّر حصول التزويج من الأقرب فتثبت الولاية لمن يليه من الأولياء الحاضرين، كما لو جُنّ الأقرب، أو مات2.

3-

ولأنّها حالة جاز فيها التزويج لغير الأقرب، فكان الأبعد أحقّ بها من السلطان؛ لأنّه أكمل نظراً لها منه3.

وأمَّا من قال يزوِّجها السلطان دون الوليّ الأبعد فدليلهم: أنّ الوليّ الأبعد محجوب بولاية الأقرب، وولاية الوليّ الأقرب باقية؛ بدليل أنَّه لو زوّجها في مكانه، أو وكّل من يزوّجها لصحّ ذلك منه، وإنّما تعذّر لغيبته فناب الحاكم عنه، كما لو غاب وعليه دين فإنّ الحاكم ينوب عنه في الدفع من ماله دون غيره من الأولياء، كما سبق في العضل4.

1 انظر: المغني لابن قدامة (7/370) ، والمبسوط (4/221) ، وبدائع الصنائع (3/1372) ، والهداية وفتح القدير والعناية (3/289) .

2 انظر نفس المصادر السابقة وصفحاتها.

3 انظر نفس المصادر السابقة وصفحاتها.

4 انظر: المصادر السابقة، وانظر أيضاً من كتب الشافعيّة: مغني المحتاج (3/157) ، والتكملة الثانية للمجموع (16/163) .

ص: 150

الرّاجح:

والذي يظهر لي: هو رجحان القول الأوّل، فإنَّه متى أمكن تزويج المرأة من قبل وليّها الحاضر فلا موجب لتجاوزه إلى الحاكم، للحديث السابق الذي هو صريح في أنّ "السلطان وليّ من لا وليّ له"، وهذه لها وليّ، إلاّ أنَّه إن خيفت الفتنة بين الأولياء بسبب ما يخشى من دعوى تعدّي الحاضر على حقّ الغائب في الولاية، فإنّ الأمر يرفع للحاكم؛ لتمكين الوليّ الحاضر من التزويج، قطعاً للنزاع بين الأولياء. والله أعلم.

وأمّا هل تبقى ولاية الوليّ أثناء غيبته كما يقوله الشافعيّة1؟ أو تزول بالغيبة كما يقوله غيرهم2، وهو الصحيح عند الحنفيّة؟.

فالظاهر هو بقاء ولاية الوليّ الغائب؛ بدليل صحّة توكيله أو تزويجه لها، إلاّ أنّ عدم الانتفاع بتلك الولاية، بل والضرر من تحرّيها، صيّرها منزلة العدم. والله أعلم.

"حدُّ الغَيْبَة"

وأمَّا حدّ الغيبة التي يجوز للوليّ الأبعد أو السلطان تزويج المرأة في مثلها: فقد اختلف فيها الجمهور القائلون بصحّة تزويج المرأة في غيبة وليّها الأقرب على أقاويل كثيرة في كلّ مذهب من المذاهب الأربعة؛

1 انظر المصادر السابقة للشافعية.

2 انظر: بدائع الصنائع (3/1372) ، والمبدع لابن مفلح (7/37) .

ص: 151

وذلك شأن المسائل الفقهية الخاضعة للنظر والاجتهاد؛ إذ ليس في هذه الغيبة ولا في تحديدها نصّ من كتابٍ أو سنَّة، وإنّما هي مسألة اجتهادية، وإليك ما قيل في كلّ مذهب:

أولاً: مذهب الحنفيّة: يتفق الحنفيّة على أنّ الغيبة التى يجوز

لغير الوليّ الأقرب تزويج المرأة فيها على أنَّها الغيبة المنقطعة، وإنّما يختلفون: متى تكون الغيبة منقطعة؟ على أقوال كثيرة منها:

1 أن يكون الوليّ في بلد لا تصل إليه القوافل في السَّنة إلاّ مرة واحدة1.

2 أنّها أدنى مدّة السفر؛ لأنَّه لا نهاية لأقصاه، وهو اختيار بعض المتأخرين2.

3 أنّها الغيبة التي يفوت الكفء لو انتظر استطلاع رأي الوليّ الأقرب3.

4 وقيل: من جابلقا إلى جابلتا، قالوا: وهما قريتان إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب. وهذه رواية عن أبي يوسف، وقد قيل فيها: إنّ هذا دليل على رجوعه إلى قول زفر: أي أنّ المرأة لا تزوّج في غيبة وليّها، وإنّما ذكر هذا على طريق ضرب المثل4.

1 انظر: الهداية وفتح القدير (3/290) .

2 نفس المصدر، والمبسوط (4/221) .

3 نفس المصدر، والمبسوط (4/222) ، وبدائع الصنائع (3/1374) .

4 انظر: الهداية وفتح القدير (3/290) ، والمبسوط (4/222) .

ص: 152

5 وقيل: من بغداد إلى الرّيّ. وهي رواية عن أبي يوسف

ومحمد1.

6 وقيل: مسيرة شهر فصاعداً. وهى رواية عن أبي يوسف.

