المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأولتولية عبد الرحمن الناصر - تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدِّمَة

- ‌البَابُ الأَوَّلفتح العرب لإسبانيا واستقرارهم فيها

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلمقدمة في الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إسبانيا قبيل الفتح العربي

- ‌الفَصْلُ الثَّانِيفتح العرب لإسبانيا

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثالنشاط الحربي للعرب في شمال إسبانيا والتوغل في فرنسا

- ‌الفَصْلُ الرَّابِعاستقرار العرب واستيطانهم في إسبانيا

- ‌البَابُ الثَّانِيعهد الإمارة في الأندلس

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلدخول عبد الرحمن بن معاوية الأندلس وتأسيس الإمارة الأموية

- ‌الفَصْلُ الثَّانِيأعمال الأمراء الأمويين في تثبيت السلطة والاستقرار

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثعلاقة الدولة العربية الإسلامية مع الإمارات الإسبانية في الشمال

- ‌البَابُ الثَّالِث" عصر الخلافة

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلتولية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفَصْلُ الثَّانِيالأخطار الخارجية الأندلس والممالك الإسبانية الشمالية:

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثالمظاهر الحضارية

- ‌الفَصْلُ الرَّابِعالأندلس بعد وفاة الناصر

- ‌البَابُ الرَّابِع [[سقوط الخلافة وفكرة عن دويلات الطوائف]]

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلسقوط الخلافة

- ‌الفَصْلُ الثَّانِيفكرة عامة عن أهم دويلات الطوائف

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثعصر المرابطين 484 - 540 هـ/1092 - 1145 م

- ‌الفَصْلُ الرَّابِععصر مملكة غرناطة (الأندلس الصغرى)

- ‌الفَصْلُ الخَامِسالمسلمون بعد سقوط غرناطة (الموريسكيون)

- ‌البَابُ الخَامِسحضارة العرب في الأندلس

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلتاريخ الفكر العربي في الأندلس

- ‌الفَصْلُ الثَّانِيالنظم السياسية العربية في الأندلس

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثأثر الحضارة العربية في الأندلس على أوروبا

الفصل: ‌الفصل الأولتولية عبد الرحمن الناصر

‌الفَصْلُ الأَوَّل

تولية عبد الرحمن الناصر

- جهوده فى استعادة الوحدة الوطنية:

بوفاة الأمير عبد الله سنة 300 هـ/912 م تولى حفيده عبد الرحمن بن محمد (1) الإمارة دون أعمامه، أو أعمام أبيه الذين كانوا أحق منه بالإمارة، ولعل من جملة الأسباب التي قدمت الأمير عبد الرحمن على غيره من أمراء بني أمية سببين:

الأول: شخصيته.

والثاني: طبيعة الدولة الأموية في هذه الفترة.

فقد نشأ الأمير عبد الرحمن يتيماً في كفالة جده الأمير عبد الله محاطاً بالرعاية والاهتمام الزائدين محبوّاً بعناية لا حدود لها حتى بزَّ أقرانه من الأمراء في العلوم والآداب وفنون الفروسية والسياسة التي تدرب عليها نظرياً وعملياً في بلاط جده الأمير الذي بدأ ومنذ وقت مبكر يكل إليه مهام الأمور، وينيبه في الجلوس عنه في الاحتفالات والأعياد (2)، فكان مميزاً من بين أمراء بني أمية، محاطاً بأنظار الخاصة من كبار رجال الدولة عسكريين ومدنيين، معروفاً من العامة وطبقاتها المختلفة، وكان في نظر الجميع مؤهلاً أكثر من غيره ليتولى قيادة الدولة بعد جده الأمير عبد الله، ذلك أن الأمير عبد الرحمن كان من بين كل أمراء بني أمية نمطاً فريداً من الرجال توازن بناؤه الذاتي والفكري مع درجة تعقيد الفترة التاريخية التي عاصرها فهو لم يترك شخصيته تنمو تلقائياً وإنما كان ينميها مرتبطاً بدرجة التأزم والتحديات التي كانت تمر بها الدولة العربية في الأندلس، لذا قدر له أن يعيد أمجاد الدولة العربية ويضطلع بدور يشبه إلى حد كبير دور مؤسس الدولة عبد الرحمن الداخل. وفضلاً عن ذلك فإن بعض الروايات التاريخية تؤكد

(1) ولد سنة 277 هـ.

