الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثَّاني: تزويج الأسياد أرقّاءهم
إنّ الولاية في النكاح على العبيد والإماء هي لمالكيهم إجماعًا كما سبق، وإنّما يختلف الفقهاء هنا في صحَّة مباشرة المالك لنكاح عبيده وإمائه باعتبار ذكورة المالك وأنوثته.
فإن كان المالك رجلاً: فلا خلاف بينهم في صحَّة مباشرته إنكاح عبيده وإمائه بنفسه، كما يصحُّ له إنكاح نفسه، وإنكاح موليّاته الحرائر.
وأمَّا إن كان المالك امرأة: فقد اختلف الفقهاء في مباشرتها إنكاح عبيدها وإمائها بنفسها على قولين مبنيّين على ما سبق من الخلاف في صحَّة إنكاح الحرة المكلّفة نفسها.
وقد تقدَّم أنَّ مذهب الجمهور هو إثبات الولاية، في النِّكاح على النِّساء مطلقًا، وعلى هذا فلا عبارة للنِّساء في عقود الأنكحة لا لأنفسهنَّ، ولا لغيرهنَّ.
وأمَّا المشهور من مذهب الحنفية فهو أنَّ للنِّساء عبارة صحيحة في النكاح، وإن كان تزويجها لنفسها هو خلاف الأولى، ويثبت للأولياء حقُّ الفسخ حينئذ إن لم يكن الزوج لها كفؤًا، على المشهور من مذهب أبي حنيفة، رحمه الله، - وأنَّ محمد بن الحسن وأبا يوسف قالا: بصحَّته
موقوفًا على إجازة الوليّ، وأنَّ رواية الحسن عن أبى حنيفة صحته من الكفء لا من غيره، واختيرت للفتوى1.
إلاّ أنَّ هذه الرِّوايات جميعها تتَّفق على صحَّة عبارة المرأة في النِّكاح، وعليه فالحرَّة المكلّفة لها أن تزوّج عبيدها وإماءها كالرَّجل.
وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله ما يوافق هذا، قال ابن قدامة: بعد أن ذكر الروايتين في المذهب وهما: أنَّه يزوّج أمة المرأة وليُّ سيِّدتها أو وكيلها- قال: ونقل عن أحمد كلام يحتمل رواية ثالثة: وهو: أنَّ سيدتها تزوّجها؛ فإنّه قيل له: تزوّج أمتها؟ قال: "قد قيل ذلك، هي مالها" وهذا يحتمل أنّه ذهب إليه، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنّها مالكة لها وولايتها تامَّة عليها، فملكت تزويجها كالسيد، ولأنَّها تملك بيعها وإجارتها، فملكت تزويجها كسيِّدها، ولأنَّ الولاية إنّما تثبت على المرأة لتحصيل الكفاءة، وصيانة لحظ الأولياء في تحصيلها، فلا تثبت عليها الولاية في أمتها، لعدم اعتبار الكفاءة، وعدم الحقِّ للأولياء فيها. ويحتمل: أنَّ أحمد قال هذا حكاية لمذهب غيره، فإنَّه قال في سياقها: أحبّ إليّ أن تأمر زوجها؛ لأنَّ النِّساء لا يعقدن" اهـ2.
1 انظر تفصيل مذهب الحنفية في فصل الولاية على الحرة المكلفة (ص 153 وما بعدها) .
2 المغني مع الشرح الكبير (7/359 والشرح 421) .
وقد استدلَّ الحنفية لمذهبهم هذا في هذه المسألة خاصّة بقوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِن} 1.
فقال أبو بكر الجصاص: "قوله تعالى: {فانكحوهنَّ بإذن أهلهنّ} يدلّ على أنَّ للمرأة أن تزوّج أمتها؛ لأنَّ قوله {أهلهنّ} المراد به المولى إذا كان بالغاً عاقلاً جائز التصرف في ماله. وقال الشافعي: لا يجوز للمرأة أن تزوّج أمتها وإنّما توكِّل2 غيرها بالتزويج، وهذا قول يردّه ظاهر الكتاب؛ لأنّ الله تعالى لم يفرق بين عقدها التزويج، وبين عقد غيرها بإذنها، ويدلّ على أنّها إذا أذنت لامرأة أخرى في تزويجها أنّه جائز؛ لأنَّها تكون منكوحة بإذنها، وظاهر الآية مقتضٍ لجواز نكاحها بإذن مولاها، فإذا وكَّل مولاها أو مولاتها امرأة بتزويجها وجب أن يجوز ذلك؛ لأنَّ ظاهر الآية قد أجاز، ومن منع ذلك فإنّما خصَّ الآية بغير دلالة"3.
وقد تعقّبه الفخر الرازي في تفسيره- بعد أن ذكر معنى كلام الجصاص السابق- فقال والجواب من وجوه:
1 سورة النساء آية رقم (25)
2 يلاحظ أنَّ التوكيل ليس مذهب الشافعي، وإنَّما هو مذهب المالكيةُ، وقول في مذهب أحمد، وسيأتي تفصيله في هذا المبحث إن شاء الله تعالى.
3 أحكام القرآن للجصاص (2/166) .
الأوّل: أنَّ المراد بالإذن: الرضى، وعندنا أن رضى المولى لا بدَّ منه" فأمَّا أنّه كاف فليس في الآية دليل عليه.
