الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب
أن المسيح يحكم بالشريعة المحمدية
قد تقدم حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:«ثم يجيء عيسى ابن مريم عليهما السلام من قبل المغرب مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملته»
…
".
رواه: الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، والطبراني.
قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
وتقدم أيضا حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أهبط الله تعالى إلى الأرض منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أعظم من فتنة الدجال
…
(الحديث، وفيه:) ثم ينزل عيسى ابن مريم مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم على ملته» .
رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط". قال الهيثمي: "ورجاله ثقات" وفي بعضهم ضعف لا يضر".
وعن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم إذا نزل عيسى ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» .
رواه: الإمام أحمد، والشيخان.
ورواه عبد الرزاق في "مصنفه"، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف بكم إذا نزل فيكم ابن مريم حكما، فأمكم (أو قال: إمامكم) منكم» .
وفي رواية لمسلم: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وأمكم» .
وفي أخرى له: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم فأمكم منكم» .
قال الوليد بن مسلم: فقلت لابن أبي ذئب: إن الأوزاعي حدثنا عن الزهري عن نافع عن أبي هريرة: "وإمامكم منكم". قال ابن أبي ذئب: تدري ما "أمكم منكم"؟ قلت: تخبرني؟ قال: فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو ذر الهروي: حدثنا الجوزقي عن بعض المتقدمين؛ قال: "معنى: "وإمامكم منكم"؛ يعني: أنه يحكم بالقرآن لا بالإنجيل".
وقال ابن التين: "معنى قوله: وإمامكم منكم": أن الشريعة المحمدية متصلة إلى يوم القيامة، وأن في كل قرن طائفة من أهل العلم".
باب
ما جاء في حج المسيح وعمرته
قد تقدم ما رواه عبد بن حميد عن أبي هريرة رضي الله عنه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} ؛ قال: "خروج عيسى، يمكث في الأرض أربعين سنة، تكون تلك الأربعون كأربع سنين يحج ويعتمر".
وهذا الأثر له حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي، وإنما يقال عن توقيف.
وعن حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده؛ ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما» .
رواه: الإمام أحمد، ومسلم.
ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي»
«نفسي بيده؛ ليهلن ابن مريم من فج الروحاء بالحج أو بالعمرة أو ليثنينهما» .
وفي رواية لأحمد وابن أبي حاتم: «ينزل عيسى ابن مريم، فيقتل الخنزير، ويمحو الصليب، وتجمع له الصلاة، ويعطي المال حتى لا يقبل، ويضع الخراج، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما» . قال: وتلا أبو هريرة: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}
…
الآية، فزعم حنظلة أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: يؤمن به قبل موت عيسى. فلا أدري هذا كله حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو شيء قاله أبو هريرة رضي الله عنه.
وعن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه؛ قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بالروحاء؛ نزل بعرق الظبية وصلى، ثم قال:«صلى قبلي في هذا المسجد سبعون نبيا، ولقد قدمها موسى عليه عباءتان قطوانيتان على ناقة ورقاء في سبعين ألفا من بني إسرائيل، ولا تقوم الساعة حتى يمر بها عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله حاجا، أو معتمرا، أو يجمع الله ذلك له» .
رواه أبو نعيم في "الحلية".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليهبطن عيسى ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا، وليسلكن فجا حاجا أو معتمرا أو بنيتهما، وليأتين قبري حتى يسلم علي، ولأردن عليه» . قال أبو هريرة رضي الله عنه: أي بني أخي! إن رأيتموه؛ فقولوا: أبو هريرة يقرئك السلام.
رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وعن أبي الأشعث الصنعاني؛ قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: "يهبط عيسى، فيصلي الصلوات، ويجمع الجمع، ويزيد في الحلال،
كأني به تُجِد به رواحله ببطن الروحاء حاجا أو معتمرا".
رواه ابن عساكر في "تاريخه".
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما؛ قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة. قلت: يا رسول الله! من أين تخرج؟ قال: تخرج من أعظم المساجد حرمة على الله، بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون؛ إذ تضطرب الأرض تحتهم، وتنشق الصفا مما يلي المشعر، وتخرج الدابة من الصفا»
…
الحديث.
رواه ابن جرير.
باب
ما جاء في مدة لبث المسيح في الأرض
قد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال في عيسى: «فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون» .
رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، وابن جرير، وابن حبان في "صحيحه" والحاكم في "مستدركه"، وأبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة". وقال الحاكم:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وقد رواه أبو داود الطيالسي والطبراني في "الأوسط" مختصرا، ولفظ أبي داود: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يمكث عيسى في الأرض بعدما ينزل أربعين سنة، ثم يموت ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه» ، ولفظ الطبراني: قال: "ينزل عيسى ابن مريم، فيمكث في الناس أربعين سنة".
