الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثَّامن: اشتراط كون الوليّ حلالاً
أي: غير مُحرِم بحجٍّ أو عمرة أو بهما معًا.
ومعنى هذا الشرط: أنَّه لا يصحُّ للوليِّ تزويج مَوْلِيَّته ما دام محرماً بحجٍّ، أو عمرة، أو بهما معًا، وليس معناه أنَّ إحرام الوليِّ سالب لحقّه في الولاية، كما هو الشأن في سائر ما تقدَّم من الشروط.
وفي عدّ هذا من جملة شروط ولِّي النكاح تسامح؛ لأنّ الإحرام لا يخرج الوليَّ عن كونه وليًّا على الصحيح، وإنَّما هو مبنيٌّ على عدم صحّة نكاح المحرم مطلقًا، سواء أكان ناكحاً أم مُنْكِحاً؟ رجلاً أم امرأة؟ وليًّا أم وكيلاً؟ وللعلماء في هذه المسألة مذهبان مشهوران:
المذهب الأوّل: أنّه لا يصحُّ للمحرم أن يعقد النِّكاح لنفسه ولا لغيره، ولا أن يُعْقد له مطلقًا، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله.
قال ابن قدامة رحمه الله: روي ذلك عن عمر وابنه وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري والأوزاعي ومالك والشَّافعي" اهـ1.
1 المغني (3/311-312) . وانظر الترمذي مع التحفة (3/579-580)، والمحلى (7/199) وانظر أيضًا من كتب المذاهب الثلاثة المصادر التالية: للمالكية: بداية المجتهد
(1/242) والخرشي والعدوي (3/188)، والشرح الكبير والدسوقي (2/ 230- 231) . وللشافعية: المنهاج ومغني المحتاج (156-157) وتحفة المحتاج (7/257) ونهاية المحتاج (6/240) وروضة الطالبين (7/67) .
وللحنابلة: الإفصاح (1/ 284) والمغني والشرح الكبير (3/311-314) والمبدع (3/159) وكشاف القناع (2/441) .
وانظر للظاهرية: المحلى لابن حزم (7/197-201) .
المذهب الثَّاني: أنَّ الإحرام لايمنع النكاح مطلقًا، أي عكس الأول، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وغيرهم، وهو مرويّ عن ابن عباس رضي الله عنهما1.
قال ابن حزم: اختلف السلف في هذا: فأجاز نكاح المحرم طائفة، صح ذلك عن ابن عباس، وروي عن ابن مسعود ومعاذ، وقال به عطاء والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعكرمة وإبراهيم النخعي، وبه يقول أبو حنيفة وسفيان.." اهـ2.
وروي عن الإمام أحمد رحمه الله ما يمكن عدّه قولاً ثالثًا، وهو أنَّه قال: إذا زوّج المحرم لم أفسخ النِّكاح"3.
1 انظر: بداية المجتهد (1/242) والهداية وفتح القدير والعناية (3/ 232) وتبيين الحقائق (2/110-111) والبحر الرائق (3/111-112) .
2 المحلى (7/198) .
3 المغني والشرح الكبير (3/313) والمبدع (3/ 160) .
وهذا يحتمل: أنَّه لا يفسخه لكونه مختلفاً فيه، كما قاله ابن قدامة وعيره1.
وروي أيضًا عنه: أنَّه إذا زوَّج المحرم غيره صحَّ، سواء أكان وليًّا أم وكيلاً2.
وقيل في توجيهه: لأنَّه سبب لإباحة محظور لحلال، فلم يمنعه، كحلق رأس حلال3.
ولكنّه قياس في مقابل النّصّ، مع احتمال هذه الرواية لما قبلها، وهو أنَّه لا يحكم بفسخه إذا وقع؛ لما فيه من قوّة الخلاف بين الأئمة، وهذا مقام ورع في مثل تلك المسائل التي يقوى فيها الخلاف، فلا يفسخ منها إلاّ ما ظهر بطلانه بيقين. والله المستعان.
الأدلّة.
وأمَّا أدلّة المذهبين المشهورين فعمدتهما حديثان صحيحان ظاهرهما التعارض، ولكلٍّ منهما شواهد موقوفة أو مرفوعة عن بعض الصحابة، وإليك بيان ذلك.
1 نفس المصدرين السابقين.
2 انظر الإنصاف (3/492) والمبدع (3/160) .