وثانيها: أنَّ أهلهنّ عبارة عمن يقدر على نكاحهنّ، وذلك إما المولى إن كان رجلاً، أو وليّ مولاها إن كان مولاها امرأة.
ثالثها: هب أنّ "الأهل" عبارة عن المولى، لكنه عام يتناول الذكور والإناث، والدلائل الدالة على أنَّ المرأة لا تنكح نفسها خاصة، قال عليه الصلاة والسلام "العاهر التي تنكح نفسها"1. فثبت بهذا الحديث أنّه لا عبارة لها في نكاحها، فوجب ألا يكون لها عبارة في نكاح مملوكتها ضرورة أنَّه لا قائل بالفرق. والله أعلم" اهـ2.
وبهذا التعقيب من الفخر الرازي يظهر عدم نهوض استدلال الحنفية بالآية على إنكاح الحرة أمتها، وقد تقدَّم في فصل الولاية على الحرّة المكلّفة: أنَّه لم ينهض دليل على صحة إنكاحها نفسها، وهو الأصل المبني عليه هذا التفريع؛ ولهذا فالرَّاجح أنّه لا عبارة للمرأة في النكاح، حرّة أم أمة، لا لنفسها ولا لغيرها. والله أعلم.
1 الراجح في هذا اللفظ أنّه من كلام أبي هريرة، رضى الله عنه. وأنَّ المرفوع هو قوله صلى الله عليه وسلم "لا تُنْكح المرأة المرأة، ولا تُنكِح المرأة نفسها" كما تقدم (1/ص 131.
2 التفسير الكبير للفخر الرازي (10/62) .
وأمَّا من يزوّج أمة المرأة؟
فقد اختلف فيه الجمهور على قولين:
أولهما: أنَّه يزوّج أمة الحرّة وليُّ الحرَّة في النِّكاح دون غيره، وإنّما يزوّجها بإذن سيدتها. وهذا مذهب الشافعية، والظاهرية، والصحيح من مذهب الحنابلة1.
وحجَّتهم في هذا: عموم أدلّة الولاية على المرأة في النِّكاح، ومنها قوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} 2.
فقد استدلَّ بها ابن حزم على أن المخاطبين بإنكاح الأيامى الحرائر والعبيد والإماء هم الرجال دون النساء، وثبت أنَّ أولياء المرأة في النكاح هم عصبتها، فكذلك هم أولياء أمتها، حيث قال: "فصح يقينًا أنَّ المأمورين بإنكاح العبيد والإماء هم المأمورون بإنكاح الأيامى؛ لأنَّ الخطاب واحد، ونصُّ الآية يوجب أنَّ المأمورين بذلك الرجال في إنكاح الأيامى والعبيد، فصحَّ بهذا أنَّ المرأة لا تكون وليًّا في نكاح أحد أصلاً،
1 انظر للشافعية: مغني المحتاج (3/152، 174) . ونهاية المحتاج (6/233) . والمهذب (1/37) . وللحنا بلة: المغني: (7/358- 359) . والإنصاف (8/72) . والمبدع (7/33) . وللظاهرية المحلى (9/469) .
2 سورة النور آية رقم (32) .
لكن لا بدّ من إذنها، وإلاّ فلا يجوز؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} إلى قوله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِن} اهـ1.
وأيضاً فالأصل في ولاية الأمة في النّكاح لمالكها، فامتنعت في حقِّ المرأة لأنوثتها، فثبتت لأوليائها كولاية نفسها في النِّكاح2.
وأيضًا فإنَّ أولياء سيِّدتها في النِّكاح هم أولياؤها بعد عتقها- إن لم يكن لها وليٌّ من النَّسب- ففي حال رقّها أولى3.
وثانيهما: أنّه يزوّج أمة الحرّة من تفوِّض الحرّة إليه ذلك، سواء أكان له الولاية على الحرّة في النّكاح أم ليس له ذلك. وهذا مذهب المالكية والقول الآخر عند الحنابلة4.
وحجَّتهم أنَّ سبب الولاية هنا الملك، وقد تحقّق في المرأة، وإنّما امتنعت المباشرة لنقص الأنوثة فملكت التوكيل كالمريض، والغائب5.
1 المحلى نفس الجزء والصفحة.
2 انظر المغني والشرح الكبير (7/358والشرح 420) .
3 انظر المغني والشرح الكبير (7/358والشرح420) .
4 انظر للمالكية: الخرشي (3/187) 0 الشرح الكبير (2/230) . أحكام القرآن لابن العربي (1/400) والقرطبي (5/141) .
وانظر للحنا بلة: المغني (7/359) . والإنصاف (8/72) 0 المبدع (7/34) .
5 انظر المغني (7/359) . والمبدع (7/34) .
والأظهر هو القول الأوّل: وهو أنه يزوّج الأمة من يزوّج سيِّدتها؛ وذلك لثلاثة أمور:
1-
ما تقدَّم من أدلّة هذا القول.
2-
أنَّ عقد وليِّ سيِّدتها صحيح بالإجماع، وهو أحوط للأنكحة، بخلاف القول بالتوكيل ففيه خلاف.
3-
أنَّ الأصل في الوكيل أنَّه قائم مقام من وكَّله، فالقول بتوكيلها أجنبيًّا- بدون ضرورة- يخالف ما سبق من أنَّ الحرّة لا تملك تفويض نكاحها إلى غير وليّها. والله أعلم.