الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: اشتراط الإسلام فى وليّ النِّكاح
أوّلاً: اشتراطه فى وليّ المسلمة:
الإسلام يعلو ولا يُعْلى عليه، به أعزّ الله عباده، وبه قطع الموالاة بين أوليائه المؤمنين وأعدائه الكافرين؛ فلا ولاية لكافر على مسلم بإجماع أهل العلم، كما حكاه ابن المنذر وغيره1.
وهذا هو المعتمد في المذاهب الأربعة مما أمكن الوقوف عليه2.
1 انظر الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر (4/40) . والمغني (7/356، 363) ، والمحلى (9/473) ، والبحر الزخار (4/53) .
2 انظر المصادر التالية في اشتراط إسلام ولي المسلمة إضافة إلى المصادر السابقة:
للحنفية: المبسوط (4/223) . وبدائع الصنائع (3/1347/1348) . والهداية وفتح القدير والعناية (3/285) . وتبيين الحقائق وحاشيته (2/125) . والبحر الرائق (3/132) . والدر المختار وحاشية ابن عابدين (3/77) .
وللمالكية: المدونة (2/150) وبداية المجتهد (2/9) وقوانين الأحكام لابن جزي (224) . والخرشي والعدوي (3/188) والشرح والدسوقي (2/231) . والحطاب والموّاق (3/438) .
وللشافعية: الأم (5/15) روضة الطالبين (7/66) مغنى المحتاج (3/156) وتحفة المحتاج (7/256) . وللحنابلة: الإنصاف (8/78-79) والمبدع (7/38) . وكشاف القناع (5/53) وشرح منتهى الإرادات (3/18) .
وحكى بعض الحنابلة وجهًا في المذهب لصحّة ولاية الكافر على ابنته المسلمة، وهل يباشر تزويجها بنفسه على هذا الوجه؟ أو يعقده مسلم بإذنه؟ أو يعقده الحاكم بإذنه؟ أو جه على هذا الوجه، أصحها الأوّل1. إلاّ أن المعتمد الذي عليه المذهب أنَّه لا ولاية لكافر على مسلمة، سواء أكان أبًا أم غيره، وهو المنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله2. وهذا هو الصحيح لما تقدَّم من حكاية الإجماع المستند لعموم الكتاب والسنة ومن ذلك:
أ- من القرآن الكريم ما يلى:
أوّلاً: قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} 3.
وولاية الكافر على المسلمة نوع من هذا السبيل المنفي شرعاً.
ثانيًا: قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 4.
ثالثًا: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 5.
1 انظر: الإنصاف (8/79) . والمبدع (7/38) .
2 انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/410-412) .
3 سورة النساء آية رقم: (141) .
4 سورة التوبة آية رقم: (71) .
5 سورة الأنفال آية رقم (73) .
ففي هاتين الآيتين الكريمتين قد قسم الله تعالى الناس إلى قسمين، مؤمن وكافر؛ فجعل المؤمنين بعضهم لبعض أولياء، والكافرين بعضهم لبعض أولياء، ومفهوم ذلك أنَّ لا ولاية بين مؤمن وكافر. والله أعلم. رابعًا: قوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} 1. وهذه الآية وإن كانت ليست في الكافرين، بل هي في المؤمنين؛ لبيان الموالاة بين من أسلم ولم يهاجر، ومن هم في دار الإسلام، إلا أنَّ بعض العلماء - كمالك رحمه الله قد استدلَّ بها على منع الموالاة بين المؤمنين والكافرين من باب أولى2 والله أعلم.
ب- وأمَّا من السنَّة فمنها:
أوّلاً: زواج النبي صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة، ابنة أبي سفيان من غير ولاية أبيها"3.
قال الشافعي رحمه الله: ولا يكون الكافر وليًّا لمسلمة وإن كانت بنته، قد زوّج ابن سعيد4 بن العاص النبيّ صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة، وأبو سفيان حيّ؛
1 سورة الأنفال آية رقم (72) .
2 انظر: المدونة (2/150) ، والمنتقى للباجي (3/272) ، ومنح الجليل على مختصر خليل (2/25) ، والمبسوط للسرخسي (4/223) .