3 نفس المصدرين السابقين.
أ- أدلّة من منع المحرم من عقد النِّكاح.
استدلّ الجمهور على منع المحرم من عقد النِّكاح بحديث أبان بن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه قال: سمعت أبي عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَنكِح المحرم ولا يُنكِح1 ولا يَخْطُب".
وهذا الحديث قد رواه الأئمة: مالك وأحمد ومسلم- وهذا لفظه – والأربعة، والدارمي، وابن الجارود، والطحاوي، والدارقطني، والبيهقي وغيرهم2.
1 "يَنْكح" الأولى: بفتح الياء، والثانية بضمها، والكاف مكسور فيهما.
2 تخريجه:
1-
مالك (2/273 مع شرح الزرقاني) الحج. نكاح المحرم.
2-
أحمد: (11/226 ترتيب المسند للساعاتي. باب ما جاء في نكاح المحرم وانكاحه وخِطْبته) . وانظر المسند (1/57، 64، 68، 69، 73) .
3-
مسلم: (9/193-195 نووي) . نكاح. (باب تحريم نكاح المحرم وخطبته) .
4-
أبو داود: (5/293-295 عون المعبود) . الحج. باب المحرم يتزوج.
5-
الترمذي: (3/578-579 تحفة) الحج. باب في كراهية تزويج المحرم.
6-
النسائي: (5/192مع حاشيتي السيوطي والسندي) الحج. باب النهي عن ذلك (أي عن تزويج المحرم) ، (6/88-89) نكاح) النهي عن نكاح المحرم.
7-
ابن ماجة: (1/632) . نكاح. باب المحرم يتزوج.
8-
الدارمي: (1/368) الحج. باب تزويج المحرم. وفي النكاح (2/65) باب في نكاح المحرم.
9-
ابن الجارود (ص 56 1) مناسك، (ص/233) نكاح.
10-
الطحاوي: (2/268) الحج. باب نكاح المحرم.
11-
الدارقطني (3/260) . نكاح.
12-
البيهقي: (5/65-66) 0 الحج باب المحرم لا يَنْكِح ولا يُنْكِح.
وانظر كتب التخريج التالية: إرواء الغليل (4/226-228) ، نصب الراية (3/170-171) .
ولحديث عثمان رضي الله عنه شواهد مرفوعة وموقوفة منها:
1-
ما رواه مالك في الموطأ عن نافع أنَّ عبد الله بن عمر كان يقول: "لا يَنْكِح المحرم ولا يخطب على نفسه ولا على غيره". وبنحو هذا رواه أيضًا الإمام أحمد والبيهقي من طرق عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفاً عليه.
ورفعه الدارقطني من طريقين. إلا أنَّ الموقوف أصحّ1.
1 تخريجه:
1-
مالك: (2/272مع شرح الزرقاني) . الحج. نكاح المحرم.
2-
أحمد: (11/227 ترتيب المسند للساعاتي. الحج. باب ما جاء في نكاح المحرم وإنكاحه وخطبته) وذكر الساعاتي أنّه مما وجده عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب أبيه بخط يده. ثم قال: وأورده الهيثمي وقال رواه الإمام أحمد وفيه أيوب بن عتبة وهو ضيعف وقد وثق" اهـ (11/228) وانظر مجمع الزوائد للهيثمي (4/268) .
3-
البيهقي (5/65) الحج. باب المحرم لا ينكِح ولا يُنكح.
4-
الدارقطني: (3/260- 261) نكاح.
وانظر: إرواء الغليل (4/228) وقال: وسنده صحيح.
- ما رواه أبان بن عثمان عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتزوَّج المحرم ولا يزوِّج ". رواه الدارقطني1.
3-
ما رواه مالك عن داود بن الحُصَين2: أنَّ أبا غطفان المرّي أخبره أنَّ أباه طريفًا "تزوّج امرأة وهو محرم فردّ عمر نكاحه".
ورواه من طريق مالك البيهقي أيضًا.
ورواه الدارقطني عن يحيى بن سعيد عن داود بن الحُصَين به3.
4-
وعن علي رضي الله عنه قال: "من تزوَّج وهو محرم نزعنا منه امرأته". وفي لفظ آخر: قال: "لا يَنْكِح المحرم فإن نكح ردّ نكاحه". رواهما البيهقي4.