قال الهيثمي: "رجاله ثقات".
وقد تقدم ما رواه عبد بن حميد عن أبي هريرة رضي الله عنه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} ؛ قال: "خروج عيسى، يمكث في الأرض أربعين سنة، تكون تلك الأربعون كأربع سنين؛ يحج ويعتمر".
باب
ما جاء في قبر المسيح
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه؛ قال: "يدفن عيسى ابن مريم عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فيكون قبره رابعا".
رواه الطبراني. قال الهيثمي: "وفيه عثمان بن الضحاك، وثقه ابن حبان، وضعفه أبو داود ".
وروى الترمذي في كتاب المناقب من "جامعه" من طريق أبي مودود المدني: حدثنا عثمان بن الضحاك عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده رضي الله عنه؛ قال: "مكتوب في التوراة صفة محمد، وعيسى ابن مريم يدفن معه".
قال أبو مودود: قد بقي في البيت موضع قبر.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب. هكذا قال: عثمان بن الضحاك، والمعروف: الضحاك بن عثمان المديني ". انتهى كلام الترمذي.
وقد رواه أبو بكر الآجري في "كتاب الشريعة" من طريق عبد الله بن نافع الصائغ عن الضحاك بن عثمان عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه رضي الله عنه؛ قال: "الأقبر المنارية: قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر أبي بكر رضي الله عنه، وقبر عمر رضي الله عنه، وقبر رابع يدفن فيه عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم".
فصل
وقد اشتملت الأبواب التي في ذكر نزول عيسى عليه الصلاة والسلام على خمسة وخمسين حديثا مرفوعا، أكثرها صحيح، والباقي غالبه من الحسان، وجاء في ذلك آثار كثيرة عن بعض الصحابة والتابعين، ذكرتها في أول الأبواب وفي أثنائها، ومع هذا؛ فقد أنكر بعض أهل الأهواء والبدع نزوله، وزعموا أنه قد مات، وقد تبعهم على ذلك بعض المشايخ العصريين، والجميع مقلدون لليهود والنصارى الذين يزعمون أن عيسى قد قتل وصلب.
وقد رأيت جوابا لشلتوت أنكر فيه حياة المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وزعم أنه قد مات موتة عادية، وأنكر أن يكون مرفوعا بجسمه إلى السماء، وأنه فيها حي إلى الآن، وأنكر نزوله إلى الأرض في آخر الزمان حكما عدلا، فخالف ما جاء به القرآن وتواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها.
وقد تقدم ذكر الأدلة من القرآن والسنة على نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، وسيأتي ذكر الإجماع على ذلك إن شاء الله تعالى.
ثم إن شلتوتا لم يكتف بمخالفة الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، بل ضم إلى ذلك الطعن في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال:"إنها روايات مضطربة، مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافا لا مجال معه للجمع بينها"!
كذا قال! وكل من له أدنى علم ومعرفة بالحديث يعلم يقينا أن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام متفقة متعاضدة لا اضطراب فيها ولا اختلاف بينها بحمد الله تعالى.
ثم إنه أردف ذلك بخطأ آخر، فقال:"وقد نص على ذلك علماء الحديث".
والجواب أن يقال: هذا غير صحيح؛ فإن علماء الحديث قد تلقوا الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام بالقبول، ودونوها في كتب الصحاح والسنن والمسانيد، وذكروا مضمونها في كتب العقائد السلفية.
قال إمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى في "عقيدة أهل السنة والجماعة" التي رواها عنه عبدوس بن مالك العطار: "والإيمان أن المسيح الدجال خارج، مكتوب بين عينيه كافر، والأحاديث التي جاءت فيه، والإيمان بأن ذلك كله كائن، وأن عيسى ابن مريم ينزل، فيقتله بباب لد
…
".
انتهى.
وقال الإمام أبو محمد البربهاري رحمه الله تعالى في "شرح السنة": "والإيمان بنزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم؛ ينزل، فيقتل الدجال، ويتزوج، ويصلي خلف القائم من آل محمد صلى الله عليه وسلم، ويموت، ويدفنه المسلمون" انتهى.
وقال الطحاوي رحمه الله تعالى في "العقيدة" المشهورة: "ونؤمن بأشراط الساعة؛ من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء...." انتهى.
وقال الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رحمه الله تعالى في كتابه "مقالات الإسلاميين": "جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئا (إلى أن قال:) ويصدقون بخروج الدجال، وأن عيسى ابن مريم يقتله". انتهى.
وهذا حكاية إجماع من أهل الحديث والسنة على نزول عيسى عليه
الصلاة والسلام. والعبرة بهم، ولا عبرة بمن خالفهم؛ كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "الكافية الشافية".