3 تقدم تخريجه (ص 168-169) .
4 هو ابن ابن عم أبيها: خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، كما تقدم (ص169) . وهذا لا يتعارض مع ما تقدم من أنّ الذي زوجها النجاشي بولاية السلطنة وهو مسلم حينذاك، أو أنّ الذي زوجها ابن ابن عم أبيها الآحر عثمان بن عفان رضي الله عنه، فكلّها دليل على أنه لم يكن لأبيها عليها ولاية حينذاك. وأما ما قيل من أنَّ الذي زوجها أبوها (أبوسفيان بن حرب) فهذا بعيد جداً. والله أعلم (انظر سنن البيهقي (7/139-140) ، وتهذيب السنن لابن القيم (مع معالم السن 3/32-
34) .
لأنَّها كانت مسلمة وابن سعيد مسلم، لا أعلم مسلمًا أقرب بها منه، ولم يكن لأبي سفيان فيها ولاية؛ لأنَّ الله تبارك وتعالى قطع الموالاة بين المسلمين والمشركين والمواريث والعقل وغير ذلك" اهـ1.
ثانياً: حديث "الإسلام يعلو ولا يُعْلى":
والولاية في النكاح فيها استعلاء على الموْلِيِّ عليه، فلا ينبغي أن تكون لكافر على مسلم. والله أعلم.
وهذا الحديث قد رواه الدارقطني والبيهقي وغيرهم مرفوعًا عن عائذ ابن عمرو المزني رضي الله عنه2.
ورواه البخاري في صحيحه تعليقًا موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنه3.
ووصله الطحاوي بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنه في اليهوديَّة والنصرانيَّة تكون تحت النصرانيِّ أو اليهوديِّ، فتُسلم هي، قال: "يفرق
1 الأم للشافعي (5/15) .
2 الدارقطني (3/252مع التعليق المغني) . نكاح. والبيهقي (5/205) اللقطة. باب ذكر من صار مسلمًا بإسلام أبوية أو أحدهما من أولاد الصحابة رضي الله عنهم.
3 البخاري (3/218 فتح الباري) ، الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يصلَّى عليه..) .
بينهما، الإسلام يَعْلُو ولا يُعْلى عليه"1. وساقه من طريق آخر ولكن بدون لفظ "الإسلام يَعْلُو ولا يُعْلى عليه"2.
وهو صحيح موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما، وحسن مرفوعاً بمجموع طرقه التي يشدّ بعضها بعصًا.
قال الألباني في إرواء الغليل: "حديث الإسلام يَعْلُو ولا يُعْلَى" حسن. روي من حديث عائذ بن عمرو المزني، وعمر بن الخطاب، ومعاذ ابن جبل مرفوعاً، وعبد الله بن عباس مرفوعاً3.
ثم فصّل القول في هذه الطرق كلّها، وقال في آخر البحث:
وجملة القول: "أنَّ الحديث حسن مرفوعاً بمجموع طريقي عائذ ومعاذ، وصحيح موقوفاً"4
1 شرح معاني الآثار للطحاوي (3/257-258) السير. باب الحربية تسلم في دار الحرب، فتخرج إلى دار الإسلام، ثم يخرج زوجها بعد ذلك مسلمًا، وعزا الحافظ تخريجه إلى ابن حزم (3/220الفتح) .
2 نفس المصادر السابقة.
3 إرواء الغليل (5/106) . إلا أنه لم يذكر طريق رفعه عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولم أر من خرجه عنه مرفوعاً فلعلّه سبق قلم. وأن صوابه (وعبد الله بن عباس موقوفاً) كما يدلّ عليه كلامه الآتي والمنقول نصّا من آخر بحثه في تخريج هذا الحديث.
4 انظر: إرواء الغليل (5/106-109) ، ونصب الراية (3/213) ، والدراية لابن حجر (2/66) ، وفتح الباري (3/220) .
ج- وأمَّا من الآثار.
فقد ذكر ابن قدامة في المغني عن الإمام أحمد رحمه الله أنَّه قال: "بلغنا أنَّ عليًّا رضي الله عنه أجاز نكاح الأخ، وردّ نكاح الأب وكان نصرانيًّا1.
