الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب
في
تعيين الموضع الذي يقتل فيه الدجال
قد تقدم النص على ذلك في ثلاثة أحاديث عن النبى صلى الله عليه وسلم:
منها حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، وفيه أن المسيح ابن مريم يطلب الدجال حتى يدركه بباب لد فيقتله.
ومنها حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وفيه أن عيسى عليه السلام يدرك الدجال عند باب اللد الشرقي فيقتله.
ومنها حديث مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقتل ابن مريم الدجال بباب لد» ، وفي رواية:«دون باب لد سبع عشرة ذراعا» .
وتقدم أيضا حديث عمر رضي الله عنه: "أنه سأل يهوديا عن الدجال، فقال: وإله يهود؛ ليقتلنه ابن مريم بفناء لد".
فصل
وقد اشتملت الأبواب التي في ذكر الدجال على أكثر من مائة وتسعين حديثا من الصحاح والحسان، سوى ما فيها من الأحاديث الضعيفة، وسيأتي مزيد لها في ذكر نزول عيسى عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى.
وقد تواترت هذه الأحاديث من وجوه متعددة، فتواترت في التحذير من الدجال وبيان صفته، وتواترت في ذكر فتنته والاستعاذة منه، وتواترت في حراسة المدينة منه، وتواترت في ذكر نزول عيسى وقتله الدجال.
ومع ما ذكرته فيه من الأحاديث الكثيرة التي لم تجتمع في شيء سواه؛
فقد أنكر بعض أهل الأهواء والبدع خروجه، وتبعهم على ذلك كثير من المنتسبين إلى العلم في زماننا، ومنهم أبو عبية في تقديمه لكتاب "النهاية" لابن كثير وفي عدة تعاليق له على "النهاية"؛ فقد زعم في المقدمة أن الدجال رمز لاستشراء الفتنة واستعلاء الضلال فترة من الزمان، وقال نحو ذلك في تعليقه على (ص71) ، وفي عنوان له في (ص75) ، وفي تعليقه في (ص118 وص148 وص152 وص 158) .
والأحاديث الصحيحة مما ذكرته تضرب في نحور المنكرين لخروج الدجال، وتنادي على كثافة جهلهم، بل تنادي على عدم تحقيقهم لشهادة أن محمدا رسول الله؛ لأن من لازم تحقيقها تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من الغيوب الماضية والآتية.
قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
ولو لم يكن إلا الأمر بالاستعاذة من فتنة الدجال في آخر كل صلاة؛ لكان ذلك كافيا في إثبات خروجه والرد على من أنكر ذلك.
وقد روى عبد الرزاق في "مصنفه" عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول: "إنه سيخرج بعدكم قوم يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بالحوض، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بقوم يخرجون من النار".
في إسناده علي بن زيد بن جدعان، روى له مسلم مقرونا بآخر، وحسن الترمذي حديثه، وقال يعقوب بن شيبة:"ثقة"، وقال أحمد وأبو زرعة:"ليس بالقوي"، وبقية رجاله ثقات.
وهذا الأثر له حكم المرفوع؛ لأن فيه إخبارا عن أمر غيبي، وذلك لا يقال من قبل الرأي، وإنما يقال عن توقيف.
قال النووي في "شرح مسلم": "قال القاضي عياض: هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه، ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى؛ من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره ونهريه، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك؛ فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويبطل أمره، ويقتله عيسى صلى الله عليه وسلم، ويثبت الله الذين آمنوا.
هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار؛ خلافا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة، وخلافا للجبائي المعتزلي وموافقيه من الجمهية وغيرهم، في أنه صحيح الوجود، ولكن الذي يدعي مخارق وخيالات لا حقائق لها، وزعموا أنه لو كان حقا؛ لم يوثق بمعجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا غلط من جميعهم؛ لأنه لم يدع النبوة، فيكون ما معه كالتصديق له، وإنما يدعي الإلهية، وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله، ووجود دلائل الحدوث فيه، ونقص صورته، وعجزه عن إزالة العور الذي في عينيه، وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه، ولهذه الدلائل وغيرها لا يغتر به إلا رعاع من الناس؛ لسد الحاجة والفاقة؛ رغبة في سد الرمق، أو تقية وخوفا من أذاه؛ لأن فتنته عظيمة جدا، تدهش العقول، وتحير الألباب، مع سرعة مروره في الأرض؛ فلا يمكث بحيث يتأمل الضعفاء حاله ودلائل الحدوث فيه والنقص، فيصدقه من صدقه في هذه الحالة.
