المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بابما جاء في خروج الدابة من الأرض - إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة - جـ ٣

[حمود بن عبد الله التويجري]

فهرس الكتاب

- ‌بابما جاء في شيعة الدجال وأتباعه

- ‌بابفي أول من يفزعهم الدجال

- ‌بابالترغيب في سكنى المدينة إذا خرج الدجال

- ‌بابما جاء في قتال الدجال

- ‌بابفي‌‌ تعيين الموضع الذي يقتل فيه الدجال

- ‌ تعيين الموضع الذي يقتل فيه الدجال

- ‌باب‌‌ما جاء في نزول عيسى إلى الأرض

- ‌ما جاء في نزول عيسى إلى الأرض

- ‌بابأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقراء السلام على المسيح

- ‌بابأن المسيح يحكم بالشريعة المحمدية

- ‌بابما جاء في خروج يأجوج ومأجوج

- ‌بابما جاء في خروج الدابة من الأرض

- ‌بابفضل العبادة في آخر الزمان

- ‌بابما جاء في ترك الحج

- ‌بابما جاء في رفع البيت

- ‌بابما جاء في هبوب الريح الطيبة

- ‌بابما جاء في كثرة المطر وقلة النبات

- ‌بابما جاء في كثرة الروم في آخر الزمان

- ‌بابفيمن تقوم عليهم الساعة

- ‌بابما جاء في نداء المنادي بين يدي الصيحة

- ‌باب‌‌النفخ في الصور

- ‌النفخ في الصور

- ‌فصلفي صفة الجنة والترغيب فيها وصفة أهلها

- ‌فصلفي صفة النار والترهيب منها وصفة أهلها

الفصل: ‌بابما جاء في خروج الدابة من الأرض

‌باب

ما جاء في خروج الدابة من الأرض

قال الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} ؛ قال: "إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر".

رواه الحاكم في "مستدركه"، ولم يتكلم عليه، وكذلك الذهبي، وفي إسناده عطية العوفي، وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات.

قال ابن كثير في "تفسيره" ما ملخصه: "هذه الدابة تخرج في آخر الزمان؛ عند فساد الناس، وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق، يخرج الله لهم دابة من الأرض؛ قيل: من مكة، وقيل: من غيرها، فتكلم الناس. قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة ويروى عن علي رضي الله عنه: "تكلمهم كلاما"؛ أي: تخاطبهم مخاطبة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية: "تجرحهم". وعنه رواية: "كُلا تفعل"؛ يعني: هذا وهذا، وهو قول حسن، ولا منافاة".

وقال ابن كثير أيضا في "النهاية": "قال ابن عباس والحسن وقتادة: تكلمهم؛ أي: تخاطبهم مخاطبة. وعن ابن عباس: تكلمهم: تجرحهم؛ بمعنى: تكتب على جبين الكافر كافر، وعلى جبين المؤمن مؤمن.

وعنه: تخاطبهم وتجرحهم. وهذا القول ينتظم المذهبين، وهو قوي حسن جامع لهما، والله أعلم" انتهى باختصار.

ص: 175

وقال البغوي في "تفسيره": "اختلفوا في كلامها، فقال السدي: تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام. وقال بعضهم: كلامها أن تقول لواحد: هذا مؤمن، وتقول لآخر: هذا كافر. وقال مقاتل: تكلمهم بالعربية. وقرأ سعيد بن جبير وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي: تكلم بفتح التاء وتخفيف اللام من الكلم، وهو الجرح. قال أبو الجوزاء: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية: تُكَلِّمهم أو تَكْلِمهم؟ قال: كل ذلك تفعل؛ تُكَلِّم المؤمن، وتَكْلِم الكافر". انتهى باختصار.

وعن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه؛ قال: «اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال:"ما تذاكرون؟ ". قالوا: نذكر الساعة. قال: " إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات

(وذكر منها الدابة) » .

رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وأهل السنن. وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح". وقد تقدم بتمامه في (باب ما جاء في الآيات الكبار) .

وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات..... (وذكر منها الدابة) » .

رواه: الطبراني، وابن ماجه، وابن مردويه، والحاكم، وصححه هو والذهبي. وقد تقدم بتمامه في (باب ما جاء في الآيات الكبار) .

وعن أبي زرعة ابن عمرو بن جرير؛ قال: جلس ثلاثة نفر من المسلمين إلى مروان بالمدينة، فسمعوه وهو يحدث في الآيات: أن أولها خروج الدجال. قال: فانصرف النفر إلى عبد الله بن عمرو، فحدثوه بالذي سمعوه من مروان في الآيات، فقال عبد الله: لم يقل مروان شيئا، قد حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك حديثا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن أول الآيات»

ص: 176

«خروجا: طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة ضحى، فأيتهما ما كانت قبل صاحبتها؛ فالأخرى على أثرها قريبا» .

رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وأبو داود السجستاني، وابن ماجه، والبزار، والطبراني في "الكبير". قال الهيثمي:"ورجاله رجال الصحيح".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: " «تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتخطم أنف الكافر بالخاتم، وتجلو وجه المؤمن بالعصا، حتى إن أهل الخوان ليجتمعون على خوانهم، فيقول هذا: يا مؤمن! ويقول هذا: يا كافر!» .

رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وابن جرير، والبغوي، والحاكم في "مستدركه"، ولم يتكلم عليه الحاكم ولا الذهبي، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن، وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه في دابة الأرض، وفي الباب عن أبي أمامة ". انتهى كلام الترمذي.

وفي رواية لأحمد: «وتختم أنف الكافر بالخاتم» .

وقد رواه ابن ماجه، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان بن داود وعصا موسى بن عمران عليهما السلام، فتجلوا وجه المؤمن بالعصا، وتخطم أنف الكافر بالخاتم، حتى إن أهل الحِوَاء ليجتمعون، فيقول هذا: يا مؤمن! ويقول هذا: يا كافر!» .

ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخرج دابة الأرض معها عصا موسى وخاتم سليمان، تخطم أنف الكافر بالعصا، وتجلي وجه المؤمن بالخاتم، حتى يجتمع الناس على الخوان، يعرف»

ص: 177

«المؤمن من الكافر» .