د- وأمَّا من المعقول.
فولاية الكافر على المسلمة ممنوعة قياساً على منع التوارث بينهما2.
لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر" متفق عليه3.
وأيضًا ففي ولاية الكافر على المسلم إذلال للمسلم، مع عدم النظر له غالبًا؛ لما بينهما من العداوة في الدِّين، ولهذا صينت المسلمة عن نكاح الكافر إجماعاً. والله المستعان.
إذا كانت الأمة مسلمة وسيِّدها كافر فهل يزوِّجها؟
وكذلك إذا أسلمت الأمة وبقي سيِّدها كافرًا فلا يلي نكاحها كالحرَّة، إلا أن تكون أمَّ ولده في أحد الوجهين للحنابلة،4 وهو وجه
1 المغني والشرح الكبير (7/356 والشرح 425) .
2 انظر: الهداية وفتح القدير (3/285) والمبسوط (4/223) وبدائع الصنائع
(3/1348) .
3 انظر تمام تخريجه في إرواء الغليل (6/120، 155) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
4 انظر: المغني (7/363) والإنصاف (8/78) . والمبدع (7/38) ، وكشاف القناع (5/55) .
أيضاً في مذهب الشافعية1؛ لأنَّها مملوكته فيلي نكاحها كالمسلم في تزويج أمته الكافرة2.
وقد قرّر صاحب (الإنصاف) من الحنابلة: أنَّ هذا الوجه هو المذهب3.
فعلى هذا هل يباشر تزويجها بنفسه؟ أو يباشره بإذنه مسلم؟ أو الحاكم؟ أوجه4.
وأمَّا على الوجه الأول، وهو: أنَّه لا ولاية له عليها فيزوِّجها الحاكم، واختاره ابن قدامة في المغني5؛ لما سبق من حكاية الإجماع على أنَّه لا ولاية لكافر على مسلم. والله أعلم.
وبحث هذه المسألة- أعني تزويج الكافر أَمَتَه المسلمة- بحث قليل الجدوى؛ إذ مبناه على أنَّ الكافر هل يثبت له ملك شرعيّ على مسلم عبد أو أمة؟ وعلى القول بثبوته فهو ملك غير مستقرٍّ؛ لإجبار الكافر على إزالة ملكه عنهما بنحو بيع أو كتابة6. والله أعلم.
1 انظر: روضة الطالبين (7/67) وتكملة المجموع الثانية (16/161) .
2 انظر: المغني والشرح الكبير (7/363 والشرح 432-433) .
3 الإنصاف (8/78) . وانظر أيضًا المبدع (7/38) وكشاف القناع (5/55) .
4 انظر المبدع (7/38) .
5 انظر المغني (7/363) .
6 المحلى لابن حزم (9/208، 449-450) المنهاج ومغني المحتاج (2/8) و (4/512) والبحر الزخار (4/54) .
ثانياً: الولاية على الكافرة في النِّكاح.
إنّ المقصود في هذا المبحث هو الولاية على المسلمة دون الكافرة إلا أنَّه اشتهر عند الفقهاء في هذا المبحث ذكر من الذي يزوج الكافرة؟ وذلك بناء على أنَّ الشرط هنا هل هو الإسلام في وليِّ المسلمة؟ أو اتحاد الدِّين مطلقًا؟ ولهذا أردت التنبيه إلى تلك المسائل استكمالاً لهذا المبحث وهي:
المسألة الأولى: ولاية المسلم على الكافرة.
والمسألة الثَّانية: ولاية الكافر على الكافرة.
والمسألة الثَِّالثة: إذا كان خاطِب الذميّة مسلمًا فهل يزوّجه إيّاها وليّها الذميّ؟
فأمَّا المسألة الأولى: وهي ولاية المسلم على الكافرة، فإنَّ المسلم لا يكون وليّا لكافرة، كما لا يكون الكافر وليًّا لمسلمة إلاّ في الحالات التَّالية:
الحالة الأولى: أن يكون المسلم سلطانًا ولا وليَّ لها فيكون هو
وليّها؛ لعموم ولايته على من هم في دار الإسلام من المسلمين وغيرهم1.
ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "السلطان وليّ من لا وليّ له"،2 ولم أر خلافاً في استثناء هذه الحالة.
الحالة الثَّانية: أن يكون المسلم سيِّدَ أمة أو وليَّ سيِّدتِها، فيزوِّجها لكافر، لأنَّها لا تحلُّ للمسلمين.
وذلك لأنّ هذه ولاية مال بناء على الصحيح من قولي الفقهاء في تزويج العبيد والإماء؛ أهو بالملك أم بالولاية؟ والصحيح أنَّه بالملك، ولأنَّها تحتاج إلى التزويج ولا وليَّ لها غير سيّدها3.
1 انظر المغني (7/364) ، وكشاف القناع (5/56) ، والأم للشافعي (5/15) ، وروضة الطالبين (7/67) ، ومغني المحتاج (3/173،256) ، وفتح القدير لابن الهمام (3/285) والدر المختار وحاشية ابن عابدين (3/77-78) وتبيين الحقائق (2/126) .
2 تقدم تخريجه (1/112) وانظر إرواء الغليل (6/247) .
3 انظر في استثناء هذه الصورة المصادر التالية:
للحنفية: نفس المصادر السابقة في تزويج السلطان للأمة الكافرة.
وللمالكية: الخرشي والعدوي (3/188) والشرح الكبير والدسوقي (2/531) والموّاق مع الحطاب (3/438) ومنح الجليل (2/25) ، والمنتقى شرح الموطأ للباجي (3/272) .
وللشافعية: الأم (5/15) وروضة الطالبين (7/67) ومغني المحتاج (3/156، 173) وتكملة المجموع الثانية (16/161) .
وللحنابلة: المغني (7/363-364) والمبدع (7/38) وكشاف القناع (5/55-
56) .
قال ابن هبيرة: اتفقوا على أنَّ السيِّد المسلم يملك تزويج أمته الكافرة، إلاّ الشافعي في أحد قوليه أنَّه لا يملك ذلك. اهـ1.
الحالة الثَّالثة: أن تكون الكافرة عتيقة لمسلم من غير نساء الرجال الذين يؤدّون الجزية، وذلك بأن يعتقها وهو مسلم في دار الإسلام، أمّا لو أعتقها كافراً ثم أسلم فلا يزوِّجها إلاّ أهل الكفر إلا أن تسلم، وكذلك لو أعتقها ببلاد الحرب فليس له تزويجها2.
وهذه الحالة مستثناة للمالكية، ولم يظهر لي وجه استثنائها على هذا الوجه. والله أعلم.
الحالة الرَّابعة: ما حكى عن ابن وهب من المالكية أن "للمسلم أنَّ يعقد نكاح ابنته النصرانية لمسلم، وإن كان لنصرانيّ فلا يليها أبوها"3. وتوجيه ذلك كما في المنتقى للباجي: أنّ عقد المسلم على النصرانيَّة غير
1 الإفصاح لابن هبيرة (2/117) . ولعل القول المستثنى للشافعي هنا هو المبنى على أن تزويج الأمة بالولاية لا بالملك. والله أعلم.
2انظر نفس المصادر السابقة للمالكية فيما اذا كان سيد الأمة الكافرة مسلماً.
3 انظر المنتقى شرح الموطأ للباجي (3/272) .
مفسد للنكاح، كالسيّد المسلم يزوّج أمته النصرانية من مسلم أو نصرانيِّ1.
وقد منع ابن حزم صحَّة استثناء هذه الصورة، وردّها بما سبق من الآيات الدالّة على قطع الولاية بين المسلم والكافر، ثم قال:"وهو قول من حفظنا قوله إلا ابن وهب صاحب مالك قال: إنَّ المسلم يكون وليًّا لابنته الكافرة في إنكاحها من المسلم أو من الكافر، وهذا خطأ لما ذكرنا، وبالله التوفيق"2.
1 نفس المصدر السابق.