1 الدارقطني (3/ 261) وانظر حاشيته "التعليق المغني" في الكلام على سنده.0
2 هو داود بن الحُصَين (بضم الحاء المهملة) الأموي مولاهم أبو سليمان. ثقة روى له أصحاب الكتب الستة. وانظر التقريب (1/131) وتهذيب التهذيب (3/181-182) .
3 تخريجه:
1-
مالك: (2/274) مع شرح الزرقاني (. الحج نكاح المحرم.
2-
البيهقي عنه (5/66) الحج. باب المحرم لا ينكِح ولا يُنكح.
3-
الدارقطني (3/260) .
وانظر: نصب الراية (3/171) وإرواء الغليل (4/228) وقال: سنده صحيح على شرط مسلم.
4 البيهقي (5/66) الحج باب: المحرم لا يَنكِح ولا يُنكح. وقال الألباني في إرواء الغليل وسنده صحيح (4/228) .
5-
وروى البيهقي بإسناده: "أنَّ مولىً لزيد بن ثابت تزوَّج وهو محرم، ففرَّق بينهما زيد بن ثابت1.
فحديث عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، وهذه الشواهد المرفوعة، والموقوفة، فيها الدليل الواضح، على أنّه ليس للمحرم أن يعقد النكاح، ولا أن يُعقد له، ولا أن يخطب أيضًا، وعلى هذا جرى عمل التابعين بعد الصحابة، فقد روى البيهقي بإسناده إلى سعيد بن المسيب "أنَّ رجلاً تزوّج وهو محرم فأجمع أهل المدينة على أن يفرق بينهما"2.
ونحوه في الموطأ عن مالك رحمه الله أنّه بلغه أنَّ سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار سئلوا عن نكاح المحرم فقالوا: "لا يَنْكِح المحرم ولا يُنْكِح"3.
ويستدلُّ له من جهة المعقول: بأنَّ الإحرام يمنع الجماع، ودواعيه، فيمنع عقد النكاح، كالعدّة4.
1 البيهقي (نفس المصدر والباب) .
2 البيهقي (5/66-67) نفس الباب.
3 الموطأ (2/274) مع شرح الزرقاني) . الحج. نكاح المحرم.
4 انظر كشاف القناع (2/442) .
ب أدلّة من أجاز نكاح المحرم.
وأمَّا أدلّة من أجاز للمحرم عقد النكاح فهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة وهو محرم". وهذا الحديث رواه الأئمة: أحمد والستة والدارمي وابن الجارود والطحاوي والدارقطني والبيهقي وغيرهم1.
1 تخريجه:
1-
أحمد (11/228 ترتيب المسند للساعاتي. الحج باب ما جاء في نكاح المحرم وإنكاحه وخِطْبته.
2-
البخاري (9/165 الفتح) نكاح. باب نكاح المحرم. وفي مواضع أخر من الصحيح. انظر الإشارة إلى أطرافه في (4/ 51 الفتح) .
3-
مسلم: (9/196 نووي) . نكاح "باب تحريم نكاح المحرم وكراهية خطبته".
4-
أبو داود (5/296عون المعبود) . نكاح. باب المحرم يتزوج.
5-
الترمذي: (3/ 581-582 تحفة) . الحج. باب ما جاء في الرخصة في ذلك (أي في نكاح المحرم مشيراً إلى الباب الذي قبله) .
6-
النسائي: (5/ 191-192 مع حاشيتي السيوطي والسندي) . الحج. الرخصة في نكاح المحرم. وفي كتاب النكاح (6/87-88) نفس الترجمة.
7-
ابن ماجه: (1/632) نكاح. باب المحرم يتزوج.
8-
الدارمي (1/368) الحج. باب تزويج المحرم.
9-
ابن الجارود: (ص 157 مناسك، ص 233 نكاح) .
10-
الطحاوي (2/269 من طرق كثيرة) . الحج. باب نكاح المحرم.
11-
الدارقطني: (3/263-264) نكاح.
12-
البيهقي: (5/66) 0 الحج. باب المحرم لا يَنكح ولا يُنكح.
وانظر نصب الراية (3/171) ، وإرواء الغليل (4/227) .
وفي لفظ لأحمد والنسائي عن ابن عباس أيضاً: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم: تزوَّج ميمونة بنت الحارث وهما محرمان"1.