(2)

ابن عذاري، البيان المغرب: 2/ 157 تحقيق كولان.

ص: 153

أن جده قد ولاه ولاية عهد من بعده (3).

أما الدولة في الأندلس، فقد كانت في وضع عجزت معه عن ردع المغيرين على أطراف العاصمة قرطبة نفسها بعد أن تجاذبتها الأعاصير من كل صوب (4)، وتفاقم أمر التحدي الداخلي للسلطة مما أعطى للتحديات الخارجية فرصاً سانحة وسهلة لتحقيق ما كانت تبغيه من التوسع على حساب سيادة الدولة العربية، وهذه الظروف العصيبة التي عاشتها الدولة العربية في الأندلس لم تكن بغية الطامعين في الحكم، فقد كانوا تواقين بالإجماع ودون اتفاق مسبق إلى مساندة كل شخصية يتوسمون فيها الخصال التي تعيد مكانة الدولة السابقة داخلياً وخارجياً، فكان عبد الرحمن أقرب الشخصيات إلى هذه المواصفات، فتمت بيعته في نفس اليوم الذي توفي فيه جده، وكان رأس المبايعين له أمراء بني أمية الذين عبروا عن رأيهم فيه من خلال كلمة قصيرة ألقاها أحمد بن عبد الله (عم الأمير)(5) نيابة عنهم، وبدأها بقوله: " لقد اختارك الله على علم للخاص منا والعام، ولقد كنت أنتظر هذا من نعمة الله علينا

" (6).

ثم بايعه كبار الموظفين في الدولة ووجوه القوم في قرطبة، وناب عنه بعض القواد والرؤساء لتلقي البيعة العامة في المسجد الجامع بقرطبة؛ وأرسلت الرسل لأخذ البيعة من الكور وولاة الأقاليم وكانت البيعة ضرورية خلال هذه الفترة من عصر الإمارة - وإن كانت طبيعية وواجبة في الظروف الطبيعية لفرز أهل الطاعة عن أهل العصيان الذين أبوا مبايعة الأمير والانقياد إلى سلطته، وظلوا محتفظين بمدنهم وحصونهم حكاماً مستقلين لا يعيرون أدنى اهتمام للعهد الجديد. وأول عمل قام به الأمير بعد اعتلائه كرسي الإمارة إعلان سياسته من خلال منشور عام وجه بالدرجة الأولى إلى العناصر المناوئة والخارجة على السلطة ويقوم المنشور في الأساس على مبدئين:

الأول:

التأكيد على التسامح وإسقاط كافة الجرائم التي اقترفت بحق الدولة وإعادة كافة

(3) ابن عذاري، البيان المغرب 2/ 157 وينظر: عنان، الدولة الأموية في الأندلس 2/ 373، القاهرة، 1969.

(4)

ابن الخطيب، أعمال الأعلام، القسم الخاص بالأندلس: 27 تحقيق بروفنسال؛ عنان، الدولة الأموية في الأندلس: 2/ 275.

(5)

ابن عذاري: 2/ 157.

(6)

محمد ماهر حمادة، الوثائق السياسية والإدارية في الأندلس وشمالي أفريقيا: 156، ط 1، 1980.

ص: 154

الحقوق المشروعة في حالة إعلان الولاء للسلطة المركزية.

الثاني:

الوعيد والإنذار باجتثاث معاقل المتمردين والعابثين بأمن البلاد أو المتحالفين مع القوى الأجنبية ضد الدولة (7).