2 المحلى لابن حزم (9/473) . ويلاحظ أنه قد أطلق القول عن ابن وهب أنّ للمسلم أن يزوج ابنته من مسلم وكافر. وهذا بخلاف ما في المنتقى للباجي من أنه يزوجها لمسلم دون النصراني. والله أعلم.
تنبيه: ذهب المالكية إلى أنّ المسلم إذا أقدم على تزويج حرّة كافرة لكافر ترك وشأنه، ولو كان المسلم أجنبيًّا منها، وذلك لعدم التعرض لهم في الزِّنى إن لم يعلنوه، فأحرى عدم التعرض لهم في النكاح ويكون المسلم- حينئذ- قد ظلم نفسه باعانته لهم على نكاح فاسد.
وأمَّا إن عقده لمسلم- وهذا يتصوّر إذا كانت المرأة كتابية- فيفسخ النكاح أبدًا خلافاً لأصبغ. وهذا ما لم تكن عتيقته الكتابية (كما تقدم في الحالة الثالثة) . وهذا التفصيل من الفسخ، أو عدمه لا يتنافى مع عدم ولايته عليها، إذ الفسخ شيء ونفي الولاية شيء آخر كما قاله الخرشي (3/188) وانظر أيضًا: الشرح الكبير
(3/231) وشرح الزرقاني على مختصر خليل (3/183) . ومنح الجليل (2/25) .
المسألة الثَّانية: ولاية الكافر على الكافرة.
وأمّا ولاية الكافر على الكافرة: فهذا لا يخلو من أن يكون الكافر أصليًّا أو مرتدًّا، فإن كان مرتدًّا، فلا ولاية له على أحد، ولو على مرتدّة مثله1؛ لأنَّه محكوم عليه بالقتل.
وأمَّا إن كان أصليًّا: فله الولاية على قريبته الكافرة، وهي كلُّ من يربطه بها سبب من أسباب الولاية المعروفة في نكاح المسلمين من نسب، أو ولاء، أو سلطان، أو نحوها.
وذلك لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 2.
وهذا إن اتّحد دينهما كاليهوديين، أو النصرانيين، أو المجوسيين فلا خلاف فيه؛ لاتحاد معتقدهما.
وأمَّا إن اختلف دينهما كاليهوديِّ مع قريبته النصرانيَّة فظاهر صنيع الفقهاء عدم التفصيل في مبحث ولاية النكاح، ولكن الظاهر أنَّه يجري في باب الولاية في النكاح ما قالوه في باب الميراث من اختلاف الملل أو اتّحادها، وهو بحث يطول بيانه وتحقيقه، فليراجع في محلّه3.
1 انظر: بدائع الصنائع (3/1347) . وروضة الطالبين (7/67) ومغنى المحتاج
(3/156) .
2 سورة الأنفال آية رقم (73) .
3 انظر بحث توريث أهل الملل عند الفقهاء في المصادر التالية:
للحنفية: تبيين الحقائق (6/240) والبحر الرائق (8/571) .
وللمالكية: منح الجليل (4/755) والخرشي والعدوي (8/223) . والزرقاني على البناني (8/228) .
وللشافعية: المنهاج ومغنى المحتاة (3/25) وتحفة المحتاج (5/416) ونهاية المحتاج
(6/28) وروضة الطالبين (7/66) .
وللحنابلة: الإفصاح لابن هبيرة (2/91 والفتاوى لابن تيمية (32/35-37) والإنصاف للمرداوي (7/350) وكذلك (8/ 80 كتاب النكاح منه) .
المسألة الثالثَّة: إذا كان خاطب الذمّية مسلماً فهل ينكحه إيّاها وليّها الذمّي؟
مذهب الجمهور: - ومنهم الأئمة الثلاثة - نعم1، وهو أيضًا أحد الوجهين للحنابلة، قال المرداوي في (الإنصاف) : وهو المذهب2.
والوجه الثَّاني للحنابلة: لا يزوّجه إيّاها إلا الحاكم المسلم، وهو المنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله فقد روى حنبل3 عنه أنَّه قال:"لا يعقد يهوديّ ولا نصرانيّ عقد نكاح لمسلم ولا لمسلمة"4.