وأورد الهيثمي في (الزوائد) هذا اللفظ الأخير وقال: هذا في الصحيح خلا إحرام ميمونة، ورواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح2اهـ.
ولحديث ابن عباس رضي الله عنه شواهد أخر عن عائشة وأبي هريرة وأنس وابن مسعود رضي الله عنهم.
قال الحافظ في (فتح الباري) : في كتاب النكاح: "قدمت في الحج أنَّ حديث ابن عباس جاء مثله صحيحاً عن عائشة وأبي هريرة. فأمَّا حديث عائشة فأخرجه النسائي من طريق أبي سلمة3 عنه4، وأخرجه الطحاوي والبزّار من طريق مسروق عنها وصححه ابن حبان، وأكثر ما أعلّ به الإرسال وليس ذلك بقادح فيه. وقال النسائي: أخبرنا عمرو بن
1 أحمد (11/ 221 الترتيب) . والنسائي (5/191) كما تقدم أعلاه.
2انظر مجمع الزوائد للهيثمي (4/267) .
3 لعله: ابن عبد الرحمن بن عوف. اختلف على اسمه قيل اسمه عبد الله وقيل اسمه إسماعيل. وقيل اسمه كنيته. انظر ترجمته في التقريب (2/430) ، والتهذيب (12/115) وترجمة عائشة فيه (12/434) .
4 كذا في الأصل: ولعل صوابه "عنها".
علي، أنبأنا أبو عاصم، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة مثله. قال عمرو بن علي: قلت لأبي عاصم: أنت أمليت علينا من الرقعة ليس فيه عائشة، فقال: دع عائشة حتى أنظر فيه، وهذا إسناد صحيح لولا هذه القصة، لكن هو شاهد قويّ أيضاً. وأمّا حديث أبي هريرة أخرجه الدارقطني، وفي إسناده كامل أبو العلاء وفيه ضعف، لكنّه يعتضد بحديثي ابن عباس وعائشة. وفيه ردّ على قول ابن عبد البر: أنَّ ابن عباس تفرَّد به من بين الصحابة بأن النّبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج وهو محرم، وجاء عن الشعبي ومجاهد مرسلاً مثله، أخرجهما ابن أبي شيبة. وأخرج الطحاوي من طريق عبد الله بن محمد بن أبي بكر قال: سألت أنساً عن نكاح المحرم فقال: لا بأس به وهل هو [إلاّ] 1 كالبيع، وإسناده قويّ. لكنّه قياس في مقابل النصّ، فلا عبرة به، وكأنَّ أنساً لم يبلغه حديث عثمان" اهـ2.
وهذه الرواية عن أنس رضي الله عنه تخالف ما رواه أبان بن عثمان أنَّ أنساً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتزوَّج المحرم ولا يزوِّج"3.
وبهذا استدلّ صاحب (التعليق المغني على الدارقطني) فقال تعليقاً على قول الحافظ السابق ما نصّه: "حديث أبان هذا يدل على أنّه بلغه
1 كذا بالأصل بين معكوفين. وانظر شرح الآثار للطحاوي (3/273) .
2 فتح الباري (9/ 166) .
3 تقدم (2/265) .
حديث النهي، ورجع بعد ذلك عن قوله بجوازه، ويحدث عن حديث النهي، وهذا هو المتعيّن1 " اهـ.
وأمَّا رواية ابن مسعود رضي الله عنه فأخرجها الطحاوي بإسناده عن إبراهيم (وهو النخعي) أنَّ ابن مسعود رضي الله عنه كان لا يرى بأساً أن يتزوّج المحرم2.
هذا حاصل ما وقفت عليه من الأحاديث المرفوعة، والآثار الموقوفة على الصحابة، مما احتجَّ به من لم ير الإحرام مانعاً للمحرم من التزويج، وعمدتها حديث ابن عباس رضي الله عنهما كما ترى.
واحتجوا من جهة المعقول: بقياس النّكاح على شراء الأمة للتَّسرّي؛ إذ إنّه عقد كسائر العقود التي يتلفظ بها، ولا يمنع شيء منها بسبب الإحرام3.
