الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرّابع: إجبار الأرقّاء على النّكاح
لقد تقدَّم أنَّ الولاية في النّكاح علي الأرقاء ثابتة عليهم لمالكيهم إجماعًا.
ولكن هل للمالكين إجبار أرقّائهم على النِّكاح بدون رضاهم؟
إليك تفصيل ذلك:
أمّا الأمة: ففي إجبارها قولان:
الأوّل: صحَّة إجبارها على النكاح مطلقاً. وهذا مذهب جمهور العلماء من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرها1.
الثَّاني: عدم إجبارها. وهو مذهب ابن حزم الظاهري2، ورواية
1 انظر للحنفية: المبسوط (5/133) ، الهداية وفتح القدير والعناية (3/397) ، بدائع الصنائع (3/1344-1345) ، الكنز وتبيين الحقائق (2/164) ، والبحر الرائق (3/212) .
وللمالكية: الخرشي (3/174) ، الشرح الكبير (2/212) ، الحطّاب والموّاق (3/424) ، الزرقاني مع حاشية البناني (3/170) ، منح الجليل (2/12) ، بلغة السالك
(1/354) ، تفسير القرطبي (12/240) .
وللشافعية: المنهاج ومغني المحتاج (3/172) ، وتحفة المحتاج (7/194) ، ونهاية المحتاج (6/269) ، وروضة الطالبين (7/103) .
وللحنابلة: المغني والشرح الكبير (7/399والشرح 391) ، والإنصاف (8/59- 60) .
2 انظر: المحلى (9/469) .
عن الإمام أحمد في الأمة العاقلة الكبيرة1.
وأمّا إن كان المملوك عبدًا، فإمّا أن يكون كبيرًا، أو صغيرًا، عاقلاً أو مجنونًا.
فأمّا إن كان صغيرًا أو مجنوناً ففي إجباره قولان للعلماء أيضًا:
الأوّل: إجباره مطلقًا. وهو مذهب الجمهور2.
الثَّاني: عدم إجباره. وهو مذهب ابن حزم الظاهري، وقول لبعض الحنابلة في الصغير العاقل المميّز3.
وأمّا إن كان العبد كبيرًا عاقلاً ففي إجباره قولان مشهوران للفقهاء أيضًا:
أوّلهما: إجباره مطلقًا. وهو مذهب الحنفية والمالكية، ووجه للشافعية وقول للحنابلة4.
ثانيهما: عدم إجباره مطلقًا. وهو أصحّ الوجهين عند الشافعية، ومذهب الحنابلة وابن حزم الظاهري، ورواية عن أبي حنيفة وأبي سف5.
1 انظر: المراجع السابقة للحنابلة، والمبدع (7/24) .
2 انظر للحنفية والمالكية نفس المصادر السابقة، وكذلك للشافعية نفس المصادر والصفحات إلاّ روضة الطالبين ففي (7/102) .
3 المحلى (9/469)، وللحنابلة: الشرح الكبير (7/393) .
4 انظر: المراجع السابقة في إجبار الأمة.
5 انظر للشافعية: المنهاج ومغني المحتاج (3/172) ، وتحفة المحتاج (7/393-394) ، ونهاية المحتاج (6/268-269) ، وروضة الطالبين (7/102) .
وللحنابلة: المغني والشرح الكبير (7/400 والشرح 393) الإنصاف (8/60) ، وشرح منتهى الإرادات (3/13) ، والمبدع (7/25) ، وكشاف القناع (5/45) ، والإفصاح لابن هبيرة (1/117) .
ولابن حزم: المحلى (9/469) .
ولأبي حنيفة وأبي يوسف: الهداية وفتح القدير (3/397) ، وتبيين الحقائق
(2/164) .
ولأبي حنيفة خاصة: البحر الرائق (3/212) .
فتلخَّص مما سبق أنَّ مذاهب الفقهاء في إجبار الأرقّاء ثلاثة مذاهب:
الأوّل: إجبار العبد والأمة على السَّواء.
الثَّاني: عدم إجبارهما على السَّواء.
الثَّالث: التفصيل: إمّا باعتبار الذكورة والأنوثة في المملوك، أو باعتبار صغره وكبره، أو عقله وجنونه، وإليك وجهة نظر تلك الأقوال:
أ- أدلّة من قال بإجبار العبيد والإماء على السَّواء:
استدلّ من قال بإجبار العبيد والإماء على السَّواء بما يلي:
أوّلاً: قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} 1.