وعن أبي أمامة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «تخرج الدابة، فتسم الناس على خراطيمهم، ثم يعمرون فيكم، حتى يشتري الرجل البعير، فيقول: ممن اشتريته؟ فيقول: اشتريته من أحد المخطمين» .

رواه الإمام أحمد. قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح؛ غير عمر بن عبد الرحمن بن عطية، وهو ثقة".

«وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه قال: ألا أريكم المكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرى أن الدابة تخرج منه"؟ فضرب بعصاه الشق الذي في الصفا، وقال: "إنها ذات ريش وزغب، وإنه يخرج ثلثها حضر الفرس الجواد ثلاثة أيام وثلاث ليال، وإنها لتمر عليهم أيام ليفرون منها إلى المساجد، فتقول لهم: أترون المساجد تنجيكم مني؟! فتخطمهم، يساقون في الأسواق، ويقول: يا كافر! يا مؤمن! ".»

رواه أبو يعلى. قال الهيثمي: "وفيه ليث بن أبي سليم، وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات".

وعن عطية؛ قال: قال عبد الله: "تخرج الدابة من صدع من الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام، لا يخرج ثلثها".

رواه ابن أبي حاتم.

وعن حذيفة بن أسيد أراه رفعه؛ قال: «تخرج الدابة من أعظم المساجد، فبينما هم كذلك؛ إذ تصدعت» .

قال ابن عيينة: "تخرج حين يسير الإمام إلى جمع".

رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله ثقات".

ص: 178

وعن أبي الطفيل؛ قال: كنا جلوسا عند حذيفة، فذكرت الدابة، فقال حذيفة رضي الله عنه:"إنها تخرج ثلاث خرجات في بعض البوادي، ثم تكمن، ثم تخرج في بعض القرى حتى يذعروا، حتى تهريق فيها الأمراء الدماء، ثم تكمن". قال: "فبينما الناس عند أعظم المساجد وأفضلها وأشرفها - حتى قلنا: المسجد الحرام، وما سماه -؛ إذ ارتفعت الأرض، ويهرب الناس، ويبقى عامة من المسلمين؛ يقولون: إنه لن ينجينا من أمر الله شيء، فتخرج، فتجلو وجوههم حتى تجعلها كالكواكب الدرية، وتتبع الناس".

رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال:"صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".

ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن طلحة بن عمرو وجرير بن حازم: فأما طلحة؛ فقال: أخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي أن أبا الطفيل حدثه عن حذيفة بن أسيد الغفاري أبي سَرِيحة. وأما جرير؛ فقال: عن عبد الله بن عبيد عن رجل من آل عبد الله بن مسعود.

وحديث طلحة أتمهما وأحسن؛ قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة، فقال: لها ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية (يعني: مكة) ، ثم تكمن زمانا طويلا، ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك، فيعلو ذكرها في أهل البادية، ويدخل ذكرها القرية (يعني: مكة) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة؛ خيرها وأكرمها المسجد الحرام؛ لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام، تنفض عن رأسها التراب، فارفض الناس عنها شتى ومعا، وثبتت عصابة المؤمنين، وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله، فبدأت بهم، فجلت وجوههم، حتى تجعلها كأنها الكوكب الدري، وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب، حتى إن الرجل ليتعوذ منها»

ص: 179

«بالصلاة، فتأتيه من خلفه، فتقول: يا فلان! الآن تصلي؟ فيقبل عليها، فتسمه في وجهه، ثم تنطلق، ويشترك الناس في الأموال، ويصطحبون في الأمصار؛ يعرف المؤمن من الكافر، حتى إن المؤمن يقول: يا كافر! اقضني حقي، وحتى إن الكافر يقول: يا مؤمن! اقضني حقي» .

قال ابن كثير في كتاب "النهاية" بعدما ساق هذا الحديث: "هكذا رواه مرفوعا من هذا الوجه بهذا السياق، وفيه غرابة. ورواه ابن جرير من طريقين عن حذيفة بن أسيد موقوفا". انتهى.

ورواه الطبراني مرفوعا. قال الهيثمي: "وفيه طلحة بن عمرو، وهو متروك". ورواه الحاكم في "مستدركه"، وقال:"صحيح الإسناد، وهو أبين حديث في ذكر دابة الأرض، ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي، فقال " طلحة - يعني: ابن عمرو الحضرمي - ضعفوه، وتركه أحمد ".

وعن سلمان رضي الله عنه مرفوعا: «مثل أمتي ومثل الدابة حين تخرج كمثل حيز بني، ورفعت حيطانه، وسدت أبوابه، وطرح فيه من الوحش كلها، ثم جيء بالأسد، فطرح وسطها، فارتعدت وأقبلت إلى النفق يلحسنه من كل جانب، كذلك أمتي عند خروج الدابة؛ لا يفر منها أحد؛ إلا مثلث بين عينيه، ولها سلطان من ربنا عظيم» .

ذكره صاحب "كنز العمال"، وقال:"رواه: أبو نعيم، والديلمي ".

وعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال "يبيت الناس يسيرون إلى جمع، وتبيت دابة الأرض تسري إليهم، فيصبحون وقد جعلتهم بين رأسها وذنبها؛ فما مؤمن؛ إلا تمسحه، ولا منافق ولا كافر؛ إلا تخطمه، وإن التوبة لمفتوحة، ثم يخرج الدخان، فيأخذ المؤمن منه كهيئة الزكمة، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق، حتى يكون كالشيء الحنيذ، وإن التوبة لمفتوحة، ثم تطلع الشمس

ص: 180

من مغربها".

رواه الحاكم في "مستدركه" من طريق الوليد بن جميع عن عبد الملك بن المغيرة عن عبد الرحمن بن البيلماني عن ابن عمر، وقال:"صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي فقال:" ابن البيلماني ضعيف، وكذا الوليد ".

وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «إن ربكم أنذركم ثلاثا: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال» .

رواه: ابن جرير، والطبراني. قال ابن كثير في "تفسيره":"وإسناده جيد".

باب

الأمر بالمبادرة بالأعمال قبل خروج الدابة

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدخان، والدابة، وخاصة أحدكم، وأمر العامة» .

رواه: الإمام أحمد، ومسلم. وزاد أحمد في رواية له:"وكان قتادة يقول: إذا قال: وأمر العامة؛ قال: أي: أمر الساعة".