لا عبرة بمخالف لهم ولو
…
كانوا عديد الشاء والبعران
وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي رحمه الله تعالى في رسالته المشهورة: "والإيمان بما ثبت من خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام حكما عدلا يقتل الدجال...." انتهى.
وقال الإمام أبو أحمد بن الحسين الشافعي المعروف بابن الحداد في عقيدة له: "وأن الآيات التي تظهر عند قرب الساعة؛ من الدجال، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، والدخان، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وغيرها من الآيات التي وردت بها الأخبار الصحاح حق....". انتهى.
وقال الإمام الموفق أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى في عقيدته المشهورة: "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه صدق وحق
…
(إلى أن قال:) ومن ذلك أشراط الساعة؛ مثل: خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة.... وأشباه ذلك مما صح به النقل". انتهى.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: "مسألة: عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم حي رفعه الله تعالى إليه بروحه وبدنه، وقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ؛ أي: قابضك، وكذلك ثبت أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية؛ حكما عدلا مقسطا، ويراد بالتوفي: الاستيفاء، ويراد به الموت ويرتد به النوم، ويدل على كل واحد القرينة التي معه". انتهى.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى في "شرح مسلم": "نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال حق وصحيح عند أهل السنة؛ للأحاديث الصحيحة في ذلك، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله، فوجب إثباته، وأنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، وبقوله: صلى الله عليه وسلم: «لا نبي بعدي» ، وبإجماع المسلمين أنه لا نبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة لا تنسخ. وهذا استدلال فاسد؛ لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه السلام أنه ينزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا، ولا في هذه الأحاديث ولا في غيرها شيء من هذا، بل صحت هذه الأحاديث هنا وما سبق في كتاب الإيمان وغيرها أنه ينزل حكما مقسطا؛ يحكم بشرعنا، ويحيي من أمور شرعنا ما هجره الناس". انتهى كلامه، وقد نقله النووي في "شرح مسلم" وأقره.
وقال القاضي عياض أيضا في الكلام على أحاديث الدجال: "هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه، ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى؛ من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره، ونهريه، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك، فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويبطل أمره، ويقتله عيسى صلى الله عليه وسلم، ويثبت الله الذين آمنوا. هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار؛ خلافا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة". انتهى المقصود من كلامه، وقد نقله النووي في "شرح مسلم" وأقره.
وقال المناوي في "شرح الجامع الصغير": "أجمعوا على نزول عيسى
عليه الصلاة والسلام نبيا لكنه بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم".
وقال المناوي أيضا في موضع آخر من "شرح الجامع الصغير": "حُكي في المطامح إجماع الأمة على نزوله، ولم يخالف أحد من أهل الشريعة في ذلك، وإنما أنكره الفلاسفة والملاحدة". انتهى.
وقال السفاريني في "شرح عقيدته": "نزول المسيح عيسى ابن مريم ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة
…
(ثم ذكر دليل ذلك من الكتاب والسنة، إلى أن قال:) وأما الإجماع؛ فقد أجمعت الأمة على نزوله، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافه، وقد انعقد إجماع الأمة على أنه ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية". انتهى.
ولو ذهبت أنقل ما ذكره غير هؤلاء؛ لطال الكلام، وفيما ذكرته كفاية لبيان خطأ شلتوت فيما ذهب إليه وما حاوله من قلب الحقيقة.
ثم إنه أردف ذلك بخطأ ثالث، فقال:"وهي فوق ذلك من روايات وهب بن منبه وكعب الأحبار، وهما من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام، وقد عرفت درجتهم في الحديث عند علماء الجرح والتعديل".
والجواب أن يقال: هذا من نمط ما قبله من القول بغير علم؛ فإن الأحاديث التي ذكرنا في نزول المسيح ليس فيها شيء من روايات كعب الأحبار ووهب بن منبه، وإنما أراد شلتوت أن يوهم الجهال أنه ليس في نزول عيسى إلا أخبار أهل الكتاب؛ ليكون لقوله الباطل موقع وقبول عند الأغبياء، ويروج لديهم قوله الباطل في موت المسيح، ومسلكه الفاسد في تكذيب الأحاديث الصحيحة الدالة على نزوله في آخر الزمان.
وإذا كان قد روي عن كعب الأحبار ووهب بن منبه بعض الآثار في رفع المسيح؛ فلا يكون ذلك قادحا في الأحاديث الصحيحة الدالة على نزوله في
آخر الزمان، ولا موجبا لردها، ولا ينبغي القطع بتكذيب ما روي عنهما في رفع المسيح من غير دليل يدل على ذلك.
وأما قدحه في كعب الأحبار ووهب بن منبه بمجرد الهوى؛ فالجواب عنه أن يقال: ليس شلتوت ممن يعرف الرجال حتى يقبل قوله في الجرح والتعديل.