ولهذا؛ حذرت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من فتنته، ونبهوا على نقصه ودلائل إبطاله، وأما أهل التوفيق؛ فلا يغترون به، ولا يخدعون
لما معه؛ لما ذكرناه من الدلائل المكذبة له، مع ما سبق لهم من العلم بحاله، ولهذا يقول له الذي يقتله ثم يحييه: ما ازددت فيك إلا بصيرة" انتهى.
وقال ابن كثير في "النهاية": "قد تقدم في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما وغيره أن ماءه نار وناره ماء بارد، وإنما ذلك في نظر العين، وقد تمسك بهذا الحديث طائفة من العلماء؛ كابن حزم والطحاوي وغيرهما، في أن الدجال ممخرق مموه، لا حقيقة لما يبدي للناس من الأمور التي تشاهد في زمانه، بل كلها خيالات عند هؤلاء.
قال الشيخ أبو علي الجبائي شيخ المعتزلة: لا يجوز أن يكون كذلك حقيقة؛ لئلا يشبه خارق الساحر بخارق النبي.
وقد أجابه القاضي عياض وغيره بأن الدجال إنما يدعي الألوهية، وذلك مناف لبشريته؛ فلا يمتنع إجراء الخارق على يديه والحالة هذه.
وقد أنكرت طوائف كثيرة من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة خروج الدجال بالكلية، وردوا الأحاديث الواردة فيه، فلم يصنعوا شيئا، وخرجوا بذلك عن حيز العلماء؛ لردهم ما تواترت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم.
والذي يظهر من الأحاديث المتقدمة أن الدجال يمتحن الله به عباده بما يخلقه معه من الخوارق المشاهدة في زمانه، كما تقدم أن من استحباب له؛ يأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت لهم زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم وترجع إليهم مواشيهم سمانا لبنا، ومن لا يستجيب له ويرد عليه أمره؛ تصيبهم السنة والجدب والقحط والقلة وموت الأنعام ونقص الأموال والأنفس والثمرات، وأنه تتبعه كنوز الأرض كيعاسيب النحل، ويقتل ذلك الشاب ثم يحييه، وهذا كله ليس بمخرقة، بل حقيقة امتحن الله بها عباده في آخر الزمان، فيضل به كثيرا ويهدي
به كثيرا، يكفر المرتابون، ويزداد الذين آمنوا إيمانا.
وقد حمل القاضي عياض وغيره على هذا المعنى معنى الحديث: "هو أهون على الله من ذلك"؛ أي: هو أقل من أن يكون معه ما يضل به عبادة المؤمنين، وما ذاك إلا لأنه ناقص ظاهر النقص والفجور والظلم، وإن كان معه ما معه من الخوارق، فبين عينيه مكتوب كافر كتابة ظاهرة، وقد حقق ذلك الشارع في خبره بقوله:" ك ف ر"، فقيل ذلك على أنه كتابة حسية لا معنوية كما يقول بعض الناس، وعينه الواحدة عوراء شنيعة المنظر ناتئة، وهو معنى قوله:"كأنها عنبة طافية"، وفي الآخر:"كأنها نخاعة على حائط مجصص"؛ أي: بشعة الشكل". انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى.
وقال ابن العربي: "الذي يظهر على يد الدجال من الآيات من إنزال المطر والخصب على من يصدقه والجدب على من يكذبه، واتباع كنوز الأرض له، وما معه من جنة ونار ومياه تجري؛ كل ذلك محنة من الله واختبار؛ ليهلك المرتاب، وينجو المتيقن، وذلك كله أمر مخوف، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا فتنة أعظم من فتنة الدجال» ، وكان يستعيذ منها في صلاته؛ تشريعا لأمته، وأما قوله في الحديث الآخر عند مسلم: «غير الدجال أخوف لي عليكم» ؛ فإنما قال ذلك للصحابة؛ لأن الذي خافه عليهم أقرب إليهم من الدجال؛ فالقريب المتيقن وقوعه لمن يخاف عليه أشد خوفا من البعيد، وإن كان أشد". انتهى.
فصل
وقد أجمع أهل السنة والجماعة على خروج الدجال في آخر الزمان، وذكروا ذلك في العقائد السلفية، وسيأتي ذكر طرف مما ذكروه في عقائدهم في الرد على شلتوت بعد ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام
إن شاء الله تعالى.