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، ودابة الأرض، والدجال، وخويصة أحدكم، وأمر العامة» .

ص: 181

رواه ابن ماجه. قال في "الزوائد": "إسناده حسن".

قال النووي: "قال هشام: خاصة أحدكم: الموت، وخويصة: تصغير خاصة. وقال قتادة: أمر العامة: القيامة. كذا ذكره عنهما عبد بن حميد ". انتهى.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» .

رواه: مسلم، والترمذي، وابن جرير، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح".

وقد رواه الإمام أحمد، وقال فيه:"والدخان"؛ بدل: " الدجال ".

فصل

وقد أنكر أبو عبية ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من خروج الدابة في آخر الزمان، وتأول الدابة بتأويل باطل كعادته فيما لا يحتمله عقله مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة؛ مثل: خروج الدجال، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وخروج النار التي تحشر الناس من المشرق إلى المغرب

وغير ذلك مما تقدم التنبيه عليه في مواضعه.

قال في حاشية (ص190) من "النهاية" لابن كثير تعليقا على قول الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ}

الآية؛ ما نصه:

"لماذا لا يكون تكليم الدابة للإنسان بلسان الحال لا بلسان المقال؟! وإن من معاني التكليم التجريح؛ يقال: كلمه كلما إذا جرحه، وكلمه تكليما إذا أكثر الجراحات فيه؛ فلماذا لا تفهم الآية على هذا الوجه؟! ليس ما يمنع من

ص: 182

هذا ولا ذلك.

ولعل المراد بالدابة هي تلك الجراثيم الخطيرة التي تفتك بالإنسان وجسمه وصحته وبأمواله زروعا وثمارا ومواشي؛ جزاء له على بعض ما تجني يداه من إثم ونكر، وقصاصا على بعض تعديه لحدود الله وما شرع لعباده، والجراثيم الضارة الشديدة الخطورة منتشرة في كل مكان، تكاد تغطي مساحة الأرض وتملأ طبقات الجو، وهي تجرح وتقتل، ومن تجريحها وأذاها كلمات واعظة للناس لو كانت لهم قلوب ترجع بهم إلى الله ودينه، وتلزمهم المحجة التي ضلوا عنها وتركوها وراءهم ظهريا، ولسان الحال أبلغ من لسان المقال، وحمل صحاح الأحاديث النبوية وتفسير الآيات القرآنية الكريمة بما يناسب الواقع ويواكب المنطق ويتسق وفطرة الحياة أولى من السبح في أجواء من الخيال".

والجواب أن يقال: قد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة: أنهم قالوا في الدابة: إنها تكلم الناس كلاما؛ أي: تخاطبهم مخاطبة.

وقال مقاتل: تكلمهم بالعربية. وهذا يرد قول أبي عبية أن تكليم الدابة للإنسان يكون بلسان الحال لا بلسان المقال.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية: "تكلمهم: تجرحهم؛ بمعنى: تكتب على جبين الكافر كافر، وعلى جبين المؤمن مؤمن". وعنه: "تخاطبهم وتجرحهم". قال ابن كثير: "وهذا القول ينتظم المذهبين، وهو قوي حسن جامع لهما". انتهى.

وأما قوله: "ولعل المراد بالدابة تلك الجراثيم الخطيرة التي تفتك بالإنسان وجسمه وصحته وأمواله

إلى آخره".

فالجواب عنه من وجوه:

أحدها: أن يقال: إن تأويل الدابة التي تخرج من الأرض في آخر الزمان

ص: 183

بالجراثيم التي تفتك بالإنسان وجسمه وأمواله تأويل باطل مردود، وهو من جنس تأويلات القرامطة والباطنية، ويلزم على هذا التأويل الباطل تكذيب ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي تقدم ذكرها، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ينافي الإسلام.

الوجه الثاني: أن الجراثيم التي تفتك بالإنسان وصحته وأمواله قد كانت موجودة من أول الدنيا ومنتشرة في جميع أرجاء الأرض، وأما دابة الأرض؛ فإنما تخرج في آخر الزمان عند اقتراب الساعة. وعلى هذا؛ فتأويل الدابة بالجراثيم من أبطل التأويل وأبعده من المنقول والمعقول.

الوجه الثالث: أن الجراثيم أنواع لا تحصى، وأما دابة الأرض؛ فإنما هي دابة واحدة؛ كما يدل على ذلك ظاهر القرآن والأحاديث الصحيحة. وعلى هذا؛ فتأويل الدابة بالجراثيم يخالف القرآن والأحاديث الصحيحة، وما خالف القرآن والأحاديث الصحيحة؛ فإنه يجب اطراحه ورده على قائله.

الوجه الرابع: أن دابة الأرض التي أخبر الله بخروجها ليست من الدواب التي يعرفها الناس، ولا من الجراثيم، وإنما هي خلق عظيم هائل، من خوارق العادات؛ كما جاء بيان ذلك في بعض الأحاديث، ولهذا تزعج الناس وتفزعهم، وقد تقدم في بعض الأحاديث أنه يكون معها عصا موسى وخاتم سليمان، فتخطم أنف الكافر بالخاتم، وتجلو وجه المؤمن بالعصا، وقد أخبر الله عنها أنها تكلم الناس، وورد الإنذار بها في حديث أبي مالك الأشعري الذي تقدم ذكره.

وإذا كانت بهذه الصفة العظيمة؛ فمن أقبح الجهل قول أبي عبية: إنها هي الجراثيم التي تفتك بالإنسان وصحته وأمواله..... لأن الجراثيم لا ترى إلا بالمكبرات، فضلا عن أن تكون مما يكلم الناس ويخاطبهم، ويحمل عصا موسى وخاتم سليمان، ويجلو وجه المؤمن ويخطم أنف الكافر.

ص: 184

وعلى هذا؛ فتأويل دابة الأرض بالجراثيم في غاية البعد والبطلان، بل هو نوع من الهذيان.

وأما قوله: "وحمل صحاح الأحاديث النبوية وتفسير الآيات القرآنية الكريمة بما يناسب الواقع ويواكب المنطق ويتسق وفطرة الحياة أولى من السبح في أجواء من الخيال".