فأما كعب الأحبار؛ فقد روى عنه: ابن عمر، وأبو هريرة، وابن عباس، وابن الزبير، ومعاوية؛ رضي الله عنهم، وجماعة من كبار التابعين، وأخرج له البخاري ومسلم في "صحيحيهما" وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من الأئمة، ولو كان الأمر فيه كما يقول المبطلون؛ لبين هؤلاء الأئمة حاله، ولم يخرجوا عنه.
ويكفي في تعديله ما رواه مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد: أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأله عن جرادات قتلها وهو محرم، فقال عمر رضي الله عنه لكعب: "تعالى حتى نحكم
…
" وذكر تمام الحديث، فلولا أنه عدل عند عمر رضي الله عنه؛ لما أمره أن يحكم معه في جزاء الصيد، وقد قال الله تعالى:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} .
وقال محمد بن سعد في "الطبقات": "أخبرت عن معاوية بن صالح الحضرمي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير؛ قال: قال معاوية رضي الله عنه: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده لعلم كالثمار، وإن كنا فيه لمفرطين".
وقد ذكره الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب"، وقال:"ثقة من الثانية".
وأما وهب بن منبه؛ فقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج حديثه، وأخرج له أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من الأئمة، وهذا كاف في تعديله ورد ما
يبهته به جهلة العصريين.
وقد ذكره الذهبي في "الميزان"، وقال:"كان ثقة صادقا. قال العجلي: ثقة تابعي كان على قضاء صنعاء. وقال مثنى بن الصباح: لبث وهب عشرين سنة لم يجعل بين العشاء والصبح وضوءا".
وذكره الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب"، وقال:"ثقة من الثالثة".
وذكره الخزرجي في "الخلاصة"، وقال:"وثقة النسائي. قال مسلم بن خالد: لبث وهب أربعين سنة لم يرقد على فراشه".
وهذا كاف في الثناء عليه ورد ما زعمه شلتوت فيه.
ثم إن شلتوتا أتى بخطأ رابع، فقال عن المفسرين:"إنهم يعتمدون على حديث فردي عن أبي هريرة اقتصر فيه على الإخبار بنزول عيسى، وإذا صح الحديث؛ فهو حديث آحاد".
والجواب أن يقال: قد ذكرنا من الأحاديث الكثيرة المتواترة ما يشهد بخطئه في هذه الدعوى.
وقد قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير سورة الزخرف: "تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا". انتهى.
وساق جملة منها في تفسير سورة النساء، ثم قال:"فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وأبي أمامة والنواس بن سمعان وعبد الله بن عمرو بن العاص ومجمع بن جارية وأبي سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنهم". انتهى.
وقد ذكرت فيما تقدم من الأحاديث الصحيحة والحسنة في نزول عيسى
عليه الصلاة والسلام أضعاف أضعاف ما ذكره ابن كثير هاهنا؛ فلتراجع؛ ففيها أبلغ رد على ما زعمه شلتوت عن المفسرين أنهم كانوا يعتمدون في نزول عيسى على حديث فردي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد تقدم في ذكر المهدي قول الشوكاني: "إن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة، والأحاديث الواردة في الدجال متواترة، والأحاديث الواردة في نزول عيسى ابن مريم متواترة". انتهى.
ثم إن ظاهر كلام شلتوت يدل على أنه لا يرى صحة حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي فيه الإخبار بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام، ولذلك أتى بـ (إذا) الشرطية المقتضية لتعليق ما دخلت عليه بجملة قبلها محذوفة معناها إنكار صحة الحديث أو التوقف في ثبوت صحته، وصنيعه هذا يدل على أحد شيئين:
إما إرادة التمويه والتلبيس على الجهلة الأغبياء بأنه لم يصح في نزول عيسى شيء من الأحاديث المروية في نزوله. وهذا هو الأظهر.
وإما كثافة الجهل؛ بحيث لا يفرق بين ما اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في "صحيحيهما" وبين ما يرويه المتساهلون بنقل الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ومن بلغ به الجهل إلى التوقف في صحة حديث اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في "صحيحيهما"؛ فليس من أهل العلم، ولا ينبغي أن يعتمد عليه في شيء من أمور الدين.
ثم إن شلتوتا أتى بخطأ خامس، فقال:"وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصح عليها في شأن المغيبات".
والجواب أن يقال: من هؤلاء العلماء الذي أجمعوا على هذا القول الباطل؟! أهم علماء السنة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان؟! أم هم
أئمة الضلال ورؤوس أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ونحوهم؟!
فإن كان مراده هذا الفريق الأخير؛ فنعم، هو من أقوالهم التي ابتدعوها، ما أنزل الله بها من سلطان، وكفى بالرجل جهلا أن يجعل أقوال أهل البدع ميزانا للسنة المطهرة، وأن يحكيها إجماعا يعتمد عليه!!