1 انظر: لهم جميعًا: الإفصاح لابن هبيرة (2/116) . والمغني والشرح الكبير (7/364والشرح 433) وانظر للمالكية: الخرشي (3/188)، والشرح الكبير مع الدسوقي (2/231) وللشافعية: مغنى المحتاج (3/156) وروضة الطالبين (7/66) .
2 الإنصاف (8/80) وانظر أيضًا المبدع (7/39) وكشاف القناع (5/55) .
3 هو حنبل بن إسحاق بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني. ابن عم الإمام أحمد وتلميذه. وهو حافظ محدث مؤرّخ. انظر ترجمته في معجم المؤلفين (4/86) والأعلام (2/321-322) وطبقات الحنابلة (1/143-145) .
4 انظر المغني (7/364) وأحكام أهل الذمة لابن القيم (2/412) .
وقال صاحب الإنصاف: ينبغي أن يكون هذا المذهب للنصّ عن الإمام1.
ودليل الجمهور على عدم التفريق بين كون زوج الكتابية مسلمًا أو كافرًا هو عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 2 ونحوها من الأدلّة على أنَّ الكفَّار بعضهم لبعض أولياء، فصحّ تزويجه لها من مسلم، كما لو زوّجها كافراً، ولأنَّها امرأة لها وليٌّ مناسب فلم يجز أن يليها غيره كما لو تزوّجها ذميّ3.
وأمَّا وجه ما روى عن الإمام أحمد رحمه الله من المنع فقال ابن قدامة في توجيهه: "ووجهه أنَّه عقد يفتقر إلى شهادة مسلمين، فلم يصحّ بولاية كافر كنكاح المسلمين"4.
ثم عقّب عليه بقوله: "والأول أصحُّ (أي: تزويج الكافر لها من مسلم) - والشهود يرادان لإثبات النكاح عند الحاكم، بخلاف الولاية"اهـ5.
1 الإنصاف (8/80) .
2 سورة الأنفال آية رقم (73) .
3 انظر المغني والشرح الكبير (7/364 والشرح 433) . وأحكام أهل الذمة لابن القيم (2/413) .
4 المغني (7/364) وانظر أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/412) .
5 المغني (7/364) وانظر أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/412) .
وقيل أيضًا: لأنّ فيه صغارًا على المسلم1.
ولكن في هذا نظر؛ فإنَّ النِّكاح مبناه على المكارمة، ورضى المرأة الكتابية ووليّها بتزويج المسلم فيه إكرام له لا إهانة، وقد أحلَّ الله لنا نكاح نسائهم، ولم يفصِّل، بل قد بيّن سبحانه وتعالى في مواضع من كتابه أنَّ الكفار بعضهم لبعض أولياء، وكذلك جاءت به السنة، كما أنَّ الزَّوج دائمًا في مقام السيّد لا المسود، بخلاف المرأة؛ بدليل الحديث "فإنَّما هنَّ عوان عندكم" 2 والعاني هو الأسير، وعقد وليّها لها من مسلم إقرار لهذه السِّيادة.
ولهذا- والله أعلم- أحلَّ الله لنا نكاح نسائهم، ولم يُحِلَّ لهم نكاح نسائنا، وبهذا يتبيّن أنَّ عقد الذميّ على مَوْلِيَّته الذمّية لمسلم لا صَغَارَ فيه على المسلم. والله أعلم.
وإنَّما الأولى ألاّ يتزوَّج مسلم كتابية مطلقًا، لا بولاية وليِّها، ولا غيره؛ لسلامة دينه وذرّيته؛ فإنَّه بالزَّواج تتآلف القلوب؛ فربّما جارى زوجته وأهل دينها فيما يضرُّ بدينه، وربَّما نشَّأت أولادهما على دينها، فيفقد الزَّوج أعظم وأجلَّ مقاصد النِّكاح وهي الذرّية الصالحة. والله أعلم.
1 انظر المبدع لابن مفلح (7/39) .
2 عوان: جمع عانية، والعاني الأسير، والحديث أخرجه أصحاب السنن، انظر نيل الأوطار (6/237) من حديث عمرو بن الأحوص.