ولقد أيقن الأمير عبد الرحمن الثالث منذ البداية أنه ورث تركة ثقيلة وأن المهمات الملقاة على عاتقه صعبة نتيجة فقدان الأداة القادرة على التنفيذ والتحرك بمستوى الأحداث وجسامتها، لذا عمد إلى إصلاح الإدارة بما يتوازن ومتطلبات المرحلة، والاهتمام بالقوات العسكرية بما يحقق لها تفوقاً على أعدائه مجتمعين، وأضاف إلى إمكانياته المتاحة إمكانيات وقوى أخرى بعد كسب العديد من زعماء المتمردين والخارجين واستخدامهم في ضرب القوى التي ظلت على عنادها واستمرت في الإغارة على ممتلكات الدولة. وقبل الشروع في تفاصيل الحوادث التي تمخض عنها قيام الوحدة الوطنية في الأندلس نشير إلى أن انفراط الوحدة الوطنية في البلاد ينحصر باختصار في الأسباب الآتية:

غياب القائد في مرحلة كانت تشكل فيها عوامل الخلل عنصراً ظل يفعل فعله حتى أتى على وحدة البلاد، فاستقل أصحاب الزعامات في مناطقهم ينافسون الأمير في ألقابه. وقد اشتركت في صنع وإدامة هذا الخلل معظم عناصر المجتمع في الأندلس من عرب وبربر ومولدين ومستعربين (8)، ولم يتمكن الأمراء الثلاثة محمد بن عبد الرحمن الأوسط (238 هـ - 273 هـ) والمنذر بن محمد (273 هـ - 275 هـ) وعبد الله بن محمد (275 هـ - 300 هـ) من القضاء على التمردات وأعمال الشغب التي قامت ضد السلطة المركزية حتى آلت البلاد خلال هذه الفترة إلى عصر دويلات المدن، وأصبحت سلطة الأمير لا تتعدى في أكثر الأحيان العاصمة قرطبة.

أما ما دون ذلك فبيد حكام المدن يقررون سياستهم حسب مصالحهم الذاتية.

- وعورة بعض المناطق وحصانة قلاعها، وتمرس أهلها في الدفاع والاعتصام عند الحاجة.

- الاستناد عند الحاجة إلى أمراء وملوك الممالك الشمالية الذين لم يتوانوا عن

(7) العبادي، في تاريخ المغرب والأندلس: 168، بيروت 1978.

(8)

عن المتمردين والخارجين على السلطة المركزية، ينظر: عبد العزيز سالم: 253 - 259.

ص: 155

مساعدة الخارجين على السلطة الشرعية بقصد الإخلال بأمنها وتشتيت قواتها وانشغالها بمشاكل داخلية.

- عدم الاكتراث بسلطة الدولة المركزية، وقلة الاحتمال للطاعة، لكون معظم الزعماء المحليين ينحدرون من أنساب عريقة عربية كانت أو قوطية (9).

- سوء سيرة بعض الوزراء والقواد سبب آخر مضاف إلى قيام أعمال الشغب والتمرد ضد الدولة، خصوصاً إذا ما أصابت تلك السيرة أحد رجالات الأندلس من ذوي المكانة المرموقة لدى قومه (10).

وبدأت العمليات العسكرية حسب خطة مرسومة محدودة الأهداف ومحسوبة النتائج، قاد أولها الوزير عباس بن عبد العزيز القرشي الذي استطاع تطهير قلعة رباح في ربيع الثاني سنة 300 هـ (11) وفي جمادى الأولى من السنة نفسها كانت قوة من قوات الأمير قد استردت مدينة استجة من أتباع ابن حفصون بعد أن هدت تحصينات المدينة التي كانت تقوم عليها أصلاً استراتيجية كل متغلب ومتمرد فيها (12).

وكانت هاتان الحملتان وغيرهما إنذاراً فعلياً للمتمردين وإيذاناً بحملات عسكرية ستصيب كل الخارجين على السلطة، ومن ثم فهما تدخلان ضمن نطاق الاستطلاع العملي الذي من خلاله أمكن تحديد مناطق نفوذ المتمردين، وقياس قوتهم والوقوف على مراكز تجمعاتهم، لذا بدأ الأمير في شعبان من سنة 300 هـ بقيادة القوات بنفسه محققاً بذلك هدفين:

الأول: رفع معنويات الجند.

الثاني: إثارة الفزع لدى قوات أعدائه.