وإن كان مراده الفريق الأول؛ فحاشا وكلا؛ فإنه لا يعرف عن أحد من الصحابة ولا من بعدهم من التابعين وتابعيهم بإحسان أنهم قالوا بهذا القول المبتدع، بل المعروف عنهم أنهم كانوا يتلقون أخبار الثقات بالقبول والتسليم؛ عملا بها، وتصديقا لها، سواء تواترت أو كانت أخبار آحاد، ولا يعرف بينهم نزاع في ذلك، والروايات عنهم بقبول أخبار الآحاد كثيرة، وليس هذا موضع ذكرها، وقد ذكرت جملة منها مع الأدلة من الكتاب والسنة على قبول أخبار الآحاد في أول الكتاب، وذكرت أيضا ما ذكره ابن القيم رحمه الله عن إسحاق بن راهويه وجماعة من أصحاب أحمد وغيرهم: أنهم ذهبوا إلى تكفير من يجحد ما ثبت بخبر الواحد العدل؛ فليراجع ذلك في أول الكتاب.
فصل
وقد خبط أبو عبية في تعاليقه على "النهاية" لابن كثير في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام كما خبط قبل ذلك في خروج الدجال وفي غيره مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في آخر الزمان، وقد نبهت على بعض أباطيله فيما تقدم، ونبهت على ما قاله في خروج الدجال في (باب قتل الدجال) وما بعده؛ فليراجع.
وقد قال في (ص71) معلقا على حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إن الساعة لن تقوم حتى تروا عشر آيات
…
(فذكرها،»
«ومنها:) نزول عيسى ابن مريم» .
قال أبو عبية ما نصه: "هل بقي عيسى عليه السلام حتى الآن حيا وسينزل إلى الأرض ليجدد الدعوة إلى دين الله بنفسه، أم أن المراد بنزول عيسى هو انتصار دين الحق وانتشاره من جديد على أيد مخلصة تتجه إلى الله وتعمل على تخليص المجتمع الإنساني من الشرور والآثام؟ رأيان، ذهب إلى كل منهما فريق من العلماء.
وهذا هو ما يقال بالنسبة إلى الدجال: هل هو شخص من لحم ودم ينشر الفساد ويهدد العباد ويملك وسائل الترغيب والترهيب والإفساد دون رادع من دين أو وازع من خلق حتى يقيض له عيسى فيقتله، أم أنه رمز لانتشار الشر وشيوع الفتنة وضعف نوازع الفضيلة، تهب عليه ريح الخير المرموز إليها بعيسى عليه السلام، فتذهبه، وتقضى عليه، وتأخذ بيد الناس إلى محجة الخير ومنهج العدل والتدين؟!
وما دمنا بصدد بيان الرأي في الدجال وظهوره وعيسى عليه السلام ونزوله؛ فإنه من المناسب أن نشير إلى أن النار المشار إليها في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام أنها تسوق الناس إلى محشرهم؛ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل من يتخلف منهم؛ فإن من المناسب أن نشير إلى أن هذه النار يمكن حملها على نار الفتنة التي يمتحن بها الدين وتتعرض لها العقيدة، والتي تترصد الناس لتصدهم عن الله، وتردهم عن الحق والخير، وأن من هرب منها؛ نجا، أما من تلكأ عن أخذ الحيطة وآثر الكسل أو عدم المبالاة؛ فإنها تحرقه حين تحرق دينه، وتأكله إذ تأكل يقينه، وتقذف به إلى عذاب أليم من الحيرة والقلق ثم غضب الله ونقمته".
وقال أبو عبية أيضا في (ص166) من "النهاية" لابن كثير تعليقا على قول
ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ؛ قال: "قبل موت عيسى ابن مريم "، رواه ابن جرير بإسناد صحيح.
قال أبو عبية ما نصه: "
…
امتداد حياة عيسى عليه السلام حتى الآن ليس موضع اتفاق بين علماء المسلمين، ولم يرد نص قاطع في هذا الأمر، ولهذا؛ فالقول بموت عيسى أو بحياته ليس داخلا في نطاق ما يكلف المسلم الإيمان به، فللمسلم أن يختار ما تطمئن إليه نفسه، وليس للمسلمين أن يجعلوا من موت عيسى أو حياته موضوع خلاف أو موضع جدل، إنما الذي يجب الإيمان به بقطع ويقين أنه عليه السلام لم يقتل ولم يصلب:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} ، وعلينا أن نلاحظ حقيقة قرآنية واضحة، وهي أن القرآن الكريم لم يستعمل مادة (رفع) في غير الرفع المعنوي، رفع القدر والقيمة والمنزلة، اللهم إلا في موضع واحد لا غيره، وذلك قوله تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} ، ولهذا فنحن نؤثر أن يكون عيسى عليه السلام قد رفع مكانة لا مكانا؛ لما في هذا الفهم من زيادة التكريم والتعظيم لذلك النبي الكريم، حتى لا يكون هو وحده بدعا بين أنبياء الله ورسله؛ إذ تحدث كتاب الله عن رفعهم معنويا لا حسيا، وشتان بين الرفعين".