فجوابه من وجهين:

أحدهما: أن يقال: إن الواجب على المسلم أن يؤمن بما جاء في كتاب الله تعالى، وبما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيوب الماضية والآتية، ولا يجوز لأحد أن يرد ما خفي عليه منها، وما لا يحتمله عقله، ولا أن يحمل الآيات والأحاديث على غير ظاهرها من غير دليل من الكتاب أو السنة يدل على ذلك.

وإذا علم هذا؛ فحمل الأحاديث الواردة في الدابة على الجراثيم، وتفسير الآية الكريمة بذلك، وزعم أبي عبية أن ذلك يناسب الواقع ويواكب المنطق ويتسق وفطرة الحياة؛ لا شك أنه من تحريف الكلم عن مواضعه، وتحريف الكلم عن مواضعه لا يصدر من مؤمن.

الوجه الثاني: أن يقال: ما أخبر الله به عن الدابة أنها تكلم الناس، وما جاء في بعض الأحاديث من عظم خلقها، وأنه يكون معها عصا موسى وخاتم سليمان، وأنها تجلو وجه المؤمن وتخطم أنف الكافر؛ فكل ذلك حق على حقيقته، وليس من الخيال؛ كما قد توهم ذلك أبو عبية، ومن زعم أن ذلك من الخيال؛ فقد أخطأ خطأ كبيرا، وضل ضلالا بعيدا.

ولأبي عبية أيضا عدة تعاليق في (ص 193 و194 و195) من "النهاية" لابن كثير، تصدى فيها لإنكار بعض الآثار الواردة في صفة الدابة، وكل كلامه

ص: 185

في هذه المواضع باطل؛ فلا يغتر به.

وقال في حاشية (ص199) ما ملخصه: "سبق أن أشرنا إلى مفهوم الدابة بما يتفق والعقل والمنطق وسنة الدين الإسلامي، كما سبق أن أشرنا إلى أنها ظهرت وكثرت وانتشرت؛ فالدابة اسم جنس لكل ما يدب، وليست حيوانا مشخصا معينا يحوي العجائب والغرائب ويمثل على الحقيقة ما يعجز الخيال".

والجواب عن هذا من وجوه:

أحدها: أن يقال: ما أشار إليه أبو عبية من مفهوم الدابة عنده بما يتفق مع عقله ومنطقه ودينه؛ فإنه مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة؛ فلا يتفق مع عقولهم ولا مع منطقهم ودينهم؛ لأنهم يؤمنون بما جاء في كتاب الله تعالى وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيوب الماضية والآتية، ولا يحكمون عقولهم في شيء منها كما يفعله بعض أهل البدع، ولا يتأولون الآيات والأحاديث على غير تأويلها كما فعل ذلك أبو عبية ومن على شاكلته في كثير من أشراط الساعة، وقد قال الله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}

الآية.

الوجه الثاني: أن خروج الدابة من أشراط الساعة؛ كما دل على ذلك القرآن والأحاديث الصحيحة، وإذا خرجت الدابة؛ لم ينفع أحدا إيمانه إذا لم يكن مؤمنا قبل ذلك؛ كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» ؛ فلو كانت الدابة قد ظهرت كما زعم ذلك أبو عبية؛ لما كان الإيمان نافعا لمن آمن بعد خروجها، ويلزم على قول أبي عبية نفي الإيمان عن كل المؤمنين على وجه الأرض،

ص: 186

وهذا معلوم البطلان بالضرورة.

الوجه الثالث: أن يقال: إن الدابة التي تخرج من الأرض في آخر الزمان ليست بأنواع متعددة، وليست اسم جنس لكل ما يدب على الأرض؛ كما زعم ذلك أبو عبية، وإنما هي حيوان واحد؛ كما يدل على ذلك ظاهر القرآن والأحاديث الصحيحة، ولا عبرة بما يخالف ذلك من آراء الناس وتخرصاتهم.

الوجه الرابع: أن دابة الأرض من خوارق العادات؛ كما يدل على ذلك قول الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} ، وكما تدل على ذلك الأحاديث التي تقدم ذكرها، وما كان كذلك؛ فهو مما يعجز عنه الخيال، وأنى للخيال أن يتصور ما لم يشاهد الناس له نظيرا من الدواب؟!

فصل

وقد سلك بعض العصريين في إنكار خروج الدابة في آخر الزمان مسلكا غير مسلك أبي عبية، ورد عليه الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي، فأجاد وأفاد.

قال في كتابه "المسائل الكافية في بيان وجوب صدق خبر رب البرية" ما نصه:

"المسألة الثالثة والمائة: قال (أي: المردود عليه) : الدابة: كل حيوان يدب؛ أي: يمشي، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} ، والمعنى: إذا قامت القيامة؛ بعث الله نوعا مخصوصا من دواب هذه الأرض كما يبعث غيره من الدواب الأخرى، وينطقه، فيوبخ الإنسان على كفره؛ كما ينطق أعضاءه في ذلك اليوم أيضا؛ فليس المراد من

ص: 187

قوله: دابة الفرد، بل النوع".

قال الشيخ محمد بن يوسف: "أقول: قوله فيه صدق وكذب، بل كفر صريح؛ فالصدق قوله: الدابة كل حيوان يدب. والآية صدق. والاستدلال بها على ما ذكره من أن المراد بالدابة النوع لا الفرد كذب وكفر صريح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك. وكون المراد: أخرجنا لهم

إلى آخره؛ أي: بعثنا بعد الموت؛ افتراء على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، المخبر بخلاف ما أخبر به هذا الدجال الضال، بل الإخراج قبل يوم القيامة؛ لكون الدابة المخرجة من الأمارات التي تدل على قرب يوم القيامة، وهي فرد لا نوع كما يدعيه هذا الدجال.

أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة: الدجال، والدابة، ويأجوج ومأجوج، والدخان، وطلوع الشمس من مغربها» .

وهذا معلوم من الدين عند المسلمين بالضرورة". انتهى كلام الكافي.

وذكره أيضا في كتابه "الأجوبة الكافية عن الأسئلة الشامية" باختصار يسير، وقد صرح فيه بتكفير من قال: إن المراد بالدابة النوع لا الفرد.