واختار منطقة وعرة في كورة جيان حوت المئات من الحصون والمعاقل العاصية على الدولة وبدأت العمليات العسكرية بالاستيلاء على حصن مارتش (13)، وحصن المنتلون بعد قتال شديد اضطر على أثره سعيد بن هذيل إلى الاستسلام في رمضان بعد يأس من جدوى المقاومة (14)، وتوجهت القوات بعد ذلك إلى حصن شمنتان وزعيم

(9) أعمال الأعلام: 41 - تحقيق ليفي بروفنسال.

(10)

ينظر مثلاً: ابن القوطية: 90، ابن عذاري: 2/ 102.

(11)

ابن حيان، المقتبس؛ 5/ 54؛، نشرة شالميتا، مدريد، 1979.

(12)

ابن حيان: 5/ 55.

(13)

ابن عذاري، البيان المغرب: 2/ 161.

(14)

ابن حيان: 5/ 60.

ص: 156

المتمردين فيه عبيد الله بن أحمد بن الشالية الذي خارت قواه بعد سقوط حصن المنتلون، فاستسلم دون مقاومة ونزل عن جميع معاقله وحصونه وكان عددها يقارب المائة (15) وفضلاً عن ذلك فقد تم تطهير العديد من الحصون التي كانت تدين بالولاء لعمر بن حفصون كحصن بكور وحصن قاشترة وحصن شنترة وحصن أقليق (16).

وبعد أن تم تحرير كورة جيان، اتجهت القوات الرئيسة حيث تم تطهير كورة البيرة من فلول عصابات ابن حفصون، ولم يلق الأمير صعوبات في اقتحام الحصون وإن كان حصن شبيلش قد امتنع لفترة (17)، وكان عمر بن حفصون يمتنع فيه قبل أن يحس بعدم جدوى المقاومة فتسلل هارباً يريد قلعة أبيه ببشتر (18).

وأعقب سقوط حصن شبيلش سقوط مجموعة من الحصون الأخرى كحصن اشتبين قرب ألبيرة، وحصون وادي آش وغيرها (19).

وقد شعر ابن حفصون بهذا الجزر الذي أصاب نفوذه فأراد أن يحقق انتصاراً يعادل خسائره، فقرر احتلال غرناطة، ولكنه رد على أعقابه بعد أن اعترضته قوات الدولة في منطقة البيرة ومنعته من تحقيق هدفه (20).

وتعد هذه الحملة أولى الحملات التي قادها الأمير عبد الرحمن بنفسه وقد استغرقت ثلاثة أشهر من شهر شعبان إلى عيد الأضحى من سنة 300 هـ وتعرف في المصادر العربية باسم (غزوة المنتلون) وكان من نتائجها:

تحرير أكثر من سبعين حصناً من أهم الحصون سوى ما يلحق بهذه الحصون وما حرر بتحريرها من الأماكن والأبراج والقصبات والتي عدها ابن حيان بما يقارب الثلاثمائة (21).

وإذا كانت هذه العمليات العسكرية قد حالفها النجاح في تطويع الأقاليم وتمشيط الحصون المتمردة فإن حصن ابن حفصون ببشتر ظل في منأى عن السقوط، رغم

(15) ابن حيان: 5/ 60، وينظر ابن عذاري: 2/ 61.

(16)

ابن حيان: 5/ 60.

(17)

لحصانته وتعذر نيله بحجارة المنجنيق، واعتصام جمهرة من المتمردين الأشداء فيه.

(18)

ابن حيان: 5/ 61.

(19)

ابن حيان: 5/ 61، وينظر: ابن عذاري 2/ 162.

(20)

ابن عذاري: 2/ 162، عنان: دول الإسلام: 2/ 376.

(21)

المقتبس: 5/ 61 - 62.

ص: 157

الضربة التي أنزلت بزعيم المتمردين، باعتبار أن هذه الحصون كانت تدور في فلكه وتدين له بالطاعة والولاء (22).