وأجابوا عن حديث عثمان رضي الله عنه وهو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَنْكِح المحرم ولا يُنْكِح"(4) بحمل النكاح هنا على الوطء. والمعنى: لا يطأ المحرم ولا تمكّنه المحرمة من ذلك، ويكون التذكير باعتبار الشخص المحرم، وعلى التسليم بأنّ المقصود به العقد يكون تأثيره في إفساد
1 التعليق المغني على الدارقطني (3/261) .
2 شرح معاني الآثار للطحاوي (2/273) .
3 انظر: فتح القدير (3/233) ، وتبيين الحقائق (2/111) وشرح معاني الآثار للطحاوي (2/272) .
4تقدَّم تخريجه (ص263) .
الإحرام لا النِّكاح، أو يحمل على الكراهة جمعاً بينه وبين الأحاديث، لئلاّ يشتغل القلب به عن أعمال الحجِّ، أو العمرة، ولا يلزم هذا في حقّه صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّه لا يشغل قلبه شيء من أمور الدُّنيا عن عبادة ربّه1.
وقد أجاب الجمهور عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما بأجوبة كثيرة أهمّها وأشهرها ما يلي:
أوّلاً: أنَّ حديث ابن عباس رضي الله عنهما معارض بما صحّ عن ميمونة صاحبة القضيّة؛ حيث أخبرت عن نفسها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم "تزوّجها وهو حلال، وبنى بها وهو حلال"، وصاحبة القضيّة أعرف بها، وحديث ميمونة هذا رواه عنها يزيد بن الأصمّ (ابن أختها) قال: حدثتني ميمونة بنت الحارث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم "تزوّجها وهو حلال" قال: "وكانت خالتي وخالة ابن عباس". هذا لفظ حديث مسلم، وقد رواه أيضاً الأئمة: أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن الجارود والطحاوي والدارقطني والبيهقي2.
1 انظر فتح القدير (3/234) ، وتبيين الحقائق (2/110) والبحر الرائق (3/112) .
2 تخريجه:
1-
أحمد: (11/228-229 ترتيب المسند للساعاتي. الحج. باب ما جاء في نكاح المحرم وإنكاحه وخِطْبته) .
2-
مسلم: (9/196-197 نووي) . نكاح. "باب تحريم نكاح المحرم وكراهية خِطْبته.
3-
أبو داود: (5/295عون المعبود) . الحج. باب المحرم يتزوج.
4-
الترمذي (3/583تحفة) الحج. باب ماجاء في الرخصة في ذلك.
(أي في نكاح المحرم إشارة إلى الباب الذي قبله) .
5-
ابن ماجة: (1/632) نكاح. باب المحرم يتزوج.
6-
الدارمي (1/369) الحج. باب في المحرم يتزوج.
7-
ابن الجارود (ص 156-157مناسك، 233 نكاح) .
8-
الطحاوي (2/270) الحج. باب نكاح المحرم.
9-
الدارقطني (3/262-263) . نكاح.
10-
البيهقي (5/66) الحج. باب المحرم لا يَنكح ولا يُنكح.
وانظر نصب الراية (3/171-172) .
ثانياً: أنَّ حديث ابن عباس- رضي الله عنهما معارض بخبر أبي رافع، وكان هو السفير بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة، وسفير القضيَّة أعلم بها.
وخبر أبي رافع هذا رواه الأئمة: أحمد والترمذي والدارمي والطحاوي والدارقطني والبيهقي كلّهم من طريق حمّاد بن زيد، عن مطر الورَّاق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن أبي رافع رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوَّج ميمونة حلالاً وبنى بها حلالاً، وكنتُ الرَّسولَ بينهما"1.
1 تخريجه:
1-
أحمد: (11/229 ترتيب المسند للساعاتي. الحج. باب ما جاء في نكاح المحرم وإنكاحه وخِطْبته) .
2-
الترمذي: (3/580 تحفة) باب الحج. باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم.
3-
الدارمي: (1/369) الحج. باب في تزويج المحرم.
4-
الطحاوي (2/ 270) الحج. باب في نكاح المحرم.
5-
الدارقطني (3/262-263) . نكاح.
6-
البيهقي: (5/66) الحج. باب المحرم لا يَنكح ولا يُنكح.
وانظر نصب الراية (3/172-173) والتلخيص الحبير (3/57) وإرواء الغليل
(6/252) .