باب

ما جاء في الدخان

قال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

قال ابن كثير في "النهاية": "وقد نقل البخاري عن ابن مسعود رضي الله

ص: 188

عنه: أنه فسر ذلك بما كان يحصل لقريش من شدة الجوع بسبب القحط الذي دعا عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهم يرى فيما بينه وبين السماء دخانا من شدة الجوع، وهذا تفسير غريب جدا، لم ينقل مثله عن أحد من الصحابة غيره، وقد حاول بعض العلماء المتأخرين رد ذلك ومعارضته؛ لما ثبت في حديث أبي سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنه:«لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات (فذكر فيهن الدجال والدخان والدابة) » ، وكذلك في حديث أبي هريرة:«بادروا بالأعمال ستا» (فذكر منهن هذه الثلاث") ، والحديثان في "صحيح مسلم " مرفوعان، والمرفوع مقدم على كل موقوف.

وفي ظاهر القرآن ما يدل على وجود دخان من السماء يغشى الناس، وهذا أمر محقق عام، وليس كما روي عن ابن مسعود: أنه خيال في أعين قريش من شدة الجوع.

وقال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ؛ أي: ظاهر واضح جلي، ليس خيالا من شدة الجوع، {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} ؛ أي: ينادي أهل ذلك الزمان ربهم بهذا الدعاء، يسألون كشف هذه الشدة عنهم؛ فإنهم قد آمنوا وأيقنوا ما وعدوا به من الأمور الغيبية الكائنة بعد ذلك يوم القيامة، وهذا دليل على أنه يكون قبل يوم القيامة، حيث يمكن رفعه، ويمكن استدراك التوبة والإنابة، والله أعلم". انتهى.

وعن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه؛ قال: «اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: "ما تذاكرون؟ ". قالوا: نذكر الساعة. قال: "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات.... (فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها) » الحديث.

رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وأهل السنن. وقال

ص: 189

الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وقد تقدم بتمامه في (باب ما جاء الآيات الكبار) .

وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات (وذكر منها الدخان) » .

رواه: الطبراني، وابن مردويه، والحاكم وصححه هو والذهبي، وقد تقدم بتمامه في (باب ما جاء في الآيات الكبار) .

وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم أنذركم ثلاثا: الدخان؛ يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال» .

رواه: ابن جرير، والطبراني. قال ابن كثير في "تفسيره":"وإسناده جيد".

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يهيج الدخان بالناس، فأما المؤمن؛ فيأخذه كالزكمة، وأما الكافر؛ فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه» .

رواه ابن أبي حاتم.

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول الآيات الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر؛ تقيل معهم إذا قالوا، والدخان". قال حذيفة: يا رسول الله! وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن؛ فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر؛»

ص: 190

«فيكون بمنزلة السكران؛ يخرج من منخريه وأذنيه ودبره» .

رواه: ابن جرير، والبغوي؛ بإسناد ضعيف، وله شاهد مما تقدم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

وعن علي رضي الله عنه؛ قال: "لم تمض آية الدخان بعد؛ يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وينفخ الكافر حتى ينفذ".

رواه ابن أبي حاتم.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: "يبيت الناس يسيرون إلى جمع، وتبيت دابة الأرض؛ تسري إليهم، فيصبحون وقد جعلتهم بين رأسها وذنبها؛ فما مؤمن إلا تمسحه، ولا منافق ولا كافر إلا تخطمه، وإن التوبة لمفتوحة، ثم يخرج الدخان، فيأخذ المؤمن منه كهيئة الزكمة، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق، حتى يكون كالشيء الحنيذ، وإن التوبة لمفتوحة، ثم تطلع الشمس من مغربها".

رواه الحاكم في "مستدركه" وصححه، وإسناده ضعيف، وقد تقدم في ذكر الدابة.

وقد رواه ابن جرير مختصرا، ولفظه: قال: "يخرج الدخان، فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام؛ ويدخل مسامع الكافر والمنافق، حتى يكون كالرأس الحنيذ".

وعن عبد الله بن أبي مليكة؛ قال: "غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم، فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت: لم؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب؛ فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت".

ص: 191

رواه: ابن جرير، وابن أبي خاتم. قال ابن كثير في "تفسيره":"إسناده صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما".

باب

الأمر بالمبادرة بالأعمال قبل ظهور الدخان

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستا (فذكرها، ومنها الدخان) » .

رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وتقدم بتمامه في ذكر الدجال والدابة.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «بادروا بالأعمال ستا (فذكرها، ومنها الدخان) » .

رواه ابن ماجه بإسناد حسن، وتقدم بتمامه في ذكر الدجال والدابة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث إذا خرجن؛ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، ودابة الأرض» .

رواه الإمام أحمد.

باب

ما جاء في طلوع الشمس من مغربها

عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه؛ قال: «اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: "ما تذاكرون؟ ". قالوا: نذكر الساعة. قال: "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات (وذكر منها طلوع الشمس من مغربها) » .

ص: 192

رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وأهل السنن. وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح". وقد تقدم بتمامه في (باب ما جاء في الآيات الكبار) .

وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات (وذكر منها: طلوع الشمس من مغربها) » .

رواه: الطبراني، وابن مردويه، والحاكم، وصححه الذهبي. وقد تقدم بتمامه في (باب ما جاء في الآيات الكبار) .

وعن أبي أمامة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول الآيات طلوع الشمس من مغربها» .

رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "وفيه فضالة بن جبير، وهو ضعيف، وأنكر هذا الحديث".

باب

الأمر بالمبادرة بالأعمال قبل طلوع الشمس من مغربها

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدخان، والدابة، وخاصة أحدكم، وأمر العامة» .

رواه: الإمام أحمد، ومسلم. وزاد أحمد في رواية له:"وكان قتادة يقول إذا قال: وأمر العامة: قال: أي: أمر الساعة".

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال:«بادروا»

ص: 193

«بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، ودابة الأرض، والدجال، وخويصة أحدكم، وأمر العامة» .

رواه ابن ماجه. قال في الزوائد: "إسناده حسن".

قال النووي: "قال هشام: خاصة أحدكم: الموت، وخويصة: تصغير خاصة. وقال قتادة: أمر العامة: القيامة. كذا ذكره عنهما عبد بن حميد ".

انتهى.

باب

أن التوبة لا تقبل بعد طلوع الشمس من مغربها

قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} .