بيد أن هذه الحملة لم تكن إلا بداية الصراع المرير مع هذه العناصر التي كانت تجعل من الظروف السياسية في البلاد باباً تنفذ منه تارة موالية وموادعة وتارة أخرى عاصية ومتمردة فقد اعتادت هذه العناصر على الرضوخ وقبول شروط الدولة حين تجد قوات الدولة قادرة على الردع بما يفوق قدراتها على الصمود، وكانت ترتد مع بداية كل اختلال سياسي يصيب الدولة العربية في الأندلس، لا بل كان التمرد يسود بعض المناطق حال انسحاب القوات الحكومية عن أحوازها.

وهكذا فلم تمض أشهر قلائل على الحملة الأولى حتى بدأ المتمردون سيرتهم الأولى، يعدون عدة الثأر يشاركهم في ذلك زعماء الأقاليم والمدن من الذين وجدوا في مشاريع الأمير عبد الرحمن ما يهدد كيانهم ونفوذهم بالزوال.

ففي إشبيلية قام بنو حجاج، وكانوا قد استقلوا بها بزعامة إبراهيم بن حجاج وبوفاته انتقلت الزعامة إلى ولده عبد الرحمن الذي أناب عنه أخاه محمداً في حكم قرمونة الموالية لهم، ولكن بوفاة عبد الرحمن سنة 301 هـ. نصب أهل إشبيلية أحمد بن مسلمة (من بني الحجاج أيضاً) حاكماً عليهم دون محمد بن إبراهيم الذي يعدّ هو أحق من أحمد بن مسلمة بحكم المدينة، فما كان من الأخير إلا الالتجاء إلى الأمير عبد الرحمن طالباً العون في استخلاص المدينة من قريبه المذكور، وهكذا كانت الظروف عاملاً في عودة مدينة إشبيلية في جمادى الأولى سنة 301 هـ إلى حظيرة الدولة بعد أن تم تجريد العناصر القوية فيها من سلطاتها (23). وكانت السيطرة على هذه المدينة من أهم المؤشرات الإيجابية التي انعكست على نظام الأمير عبد الرحمن فأعطته دعامة وقوة في المسيرة التي استهدفت إعادة توحيد البلاد (24). ولعل المدخل إلى تحقيق تلك الوحدة كان يتطلب القضاء على زعيم العصاة عمر بن حفصون الذي ما زال يسيطر على مناطق واسعة من البلاد تمتد ما بين " كورة رية والجزيرة الخضراء من جهة، والبيرة وأحواز قرطبة من جهة أخرى "(25). وأيقن عبد الرحمن أن القضاء على هذا التمرد سوى يؤدي

(22) بيضون، الدولة العربية في إسبانيا: بيروت 1978.

(23)

ابن حيان: 5/ 164 وما بعدها؛ ابن عذاري 2/ 163.

(24)

بيضون: 293.

(25)

عبد العزيز سالم: 282.

ص: 158

إلى الفت في عضد كثير من المتمردين وزلزلة معنويات أنصارهم. فقد كان ابن حفصون بمثابة الروح التي تنفث في جسد العصاة الآخرين الذين كانوا يرتبطون به بشكل أو بآخر بقصد إضعاف السلطة المركزية والعبث في أراضي الدولة.

لذا قاد الأمير قواته في شوال سنة 301 هـ مخترقاً أكثر الأقاليم حيوية واستراتيجية بالنسبة للمتمرد ابن حفصون ملقناً قواته أقسى الضربات، وكانت المعركة الحاسمة قد دارت قرب قلعة طرش حيث تمكنت قوات الدولة من تدمير القوة الرئيسة للعصاة وأجبرتهم على الارتداد ناحية الغرب، وبذا دخلت الجزيرة الخضراء وأحوازها تحت سيطرة الدولة المركزية، وتم تطهير كور شذونة ومورور وقرمونة من العصاة (26)، واستمرت العمليات العسكرية وفي اتجاهات مختلفة تلاحق العصاة وفلولهم وتكيل لهم الضربات المتواصلة المركزة حتى أيقن زعماء التمرد أن الدولة عازمة لا محالة على توحيد البلاد، والقبض على مقاليد الأمور بما يجب أن يكون لها من الحرمة والاحترام، وهم عاجزون عن الرد والاحتفاظ بزعامتهم مع إدراكهم للملل الذي بات يطغى على أنصارهم الذين أيقنوا ببطلان دعوى زعماء التمرد (27).