والجواب أن يقال: إن كلام أبي عبية في هذه المواضع التي ذكرنا كله باطل وتحريف للكلم عن مواضعه وتشكيك للمسلمين فيما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، وفيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من خروج النار التي تسوق الناس إلى المحشر في آخر الزمان.
ويلزم على قول أبي عبية أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر الناس بأشياء لا حقيقة لها في نفس الأمر، ولا يخفى أن القول بهذا يقتضي القدح في النبي صلى الله عليه وسلم ورميه بالكذب، وقد نقل القاضي عياض في كتاب "الشفاء" وابن حجر الهيتمي في كتاب "الزواجر" الإجماع على تكفير من نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يليق بمنصبه.
فليتق الله أبو عبية، ولا يأمن أن يكون من الذين أجمع العلماء على تكفيرهم.
فأما قوله: "هل بقي عيسى عليه السلام حتى الآن حيا، وسينزل إلى الأرض؛ ليجدد الدعوة إلى دين الله بنفسه؟! ".
فجوابه أن يقال: قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان حكما عدلا، وهي أدلة قاطعة على بقاء حياته إلى آخر الزمان.
وقد تقدم عن الحسن البصري أنه قال: "والله؛ إنه لحي الآن عند الله".
رواه بن جرير.
وتقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال مخبرا عن عيسى عليه الصلاة والسلام: «أنه يدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه (وفي رواية: في إمارته) الملل كلها؛ إلا الإسلام» وفي رواية: ويقاتل الناس على الإسلام"".
فهذا واضح في أن عيسى عليه الصلاة والسلام يجدد الدعوة إلى دين الله بنفسه.
وأما قوله: "أم أن المراد بنزول عيسى هو انتصار دين الحق وانتشاره من
جديد على أيد مخلصة تتجه إلى الله وتعمل على تخليص المجتمع الإنساني من الشرور والآثام؟! ".
فجوابه أن يقال: تأويل نزول عيسى عليه الصلاة والسلام بانتصار الحق وانتشاره من جديد على أيد مخلصة تأويل باطل وتحريف للكلم عن مواضعه، وهو من جنس تأويلات القرامطة والباطنية، ويلزم على هذا التأويل الباطل تكذيب ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الإخبار بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان حكما عدلا، ومن كذب بشيء مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو ممن يشك في إسلامه؛ لأنه لم يحقق الشهادة بأن محمدا رسول الله.
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد؛ أقررنا به، وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه؛ رددنا على الله أمره، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ".
وأما قوله: "رأيان ذهب إلى كل منهما فريق من العلماء".
فجوابه أن يقال: أما علماء أهل السنة والجماعة، وهم العلماء في الحقيقة؛ فهم متفقون على الإيمان بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وقد تقدم ذكر طرف من أقوالهم في ذلك قريبا، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ومن تبعهم من أهل البدع، ولا عبرة بخلافهم.
وإذا علم هذا؛ فليعلم أيضا أن أهل السنة والجماعة لم يعتمدوا في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام على الرأي كما زعم ذلك أبو عبية، وإنما اعتمدوا على الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الفلاسفة والملاحدة ومن تبعهم من أهل البدع؛ فهم الذين يعتمدون على آرائهم الباطلة، وهي آراء مردودة؛ لمخالفتها للحق الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: "وهذا هو ما يقال بالنسبة إلى الدجال؛ هل هو شخص من
لحم ودم ينشر الفساد
…
" إلى آخره.
فجوابه أن يقال: قد تقدمت الأحاديث في صفة الدجال، وفيها أنه رجل قصير، أفحج، جعد، أعور، مطموس العين، ليست بناتئة ولا جحراء، وأنه مكتوب بين عينيه كافر، وأنه هجان، أزهر، كأن رأسه أصلة. وفي رواية أنه «هجان، ضخم، فيلماني، كأن شعره أغصان شجرة، كأن عينيه كوكب الصبح» .
وفي رواية: «إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري» . و (الهجان) : الأبيض، و (الأزهر) : الأبيض المستنير. وفي رواية: «أنه رجل أحمر، جسيم، جعد الرأس، أعور العين اليمنى، أقرب شبها بابن قطن، وابن قطن رجل من خزاعة» .... إلى غير ذلك مما تقدم في أحاديث الدجال، وفيها أوضح دليل على أنه شخص من لحم ودم.