قال البغوي في قوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} : "يعني: طلوع الشمس من مغربها، وعليه أكثر المفسرين. ورواه أبو سعيد الخدري مرفوعا: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} ؛ أي: لا ينفعهم الإيمان عند ظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان. {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} ؛ يريد: لا يقبل إيمان كافر ولا توبة فاسق". انتهى.

وقال ابن كثير في قوله تعالى: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} : "أي: إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ؛ لا يقبل منه، فأما من كان مؤمنا قبل ذلك؛ فإن كان مصلحا في عمله؛ فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحا؛ فأحدث توبة حينئذ؛ لم يقبل منه توبته؛ كما دلت عليه الأحاديث الكثيرة، وعليه يحمل قوله تعالى:{أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} ؛ أي: ولا يقبل منها كسب

ص: 194

عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك". انتهى.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في «قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} ؛ قال: "طلوع الشمس من مغربها» .

رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وقال:"هذا حديث حسن غريب". قال: "ورواه بعضهم ولم يرفعه".

وعن أبي سريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في «قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} ؛ قال: "طلوع الشمس من مغربها» .

رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله ثقات".

هكذا في "مجمع الزوائد": " أبو سريرة "! والظاهر أنه تصحيف، وأن صوابه أبو سعيد رضي الله عنه؛ لأنه قد روي من حديثه كما تقدم، ويحتمل أن يكون عن أبي هريرة رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون عن أبي سريحة - وهو حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه؛ فأما أبو سريرة؛ فلم أر في تراجم الصحابة رضي الله عنهم من يكنى بذلك. والله أعلم.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} ؛ قال: "طلوع الشمس من مغربها" (ثم قرأ هذه الآية: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} ".

قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت، ورآها الناس؛ آمن من عليها؛»

ص: 195

«فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» .

رواه: الإمام أحمد، والشيخان، وأهل السنن؛ إلا الترمذي.

وهذا لفظ إحدى روايات أحمد والبخاري، ولفظ مسلم. قال:«لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها؛ آمن الناس كلهم أجمعون؛ فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» .

ورواه: الإمام أحمد. والبخاري أيضا؛ بهذا اللفظ.

وعن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث إذا خرجن؛ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» .

رواه: مسلم، والترمذي، وابن جرير، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح".

وقد رواه الإمام أحمد، وقال فيه:"والدخان"؛ بدل: " الدجال ".

وعن أبي زرعة بن عمرو بن جرير؛ قال: «جلس ثلاثة نفر من المسلمين إلى مروان بالمدينة، فسمعوه وهو يحدث في الآيات أن أولها خروج الدجال. قال: فانصرف النفر إلى عبد الله بن عمرو، فحدثوه بالذي سمعوه من مروان في الآيات، فقال عبد الله: لم يقل مروان شيئا، قد حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك حديثا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول الآيات خروجا: طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة ضحى، فأيتهما ما كانت قبل صاحبتها؛ فالأخرى على إثرها ". ثم قال عبد الله - وكان يقرأ الكتب -: وأظن أولاها خروجا طلوع الشمس من مغربها، وذلك أنها كلما غربت؛ أتت تحت العرش، فسجدت، واستأذنت في الرجوع، فأذن لها في الرجوع، حتى إذا بدا لله أن تطلع من مغربها؛ فعلت كما كانت تفعل؛ أتت تحت العرش،»

ص: 196

«فسجدت، فاستأذنت في الرجوع، فلم يرد عليها شيء، ثم تستأذن في الرجوع؛ فلا يرد عليها شيء، ثم تستأذن؛ فلا يرد عليها شيء، حتى إذا ذهب من الليل ما شاء الله أن يذهب، وعرفت أنه إن أذن لها في الرجوع؛ لم تدرك المشرق؛ قالت: رب! ما أبعد المشرق! من لي بالناس؟ حتى إذا صار الأفق كأنه طوق؛ استأذنت في الرجوع، فيقال لها: من مكانك فاطلعي. فطلعت على الناس من مغربها. ثم تلا عبد الله هذه الآية: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} » .

رواه: الإمام أحمد وهذا لفظه، والبزار، والطبراني في "الكبير". قال الهيثمي:"ورجاله رجال الصحيح". وقد رواه: الإمام أحمد أيضا، ومسلم، وأبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، وابن ماجه؛ مختصرا. وفي رواية مسلم وأبي داود الطيالسي:"فأيهما ما كانت قبل صاحبتها؛ فالأخرى على إثرها قريبا". وفي رواية أحمد وابن ماجه نحوه. وقد رواه الحاكم في "مستدركه" مطولا بنحو رواية الإمام أحمد، ثم قال:"صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وقد رواه مسلم مختصرا كما تقدم ذكره.

وعن وهب بن جابر الخَيْواني؛ قال: كنت عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما

فذكر الحديث، وفيه: قال: ثم أنشأ يحدثنا؛ قال: "إن الشمس إذا غربت؛ سلمت وسجدت واستأذنت". قال: "فيؤذن لها، حتى إذا كان يوما غربت فسلمت وسجدت واستأذنت؛ فلا يؤذن لها، فتقول: أي رب! إن المسير بعيد، وإني إن لا يؤذن لي لا أبلغ". قال: "فتحبس ما شاء الله، ثم يقال لها: اطلعي من حيث غربت". قال: "فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل".

رواه: عبد الرزاق في "مصنفه"، والحاكم في "مستدركه" من طريقه،

ص: 197

وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".

وعن أبي ذر رضي الله عنه؛ قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: "تدري أين تذهب؟ ". قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن، فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها؛ فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} » .

متفق عليه، واللفظ للبخاري. ورواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والترمذي؛ بنحوه، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح".

قال: "وفي الباب عن صفوان بن عسال وحذيفة بن أسيد وأنس وأبي موسى ". انتهى.

وفي رواية لمسلم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما: " أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "إن هذه تجري، حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك، حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك؛ حتى يقال: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا، حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش، فيقال لها: ارجعي، ارتفعي، أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون متى ذاكم؟ ذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» .

ص: 198

وفي رواية لأحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تغيب الشمس تحت العرش، فيؤذن لها، فترجع، فإذا كانت تلك الليلة التي تطلع صبيحتها من المغرب؛ لم يؤذن لها، فإذا أصبحت؛ قيل لها: اطلعي من مكانك (ثم قرأ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} » .