إن الخلل الذي أصاب صفوف المتمردين قيادة وقواعد جاء نتيجة من نتائج سياسة الدولة في الضرب بشدة على الخارجين ومن والاهم، والعفو والتكريم لمن عاد إلى صف السلطة المركزية وعمل ضمن قواتها لتحقيق وحدة البلاد الوطنية.

وكان ابن حفصون قد شعر قبل غيره بأبعاد هذه السياسة التي باتت تهدد مركزه بوصفه زعيماً للمتمردين على اختلاف أهدافهم فأعلن الاستسلام للدولة بعد ثلاثين سنة من التمرد والعصيان (28). مقابل كتاب عهد له وللحصون التي كانت تحت سيطرته وتم ذلك في 303 هـ " وانتهت الحصون التي دخلت في أمان عمر بن حفصون على ما وقع من تسميتها في كتاب العهد إلى مائة واثنين وستين حصناً "(29). وقد ظل ابن حفصون ملتزماً ببنود هذا العهد حتى وفاته سنة 305 هـ (30).

(26) ابن حيان: 5/ 86 وما بعدها، ابن عذاري: 2/ 164.

(27)

ابن حيان؛ 5/ 113 و 114 وفيه إشارة إلى الخلاف الذي أصاب زعماء التمرد وميل الغالبية منهم إلى التسليم والدخول في الطاعة والولاء.

(28)

ابن حيان: 5/ 138.

(29)

ابن حيان: 5/ 115، ابن الخطيب: أعمال الأعلام: 31.

(30)

ابن حيان: 5/ 138، ابن عذاري: 2/ 171.

ص: 159

أما أبناء ابن حفصون فقد كانوا يحكمون مدناً وحصوناً بتفويض من والدهم وبإقرار من الأمير عبد الرحمن لهم على تلك المناطق، فكان جعفر في قلعة ببشتر نيابة عن والده، وعبد الرحمن في حصن طرش، وسليمان في مدينة أبذة (31)، ثم حصن أشتبين (32). ولم يطل العهد بجعفر فقتل سنة 308 هـ. على يد جماعة من أنصاره الذين ولوا سليمان مكانه (33). ولكن سليمان ما لبث أن غلبه الغرور فمارس دور أبيه في مقارعة السلطة المركزية معتمداً على حصانة مدينة ببشتر (34). فقضي عليه سنة 314 هـ (35) واستسلم أخوه حفص في سنة 315 هـ، بعد أن اجتاحت قوات الدولة القلعة وما يحيط بها من مواقع حصينة (36)، بقيت ما يقارب خمسين سنة " مثل جدار حديدي تتكسر عليه محاولات السلطة العديدة "(37).

ولم يتمثل خطر هذا التمرد بطول مدته فقط بل بتهديداته المستمرة لسلطة الأمراء الأمويين في الأندلس، وبطموح عمر بن حفصون لنيل إمارة الأندلس، وبتعصب المولدين والمستعمرين له مما يجعل نجاحه ليس تغيراً في شخصية الأمير فقط " بل انقلاباً كاملاً وتغييراً في جنسية الحكم ودين الحاكمين، ولعل في طريقة معاملة الأمير عبد الرحمن الثالث للعصاة في حركة ابن حفصون مما يدل على شعوره بمدى هذا الخطر، فبينما كان مصير العصاة الآخرين بعد استنزالهم من حصونهم تسجيلهم في الملاحق وإعطائهم المناصب العالية، نرى سليمان بن عمر بن حفصون يمثل به بعد مقتله في المعركة

وفي الإجراءات التي اتخذها عبد الرحمن أثر سقوط ببشتر ما يدل على نفس الشعور (38).