قال الترمذي هذا حديث حسن، ولا نعلم أحداً أسنده غير حماد ابن زيد عن مطر الورّاق عن ربيعة، وروى مالك بن أنس عن ربيعة عن سليمان بن يسار "أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة وهو حلال"، ورواه مالك مرسلاً، ورواه أيضاً سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلاً" اهـ1.
ورواية الإمام مالك التي أشار إليها الترمذي هي في الموطأ عن سليمان بن يسار "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع ورجلاً من الأنصار فزوّجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة لم يخرج"2
وقال ابن القيِّم في (تهذيب السنن) : "هذا وإن كان ظاهره الإرسال فهو متَّصل؛ لأنّ سليمان بن يسار رواه عن أبي رافع: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم "تزوّج ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنتُ الرَّسولَ بينهما"، وسليمان بن يسار مولى ميمونة، وهذا صريح في تزوّجها بالوكالة قبل لإحرام"3.
1 الترمذي مع تحفة الأحوذي (3/580) .
2 الموطأ (2/272 مع شرح الزرقاني) الحج. باب نكاح المحرم.
3 تهذيب السنن مع عون المعبود (5/296) .
ولهذا فقد نقل الزيلعي عن الطحاوي ترجيحه لحديث أبي رافع على رواية ابن عباس فقال: "قال الطحاوي في كتابه "الناسخ والمنسوخ": والأخذ بحديث أبي رافع أولى؛ لأنَّه كان السفير بينهما، وكان مباشراً للحال، وابن عباس كان حاكياً، ومباشر الحال مقدَّم على حاكيه؛ ألا ترى عائشة كيف أحالت على عليّ حين سئلت عن مسح الخف، وقالت سلوا عليًّا؛ فإنّه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى"1.
وهذا بخلاف صنيع الطحاوي في (شرح معاني الآثار) فقد رجّح حديث ابن عباس لقوّة إسناده وضبط رواته2.
ثالثاً: أنَّ ابن عباس رضي الله عنهما كان إذ ذاك صغيراً، وهذا بخلاف ميمونة رضي الله عنها صاحبة القضية، وبخلاف أبي رافع أيضاً السفير فيها، فلم يكن لابن عباس من الضبط والعناية بهذه القضيّة في ذلك العمر، ما لميمونة وأبي رافع رضي الله عنهم جميعاً.
ولذلك اشتهر عن سعيد بن المسيِّب توهيم ابن عباس في قوله: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم". قال الحافظ في (فتح الباري) : "قال الأثرم قلت لأحمد: إنَّ أبا ثور يقول بأيّ شيء يدفع حديث ابن
1 نصب الراية (3/ 174) .
2 انظر شرح معاني الآثار (2/268-271) .
عباس؟ - أي مع صحته- قال: فقال: الله المستعان: إنَّ ابن المسيِّب يقول: وَهِمَ ابن عباس، وميمونة تقول تزوّجني وهو حلال"1اهـ.
ولابن حزم رحمه الله كلام يحسن إيراده هنا "حيث قال: نقول وبالله التوفيق: خبر يزيد عن ميمونة هو الحقّ، وقول ابن عباس وهم منه بلا شكّ لوجوه بيّنة: أوّلها: أنّها رضي الله عنها أعلم بنفسها من ابن عباس؛ لاختصاصها بالقضيّة دونه، هذا ما لا يشك فيه أحد. وثانيها: أنّها كانت رضي الله عنها حينئذ امرأة كاملة، وكان ابن عباس- رضي الله عنه يومئذ ابن عشرة أعوام وأشهر فبين الضبطين فرق لا يخفى. والثَّالث: أنَّه عليه السلام إنَّما تزوّجها في عمرة القضاء، هذا ما لا يختلف فيه اثنان، ومكة يومئذ دار حرب، وإنّما هادنهم عليه السلام على أن يدخلها معتمراً ويبقى بها ثلاثة أيام فقط ثم يخرج، فأتى من المدينة محرماً بعمرة ولم يقدم شيئاً إذ دخل على الطواف والسعي، وتم إحرامه في الوقت، ولم يختلف أحد في أنّه إنّما تزوجها بمكة حاضراً بها لا بالمدينة، فصحّ أنّه بلا شك إنّما تزوّجها بعد تمام إحرامه لا في حال طوافه وسعيه، فارتفع الإشكال جملة، وبقى خبر ميمونة وخبر عثمان لا معارض لهما والحمد لله رب العالمين"2 اهـ.