وبذلك يعلم أن من أنكر خروجه؛ فقد خالف ما عليه أهل السنة والجماعة، مع مخالفته للأحاديث الصحيحة، وكفى بذلك جهلا وضلالا عن الحق.
أبواب
ما جاء في المسيح عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام
قال ابن الأثير في "النهاية": "قد تكرر ذكر المسيح عليه السلام وذكر المسيح الدجال، أما عيسى؛ فسمي به؛ لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برئ، وقيل: لأنه كان أمسح الرجل لا أخمص له، وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، وقيل: لأنه كان يمسح الأرض - أي: يقطعها -، وقيل: المسيح الصديق، وقيل: هو بالعبرانية مشيحا فعرب. وأما الدجال؛ فسمي به؛ لأن عينه الواحدة ممسوحة، ويقال: رجل ممسوح الوجه ومسيح، وهو أن لا يبقى على أحد شقي وجهه عين ولا حاجب إلا استوى، وقيل: لأنه يمسح الأرض؛ أي: يقطعها. وقال أبو الهيثم: إنه المسيح؛ بوزن سكيت، وإنه الذي مسح خلقه؛ أي: شوه، وليس بشيء" انتهى.
وقال ابن منظور في "لسان العرب": "المسيح: الصديق، وبه سمي عيسى عليه السلام. قال الأزهري: وروي عن أبي الهيثم أن المسيح الصديق.
قال أبو بكر: واللغويون لا يعرفون هذا. قال: ولعل هذا كان يستعمل في بعض الأزمان، فدرس فيما درس من الكلام. قال: وقال الكسائي: قد درس من كلام العرب كثير. قال ابن سيده: والمسيح: عيسى ابن مريم صلى الله على نبينا وعليهما؛ قيل: سمي بذلك لصدقه، وقيل: سمي به لأنه كان سائحا في الأرض
لا يستقر، وقيل: سمي بذلك لأنه كان يمسح بيده على العليل والأكمه والأبرص فيبرئه بإذن الله. قال الأزهري: أعرب اسم المسيح في القرآن على مسيح، وهو في التوراة مشيحا، فعرب وغير؛ كما قيل: موسى، وأصله: موشى، وأنشد:
إذا المسيح يقتل المسيحا
يعني: عيسى ابن مريم يقتل الدجال بنيزكه. وقال شمر: سمي عيسى المسيح لأنه مسح بالبركة. وقال أبو العباس: سمي مسيحا لأنه كان يمسح الأرض؛ أي: يقطعها. وروي عن ابن عباس أنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برئ. وقيل: سمي مسيحا لأنه كان أمسح الرجل، ليس لرجله أخمص. وقيل: سمي مسيحا لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، والمسيح الكذاب الدجال، وسمي الدجال مسيحا؛ لأن عينه ممسوحة عن أن يبصر بها، وسمي عيسى مسيحا اسم خصه الله به ولمسح زكريا إياه. وروي عن أبي الهيثم أنه قال: المسيح ابن مريم الصديق، وضد الصديق المسيح الدجال؛ أي: الضليل الكذاب، خلق الله المسيحَيْنِ، أحدهما ضد الآخر، فكان المسيح ابن مريم يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وكذلك الدجال يحيي الميت ويميت الحي وينشئ السحاب وينبت النبات بإذن الله؛ فهما مسيحان: مسيح الهدى، ومسيح الضلالة. قال المنذري: فقلت له: بلغني أن عيسى إنما سمي مسيحا؛ لأنه مسح بالبركة، وسمي الدجال مسيحا؛ لأنه ممسوح العين. فأنكره وقال: إنما المسيح ضد المسيح؛ يقال: مسحه الله؛ أي: خلقه خلقا مباركا حسنا، ومسحه الله؛ أي: خلقه خلقا قبيحا ملعونا. وفي الحديث: أما مسيح الضلالة؛ فكذا. فدل هذا الحديث على أن عيسى مسيح الهدى، وأن الدجال مسيح الضلالة. وروى بعض المحدثين المسيح؛ بكسر الميم والتشديد في الدجال؛ بوزن سكيت. قال ابن الأثير: قال أبو الهيثم: إنه الذي مسح خلقه؛ أي: شوه. قال: وليس بشيء". انتهى.