فهذا أمر للأسياد بتزويج عبيدهم وإمائهم، ولو لم يكن لهم ذلك لما أُمِروا به، مع وروده مطلقًا عن شرط الرِّضى2، مع أنَّ قرينة ذكر العبيد
1 سورة النور- آية رقم: 32.
2 انظر: المنتقى شرح الموطأ للباجي (3/338) ، وبدائع الصنائع للكاساني (3/1344) .
مع الإماء دليل على أنَّهما في الحكم سواء، فكلُّ من قال بإجبار الأمة لزمه القول بإجبار العبد أيضًا1.
ولكن لا يخفى أنَّ هذا الاستدلال غير ناهض على ما ذكر؛ فإنَّ أمر الأسياد بتزويج عبيدهم وإمائهم مع وروده خال من شرط الرِّضى لا يلزم منه نفي الرِّضى وإثبات حقٍّ للأسياد في الإجبار، بل إنَّما تدلّ الآية على أنَّ للأسياد تزويج مماليكهم، ولا تلازم بين ثبوت أصل الولاية، وثبوت الإجبار، وإلاّ للزم أن يستدلَّ بالآية على إجبار الأيامى الحرائر مطلقًا ثيباتٍ أو أبكارًا، وسواء أكان أولياؤهنَّ آباءً أم غيرهم؛ لأنَّ الخطاب واحد فيهما، إلاّ أن يقال: إنَّ السنّة وردت بالنهي عن إنكاح الحرائر بدون إذنهنَّ بخلاف الأرقاء، ومع هذا فإنَّ ملك عقدة النكاح غير ملك الإجبار عليه. والله أعلم.
ثانيًا: واستدلُّوا أيضًا على إجبار العبيد والإماء مطلقًا بأنَّهما ملك للسيِّد، وللمالك أن يتصرَّف في ملكه بما يصلحه، وفي تزويجهما تحصيل لمصلحتهما في النِّكاح، وإصلاح لملكه بإعفافهما عن الزِّنى الذي يتسبَّب في إقامة الحدّ عليهما ونقص قيمتهما2.
1 انظر: المنتقى- نفس الجزء والصفحة.
2 انظر: بدائع الصنائع (3/1344-1345) ، وتبيين الحقائق (2/164) ، وأحكام القرآن لابن العربي (3/1378) .
ثالثاً: أنَّ للمالك بيعهما وإجارتهما بدون إذنهما، فجاز له تزويجهما كذلك بدون إذنهما1.
ب- وأمَّا من قال بعدم إجبارهما مطلقاً: وهو ابن حزم الظاهري، فاستدلَّ بما يلي:
أوّلاً: قوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْهَا} 2.
ثانيًا: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُنْكَح الأيّم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تُستأذن" 3 بدون تفريق بين حرَّة وأمة4.
ولكن لا يخفى أنّ عموم الآية بعيد كلَّ البعد عن شموله لمسألتنا هذه، فهي في كسب المعاصي والذنوب، فكلُّ نفس تؤاخذ بذنبها، ولا تؤاخذ بما يقترفه غيرها. والله أعلم.
وأمّا الحديث فلو صحّ الاستدلال به لكان خاصَّا بالإماء دون العبيد، مع ما في شموله للإماء من بعد أيضًا، فإنَّ الظاهر أنّه خاصٌّ بالحرائر دون الإماء.
وأمَّا ما روى عن الإمام أحمد من عدم إجبار الأمة الكبيرة العاقلة، فقد قيل في توجيه هذه الرواية: إنّه بناء على أنَّ البُضْع ليس بمال فيدخل
1 انظر: المبسوط (5/113) ، وبدائع الصنائع (3/1344) .
2 آخر سورة الأنعام.
3 تقدم تخريجه (1/277) .
4 انظر: المحلى (9/469- 470) .
تحت ملك السيِّد1. ولكنَّ في هذا الاستدلال نظر سيأتي بحثه قريبًا إن شاء الله تعالى.
ج- وأمَّا من قال بإجبار الأمة دون العبد:
فذلك لأنَّ العبد يملك الطلاق، فلا فائدة في إجباره على النكاح حينئذ؛ إذ لا يؤمن أن يطلق من ساعته، ولأنَّ النكاح خالص حقّه، ونفعه راجع إليه مع إلزام ذمّته مالاً. وهذا بخلاف الأمة، فإنَّها لا تملك الطلاق، ويملك سيِّدها الاستمتاع بها، ويملِّكها غيره بالهبة، والبيع، ونحوه، كما أنَّ السيِّد ينتفع بتزويجها بما يحصل له من مهرها، وولدها، وسقوط نفقتها عنه، وهذا بخلاف العبد في جميع ما مرّ2.