وفي حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «ينزل عيسى عند صلاة الفجر، فإذا قضى صلاته؛ أخذ عيسى حربته، فيذهب نحو الدجال، فإذا رآه الدجال؛ ذاب كما يذوب الرصاص، فيضع حربته بين ثندوته، فيقتله» .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم في "صحيحه" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " «ولكن يقتله الله بيده - أي: يد عيسى عليه الصلاة والسلام، فيريهم دمه في حربته» .
وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على أبي عبية فيما حاوله من إنكار خروج الدجال.
وأما قوله: "أم أنه رمز لانتشار الشر وشيوع الفتنة وضعف نوازع الفضيلة، تهب عليه ريح الخير المرموز إليها بعيسى عليه السلام، فتذهبه، وتقضي عليه، وتأخذ بيد الناس إلى محجة الخير ومنهج العدل والتدين".
فجوابه أن يقال: هذا تأويل باطل مردود، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه، وهو موافق لقول الذين ينكرون خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام من الفلاسفة والمعتزلة والجهمية ومن نحا نحوهم من أهل البدع، ويلزم على هذا التأويل الباطل تكذيب ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الإخبار بخروج الدجال، والتكذيب بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصدر إلا من جاهل أو من رجل ينتسب إلى الإسلام وهو عنه بمعزل.
وأما قوله: "إنه من المناسب أن نشير إلى أن النار المشار إليها في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنها» «تسوق الناس إلى محشرهم؛ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل من يتخلف منهم؛» فإن من المناسب أن نشير إلى أن هذه النار يمكن حملها على نار الفتنة التي يمتحن بها الدين وتتعرض لها العقيدة
…
" إلى آخر كلامه.
فجوابه أن يقال: هذا تأويل باطل مردود، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه، والحق أن النار التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجها في آخر الزمان في عدة أحاديث صحيحة؛ أنها نار على الحقيقة، وهي من أشراط الساعة، ومن أنكر خروجها أو شك في ذلك؛ فهو ممن لم يحقق الشهادة بأن محمدا رسول الله.
وأما قوله: "إن امتداد حياة عيسى عليه السلام حتى الآن ليس موضع اتفاق بين علماء المسلمين".
فجوابه أن يقال: بل هو موضع اتفاق بين علماء أهل السنة والجماعة، وقد ذكرت بعض أقوالهم في ذلك وما حكاه بعضهم من إجماع أهل السنة والجماعة على ذلك قريبا؛ فليراجع. وقد خالفهم الفلاسفة وبعض الخوارج والمعتزلة والجهمية ومن نحا نحوهم من أهل البدع، ومنهم أبو عبية وأشباهه من العصريين، ولا عبرة بخلافهم.
وأما قوله: "ولم يرد نص قاطع في هذا الأمر".
فجوابه أن يقال: بل قد تواترت النصوص الدالة على نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان حكما عدلا، وهي أدلة قاطعة على امتداد حياته حتى الآن.
وأما قوله: "ولهذا؛ فالقول بموت عيسى أو بحياته ليس داخلا في نطاق ما يكلف المسلم الإيمان به، فللمسلم أن يختار ما تطمئن إليه نفسه".
فجوابه أن يقال: بل المسلم مكلف بالإيمان بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وأخبار الغيوب الماضية والآتية، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم؛ إلا بحقها، وحسابهم على الله» .
رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، وفيها دليل قاطع على بقاء حياته إلى آخر الزمان، وهذا مما يجب الإيمان به، وليس للمسلم أن يختار لنفسه ما يخالف الإيمان بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ، وإذا لم تطمئن نفس المرء للإيمان بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فليس بمسلم في الحقيقة.
وأما قوله: "وليس للمسلمين أن يجعلوا من موت عيسى أو حياته موضوع خلاف أو موضع جدل".
فجوابه أن يقال: قد اتفق أهل السنة والجماعة على القول ببقاء حياة عيسى عليه الصلاة والسلام ونزوله في آخر الزمان حكما عدلا، وليس بينهم خلاف ولا جدل في ذلك، وقد تقدم ذكر أقوالهم في ذلك قريبا، والذين جعلوا من حياة عيسى موضوع خلاف وجدل هم الفلاسفة وبعض أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والجهمية ومن اقتفى آثارهم من أهل البدع، وهم كثيرون في زماننا، ولا عبرة بخلافهم.
وأما قوله: "إنما الذي يجب الإيمان به بقطع ويقين أنه عليه السلام لم يقتل ولم يصلب {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} .
فجوابه أن يقال: ويجب أيضا الإيمان بقطع ويقين أن عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل في آخر الزمان حكما عدلا يحكم بالشريعة المحمدية، وأنه يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويقتل الدجال، ويقاتل الناس على الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، وأنه يحج ويعتمر، وأنه يمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون، ويدفنونه؛ فهذا كله مما يجب الإيمان به بقطع ويقين؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ألا إني أوتيت الكتاب مثله ومثله معه» . وعلى هذا؛ فمن أنكر شيئا مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام أو شك فيه؛ فهو لم يحقق الشهادة بأن محمدا رسول الله.