وعلى الرغم من انشغال الأمير عبد الرحمن باجتثاث شأفة أبناء عمر بن حفصون فإنه لم يغفل أمر الخارجين في أنحاء البلاد من الأندلس، فقد كانت قواته تقاتل في

(31) استخلصها سليمان لنفسه بالقوة، ينظر: ابن حيان 5/ 130.

(32)

ابن حيان: 5/ 131، وتقلب سليمان بين الخروج على السلطة المركزية والولاء لها حتى انفرد بالسلطة بعد اغتيال أخيه جعفر سنة 308 هـ.

(33)

ابن حيان: 5/ 168.

(34)

بيضون: 294.

(35)

ابن حيان: 5/ 204 و 206، ابن عذاري: 2/ 192.

(36)

ابن حيان: 5/ 209، ابن عذاري: 2/ 193.

(37)

بيضون: 294.

(38)

أحمد بدر، تاريخ الأندلس " عصر الخلافة " ص: 10، دمشق؛ 1974.

ص: 160

اتجاهات مختلفة وتلقن المتمردين دروساً اعتبروا بها زمناً طويلاً، فقد تمكنت قوة من قواته دخول حصن طرش وحصون أخرى في كورة باغه وتطهيرها من العصاة سنة 309هـ (39). وتمكنت قوة أخرى من السيطرة على حصن منت روي في كورة البيرة في السنة التي تلتها (40). وفي الثغر الأعلى كانت قواته تقاتل بني ذي النون وتدخل أقوى حصونهم شنت برية سنة 314 هـ (41). وكانت قوات شرق الأندلس تجوب حصون المخالفين في كورة تدمير وتستولي عليها الواحدة تلو الآخر، وتمكنت قوة أخرى من تطهير مدينة ماردة من أسباب الفساد والعصيان سنة 316 هـ (42). وفي السنة التالية دخلت مدينة شاطبة ثم مدينة طليطلة بعد حصار طويل، ثم سقطت مدينة باجة سنة 317 هـ ومدينة بطليوس سنة 318 هـ بعد قتال شديد (43).

وهكذا استطاع عبد الرحمن الناصر من استعادة الوحدة الوطنية إلى الأندلس ومكن السلطة المركزية من السيادة على أقاليم البلاد بعد ما استطاع بكفاءة عالية من إدامة عوامل النصر لقواته في الوقت الذي استنزف طاقة تحمل أعدائه المتمردين.

اتخاذ ألقاب الخلافة:

رغم أن الدولة العربية في الأندلس قد استطاعت غير مرة منافسة الدول الكبرى في مجالي القوة والتقدم فإن أمراء هذه الدولة لم يفكروا في الإقدام على منافسة الدولة العباسية في ألقاب الخلافة " وقيل في تعليل ذلك أنهم كانوا يرون الخلافة تراثاً لأهل البيت، ويدركون قصورهم عن ذلك، بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملة، والبعد عن دار الخلافة التي هي مركز العصبية، وأنهم بعبارة أخرى: كانوا يرون أن الخلافة تكون لمن يملك الحرمين "(44).

ولا خلاف فإن الإحجام عن اتخاذ ألقاب الخلافة يرجع في الأساس إلى بواعث السياسة الحكيمة التي تميز بها أمراء الأندلس متحوطين من إثارة الفتنة والخلافات الدينية والمذهبية في العالم الإسلامي (45).

(39) ابن حيان: 5/ 172 و 173.

(40)

ابن حيان: 5/ 179.

(41)

ابن حيان: 5/ 203.

(42)

ابن حيان: 5/ 237 و 238.

(43)

التفاصيل في المقتبس، لابن حيان: 5/ 129، 271، 280.

(44)

عنان: دول الإسلام: 2/ 429.

(45)

عنان: 2/ 429.

ص: 161

غير أن مستجدات القرن الرابع الهجري السياسية وما رافق ذلك من تغير في خارطة العالم الإسلامي فضلاً عن عوامل أخرى دفعت الأمير عبد الرحمن الثالث إلى اتخاذ ألقاب الخلافة، ويمكن ترتيب العوامل على النحو الآتي:

- استعادة الوحدة الوطنية إلى البلاد بعد ستة عشر عاماً من النضال الصعب الذي انتهى بالقضاء على جميع المتمردين وعلى رأسهم بني حفصون (46). ولقب الأمير لم يعد من الألقاب التي تستوعب طموحات عبد الرحمن الثالث، خصوصاً بعد أن زالت حرمة هذا اللقب وتلقب به معظم الخارجين على السلطة المركزية منافسة لأمير قرطبة الحاكم الفعلي والشرعي لعموم البلاد.