وفي رواية له أخرى «عن أبي ذر رضي الله عنه؛ قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، وعليه برذعة أو قطيفة، قال: فذاك عند غروب الشمس، فقال لي: " يا أبا ذر! هل تدري أين تغيب هذه؟ ". قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تغرب في عين حامئة، تنطلق حتى تخر لربها عز وجل ساجدة تحت العرش، فإذا حان خروجها؛ أذن الله، فتخرج، فتطلع، فإذا أراد أن يطلعها من حيث تغرب؛ حبسها، فتقول: يا رب! إن مسيري بعيد. فيقول لها: اطلعي من حيث غبت. فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها» .

قال ابن العربي المالكي: "أنكر قوم سجود الشمس، وهو صحيح ممكن".

قلت: إنما ينكر ذلك من يرتاب في صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فأما من لا يشك في صدقه، ويعتقد أنه مبلغ عن ربه كما أخبر الله عنه في قوله:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ؛ فلا ينكر ذلك ولا يرتاب فيه.

فإن قيل: إن الشمس لا تزال طالعة على الأرض، ولكنها تطلع على جهة منها، وتغرب عن الجهة الأخرى؛ فأين يكون مستقرها الذي إذا انتهت إليه سجدت واستأذنت في الرجوع من المشرق؟!

فالجواب أن يقال: حسب المسلم أن يؤمن بما جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتقد أنه هو الحق، ولا يتكلف ما لا علم له به من تعيين الموضع الذي تسجد فيه الشمس، بل يكل علم ذلك إلى الله تعالى.

ص: 199

وقد روى: الإمام أحمد، والشيخان؛ «عن أبي ذر رضي الله عنه؛ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} ؛ قال: "مستقرها تحت العرش» .

فهذا المستقر الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذا انتهت إليه الشمس؛ سجدت، واستأذنت في الرجوع من المشرق، فيؤذن لها، فإذا كان في آخر الزمان؛ سجدت كما كانت تسجد، فلم يقبل منها، واستأذنت في الرجوع من المشرق؛ فلم يؤذن لها؛ يقال لها: ارجعي من حيث جئت. فتطلع من مغربها.

وقد قال ابن كثير رحمه الله تعالى في "البداية والنهاية" في الكلام على حديث أبي ذر رضي الله عنه وما جاء فيه من سجود الشمس ما ملخصه:

"لا يدل على أنها - أي الشمس - تصعد إلى فوق السماوات من جهتنا حتى تسجد تحت العرش، بل هي تغرب عن أعيننا وهي مستمرة في فلكها الذي هي فيه، فإذا ذهبت فيه حتى تتوسطه، وهو وقت نصف الليل؛ فإنها تكون أبعد ما تكون من العرش؛ لأنه مقبب من جهة وجه العالم، وهذا محل سجودها كما يناسبها، كما أنه أقرب ما تكون من العرش وقت الزوال من جهتنا، فإذا كانت في محل سجودها؛ استأذنت الرب جل جلاله في طلوعها من المشرق، فيؤذن لها، فتبدو من المشرق، وهي مع ذلك كارهة لعصاة بني آدم أن تطلع عليهم، فإذا كان الوقت الذي يريد الله طلوعها من جهة مغربها؛ تسجد على عادتها، وتستأذن في الطلوع من عادتها فلا يؤذن لها، فجاء أنها تسجد أيضا ثم تستأذن فلا يؤذن لها، ثم تسجد فلا يؤذن لها، وتطول تلك الليلة، فتقول: يا رب! إن الفجر قد اقترب، وإن المدى بعيد. فيقال لها: ارجعي من حيث جئت. فتطلع من مغربها، فإذا رآها الناس؛ آمنوا جميعا، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم

ص: 200

تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، وفسروا بذلك قوله تعالى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} . قيل: لوقتها الذي تؤمر فيه أن تطلع من مغربها. وقيل: مستقرها موضعها الذي تسجد فيه تحت العرش. وقيل: منتهى سيرها، وهو آخر الدنيا".

قلت: والقول الثاني أظهر، ويؤيده ما تقدم من رواية مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة»

الحديث.

قال ابن كثير: "وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قرأ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} ؛ أي: ليست مستقرة؛ فعلى هذا تسجد وهي سائرة". انتهى.

وقد علق أبو عبية على حديث أبي ذر رضي الله عنه في (ص198) من "النهاية" لابن كثير، فقال ما نصه:

"سجود الشمس تحت عرش الله عز وجل كناية عن تمام انقيادها لأمره واستجابتها له سبحانه، فما من شيء إلا يسبح بحمده جلت قدرته". انتهى.

والجواب عن هذا من وجوه:

أحدها: أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على أن الشمس تسجد لربها نصا لا يحتمل التأويل، وهذا النص يدل على أنها تسجد سجودا حقيقيا لا مجازيا، ومن زعم أن سجودها كناية عن تمام انقيادها لأمر الله واستجابتها له؛ فقد صرف النص عن ظاهره، ولا شك أن هذا من تحريف الكلم عن مواضعه.

ص: 201

الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الشمس تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، وهذا النص يدل على أنها إنما تسجد في موضع مخصوص، وهو مستقرها تحت العرش، ولو كان سجود الشمس كناية عن تمام انقيادها لأمر الله واستجابتها له؛ لكانت ساجدة على الدوام، ولا يخفى ما في هذا القول من المخالفة لنص الحديث، وما خالف النص؛ فهو قول باطل مردود، وكفى بالنص حجة على كل مبطل.

الوجه الثالث: أنه يلزم على قول أبي عبية إلغاء فائدة النص على سجود الشمس إذا انتهت إلى مستقرها تحت العرش، وما لزم عليه إلغاء النص؛ فهو قول سوء يجب اطراحه.

الوجه الرابع: أن كلام أبي عبية ظاهر في إنكار ما ثبت في الحديث صحيح من سجود الشمس لربها كلما انتهت إلى مستقرها تحت العرش، ولذلك صرف النص عن الحقيقة إلى الكناية التي تخالف مدلول الحديث، ولا شك أن هذا من الاستهانة بالأحاديث الصحيحة، وعدم احترامها، ومن سلك هذا المسلك؛ فهو على شفا هلكة.