وأما قوله: "وعلينا أن نلاحظ حقيقة قرآنية واضحة، وهي أن القرآن الكريم لم يستعمل مادة (رفع) في غير الرفع المعنوي؛ رفع القدر والقيمة والمنزلة،
اللهم إلا في موضع واحد لا غيره، وذلك قوله تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} .
فجوابه أن يقال: قد جاء ذكر الرفع الحسي في القرآن في عدة مواضع:
أحدها: رفع السماء على الأرض.
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} .
وقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} .
وقال تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} .
وقال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} .
الموضع الثاني: رفع الطور على بني إسرائيل:
قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} .
وقال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} .
الموضع الثالث: رفع إدريس عليه الصلاة والسلام إلى السماء.
قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} .
الموضع الرابع: رفع عيسى عليه الصلاة والسلام إلى السماء.
قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} .
وقال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} .
وفي قوله: إليه: أوضح دليل على أنه قد رفع إلى السماء؛ كقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} .
الموضع الخامس: رفع إبراهيم وإسماعيل لقواعد البيت.
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} .
الموضع السادس: بناء المساجد.
قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} .
الموضع السابع: قوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} .
ففي هذه المواضع كلها استعمال مادة (رفع) في الرفع الحسي لا المعنوي، وفيها أبلغ رد على أبي عبية.
وأما قوله: "ولهذا فنحن نؤثر أن يكون عيسى عليه السلام قد رفع مكانة لا مكانا؛ لما في هذا الفهم من زيادة التكريم والتعظيم لذلك النبي الكريم، حتى لا يكون هو وحده بدعا بين أنبياء الله ورسله؛ إذ تحدث كتاب الله عن رفعهم معنويا لا حسيا، وشتان بين الرفعين".
فجوابه أن يقال: إن الله تعالى قد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام مكانة كسائر المسلمين، ورفعه مكانا؛ كما دل على ذلك قول الله تعالى:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} ، وقوله تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} ، وما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه أهل السنة والجماعة من نزوله في آخر الزمان.
وقد جاء في الحديث الصحيح عن النواس بن سمعان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فبينما هو كذلك؛ إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعا كفيه على أجنحة ملكين» .
وهذا ظاهر في نزوله من السماء.
وقد جاء النص على نزوله من السماء فيما رواه البزار بإسناد جيد من
حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم في (باب نزول عيسى إلى الأرض) ؛ فليراجع.
وفي رفع عيسى عليه الصلاة والسلام إلى السماء زيادة تكريم وتعظيم ورفع لمكانه ومكانته.
وأما قوله: "حتى لا يكون هو وحده بدعا بين أنبياء الله ورسله".
فجوابه أن يقال: إن الله تعالى قد خص بعض الأنبياء بخصائص ليست لغيرهم، فخص إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهما وسلم بالخلة، وخص آدم وموسى ومحمدا عليهم الصلاة والسلام بالتكليم، وخص موسى عليه الصلاة والسلام بالمناجاة، وخص داود عليه الصلاة والسلام بالصوت الحسن، وخص سليمان عليه الصلاة والسلام بتسخير الريح والشياطين، وخص عيسى عليه الصلاة والسلام بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وخص إدريس وعيسى عليهما الصلاة والسلام بالرفع إلى السماء، وخص عيسى أيضا ببقائه حيا إلى الزمان؛ حيث ينزل إلى الأرض، فيقتل الدجال، ويجدد الشريعة المحمدية، ويبقى في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون، ويدفنونه، وخص محمدا صلى الله عليه وسلم بخصائص كثيرة لم تكن لغيره من الأنبياء، ومنها: العروج به إلى ما فوق السماوات السبع، وفرض الصلوات الخمس عليه وعلى أمته مباشرة بدون واسطة، وهذا من أعظم التكريم والتعظيم ورفع المكانة والمكان.
وأما قوله: "إذ تحدث كتاب الله عن رفعهم معنويا لا حسيا".
فجوابه أن يقال:
قد جاء في القرآن ذكر رفع بعضهم معنويا؛ كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} .
وجاء فيه أيضا ذكر رفع بعضهم حسيا؛ كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} .
وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} .
وقال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} .
وفي هذه الآيات أبلغ رد على أبي عبية.
وأما قوله: "وشتان بين الرفعين".
فجوابه أن يقال: إن الرفع الحسي - وهو رفع المكان - يستلزم الرفع المعنوي - وهو رفع المكانة -، فمن رفعه الله إليه؛ فقد زاد في مكانته وتكريمه؛ فلا منافاة بين الرفعين. والله أعلم.
أبواب
ما جاء في يأجوج ومأجوج