ونوقش هذا: بأنَّ ملك العبد طلاق زوجته مختلف فيه، فقد قيل: إنَّه بيد السيِّد3.
مع أنَّ الظاهر أنَّ حشمة سيِّده تمنعه من إيقاع الطلاق4.
وأمَّا أنَّ النكاح خالص حقِّ العبد ونفعه راجع إليه فغير مسلَّم أيضًا؛ فإنَّ للسيِّد أن يتصرَّف في ملكه بما يصلحه، وفي تزويجه عبده إعفاف وصيانة له عن أسباب الهلاك أو نقصان قيمته5.
1 انظر: الإنصاف (8/59) ، والمبدع (7/24) .
2 المغني لابن قدامة (7/401) ، ومغني المحتاج للشربيني (3/172) .
3 انظر: المحلى لابن حزم (9/470) .
4 انظر: المبسوط (5/114) ، وفتح القدير (3/397) .
5 انظر: فتح القدير (3/397) .
أمَّا ما قيل من ملك السيِّد بُضْع أمته بخلاف العبد، ففيه: أنَّه لا تأثير لملك البُضْع أصلاً في تزويج الأرقاء، وإنَّما العبرة بملك الرَّقبة، فالسيِّد يزوّج أمته بملكه رقبتها لا بملكه بُضْعها، وكذلك العبد؛ بدليل أنَّ الرجل يملك بُضْع امرأته، ولا يملِّكه غيره، ولا يملك بُضْع ابنته، ويملِّكه غيره بالزَّواج، فليس لملك البُضْع تأثير في التزويج لا طرداً ولا عكسًا1. والله أعلم.
وأمَّا من قال: بإجبار العبد المجنون، والصغير، دون العاقل الكبير، فقياساً على الحرّ الصغير، أو المجنون، بل هو أولى؛ لتمام ولايته عليه، وملكه له2.
وأمَّا من استثنى الصغير العاقل المراهق فقال لا يجبر؛ فذلك لأنّه يملك- عندهم- الطلاق كالعبد العاقل الكبير، والحرّ، والمراهق3. والله أعلم.
الرّاجح:
والذي يظهر لي مما تقدَّم- والله أعلم-: أنّ للمالك في ملكه تصرُّفًا بالمصلحة غير موقوف على إذن غيره، وأنَّ ولاية المالك على مماليكه في النكاح وغيره تخالف ولاية الوليِّ على الحرائر، إلاّ أنَّنا رأينا أنَّ العبد ينكح
1 انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/1378) وتبيين الحقائق للزيلعي (2/164) .
2 انظر: المغني لابن قدامة 7/400-401) .
3 انظر: الشرح الكبير مع المغني (7/393) .
فيطلق، ومن قال: إنَّ الذي يطلق سيِّده لا يعوّل عليه، والقول بأنَّ حشمة سيِّده تمنعه من إيقاع الطلاق غير ظاهر مع الإكراه، بل الظاهر خلافه. وعلى هذا فالقول بإجبار العبد الذي يملك الطلاق قول عديم الجدوى.
وأمَّا الأمة: فقد رأينا أنَّ لسيِّدها أن يستمتع بها بدون إذنها، وأنَّ لمالكها أن يبيعها، أو يهبها بدون إذنها، فيستحلّ منها مالكها الجديد ما كان يستحلّه منها مالكها الأوّل من الاستمتاع الذي هو أهم مقاصد تزويجها، وعلى هذا فالقول بعدم إجبارها قول فيه ضعف، مع أنَّ الاستمتاع بها عن طريق النكاح أكرم لها منه بطريق البيع ونحوه، وعلى هذا فالقول بإجبار الأمة دون العبد هو الأولى بالرُّجحان إن شاء الله تعالى، لكن من الإحسان الذي كتبه الله على كلِّ شيء أن يحسن إلى إمائه في نكاحهنَّ وجميع أمورهنّ، وألاّ يضعهنّ موضعًا يُسْأل عنه، فإنَّه راع، وكلُّ راع مسؤول عن رعيَّته. والله أعلم.