وعن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «ذكرنا بابا من قبل المغرب، مسيرة عرضه (أو: يسير الراكب في عرضه) أربعين (أو: سبعين) عاما، خلقه الله يوم خلق السماوات والأرض مفتوحا (يعني: للتوبة) ، لا يغلق حتى تطلع الشمس منه» .

رواه: الإمام أحمد، والترمذي، وقال:"هذا حديث حسن صحيح".

وفي رواية لهما؛ قال: «إن الله عز وجل جعل بالمغرب بابا عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس من قبله، وذلك قول الله تبارك وتعالى:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا}

الآية» .

ص: 202

قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".

وقد رواه ابن ماجه في "سننه" بإسناد صحيح، ولفظه:«إن من قبل مغرب الشمس بابا مفتوحا، عرضه سبعون سنة، فلا يزال ذلك الباب مفتوحا للتوبة؛ حتى تطلع الشمس من نحوه، فإذا طلعت من نحوه؛ لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» .

وعن ابن السعدي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل» . فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، فإذا طلعت؛ طبع على كل قلب بما فيه، وكفي الناس العمل» .

رواه الإمام أحمد. قال ابن كثير في "النهاية": "وإسناده جيد قوي". وقال الهيثمي: "رواه أحمد والطبراني في "الأوسط" و"الصغير" من غير ذكر حديث ابن السعدي، والبزار من حديث عبد الرحمن بن عوف وابن السعدي فقط، ورجال أحمد ثقات". قال: "وروى أبو داود والنسائي بعض حديث معاوية ". انتهى.

وقد وقع في (ص202) من "النهاية" لابن كثير في النسخة التي تولى أبو عبية الإشراف عليها والتعليق عليها ما نصه: "عن ابن السعدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنفع الهجرة ما دام العدو يقاتل» .

وهذا تحريف قبيح جدا، وقد زاد أبو عبية الطين بلة، فقال في عنوان وضعه لهذا الحديث ما نصه:"لا تقبل هجرة المهاجرين والعدو يقاتلهم".

وفي هذا العنوان أوضح دليل على كثافة جهل واضعه وشدة بعده عن

ص: 203

معرفة الأحاديث النبوية، وقد قلب في هذا العنوان فائدة الحديث رأسا على عقب، حيث زعم أن الهجرة غير مقبولة حين قتال المهاجرين لعدوهم، ولا شك أن هذا من تحريف الكلم عن مواضعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الهجرة لا تنقطع ما دام العدو يقاتل؛ أي: إلى آخر الزمان، حين تطلع الشمس من مغربها، وينقطع قتال العدو؛ فحينئذ تنقطع الهجرة. والله أعلم.

وعن معاوية رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» .

رواه: الإمام أحمد، وأبو داود، والبخاري في "الكنى".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها؛ تاب الله عليه» .

رواه: الإمام أحمد، ومسلم، وابن جرير.

وعن أبي موسى رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها» .

رواه: الإمام أحمد، ومسلم.

«وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما؛ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ما آية طلوع الشمس من مغربها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تطول تلك الليلة حتى تكون قدر ليلتين، فينتبه الذين كانوا يصلون فيها، فيعملون كما كانوا يعملون قبلها، والنجوم لا ترى، قد غابت مكانها، ثم يرقدون، ثم يقومون فيصلون، ثم يرقدون، ثم يقومون؛ تبطل عليهم جنوبهم، حتى يتطاول عليهم الليل، فيفزع الناس ولا يصبحون؛ فبينما هم ينتظرون طلوع الشمس من»

ص: 204

«مشرقها؛ إذا طلعت من مغربها؛ فإذا رآها الناس آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم» .

رواه ابن مردويه.

وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليأتين على الناس ليلة تعدل ثلاث ليال من لياليكم هذه، فإذا كان ذلك؛ يعرفها المتنفلون، يقوم أحدهم فيقرأ حزبه ثم ينام، ثم يقوم فيقرأ حزبه ثم ينام، فبينما هم كذلك؛ إذ صاح الناس بعضهم في بعض، فقالوا: ما هذا؟! فيفزعون إلى المساجد؛ فإذا هم بالشمس قد طلعت، حتى إذا صارت في وسط السماء؛ رجعت، فطلعت من مطلعها". قال: "فحينئذ لا ينفع نفسا إيمانها» .

رواه ابن مردويه.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أنه قال ذات يوم لجلسائه: أرأيتم قول الله تعالى: {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ؛ ماذا يعني بها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إنها إذا غربت سجدت له وسبحته وعظمته، ثم كانت تحت العرش، فإذا حضر طلوعها؛ سجدت له، وسبحته، وعظمته، ثم استأذنته، فيقال لها: اثبتي! فتجلس مقدار ليلتين. قال: ويفزع المتهجدون، وينادي الرجل تلك الليلة جاره: يا فلان! ما شأننا الليلة؟ لقد نمت حتى شبعت، وصليت حتى أعييت. ثم يقال لها: اطلعي من حديث غربت؛ فذلك يوم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا".

رواه البيهقي في "البعث والنشور".

وقال عوف الأعرابي عن محمد بن سيرين: حدثني أبو عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه كان يقول: "الآية التي تختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها، ألم تر أن الله يقول:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}

الآية كلها؛ يعني: طلوع الشمس من مغربها".

ص: 205

وذكره ابن كثير في "تفسيره" بأطول من هذا، ولم يذكر من خرجه من أصحاب الكتب.

وقد رواه الحاكم في "مستدركه" من طريق عوف عن أنس بن سيرين عن أبي عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه، فذكره بنحوه، ثم قال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".

وقد ساق ابن كثير رحمه الله تعالى في كتابه "النهاية" جملة من الأحاديث التي جاءت في طلوع الشمس من مغربها، وذكر قبلها قول الله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} .

ثم قال: "فهذه الأحاديث المتواترة مع الآية الكريمة دليل على أن من أحدث إيمانا وتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لا يقبل منه، وإنما كان كذلك - والله أعلم - لأن ذلك من أشراط الساعة وعلاماتها الدالة على اقترابها ودنوها؛ فعومل ذلك الوقت معاملة يوم القيامة.

كما قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} .

وقال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} .

وقال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} انتهى.

ص: 206