1 فتح الباري (9/165) وانظر تخريجه له في الصفحة التالية لها (9/166) .
2 المحلى لابن حزم (7/ 200) وانظر بقية الكلام بعده.
وقوله رحمه الله: إنَّه عليه السلام لم يقدِّم شيئاً على عمرته، هذا هو الظاهر والأولى به صلى الله عليه وسلم. ولكن قوله رحمه الله:"إنّه لم يختلف أحد في أنّه إنّما تزوّجها بمكة حاضراً بها لا بالمدينة" غير مسلّم له؛ فإنَّ الخلاف موجود والأقوال ثلاثة أحدها: أنّه صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع فزوّجها إيّاه وهو بالمدينة قبل أن يخرج منها. أي وقبل أن يحرم. والثَّاني: أنّه صلى الله عليه وسلم تزوّجها وهو محرم. والثَّالث: أنّه صلى الله عليه وسلم تزوّجها بعد ما حلَّ من عمرته. ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن القيم في زاد المعاد1. وتقدّم خبر أبي رافع في ذلك2.
رابعاً: أنَّ حديث ابن عباس رضي الله عنه معارض لحديث عثمان ابن عفَّان رضي الله عنه وهو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَنْكح المحرم ولا يُنْكِح ولا يخْطُب"3.
وإذا تعارض القول والفعل يقدم القول على الصحيح؛ لأنّه تقعيد قاعدة، بخلاف الوقائع، فإنَّها تحتمل أنواعاً شتَّى من الاحتمالات، وحديث ابن عباس حكاية واقعة عين وفيه احتمالات شتى ومنها ما يلي:
الاحتمال الأوّل: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد على ميمونة قبل أن يحرم- كما في خبر أبي رافع السابق4- وانتشر أمر تزويجه بها بعد أن أحرم
1زاد المعاد (3/373- 374) .
2 تقدم (2/272) .
3 تقدم تخريجه في أول هذا المبحث (2/263) .
4 تقدم (2/272) .
فاشتبه الأمر في ذلك، فلم يعلم ابن عباس إلاّ بعد انتشاره (بسَرِف1 بالقرب من مكة) . وقوّى هذا الاحتمال الساعاتي في شرحه لمسند الإمام أحمد. وأورد ما يدلّ على أنَّ ابن عباس رضي الله عنه رجع عن قوله أيضًا2.
الاحتمال الثَّاني: أنَّ ذلك خصوصيّة له صلى الله عليه وسلم. قال النووي: وهو أصحّ الوجهين عند أصحابنا"3.
والاحتمال الثَّالث: أنَّ ابن عباس رضي الله عنهما قال ذلك بناء على مذهبه، وهو أنَّ من قلّد هديه صار محرماً، وإن لم يتلبَّس بالإحرام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد قلّد هدية في عمرة القضاء، ويؤيِّد هذا الاحتمال ما سبق عن أبي رافع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه ورجلاً من الأنصار فزوّجاه ميمونة وهو بالمدينة قبل أن يخرج"4.
1سَرِف: بفتح السين المهملة وكسر الراء ممنوع من الصرف، اسم مكان بين مكة والمدينة على ستة أميال من مكة روي: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة فيه. وصحّ أيضاً أنَّه بنى بها فيه، وأنها ماتت فيه، ودفنت في ذلك المكان أيضًا في نفس المظلة التي بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها. (انظر ترتيب المسند وشرحه (11/228) ومصادر تخريج حديث ابن عباس (2/272) ..
2 انظر: شرح المسند (11/229) .
3 انظر: شرح النووي على مسلم (9/194) ونيل الأوطار (5/18) والمغني لابن قدامة (3/313) .
4 انظر فتح الباري (9/165-166) .
الاحتمال الرَّابع: أنَّ معنى قول ابن عباس رضي الله عنه "تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم" أي في الشهر الحرام أو البلد الحرام، وهي لغة شائعة معروفة، يقال: أنجد وأتهم: إذا دخل نجداً أو تهامة وكذلك يقال لمن هو في الحرم أو في الشهر الحرام مُحْرِمًا، ومنه البيت المشهور:
قتلوا ابن عفان الخليفة مُحْرِماً
…
ورعاً فلم أر مثله مقتولاً
وقول الأعشى:
قتلوا كسرى بليلٍ محرماً
…
...