- ضعف الخلافة العباسية وتحكم العناصر الأجنبية بمقدرات الخلافة بوصفها لقباً له حرمته، وبالخليفة بوصفه صاحب سلطة دينية وزمنية (47)، عامل من العوامل التي أجازت للأمير الأموي اتخاذ لقب الخليفة.

- ظهور دولة الفاطميين في المغرب العربي وسيطرتها على مناطق واسعة منه وإعلانها الخلافة (48)، أسباب دفعت الأمير عبد الرحمن للرد على الفاطميين بالمثل بعد ثبوت أحقيته بألقابها من دولة منحلة (العباسية) وأخرى طارئة (الفاطمية) (49) أو كما يقول ابن حيان:" وقطعه على استحقاقه لهذا الاسم الذي هو بالحقيقة له ولغيره بالاستعارة "(50).

- إن لقب خليفة يهيئ للعاصمة قرطبة دوراً أكثر مركزية يمكنها من القبض على أطراف الدولة قاطبة، ويمكنها من قمع أي تحرك انفصالي بالسرعة القصوى (51).

- وقيل أن أهل الأندلس هم الذين منحوا أميرهم لقب (خليفة) تقديراً لجهوده في توحيد البلاد، وتثبيت أركانها لإعادة مجدها وبعد أن تيقنوا من ضعف خلافة بني العباس في المشرق وبطلان دعوى الفاطميين في المغرب.

وللأسباب الآنفة الذكر أعلن الأمير عبد الرحمن الثالث الوثيقة الرسمية بوجوب

(46) بيضون: 295.

(47)

الحميدي: جذوة المقتبس: 13، الدار المصرية؛ 1966 م.

(48)

الحميدي: 13.

(49)

عنان: دولة الإسلام 2/ 429.

(50)

المقتبس:5/ 241.

(51)

بيضون: 296.

ص: 162

اتخاذه هذا اللقب اعتباراً من يوم الخميس ثاني ذي الحجة سنة 316هـ/929 م (52) ونصها:

" بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فأنا أحق من استوفى حقه، وأجدر من استكمل خطه، ولبس من كرامة الله ما ألبسه، للذي فضلنا الله به، وأظهر أثرتنا فيه، ورفع سلطاننا إليه، ويسر على أيدينا إدراكه، وسهل بدولتنا مرامه وللذي أشاد في الآفاق من ذكرنا، وعلو أمرنا، وأعلن من رجاء العالمين بنا، وأعاد من انحرافهم إلينا واستبشارهم بدولتنا والحمد لله ولي النعمة والإنعام بما أنعم به، وأهل الفضل بما تفضل علينا فيه وقد رأينا أن تكون الدعوة لنا بأمير المؤمنين، وخروج الكتب عنا وورودها علينا بذلك، إذ كل مدعو بهذا الاسم غيرنا منتحل له، ودخيل فيه، ومتسم بما لا يستحقه، وعلمنا أن التمادي على ترك الواجب لنا من ذلك حق أضعناه، واسم ثابت أسقطناه "(53).

وهكذا اتخذ الأمير عبد الرحمن سمة الخلافة، وتسمى بأمير المؤمنين الناصر لدين الله، وبدأت الدعوة لبني أمية بألقاب الخلافة في الأندلس والمغرب الأقصى (54).

(52) وهم ابن الأثير، وتابعه ابن خلدون عندما وضعا اتخاذ الناصر لسمة الخلافة سنة 327هـ. ينظر؛ الكامل: 8/ 535، العبر: 4/ 144.

(53)

ابن عذاري: 2/ 198.

(54)

ابن حيان: 5/ 241، وينظر؛ عنان: 2/ 430.

ص: 163