7 وقيل: من الكوفة إلى الرّيّ. وهي رواية عن محمد2.

8 وقيل: من الرِّقة إلى البصرة. وهي رواية عن محمد3.

9 وقيل: إذا كان جوّالاً من موضع إلى موضع، فلا يوقف له على أثر، أو مفقوداً لا يعرف له خبر، وهذا قول بعض المشايخ4.

10 وقيل: إذا كان في موضع يقع الكراء إليه دفعة واحدة فليست منقطعة، أو بدفعات فهي منقطعة5.

ثانياً: مذهب المالكية: إنّ الوليّ الغائب عند المالكيّة لا يخلو من أحد أمرين، فهو:

إمّا أن يكون وليّاً غير مجبر. فحدّها مسافة ثلاثة أيّام6.

1 انظر: المبسوط (4/222) ، وفتح القدير (3/290) ، وبدائع الصنائع (3/1374) .

2 نفس المصادر السابقة وصفحاتها.

3 نفس المصادر السابقة وصفحاتها.

4 نفس المصادر السابقة وصفحاتها.

5 نفس المصادر السابقة وصفحاتها.

6 نفس المصادر السابقة وصفحاتها.

6 انظر: الخرشي والعدوي (3/187) ، والشرح الكبير (2/ 230) ، والحطاب والمواق (3/435) .

ص: 153

وأمّا إذا كان الوليّ مجبراً كالأب في ابنته البكر فلا تزوّج إلاّ إذا كانت غيبته بعيدة، ومثّلوا لها بإفريقيا: - يعني القيروان - واختلفوا في بدايتها، فقيل: أي من المدينة إلى إفريقيا؛ لأنّ مالكاً لمّا قرّرهاكان بالمدينة.

وقيل: بل من مصر؛ لأنّ ابن القاسم لمّا سئل عنها فأجاب كان بمصر.

ثمّ اختلفوا هل من شرطها الاستيطان أولا؟

فقد قيل لابن القاسم: "أرأيت إن خرج تاجراً إلى افريقيا، أو إلى نحوها من البلدان وخلّف بنات أبكاراً فأردن النِّكاح، ورفعن ذلك إلى السلطان، أينظر في ذلك السلطان أم لا؟

قال: إنَّما سمعت مالكاً يقول في الذي يغيب غيبة منقطعة، فأمّا من خرج تاجراً وليس يريد المقام بتلك البلاد فلا يهجم السلطان على ابنته فيزوّجها، وليس لأحدٍ من الأولياء تزويجها. قال: وهو رأيي؛ لأنّ مالكاً لم يوسّع في أنّه تزوّج ابنة الرجل إلَاّ أنّ يغيب غيبة منقطعة"1 اه.

ولقد أطال الحطَّاب في شرح (المختصر) في هذه المسألة، وأكثر من إيراد النقول المتضاربة ثمّ قال: "علم من كلام المدوّنة، وكلام ابن رشد أنّ هذا الخلاف إنّما هو إذا كانت غيبة الأب عن ابنته غيبة انقطاع، بمعنى: أنّه طالت إقامته بحيث لا يرتجى قدومه بسرعة غالباً، وأمّا من خرج

1 المدوَّنة (2/144) .

ص: 154

لحاجة، أو تجارة، ونيته العودة، ولم تطل إقامته، فلا تزوّج ابنته"1 اه.

ثالثاً: مذهب الشافعية: وأمّا مذهب الشافعيّة فحدّ الغيبة عندهم مسافة القصر2، وأمّا ما دونه ففيه قولان في المذهب، أصحّهما: أنَّها لا تزوّج إلاّ بإذنه، وقيل: بل تزوّج لئلَاّ تتضرَّر بفوات الكفء الراغب3.

رابعًا: مذهب الحنابلة: وأمّا مذهب الحنابلة فهو أشبه بمذهب الحنفية في هذه المسألة؛ إذ يتَّفق معه على أن المعتبرفي الغيبة إنّما هي الغيبة المنقطعة ويختلفون في حدّها على أقوال هي:

1-

قول الخرقي: أنّه من لا يصل إليه الكتاب أو يصل إليه فلا يجيب عنه.

وإلى هذا أشار الإمام أحمد في رواية الأثرم؛ وهذا لتعذر مراجعته بالكلّية فيلحق الضرر بانتظاره.

1شرح الحطاب مع المواق (3/436)، وانظر: الخرشي والعدوي (3/186) ، والشرح الكبير (2/229) .

2 وهي إلى مرحلتين، كما في المنهاج للنووي (3/157) .

3 انظر للشافعيّة: المنهاج ومغني المحتاج (3/157) ، وتحفة المحتاج (7/259) ، ونهاية المحتاج (6/241) ، وروضة الطالبين (7/68-69) ، والتكملة الثانية للمجموع (16/163-164.

ص: 155

2-

قول القاضي: من لا تتردد إليه القوافل في السنة إلاّ مرة؛ لأنّ الكفء ينتظر سنة، ولا ينتظر أكثر، فيلحق الضرر بترك تزويجها.