أي في الشهر الحرام، وانتصر لهذا الاحتمال ابن حبّان في صحيحه1.
ولكن في هذا التأويل نظر، فإنَّ ابن عباس قال:"إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة وهو محرم، وبنى بها وهو حلال" وهذا ظاهر الدلالة على أنّه أراد الإحرام بالعمرة لمقابلته بالحلِّ.
ومما يترجّح به حديث عثمان رضي الله عنه أنّه مثبِت لحكم جديد، وهو تحريم نكاح المحرم، بخلاف حديث ابن عباس فإنّه موافق للبراءة الأصليّة، وهي حِلُّ النكاح للمحرم وغيره، والمثبِت مقدَّم على النافي2.
1 انظر نصب الراية (3/173-174) وشرح النووي (9/194) وفتح الباري (9/166) وزاد المعاد (3/ 374) .
2 انظر المحلى لابن حزم (7/200) وزاد المعاد (3/374) وفتح الباري (9/166) ونيل الأوطار (5/18) .
وممَّا يؤيِّد رفع البراءة التي دلّ عليها حديث ابن عباس: أنَّ حديث ابن عباس متقدِّم؛ لأنَّه في عمرة القضاء في السنة السابعة من الهجرة.
وأمّا حديث عثمان فالظاهر أنّه متأخِّر؛ لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّما بيّن أكثر أحكام الحج في حجَّة الوداع في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، فلو ثبت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم، لكان حديث عثمان رضي الله عنه ناسخاً له. وهذا المعنى من الترجيح قويٌّ ووجيه، ويزيده قوّة ما صحّ عن عمر ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما من أنّهما فرّقا بين رجل وامرأته نكحها وهو محرم1.
هذا أهمّ وأشهر ما أجاب به الجمهور عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وأجابوا عن ما قيل: من حمل "النكاح" في حديث عثمان على الوطء. جمعاً بينه وبين حديث ابن عباس. بأنَّه بعيد؛ بدلالة قوله صلى الله عليه وسلم "ولا يُنْكِح" بضم أوله وكسر الكاف. أي لا يزوِّج غيره، وكذلك قوله "ولا يخْطُب" وورد أيضاً في صحيح ابن حبان بزيادة. "ولا يخْطُب عليه"2.
1 تقدم تخريجهما في أول هذا المبحث (2/265) .
2 انظر فتح الباري (9/165) .
كلُّ ذلك دليل واضح على أنَّ المراد بالنِّكاح في حديث عثمان رضي الله عنه العقد، لا الوطء. وأمَّا منع المحرم من الوطء فمعلوم من دليل آخر1.
وأمّا قياس نكاح المحرم على شراء الأمة للتَّسرّي فهو قياس في مقابل النصّ، ومثله فاسد الاعتبار2.
وأيضاً: فإنَّ النَّكاح يخالف شراء الأمة؛ فإنَّه يحرم بالعدّة، والردّة، واختلاف الدِّين وكون المنكوحة أختاً من الرضاعة، ويعتبر له شروط غير معتبرة في الشراء فافترقا3.
وبهذا يتَّضح أنّ القول الرَّاجح هو: أنَّ المحرم لا يعقد النكاح، سواء أكان وليّا أم غيره، ولا يُعْقَد له أيضاً سواء أكان ذكراً أم أنثى. والله أعلم.
وقد تقدَّم أنَّ اشتراط عدم إحرام الوليّ في النكاح ليس له كبير تعلّق بشروط الوليّ في النِّكاح؛ لأنّ المحرم لا تسقط ولايته بإحرامه، وإنّما أحببت بسط القول في هذه المسألة؛ لشهرة أدلّتها، وظهور التعارض بينها،
1 انظر: المحلى لابن حزم (7/199) وفتح الباري (9/165) .
2 انظر فتح الباري (9/166) ونيل الأوطار (5/18) .
3 انظر المغني والشرح الكبير (3/313) .
ولبيان وجه الحقّ فيها حسب الاستطاعة؛ ولوقوع تلك الأدلّة المشهورة في آخر هذه الرسالة من غير سبق إعداد.
والله أسأل أن يختم بالصالحات أعمالنا وبالعفو عن سيئاتنا، وأن يعلّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعله حجّة لنا،
لا علينا، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم
الوكيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين
وعلى آله وصحبه أجمعين.