3-

أنّها المسافة التي تقصر فيها الصلاة؛ فقد روى عن الإمام أحمد أنّه قال: إذا كان الأب بعيد السفر يزوج الأخ، قال ابن قدامة: فيحتمل أنّه أراد بالسفر البعيد ما تقصر فيه الصلاة؛ لأنّ ذلك هو السفر الذي علقت عليه الأحكام "1.

4-

أنّه ما لا يقطع إلاّ بكلفة ومشقة. قال ابن قدامة: "وهذا أقربها - إن شاء الله تعالى - للصَّواب، فإنَّ التحديدات بابها التوقيف؛ ولا توقيف في هذه المسألة فتردُّ إلى ما يتعارف عليه الناس بينهم مما لم تجر العادة بالانتظار فيه، ويلحق المرأة الضرر بمنعها من التزويج في مثله2. وقال صاحب الإنصاف: "وهذا هو المذهب "3.

5-

وقيل: ما تستضرّ به الزوجة. قال صاحب الإنصاف: "وهو الصَّواب "4.

1 المغني (7/370) .

2 نفس المصدر (7/371) .

3 الإنصاف (8/76) .

4 الإنصاف (8/77)، وانظر في كل الأقوال السابقة للحنابلة ما يلي: المغني (7/370-371) ، والإنصاف (8/76-77) ، والمبدع (7/37) ، وكشاف القناع (5/55) .

ص: 156

6-

وقيل: ما يفوت به كفء راغب. وقال صاحب الإنصاف: "وهو قويّ "1.

ومن هذا العرض لمذاهب الفقهاء في تحديد الغيبة التي يجوز في مثلها لغير الوليّ الأقرب تزويج المرأة فيها، يمكن حصرها في قولين:

الأول: أنّها الغيبة المنقطعة دون غيرها، وإن اختلفوا في تحديدها.

وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة والصحيح من مذهب المالكية في غيبة الأب عن ابنته البكركما تقدّم.

والثَّاني: أنّها الغيبة التي تقصر في مثلها الصلاة. وهذا مذهب الشافعية، وفيما دون ذلك عندهم خلاف، الصحيح عدم اعتباره.

ونحو مذهب الشافعية هذا مذهب المالكية في غيبة الوليّ غير المجبر لتحديدهم غيبته بثلاثة أيام، وقد تقدّم في مذهب الحنابلة رواية عن الإمام أحمد تحتمل هذا.

والذي يظهر لي مما تقدّم: أنَّ الصَّواب هو اعتبار الغيبة المنقطعة دون غيرها، فإنَّ التحديد بابه التوقيف؛ ولا توقيف في هذه المسألة، كما تقدّم عن ابن قدامة رحمه الله.

ومتى أمكن تزويج المرأة عن طريق وليِّها الأقرب لم يعدل عنه إلى غيره لمجرّد غيبته، سواء كان الغائب أبًا أم غيره؛ فإنَّ الغيبة ليست مقصودة لذاتها، بل لأنّها مظنّة الإضرار بالمرأة، والضرورة تقدّر بقدرها، وأمّا لغير

1 الإنصاف (8/77) ، وبقيَّة المصادر السابقة.

ص: 157

ضرورة فلا تستباح أعراض النِّساء بغير عقود الأولياء؛ إذ لو وسّع الأمر في ذلك لفتح باب الفوضى والفساد، والاستهانة بالأعراض، ولما أمن مسافر إلى حجٍّ أو عمرة، أو طلب علم، أو تجارة أو نحو ذلك على حقِّه في ولايته على بناته، وأخواته، ونحوهنّ، وما أظنُّ أحدًا يسرُّه أن تستغلَّ غيبته للإقدام على تزويج محارمه، سواء زوّجهن الأباعد من الأولياء أم الحكَّام.

وأمّا معرفة حدّ الغيبة المنقطعة من غيرها فهذه مردّها إلى أعراف النَّاس، كما قاله ابن قدامة رحمه الله، ولا تقدّر بالأيام، ولا بطول المسافة؛ إذ التقديرات بابها التوقيف؛ ولا توقيف في هذه المسألة، وأعراف النَّاس تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وفي زماننا هذا من وسائل الاتصال الميسّرة ما لم يسبق له مثيل، مما يوفِّر كثيرًا من الجهد، ويذلِّل كثيرًا من الصِّعاب التي كانت في الماضي يحسب حسابها. والله أعلم.

ص: 158

تتمَّة:

يلحق بالغيبة المنقطعة البعيدة، الغيبة القريبة متى تعذَّر الوصول إلى صاحبها، وتضررت المرأة بانتظاره، كأن يكون سجينًا أو أسيرًا في مكان قريب، لا يمكن مراجعته ولا يعرف متى خروجه، لأنَّ طول الغيبة ليس مقصودا لذاته؛ وإنّما لتعذُّر الوصول إلى التزويج عن طريق الوليّ الأقرب1. والله تعالى أعلم.

1 انظر في هذه المسألة: المغني لابن قدامة (7/371) ، ومغني المحتاج (3/157) ، وفتح القدير لابن الهمام (3/290) .

ص: 159